الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحث الخامس
في أن الحصر هل هو ثابت في هذه الثلاثة أم لا
؟ فأقول:
الدليل على الحصر: أن المدلول إما ما وضع له اللفظ أو لا.
والأول: دلالة المطابقة.
والثاني: إما أن يكون المدلول داخلا فيما وضع له اللفظ أو لا، فالأول دلالة التضمن.
[والثالث] الالتزام، فثبت بهذا التقسيم الدائر بين النفي والإثبات الحصر في الثلاث.
فإن قيل: هذا الحصر باطل بأمور سبعة:
الأول: أن اللفظ الواقع في البراهين نحو قولنا: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، فهذه العبارات في هذه المقدمات دالة على حدوث العالم، ودلالتها لا يمكن أن يقال: إنها مطابقة، فإن الدليل فيها إنما نشأ عن مجموع هذه الألفاظ لا عن بعضها، والمجموع لم يوضع لحدوث العالم حتى يدل عليه مطابقة ولا تضمنا، لأن التضمن: هو دلالة اللفظ على جزء مسماه، ومجموع هذه الألفاظ ليس له مسمى حتى يكون حدوث العالم جزءه ولا أكثر، أما أنه ليس [لها] مسمى؛ [لأن حدوث] العالم لزمه، فإن جزء المسمى ولازم المسمى فرع المسمى، فحيث لا مسمى ينتفيان، فهذه دلالة واقعة فيبطل الحصر في الثلاث.
الثاني: أن لنا مفهوم الكلية والكل والكلي.
فالكلية: القضاء على كل فرد فرد حتى لا يبقى من تلك المادة فرد.
والكل: هو المجموع من حيث هو مجموع.
والكلي: هو القدر المشترك بين الأفراد.
وبيانها بالمثال إذا قلنا: كل رجل يشبعه رغيفان غالبا، إن أردنا بالكلية كل فرد فرد على حاله صدق الحكم، وإن أردنا الكل الذي هو المجموع كذبت القضية، فإن المجموع لا يشبعه آلاف.
عكسه إذا قلنا: كل رجل [يشيل] الصخرة العظيمة، يصدق ذلك باعتبار الكل الذي هو المجموع، ويكذب باعتبار كل واحد [واحد]، وإذا [قلت] الإنسان نوع، صدقت باعتبار الكلي الذي هو القدر المشترك، وكذبت باعتبار كل [فرد] وباعتبار المجموع، فإن النوع هو المقول على كثيرين مختلفين بالعدد فقط في جواب ما هو، والمجموع لا يمكن حمله على أحد من الناس، فيقال: زيد مجموع الناس، وكذلك كل فرد يشير إليه لا يمكن حمله على اثنين من بني آدم، فالمجموع حينئذ ليس المجموع ولا كل فرد على [حاله] فهو القدر المشترك، وهو الكلي وإذا ظهر الفرق بين الكل والكلي والكلية يظهر من ذلك الفرق بين الجزء والجزئية والجزئي، فالجزء بعض الكل، والجزئية بعض الكلية، والجزئي هو الشخص [الواحد] المعين من الكلية، كزيد من أفراد الإنسان.
إذا تقررت هذه الفروق وتميزت هذه الحقائق فأقول:
إذا فرضنا لفظا وضع بإزاء الكلية، كما قاله أرباب العموم في صيغ العموم، فدلالة ذلك اللفظ على فرد من تلك الكلية، كما في لفظ (المشركين) بالنسبة إلى (زيد المشرك) خارجة عن الدلالات الثلاث، لا جائز أن تكون مطابقة؛ لأن لفظ الكلية لم يوضع له وحده، ولا تضمنا؛ لأن دلالة التضمن هي دلالة اللفظ على جزء مسماه، والجزء إنما يقال بالقياس إلى الكل، وهذه كلية لا كل، فليس (زيد المشرك) حينئذ جزءا بل جزئية، ولا التزاما، لأن الفرد في الكلية ليس لازما خارجا عن المسمى، ولو خرج هذا الفرد لخرج كل فرد، ولا يبقى بعدها مسمى حينئذ، فالفرد ليس لازما، فليس فيه دلالة التزام، فهذه دلالة غير الدلالات الثلاث.
الثالث: أنا إذا سمعنا لفظ (خنفشار) مثلا من المهملات تكرر مرارا كثيرة بصوت حنين دلنا على أن الناطق به حي آدمي، يقظان إلى غير ذلك مما تفهمه من أحوال هذا المتكلم، وليس هذه الدلالة مطابقة؛ لأن هذا اللفظ فرضناه مهملا، فليس له مسمى، ولا تضمنا؛ لأن جزء المسمى فرع المسمى، ولا التزاما؛ لأن لازم المسمى فرع المسمى، ولا مسمى فهذه الدلالة غير الثلاث.
الرابع: أن العالم يدل على صانعه، وليس اسما له، ولا [صانعه] جزؤه، ولا لازمه، وكذلك دلالة جميع الأفعال على الحياة، والعلم والقدرة والإرادة والغضب والرضا وغير ذلك.
الخامس: الحروف الكتابية: كل واحد منها يدل على صوت مخصوص،
فقولنا: (قاف) يدل على [الحرف][الأول] من (قال) و (ألف) يدل على الثاني منه، و (لام) يدل على الثالث منه، ودلالة كل واحد من الحروف الثمانية والعشرين على مسمياتها دلالة مطابقة؛ لأنها وضعت لها في اصطلاح الكتاب، والحروف الكتابية ليست ألفاظا مع وجود دلالة المطابقة فيها، فلا يكون تحديد دلالة المطابقة بدلالة اللفظ على مسماه جامعا، بل قد خرج منه بعض دلالة المطابقة.
السادس: دلالة اللفظ المركب كقولنا: الإنسان كاتب بالقوة في هذا العالم بإذن الله -تعالى- مجموع هذا اللفظ يدل على نسب مخصوصة، وإسنادات مخصوصة، مؤلفة مرتبطة بعضها ببعض، ومجموع هذا اللفظ لم يوضع لمجموع هذا المعنى، فليس مطابقه، وليس مجموع هذا المعنى جزء المسمى هذا المجموع، ولا لازما له لعدم التسمية [به]، فدلالته خارجة عن الدلالات الثلاث مع أنها ألفاظ، وليست مهملة [فما] انحصرت دلالة اللفظ الموضوع، أو تفرع على مذهب المصنف في أن العرب ما وضعت المركبات، فيكون هذا المركب مهملا، وقد دل على معاني قصدت العرب الدلالة عليها، والدلالة فيها تتبع [مركبات] العرب، وليست مستفادة من جهة العقل، فما جمع الحد أنواع الدلالة.
السابع: أن حروف المعاني نحو (ليت) و (لعل) يدل الأول على التمني والثاني على الترجي، فإن كانت هذه مطابقة يلزم أن يكون التمني مسمى (ليت) مثلا. فتكون (ليت) اسما له، والتقدير أنها حرف لا
اسم، ويلزم [أنها] تدل على معنى في نفسها، وأن تستقل بإفهام معنى كالأسماء، والنحاة منعوا ذلك، وقالوا: إن الحرف لا يستقل، ولا يقال [إن] حرف لمعنى يدل لا تضمنا ولا التزاما لعدم المسمى، كما تقدم، فيتعذر جزء المسمى ولازم المسمى.
والجواب عن الأول: أن الألفاظ للبراهين لم تدل على حدوث العالم وغيره من النتائج الكائنة بعدها إلا بالعقل، وما دل بالوضع إلا على مفردات المعاني في تلك البراهين، ونحن حيث حصرنا الدلالة في الثلاث إنما تعرضنا لحصر الدلالة الناشئة عن الوضع، وهذه بالعقل، فلا يرد علينا، كمن تعرض لحصر النامي الذي هو حيوان في الناطق والبهيم، لا يرد عليه الشجر.
وعن الثاني: أن لفظ الكلية موضوع للقدر المشترك بقيد تتبعه في جميع أفراده على ما يأتي بسطه إن شاء الله -تعالى- في (باب العموم والخصوص)، وقيد التتبع في الكل جزؤه التتبع في البعض، فتكون دلالة اللفظ عليه دلالة تضمن من هذا الوجه لا من جهة أنه بعض للكلية، بل من جهة أنه بعض القيد الواقع فيها، وهو التتبع في الكل، فإن العام موضوع لقيدين المشترك وقيد التتبع، فقيد التتبع جزء المسمى، والتضمن باعتبار جزء هذا الجزء، لا باعتبار جزء المسمى، فهو من الدلالة العربية التي لا نظير لها، أو تفسر دلالة التضمن بدلالة اللفظ على جزء مسماه الذي هو أعم من الجزء والجزئية، ويريد بالجزء ما يعم الأمرين وهو كونه بعضا، وهو وإن كان خلاف ظاهر إطلاقهم إلا أنه يحتمله، وهو من المواضع المشكلة جدا فتأمله.
وعن الثالث: أن دلالة خنفشار ونحوه من المهملات على [ما تقدم] دلالة عقلية أو عادية، والمدعى حصر الدلالة الوضعية، فلا يرد، وهو الجواب عن الرابع.
[وأما دلالة الحروف الكتابية وهو الخامس]: على مفردات الحروف الصوتية وضعية، وكذلك الإشارات [القولية] كثير منها يدل بالوضع على خصوص المشار إليه، وهي دلالة مطابقة، غير أنا لم نعن بتقسيمنا في دلالة اللفظ الحدود للدلالات الثلاث، بل تعريف أن الدلالة الناشئة عن اللفظ، فالوضع لا يخرج عن الثلاث.
وإن القضية مانعة الخلو في هذا الشيء الخاص؛ لأنها مانعة الجمع، أو الجمع والخلو كما تقدم بيانه، وكقولنا: إما أن يكون زيد في البحر، وإما ألا [يعرف]، وإنه لا يخلو عن هذين الأمرين كلام صحيح، ولا يرد عليه أن عمرا أيضا حصل له ذلك؛ لأنا لم نعرض لتحديد هذه الأحوال، بل لتعريف أن زيدا لا يخلو عنهما فقط، كذلك هاهنا يجوز حصول المطابقة في غير اللفظ، ولا يقدح ذلك فيما ذكرناه، [وكذلك] لما ذكرنا الحصر حصرنا في الثلاث، ولم نتعرض لحصر الثلاث في دلالة اللفظ، فتأمل ذلك.
وعن السادس: أن الصحيح أن المركبات وضعتها العرب كما وضعت المفردات، فوضعت المفرد دالا على المفرد، والمركب دالا على المركب على