الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ألف)(1) ورقة، فيكرر ذلك رجاء أن يكذب نفسه، أو يفسر الحفظ بمنعها من الضياع، أو غير ذلك.
ورابعها: رفع احتمال المجاز البعيد، فإن اللفظ وإن كان ظاهرا، إلا أنه يحتمل المجاز (البعيد)(2) كمن دخل داري فاقتله، فتقول له: أتريد أقاربك وأصدقاءك؟.
وخامسها: كون السامع يعلم أن المتكلم كثير الكذب، فيأتي باللفظ النص، فيستفهمه السامع رجاء أن يظهر له صدقة، أم الاستعمال فلا يدل على الاشتراك؛ لأنه كما يقع بين المعنيين في اللفظ المشترك يقع بين المجاز والحقيقة، والمجاز مقدم على الاشتراك، فلا يدل الاستعمال على الاشتراك لتقدم المجاز عليه.
المسألة الرابعة: لا يجوز استعمال المشترك في معانيه
على الجمع، هذه عبارته.
وقال الشيخ سيف الدين: اللفظة الواحدة من متكلم واحد في وقت واحد، إذا كانت مشتركة بين معنيين، أو حقيقة في أحدهما، مجازا في الآخر، ولم تكن الفائدة فيهما واحدة، هل يجوز أن يراد بها كلا المعنيين؟ خلاف، وهذه العبارة أضبط للمسألة من كلام المصنف؛ لأنه أطلق.
وانعقد الإجماع على أن اللفظ المشترك المفرد يجوز استعماله في معانيه، في أزمنة عدة، وفي إطلاقات عدة (ومن متكلمين عدة)(2)، ولذلك
غلطنا من استدل من الحنفية على أن المراد بآية العدة الحيض، لقوله عليه الصلاة والسلام:(دعى الصلاة أيام أقرائك)(1).
فقد صرح- عليه السلام بأن الصلاة تترك في القرء، فدل على أن المراد به الحيض، فيكون المراد بآية العدة الحيض، وهذا غلط؛ لأن المتكلم الواحد إذا قال: رأيت عينا، وقال عقبيها: وبعت عينا، فإنه يجوز أن يريد بالعين الأولى الباصرة، وبالثانية الفوارة.
ولا يجوز أن يستدل أنه أراد في المرة الثانية الفوارة أنه أراد بإطلاقه الأول الفوارة، هذا إذا كان المتكلم واحدا، فكيف والآية قرآن، والحديث سنة؟ فيندرج إطلاق اللفظ المفرد مرات في كلام المصنف، وهو لا خلاف فيه، ولا يندرج في عبارة سيف الدين (1)، ثم قول سيف الدين: أو حقيقة ومجازا ليعلمنا أن النزاع كما هو في الجمع بين الحقيقتين، فهو في الجمع بين الحقيقة والمجاز، وبين مجازين.
وقد صرح الإمام بهذا القسم الثالث في المسألة السادسة بعد هذه، إذا دل الدليل على أن الحقائق غير مرادة، والمجازات مستوية، وحقائقها مستوية، أن الحمل على جميع المجازات يتخرج على استعمال المشترك في مفهوميه، على ما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى، ونص على الثلاثة أبو الحسين في كتاب (المعتمد)، واختار المنع.
وقوله: (ولم تكن الفائدة فيهما واحدة).
يريد أن المستعمل قد يجمع بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز لمعنى عام اشتراكا فيه، يريد ذلك المشترك دون خصوص كل واحد منها، فهذا مجمع عليه، فيتعين إخراجه من الموطن الذي يحكى فيه الخلاف.
قوله: (منهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد).
قال سيف الدين: لهم شبهات ثلاث:
الأولى: أن المستعمل إذا استعمل في الحقيقة يكون مستعملا في موضوعه، وباعتبار كونه مستعملا في مجازه لا يكون مستعملا في موضوعه، فيكون في الموضوع، لا في الموضوع، وهو جمع بين النقيضين، وكذلك باعتبار كونه مستعملا للمشترك في المفهوم الآخر، لا يكون مستعملا في الأول، وقد كان مستعملا فيه، فيجتمع النقيضان.
(الثانية: أن استعماله في المجاز يقتضي إضمار (كاف) التشبيه، وفي الحقيقة لا يقتضي ذلك، فتكون (كاف) التشبيه مضمرا لا مضمرا، فيجتمع النقيضان) (1).
الثالثة: استعماله في المجموع يقتضي عدم الاكتفاء بأحدهما، واستعماله في أحد المفردات نقيض الاكتفاء به، فيلزم أن يحصل الاكتفاء بالمفرد وحده، وألا يحصل، وهو جمع بين النقيضين.
والجواب عن الأولى: أن اجتماع النقيضين باعتبار إضافتين ليس بمحال، فهو من جهة أحدهما في الموضوع، ومن جهة الآخر ليس في الموضوع، فهما جهتان، كما قلنا: زيد أبو عمرو، وليس أبا خالد، فهو أب، وليس أبا، ولا تناقض، وهو الجواب عن الثانية، فتضمر (الكاف)، ولا تضمر باعتبار شيئين.
وعن الثالثة: ما سيأتي في الجواب عن نكتة الإمام.
وقال صاحب (المعتمد)(2): في الإرادة معنى آخر، فقال: استعمال صيغة الأمر إذا استعملت في الطلب تقتضي إرادة الفعل، وفي التهديد تقتضي كراهيته، فيكون مريدا للضدين، بناء على أصله أن الصيغة تدل على إرادة
المأمور، دون كلام النفس، ثم إن هذا المانع لا يعم جميع الصور، فإن إرادة الاعتداد بالطهر والحيض، وتحريم الموطوءة والمعقود عليها على الأبناء لا يقتضي ذلك، وهو كثير.
قوله: ومنهم من منعه لأمر يرجع إلى الوضع.
(قاعدة)
إن المجاز ثلاثة أقسام:
قسم اتفق الناس جوازه، وهو ما قربت علاقته، واتحد مجمله أعنى لم يجمع فيه بين مجازين.
وقسم اتفق الناس على منعه، وهو مجاز التعقيد، وهو ما بعدت علاقته، كقول القائل: تزوجت بنت الأمير، ويفسر ذلك باجتماعه بوالد عاقد الأنكحة بالمدينة، معتمدا على أن زواج بنت الأمير من لوازمه في العقد؛ لأنه سببه المبيح ومن لوازم العقد العاقد؛ لأنه فاعله ومن لوازم العاقد أبوه؛ لأنه والده، فلأجل هذه الملازمات يجوز، وهذه علاقة بعيدة لا تجيزها العرب، واتفق الناس على منعه.
وقسم اختلف الناس فيه، وهو الجمع بين حقيقتين، أو مجازين، أو مجاز وحقيقة، فإن الجمع بين حقيقتين مجاز؛ لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فهذه الثلاثة أنواع من المجاز، ومن الناس من منعها بناء على أن العرب لم تجزها.
ومن الناس من أجازها بناء على أن العرب أجازتها، واستعمالات الكتاب والسنة، وكلام العرب يحكم بين الفريقين، فهذا تقرير الطريقين في المنع.
قوله: (إن لم يضعه للمجموع امتنع استعماله في المجموع) مصادرة على مذهب الخصم، فإن الخصم يقول: هذا من المجاز الجائز، فيجوز على
تقدير عدم الوضع، فادعاؤه المنع مصادرة على مذهب الخصم بغير دليل، وهذا أول المسألة، هل يجوز هذا أم لا؟
قوله: استعمال اللفظ في إفادة المفردين يقتضي الاكتفاء بكل واحد منهما، واستعماله في المجموع يقتضي أن الاكتفاء يحصل بكل واحد من المفردين، فيجتمع النقيضان.
عليه ثلاثة أسئلة:
الأول: أن قوله: الاكتفاء به، وعدم الاكتفاء إنما يتأتى في الأوامر، والنزاع في هذه المسألة لا يختص بالأوامر، بل في مطلق الاستعمال الذي يشمل الأمر والنهي، والخبر في الثبوت، والخبر في النفي، والتخصيص في الجواب، أو الدليل مع عموم الدعوى لا يصح.
الثاني: يتعين بمقتضى السؤال الأول أن يفسر المسألة بما يشمل جميع صورها الأربعة، وهو إضافة الحكم الذي يشمل الأمر والنهي، وخبر الثبوت، وخبر النفي، ونقول: الاستعمال له تفسيران:
تفسير أعم، وتفسير أخص، فالتفسير الأخص أن استعمال اللفظ معناه: أن الحكم مضاف للمستعمل فيه، ومسكوت عن غيره، والتفسير الأعم أنه مضاف إليه مع السكوت عن غيره، والنكتة إنما تتم على تقدير تفسير الاستعمال بالمعنى الأخص، حتى يكون استعمال اللفظ في المفرد.
معناه: أنه مطلوب وغيره غير مطلوب (وقد كان مطلوبا) من جهة طلب المجموع، فيكون مطلوبا وغير مطلوب، فيجتمع النقيضان، وهذا هو معنى قوله: يحصل الاكتفاء به أن غيره غير مطلوب.
وإذا تقرر أن النكتة إنما تتم على تقدير (تفسير)(1) الاستعمال بالمعنى
الأخص، فحينئذ نقول: التفسير الأخص باطل قطعا؛ لأنه لو صح فإذا أوجب الشرع الصلاة أو الإسلام، فيكون معناه أنها واجبة، وغيرها غير واجب، فإذا أوجب بعد ذلك الصوم، أو غيره يكون ذلك ناسخا، أو معارضا لما تقدم من الدليل الدال على وجوب الصلاة، ويكون كل نص يأتي بالثبوت يناقض ما تقدمه؛ لأنه تقدم نفيه، وهو باطل إجماعا.
وإذا قال القائل: زيد موجود، يقتضي أن غيره غير موجود، أو أنا مسافر معناه: وليس في العالم مسافر غيري أو أنا عطشان معناه: وليس في العالم عطشان غيري، وهو باطل بالضرورة، وأن العرب لا تقصد مثل هذا، فضلا عن أن يكون ذلك تفسيرا استعمالها لألفاظها، وإذا ظهر بطلان التفسير الأخص تعين أن يكون مفسرا بالمعنى الأعم، وهو أن الخبر مطلوب، وغيره مسكوت عنه، ولا تناقض بين كونه مطلوبا من جهة طلب المجموع، وكونه مسكوتا عنه من جهة استعمال اللفظ في الفرد الآخر فإن السكوت عن الطلب ليس تصريحا بعدم الطلب، ففرق بين عدم الدلالة، وبين الدلالة على العدم.
والتناقض إنما يأتي من الثاني دون الأول.
الثالث: سلمنا تفسير الاستعمال بالمعنى الأخص، ومع ذلك فلا يحصل مقصود الإمام، وذلك أن موارد الاستعمال أربعة كما تقدم فيحصل مقصوده في الأمر، وخبر الثبوت، دون خبر النفي والنهي؛ لأن الأمر بالمجموع أمر بأجزائه، والخبر عن ثبوت المجموع خبر عن ثبوت أجزائه، فيلزم حصول حكم المجموع في أجزائه طلبا أو خبرا، والنهي عن المجموع ليس نهيا عن أجزائه، فإذا حرم الله تعالى الظهر خمس ركعات لا يلزم أن يحرم جميع ركعات الخمس، بل يكفي في النهي عن المجموع ترك جزء منه، أي جزء كان، ويخرج عن عهدة النهي، ولذلك حرم الله تعالى
مجموع الأختين، ومجموع المرأة وبنتها، وخرجنا عن عهدة ذلك النهي بترك إحديهما، وكذلك الخبر عن النفي يكفي فيه نفي جزء من ذلك المجموع.
فإذا قلنا: ليس عنده نصاب صدق ذلك بنفي دينارين من النصاب؟
إذا تقرر هذا فنقول: النهي عن المجموع يقتضي أن يخرج عن عهدة النهي بترك جزء لا بعينه لا يتعين له جزء معين، واستعمال لفظ النهي في أحد الأجزاء عينا يقتضي أن يكون ذلك الجزء الذي استعمل اللفظ فيه منهيا عنه، وغيره غير منهى عنه، فيكون الجزء الآخر غير منهى عنه، ولم يثبت له أنه منهى عنه من جهة النهى عن المجموع، فلم يوجد إلا أحد النقيضين، وهو كونه غير منهى عنه، أما منهى عنه فلا، وكذلك استعمال اللفظ في الجزء الآخر يقتضي أنه منهى عنه، وهذا الجزء غير منهى عنه، ولم يكن هذا الجزء منهيا عنه من جهة النهى عن المجموع، فلم يجتمع النقيضان، وكذلك في خبر النفي، إذا أخبر عن نفي المجموع يكون منفيا لجزء منه غير معين، ويكون استعمال اللفظ في أحد الفردين معناه: أنه منفي، وغيره غير منفي، فيكون الجزء الآخر غير منفي، وإن لم يكن منفيا من جهة نفي المجموع، فلم يجتمع فيه النقيضان، وكذلك استعمال اللفظ في الآخر كما تقدم في النهي، فعلمنا حينئذ أن نكتته لا تتم، وإن فسرنا الاستعمال بالمعنى الأخص إلا في قسمين، ويبطل في قسمين، ومتى كانت الدعوى عامة، والدليل خاص لا يسمع ذلك الدليل، كمن قال: الحيوان كله حرام؛ لأن الخنزير، حرام، أو العدد كله زوج؛ لأن العشرة زوج، فلا يتم ذلك في شرع الاستدلال.
فإن قلت: بل اجتماع النقيضين على هذا التقدير في هذين القسمين حاصل؛ لأن المجموع إذا كان منهيا عنه، وغيره غير منهى عنه، ومن جملة اعتباره ذلك الجزء، وذلك الجزء الآخر، فيكون كل واحد منهما غير منهى عنه.
ومن جهة استعمال اللفظ في كل واحد منهما يكون منهيا عنه، فيجتمع فيه أنه منهى عنه، وغير منهى عنه، وهو جمع بين النقيضين.
وكذلك إذا استعمل اللفظ في أحد الجزئين كان منهيا عنه، والجزء الآخر غير منهى عنه، فثبت له عدم النهي من هذا الوجه، ومن جهة استعمال اللفظ فيه يكون منهيا (عنه)(1)، فيجتمع فيه النقيضان، وكذلك القول في خبر النفي، فعلمنا أن الجمع بين النقيضين لازم أيضا على هذا التقدير في هذين القسمين، كما هو لازم في الأمر، وخبر الثبوت.
قلت: ما ذكرته مسلم، غير أن المقصود إنما هو إبطال اجتماع النقيضين من جهة استعمال اللفظ في المجموع، ومن جهة استعمال اللفظ في أحد الجزءين، وكون أحد النقيضين يحصل من جهة استعمال اللفظ في المجمع، والنقيض الآخر من استعمال اللفظ في الجزء الذي يقابله، فثبت أن هذه المقدمة بما هي هذه المقدمة لا تتم.
أما أن النقيضين يجتمعان بطريق آخر فلا أمنعه، لكن المصنف لم يدعه، إنما ادعى تلك المقدمة فقط، فكان الإيراد عليها أسئلة خمس:
الأول: قال سراج الدين: النزاع في استعماله في كل واحد من المفهومات، لا في كلها، وبينهما فرق بمعنى أن المحال إنما ينشأ من الاستعمال في المجموع من حيث هو مجموع، والنزاع إنما هو في كل فرد فرد على حياله، لا في مجموعهما، فمحل النزاع كلية، والمحال إنما نشأ عن الكل، والفرق بين الكلية والكل ما تقدم في دلالة اللفظ.
الثاني: قال: استعمال اللفظ في المعنى لا يوجب الاكتفاء به مع استعماله في غيره معه، كاستعمال العام في كل واحد واحد من أفراده، وأفراد أنواعه.
الثالث: قال: المحال المذكور يلزم من استعماله في كل واحد من الفردين، فلا حاجة إلى المقدمة الأولى، يعنى بالمقدمة وضع اللفظ للمجموع، واستعماله فيه؛ لأن استعمال اللفظ في أحد المفردين يوجب أن الآخر غير مطلوب، (وفي المفرد الآخر يقتضي أن الأول غير مطلوب، فيكون كل واحد منهما مطلوبا، وغير مطلوب)(1).
الرابع: قال: إن عنى بالوضع ما يعم الحقيقة والمجاز، لم يلزم من استعمال اللفظ في جميع معانيه استعماله في المجموع، وإن عنى به المختص بالحقيقة لا يلزم من عدم الوضع له عدم جواز استعماله فيه، يعنى: إن أراد أنه موضوع للمجموع (بطريق المجاز) لا يكون من جملة معاني اللفظ لأن معنى اللفظ إنما يتناول المسمى بطريق الحقيقة، فلا يلزم الاستعمال (فيه)(1)، وإن عنى بالوضع الحقيقة لا يلزم من عدم الوضع بهذا التفسير عدم جواز الاستعمال بطريق المجاز؛ لأنه عند الخصم مجاز جائز.
الخامس: قال الشيخ تقي الدين: أصل هذه المسألة يشكل الخلاف فيها بما أجمعوا عليه من جموع الأعلام، نحو الزيدين، ولفظ العلم مشترك قطعا لوضعه للمختلفات، وإذا جمع أريد جميع تلك المختلفات، وكذلك التثنية فقد استعمل اللفظ المشترك في الاثنين من مسمياته، وفي جميع مسمياته، وهي صورة النزاع، ولا خلاف فيه، فيكون حجة لمن أراد أجاز على من منع.
والجواب عن الأول: أن البحث في الكل من حيث هو كل إنما نشأ من الترديد في أنه وضع للكل أم لا؟ فلما فرضنا أنه وضع للكل صار الكل أحد المسميات، ولزم من عموم الاستعمال في الجموع، والمفردات اجتماع النقيضين
وأيضا فقد يكون لفظ في اللغة موضوعا للمفردات والجموع، فيكون محل النزاع في المفردات والجموع؛ لأنه بعض مفردات اللفظ، فما ذكره الإمام لا ينافي محل النزاع، بل هو يعضه.
وعن الثاني: أن مسمى العام شيء واحد، وهو القادر المشترك بين أفراده، بقيد يتبعه في محاله بحكمه على ما يأتي بسطه في العموم إن شاء الله تعالى، فالعام إنما استعمل في معنى واحد، فليس هو نظير المشترك؛ لأن مسمياته متباينة، بل منع الاكتفاء صحيح كما تقدم، أما التشبيه بالعموم فلا.
وعن الثالث: أن المحال إذا كفى فيه مقدمات، وألزم ذلك المحال بمقدمات أخرى لا يقدح ذلك في إثبات الدعوى، فإن اللازم للمستدل إثبات دعواه بطرق، أما أنه يمكنه اختصاره، أو العدول عنه إلى غيره، فليس ذلك من الأسئلة المتوجهة من أن تلك المقدمة أدى إليها الغرض والبحث في الترديد، لا أنه قصدها ابتداء.
(وعن الرابع: أنه سؤال صحيح، وقد تقدم أنه مصادرة، لكن هذا التقدير فيه ترديد، وذلك لا ترديد فيه)(1).
وعن الخامس: أن الأعلام إذا جمعت ذهبت العملية عنها، ولذلك قال النحاة: يجب تعريف تثنية العلم وجمعه بالألف واللام ليخلف عليه بتعريف اللام ما ذهب عنه من تعريف العلمية، فلا يجوز أن تقول جاءني زيدون، بل الزيدون، فإذا ذهبت العلمية بسبب التثنية والجمع لم يبق إلا كونه مسمى باسم زيد، فيكون نكرة متواطئا بمعنى واحد لا مشتركا، بل يصير كالصالحين والمؤمنين، فلا حجة فيه للمجوزين، بخلاف إذا استعمل المشترك في
معانيه، كل واحد منها باق على خصوصه، حتى لو قصد إلى معنى عام بين أفراده كان مجازا جائزا إجماعا، وقد تقدمت الإشارة إليه في كلام سيف الدين.
قوله: (الصلاة من الله رحمة).
هذه العبارة لا يكاد يوجد للفضلاء والعلماء غيرها، وهي مشكلة؛ فإن الدعاء إذا كان محالا على الله تعالى يتعين صرفه لمجازه الجائز على الله تعالى وتفسيره به، والرحمة حقيقتها رقة الطبع، فهي أيضا مستحيلة على الله تعالى فتفسير المستحيل بالمستحيل غير لائق، ويصير كما إذا قيل لنا: ما معنى قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في سنة أيام ثم استوى على العرش)(الأعراف: 54).
فنقول: معناه: جلس، وإذا كان لابد من ذكر مستحيل يحتاج إلى تأويل، فيخلى اللفظ محتاجة للتأويل الأول على حاله، ولا حاجة إلى التطويل، فكذلك هاهنا الرحمة محتاجة للتأويل كالدعاء، فيقتصر على لفظ الدعاء والصلاة، ولا حاجة إلى تفسيرها، بل كان ينبغي أن يذكر المجاز على الله تعالى فيقال: الدعاء من الله تعالى معناه الإحسان، وهو جائز على الله تعالى.
قوله: (ومن الملائكة استغفار) يوهم أن هذا متعين في حقهم، بل لو قال: الدعاء من الملائكة باق على حقيقته كان أصوب، وإنما بعثه على ذلك أن الدعاء المحكى عن الملائكة في الكتاب العزيز هو الاستغفار في قوله تعالى:(تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم)(الشورى: 5).
ومع ذلك فقد حكى الله تعالى عنهم قولهم: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم)(غافر: 7 8)، فهذه أدعية متنوعة ليس الاقتصار على الاستغفار واقعا.
قوله: (أراد بهذه اللفظة المعنيين) ممنوع، بل الخبر الأول مضمر، تقديره أن الله تعالى يصلى، والملائكة يصلون، فالمضمر يستعمل في معنى، والمنطوق به في معنى آخر.
سلمنا أنه مستعمل في المعنيين، لكن أحدهما حقيقة، والآخر مجاز؛ لأن لفظ الصلاة لم يوضع للإحسان، بل هو سببه فهو من باب إطلاق السبب على المسبب، والدعوى استعمال المشترك في معانيه.
فإن قلت: إنما حسن الاستدلال بمثل هذا؛ لأن محل النزاع في الحقيقتين يعتقد أن اللفظ كما وضع للمفردين وضع للمجموع، فجعله من باب المشترك لا بما ذكرته، فلا نجيب عنه بأنه أراد ما صرح بخلافه.
سلمنا أنه حقيقة في الرحمة، كما قال الغزالي في (المستصفى) فلم لا يجوز أن يكون استعمل في معنى مشترك بينهما؟ وهو تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو معنى واحد مجاز مفرد متفق عليه، وحمل كتاب الله تعالى على المتفق عليه أولى من حمله على المختلف فيه من استعمال المشترك في مفهوميه.
قوله: (أراد بالسجود هاهنا الخشوع؛ لأنه المتصور من الذوات).
قلنا: هذا يفهم في عرف الاستعمال أن المراد الخوف والخشية؛ لأنه المفهوم من خشوع قلوب العباد في الصلاة وغيرها، وذلك متعذر من الجبال والشجر، والكل مراد بمعنى واحد، بل المراد هاهنا بالخشوع الانقياد لقدرة الله تعالى بالتأثير فيها جحدت ذلك أو آمنت به، جهلت أو علمت، فالدهر تتصرف فيه قدرة الله تعالى قهرا، وإن كان غير مأمور بذلك، ولا عالم به، وكذلك الشجر والجبال تتصرف فيها قدرة الله تعالى قهرا وإن لم يكن لها شعور بذلك، فهذا هو الخشوع، وهو مسماه اللغوي.
كما قال الشاعر (الطويل):
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
يصف جيشا عظيما مر على الآكام، وهي المواضع المرتفعة من الأرض، وشأن ذلك في العادة أنها تتهدد، وتذهب وتنقاد للحوافر بالسجود والسحق والهد والمحق.
قوله: (أراد بالسجود المعنيين).
قلنا: لا تسلم، بل يأتي سؤال الإضمار، ويكون التقدير: ويسجد له كثير من الناس، فصدق لدلالة الأول عليه كما حذف الخبر في الآية الأولى لدلالة الآخر عليه عكس هذه، ولا يأتي سؤال الغزالي في أنه مستعمل في معنى عام، وهو الدلالة على تعظيم الله تعالى لأن الدلالة لا تختص ببعض الناس، بل الجميع البار والفاجر، يدل وجوده على وجود الله تعالى وصفاته العلا، فالتنصيص يقتضي تغاير المعنى، غير أنه مجاز في وضع الجبهة على الأرض ويأتي السؤال السابق.
قوله: (إذا كانت المرأة من أهل الاجتهاد أراد الله تعالى منها الاعتداد بكل واحد منهما بدلا عن الآخر).
قلنا: ليس هذا من صورة النزاع، إنما صورة النزاع في استعمال اللفظ المشترك على سبيل الجمع، وهاهنا إنما أراد أحدهما لا بعينه على ما يؤدي إليه اجتهادها فلا جمع، ولو صح هذا الدليل لكان المجوز أقوى منه، وهو أن الله تعالى أراد من كل مجتهد أن يعتقد أن مراده إما الحيض، وإما الطهر، وقد وقع القولان في علماء الأمة، فيكون الله تعالى قد استعمل لفظ الأقراء في المجموع بالإجماع؛ لأن كل طائفة قالت بأن الله تعالى أراد أحدهما.
قالت الحنفية: الحيض.
وقالت غيرها: الطهر، وكلاهما حكم الله صحيح مقرر في الشريعة، فيكون الله تعالى أرادهما على هذا التقدير.
قوله: قال سيبويه: القائل لغيره: الويل لك دعاء وخبر، جعله مقيدا للأمرين.
قلنا: قوله: دعاء وخبر لم يقل: موضوع لهما، بل معناه يستعمل في الخبر تارة، وفي الدعاء أخرى، وكذلك:(سلام عليكم)(الرعد: 24) دعاء وخبر على هذا المعنى، بل الخبر ضد الدعاء، فلا يجتمع معه.
بيانه: أن الخبر لا يكون إلا عما يعتقد حصوله، والدعاء لا يكون بمعلوم الحصول، فلا يجوز أن يقال: اللهم اجعل الأرض تحتا والسماء فوقا، ولا اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، لقوله عليه السلام (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
وكذلك كل ما هو من هذا الباب، فحينئذ هما ضدان، والضدان لا
يجمع بينهما في محل واحد. إذا تقرر هذا قال أرباب علم البيان: إن أصل الدعاء صيغة الأمر، فتقول: اللهم اغفر لنا، هذه هو الحقيقة، ثم يستعار لفظ المستقبل للدعاء مجازا، إلا أنه خبر، والخبر متعلقة واقع متقرر، يستعار للدعاء على سبيل التفاؤل بالوقوع، فهذا في الرتبة الثانية، والرتبة الثالثة أن يقال: غفر الله لنا، فيكون أبلغ من المضارع؛ لأن الماضي دخل مسماه في الوجود بخلاف المضارع، وهو وإن كان خبرا مجزوما بوقوع متعلقة، غير أنه لم يدخل الوجود، فتكون استعارة الماضي أبلغ من استعارة المضارع في معنى التفاؤل، وفي الأحوال كلها لم يخبر عن وقوع المغفرة، بل مقصودنا الطلب لما لا نعلم وقوعه، فكذلك ويل له، أصله الخبر، ويستعار للدعاء تفاؤلا، ووقت الاستعارة لا يكون خبرا، بل دعاء، ووقت عدم الاستعارة يكون خبرا، ولا يكون دعاء، فما اجتمع في الاستعمال.
قال القاضي تاج الدين رحمه الله: الدعاء والخبر لا يكونان إلا في المركبات، والنزاع إنما وقع في الاشتراك في المفردات، فكيف يحسن الاستدلال بالمركبات، وهذا السؤال يتم إذا قلنا: إن العرب ما وضعت المركبات على رأي المصنف؛ لأنه جعل المجاز المركب عقليا، فيرد عليه السؤال التزاما.
أما إذا قلنا: وضعتها على ما هو الحق، ويأتي بيانه في أن المجاز المركب عقلي، فلا يرد السؤال؛ لأنها إذا كانت موضوعة دخل فيها الاشتراك.
قوله: في الجواب للألفاظ كما وضعت للآحاد وضعت للمجموع، يريد أن النكتة التي ذكرها قطعية عقلية، وإذا تعارض العقل والنقل يتعين تأويل النقل للعقل على القاعدة، فيتأول أن هذه الألفاظ وضعت للمجموع والأفراد، فيمكن الجمع بين النكتة وبينهما، إنما منع من استعمال اللفظ في جميع المسميات، وعلى هذا التقدير لم يستعمل إلا في أحد المسميات، فلا تعارض غير أنك قد علمت أن النكتة غير تعيينية ولا ظنية، فلا ضرورة لهذا
التأويل، بل لا يجوز حينئذ؛ لأن التأويل بغير عاضد من الأدلة الصحيحة غير جائز، بل هذا التأويل قصد به دفع سؤال عنه، فلم يندفع، وحق على نفسه به سؤال لا يندفع، وهو أن مراده حينئذ بتلك الآيات ليس الجمع بين الحقيقة والمجاز، بل الحقيقتين، وقد علمت أنه ليس كذلك، فسد باب التأويل له في تلك الآيات بهذا التأويل المذكور هاهنا.
قوله: (بعض المانعين جوز ذلك في لفظ الجمع).
قلت: وجه شبهته أن الجمع يتخيل فيه تكرر اللفظ، واللفظ إذا تكرر جازت المسالة إجماعا، فيجوز أن يريد بلفظه الأول غير ما يريد بلفظه الثاني كما تقدم.
بيانه: لكن هذا التخيل باطل؛ فإن صيغة الجمع صيغة مفردة، وضعت للدلالة على الجمع، كما يدل المفرد على المفرد.
فإذا قلنا: أقراء، فليس فيها ثلاث قافات، وثلاث راءات حتى يتخيل فيها ثلاث لفظات، بل قاف وراء واحدة، فهذه الشبهة ساقطة.
قوله: الحق أنه لا يجوز؛ لأن معنى قوله: اعتدى بالأقراء: اعتدى بقرء وقرء.
قلنا: هذه العبارة تقتضي أن الجمع معناه النطق بصيغة المفرد مرتين، وهذا يناسب الجواز لا المن، بل ينبغي أن يكون معنى اعتدى بالأقراء: اعتدى بثلاثة من مسمى هذا اللفظ، وهذا اللفظ له مسميان، فيتوقف الامتثال على بيان المراد بالقرينة، كما في المفرد.
قوله: (الجمع لا يفيد إلا عين فائدة الإفراد).
يريد في تعيين المسمى لا في التعدد والاتحاد، وإلا فالجمع فيه كثرة بالضرورة، وظاهر لفظه يقتضي أن المفهوم من الجمع هو المفهوم من المفرد،
وليس كذلك إجماعا، إنما اختلف الناس في الجمع هل يكون أقل الجمع اثنين الذي هو التثنية أم لا؟
فإن قلت: ذكر الإفادة في المشترك غير سائغ؛ لأن المشترك مجمل، والمجمل غير مفيد بمعنى غير دال.
قلت: مسلم غير أن اللفظ المشترك يفيد أن المراد مسمياته دون غيرها كالقرء، فإنه يفيد أن المراد لا يعد الحيض أو الطهر، فهذا هو المراد فالإفادة لا تعين المراد عينا.
قوله: (أما في جانب النفي، فلا يقم قاطع على أن الواضع ما استعمله في إفادتهما جميعا).
قلنا: القصد بهذا الكلام التفرقة بين الإثبات والنفي، ولا فرق عند العرب بين قولنا: عند زيد عشرة، ليس عنده عشرة، فإن لم يكن لفظ العشرة موضوعا لمجموع الخمستين لا تثبت العشرة في الأول، ولا تنفي في الثاني.
وإن كان مراده بالاستعمال في النفي على سبيل المجاز، فما الفرق بين المجاز في المجموع ثبوتا أو نفيا؟ هو جمع بين المسميين في الإثبات والنفي، فالجمع إن كان ممتنعا ففيهما، وإلا ففيهما.
وإن قلت: الفرق أن نفي المجموع يكفي فيه جزء ما غير معين، بخلاف الثبوت لابد فيه من جميع الأجزاء، والاستعمال على هذا في النفي إنما وقع في مطلق الجزء السابع، لا في المعين، فافترقا.
قلت: مسلم، هذا تخيل حسن، غير أن القضاء على المجموع بالنفي فرع الجمع بين المعنيين في الذهن، حتى يقضي على مجموعهما بالنفي، والاستعمال حينئذ في المجموع، وهو المقصود بالاستعمال، ومطلق الجزء يحصل المقصود؛ لأنه المستعمل فيه، ولو كان مطلق الجزء هو المستعمل فيه،