الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: في حد الحقيقة والمجاز:
أحسن ما قيل فيه ما ذكره أبو الحسين، وهو: أن الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به، وقد دخل فيه الحقيقة اللغوية، والعرفية، والشرعية.
والمجاز: (ما أفيد به معنى مصطلح عليه، غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع التخاطب بها؛ لعلاقة بينه وبين الأول).
وهذا القيد الأخير لم يذكره أبو الحسين، ولابد منه، فإنه لولا العلاقة، لما كان مجازا، بل كان وضعا جديدا.
وقوله: (معنى مصطلح عليه): إنما يصح على قول من يقول: المجاز لابد فيه من الوضع، فأما من لم يقل به، فيجب عليه حذفه.
وأما قوله: (غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة) ففيه سؤال؛ وذلك أنه يقتضي خروج الاستعارة عن حد المجاز.
بيانه: أنا إذا قلنا؛ على وجه الاستعارة: (رأيت أسدا) فالتعظيم الحاصل من هذه الاستعارة ليس لأنا سميناه باسم الأسد؛ ألا ترى أنا لو جعلنا الأسد علما له، لم يحصل التعظيم ألبتة؟ بل التعظيم إنما حصل؛ لأنا قدرنا في ذلك الشخص صيرورته في نفسه أسدا، لبلوغه في الشجاعة التي هي خاصية الأسد إلى الغاية القصوى، فلما قدرنا أنه صار أسدا في نفسه أطلقنا عليه اسم الأسد؛ وعلى هذا التقدير لا يكون اسم الأسد مستعملا في غير موضوعه الأصلي.
وجوابه: أنه يكفي في تحصيل التعظيم أن يقدر أنه يحصل له من القوة مثل ما للأسد، فيكون استعمال لفظ الأسد فيه استعمالا للفظ في غير موضوعه الأصلي.
وأعلم: أن الناس ذكروا في تعريف الحقيقة والمجاز، وجوها فاسدة:
أحدها: ما ذكره أبو عبد الله البصري، ألا وهو أن الحقيقة: ما انتظم لفظها معناها من غير زيادة، ولا نقصان، ولا نقل.
والمجاز هو: الذي لا ينتظم لفظه معناه: إما لزيادة، أو لنقصان، أو لنقل:
فالذي يكون للزيادة هو الذي ينتظم عند إسقاط الزيادة؛ كقوله تعالى:} ليس كمثله شيء {] الشورى: 11 [فإنا لو أسقطنا الكاف، استقام المعنى.
والذي يكون للنقصان هو الذي ينتظم الكلام عند الزيادة؛ كقوله تعالى:} واسأل القرية} [يوسف: 82 [، ولو قيل: واسأل أهل القرية، صح الكلام.
والذي يكون لأجل النقل قوله:) رأيت أسدا (وهو يعني الرجل الشجاع.
واعلم أن هذا التعريف خطأ؛ لأن المجاز بالزيادة والنقصان إنما كان مجازا؛ لأنه نقل عن موضوعه الأصلي إلى موضوع أخر في المعنى، وفي الإعراب، وإذا كان كذلك، لم يجز جعلهما قسمين في مقابلة النقل.
أما في المعنى؛ فلأن قوله تعالى:} ليس كمثله شيء} [الشورى: 11 [يفيد نفي مثل مثله، وهو باطل؛ لأنه يقتضي نفيه - تعالى الله عن ذلك - إلا أنه نقل عن هذا المعنى إلى نفي المثل، وكذلك قوله تعالى:} واسأل القرية} [يوسف: 82 [موضوع لسؤال القرية، وقد نقل إلى أهلها.
وأما في الإعراب؛ فلأن الزيادة والنقصان، متى لم يغير إعراب الباقي، لم يكن ذلك مجازا؛ فإنك إذا قلت: جاءني زيد وعمرو، فهو في الأصل: جاءني زيد وجاءني عمرو، إلا أنه حذف أحد اللفظين؛ لدلالة الثاني عليه، لكن لما لم يكن الحذف سببا لتغيير الإعراب، لم يحكم عليه بكونه مجازاً.
وهذا الكلام في جانب الزيادة.
وأما إذا أوجبنا تغيير الإعراب، كانا مجازين؛ وذلك إنما يتحقق عند نقل اللغة اللفظة من إعراب إلى إعراب آخر.
وثانيها أيضا: ما ذكره أبو عبد الله البصري ثانيا، فقال:) الحقيقة ما أفيد به غير ما وضعت له، والمجاز: ما أفيد به غير ما وضع له) وهذا أيضا باطل:
أما قوله في الحقيقة: (إنها ما أفيد بها ما وضع له (فباطل؛ لأنه يدخل في الحقيقة ما ليس منها؛ لأن لفظة الدابة، إذا استعملت في الدودة والنملة، فقد أفيد بها ما وضعت له في أصل اللغة مع أنه بالنسبة إلى الوضع العرفي مجاز، فقد دخل المجاز العرفي فيما جعله حدا لمطلق الحقيقة؛ وهو باطل.
وقوله في المجاز: (إنه الذي أفيد به غير ما وضع له) فهو باطل بالحقيقة العرفية والشرعية؛ فإن اللفظة أفيد بها، والحالة هذه، غير ما وضعت له في أصل اللغة، فقد دخلت هذه الحقيقة في المجاز.
وأيضا فقوله:) ما أفيد به غير ما وضع له) إما أن يكون المراد منه انه أفيد به غير ما وضع له بدون القرينة، أو مع القرينة.
والأول باطل؛ لأن المجاز لا يفيد البتة بدون القرينة، والثاني ينتقض بما إذا استعمل لفظ السماء في الأرض، فإن اللفظ قد أفيد به غير ما وضع له؛ مع أنه ليس بمجاز فيه، وأيضا ينتقض بالإعلام المنقولة.
فإن قلت: العلم لا يفيد!