الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول: على قوله: (والحق التفصيل بين أنواع المعاني التي لا أسماء لها كأنواع الروائح والآلام، فلا شك أن ذاك غير حاصل فيها).
يرد عليه أن هذا ليس تفصيلا؛ لأن العلماء قالوا: إذا قام المعنى بمحل اشتق للمحل من لفظه لفظ، فما لا لفظ له لم يقل أحد بالاشتقاق منه، فهذا ليس تفصيلا لكلام الناس، ولا تفصيلا في المسألة.
الثاني: على هذا أيضا بأن نسلم صحة التفصيل، فيرد عليه قوله من باب المجاز والحقيقة: إن الرائحة حقيقة في معناها، ولم تشتق منه، فقد انتفض التفصيل، وهو أن ما له لفظ لم يشتق منه.
(تنبيه)
لم أجد الخلاف بيننا وبين المعتزلة في هذه المسألة إلا في موضع واحد
وهو مسألة [قوله تعالى]: {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل، ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} [النساء:164]، بل كلمه بكلام قائم بذاته، وخلق له كلاما في الشجرة سمعه موسى عليه السلام، فالأول قول أصحابنا، والثاني قول المعتزلة، فقد قام الكلام بالشجرة ولم يشتق لها منه لفظ، فلم يقل الله تعالى: وكلمت الشجرة موسى، [واشتق الله تعالى فقال: وكلم الله موسى] وما عدا هذه الصورة لا نخالف فيه المعتزلة، وإذا قام البياض بثوب لا تقول المعتزلة: إنه لا يسمى أبيض، ويسمى ثوبا آخر لم يقم به البياض أبيض، ولا يقول هذا عاقل.
الثالث: على قوله القتل قائم بالمقتول، ولا يسمى قاتلا؛ لأن القتل هو المصدر، وهو قائم بالفاعل دون المفعول، بل الذي في المفعول إنما هو أثره.
الرابع: سلمنا قيامه بالمقتول، لكن الدعوى في أصل المسألة أنه لم يشتق له منه اسم، وكونه اسما أعم من كونه اسم فاعل، أو اسم مفعول، فلا يرد هذا نقضا؛ لأن مقتول اسم إجماعا.
الخامس: على قوله: (يفتقر التأثير إلى تأثير آخر، ويلزم التسلسل).
قلنا: التأثير والخلق، والتأثر، والمخلوقية، نسب وإضافات عندنا، خلافا للفلاسفة، والنسب والإضافات عدمية في الخارج؛ لأن الله-تعالى-إذا خلق جوهرا بعد جوهر، فمخلوقه اثنان اثنان ليس إلا بهذا الغرض، ومع ذلك يصدق أن أحدهما قبل الآخر، وسابق عليه، والثاني بعده، ومتأخر عنه، ويصدق أيضا أنهما اثنان، فهذه نسب كثيرة غير الجوهرين.
فلو كانت وجودية مع أنها حادثة تابعة لحدوث الجوهرين كان الله-تعالى-وهو المؤثر فيها، فتكون مخلوقاته أكثر من اثنين، والمقدر أنهما اثنان، هذا خلف؛ ولأن النسبة لو كانت وجودية لكان لها نسبة لمحلها، والكلام في نسبة النسبة، ويلزم التسلسل، فحينئذ النسب عدمية، ووجودها إنما هو في الاعتبار العقلي دون الخارجي.
فإن قلت: إن كانت الأحكام الذهنية مطابقة لما في الخارج كانت النسب في الخارج، وإن لم تكن مطابقة، فهو جهل، والتقدير أنها حق ومعلومة، قلت: قد تقدم في باب الكلام على تقسيم الذهن بأمر على أمر، تفسير هذه المطابقة، وأنها مخالفة لسائر المطابقات، فلينظر من هناك، وإذا لم تكن النسب في الخارج لا تحتاج إلى تأثير، فإن احتياج الممكن إلى التأثير فرع اعتبار دخوله في الوجود، فما لا يدخل في الوجود لا تأثير له، سلمنا اعتبار احتياجه للتأثير، فلم لا يجوز أن يكون تأثير التأثير غير التأثير بخلاف التأثير في الجوهر، والعرض؟
وتقريره: أن الحقائق المختلفة بذاتها يجوز اختلافها في بعض اللوازم،
وتأثير التأثير مخالف لتأثير الجوهر، فجاز أن يكون أحدهما زائدا، والآخر ليس بزائد كما تقول: معلوم كل علم غيره إلا العلم، فإنه نفس العلم به لمخالفته لسائر الحقائق، ومخبر كل خبر غيره، إلا الخبر، فإن الخبر عن الخبر هو نفس الخبر
لمخالفته لسائر الحقائق، فكذلك هاهنا.
سلمنا احتياجه لتأثير آخر، لكن لم قلتم: إن التسلسل محال في النسب والإضافات، إنما هو محال في الموجودات الحقيقية؟
السادس: على قوله: (الخلق نفس المخلوق)، قلنا: كذلك قال الشيخ أبو الحسن الأشعري، وألزم عليه أن يعرب (السماوات والأرض) مصدرا؛ لأن الخلق مصدر اتفاقا، وهو نفس المخلوق مصدرا، والسماوات والأرض مخلوقة، فيكون مصدرا، وهذا غلط، وعدم فهم لكلامه، بل مراده بأن الخلق نفس المخلوق أنه ليس زائدا عليه في الخارج، بل أمر يعتبره العقل، كما قاله في الوجود أنه نفس الموجود لا أنه هو، بل ليس زائدا عليه في الخارج، وفي الذهن هو اعتبار مغاير، وهو مصدر باعتبار ما في الذهن، ومن ذلك الاعتبار الذهني حصل الاشتقاق، كما سمى تعالى واجب الوجود، وأزليا وأبديا، مع أن الوجود، والأزلية، والأبدية نسب ترجع إلى تعذر العدم على الذات، فهو نسبة بين الذات، والعدم، والأزل والأولية، والأبدية مغايرة الوجود لجميع الأزمنة المستقبلة، والمقارنة نسبة.
فإن قلت: إذا حصل الاشتقاق لما في الذهن لله-تعالى- فقد اشتق لغير المحل، ولم يشتق للمحل، وأنت لا تقول به.
قلت: النسب الذهنية كلها يشتق منها باعتبار وجود ملزوم صحة الحكم بها، كما تقدم تقريره في تفسير مطابقة [النسب] في حكم الذهن بأمر على أمر، وأن مطابقتها مخالفة لسائر المطابقات، والاشتقاق في الحقيقة إنما هو من
ذلك الملزوم الخارجي، وكذلك الاشتقاق من الأبوة، والبنوة، فتقول: أب، وابن، ومتقدم، ومتأخر، ونحوه من ملزوم صحة الحكم الذهني.
السابع: على قوله: (إن كان محدثا لزم التسلسل).
قلنا: قد بينا أنه عدمي ليس موجودا في الخارج، وما ليس موجودا في الخارج لم يحتج إلى خلق، فلا يلزم التسلسل.
الثامن: على قوله: (اسم المشتق).
معناه: أنه ذو المشتق منه.
قلنا: لا نسلم أن هذا تفسيره، بل أخص من هذا، فإن (ذا) معناه الصاحب، وقولنا صاحب معناه المقارنة، لا يلزم منها القيام، فالصحابة ليسوا قائمين برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقولنا: صاحب مال، ليس معناه أن المال قام به، فتفسيره بهذا مصادرة، بل تفسيره أخص من هذا، وهو الصحبة مع القيام بالمشتق له.
التاسع: على قوله: (اللابن، والتامر).
قلنا: اللابن معناه ذو اللبن، والتامر معناه ذو تمر، وهذه أمور ليست قائمة بالمحال، مسلم ولكن النزاع إنما هو في المعاني، وهذه أمور ليست قائمة بالمحال، مسلم ولكن النزاع إنما هو في المعاني، وهذه أجسام لم تندرج في صورة النزاع، فلا يحسن بها النقض، وكذلك المكي والمدني منسوب إلى (مكة) و (المدينة)، وهما أجسام ليست من صورة النزاع وكذلك الحداد.
قال النحاة: النسبة إلى جميع الحرف فعال، نحو حداد، وفكاه، وخياط، وكلها أجسام ليست من صورة النزاع.
(المسألة الرابعة)
مفهوم الأسود شيء ما له السواد، أما حقيقة ذلك الشيء لا تعرف إلا
بطريق الالتزام، يدل عليه أنك تقول: الأسود جسم، فلو كان مفهوم الأسود أنه جسم ذو سواد لنزل ذلك منزلة الجسم ذي السواد، يجب أن يكون جسما.
تقرير ذلك: أن العرب وضعت لفظ الأسود لشيء ما له السواد، والمراد بشيء ما للقدر المشترك بين الموجودات، إما أنه جسم أم لا، فإنما يعلم ذلك بدليل العقل، دل العقل على أن السواد لا يقوم إلا بجسم، كما أن لفظ السواد اسم للون المخصوص، أما ذلك اللون يجب أن يقوم بجسم، فإنما علم ذلك بالعقل، فلم يدخل شيء من ذلك في حقيقة المسمى، فلا يدل عليه اللفظ مطابقة، ولا تضمنا، بل التزاما؛ لأن الجسمية لازمة لهذا المعنى في الذهن والخارج.
وأما قوله: (لو كان مفهوم الأسود أنه جسم ذو سواد لكان مثل قولنا: الجسم ذو السواد يجب أن يكون جسما) هذا الاستدلال مبني على قاعدة ذكرها أبو على في (الإيضاح) وذكرها غيره.
فقال أبو على: واعلم أنه لا يجوز أن تقول: إن الذاهب جاريته صاحبها؛ لأنك لا تفيد بالخبر شيئا لم يستفد من المبتدأ، وحكم الجزء الذي هو الخبر أن يفيد ما لم يفده المبتدأ، هذا نص كلامه، فبقوله: جاريته علم أنه صاحبها، فلا يكون خبرا عنه.
وقال أبو على أيضا في (مسائله): قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} [النساء:176] من هذا الباب غير أن الصفة مضمرة في الخبر، وهي المحسنة له؛ لأن العرب كانت تورث الصغار دون
الكبار من البنات لضعفهن، فأراد الله- تعالى-[بقوله]:(اثنتين) مجردتين عن وصف الصغر والكبر إشارة إلى عدم اعتبار ما كانوا يعتبرونه من وصف الصغر، وحكاها الحريري في (درة الغواص) عن الأخفش، وحكى هذا الجواب.
(فائدة)
مسألة (الإيضاح) تبطل من وجه آخر من جهة الضمير في صاحبها؛ لأن القاعدة: أن المبتدأ لا بد أن يعود عليه عائد من الخبر، والذاهب صفة لموصوف محذوف تقديره الرجل الذاهب جاريته صاحبها، فالهاء في (صاحبها)
عائد على الجارية لا على المبتدأ، فبطل كونه خبرا لعدم العائد.
سؤال على هذه القاعدة: وهو أن أبا على لما قال: لأنه لم يفد بالخبر شيئا لم يفده بالمبتدأ يقتضي بظاهره أن
ليس من جهة كون السامع لم يحصل له فائدة، وأنه لو حصل له فائدة لجازت المسألة، فإنه لم يتعرض للسامع، وإنما تعرض لدلالة لفظ المبتدأ، ولو كان المقصود السامع، وعدم فهمه لكان في القرآن جمل كثيرة قد فهمها السامعون قبل نزول الخطاب، كقوله تعالى:{إنني أنا لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه:14].
وقوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر:30].
والخلق أجمعون يعلمون ذلك.
فإن قال: يحسن ذلك لتضمن هذه المبتدآت مقاصد أخر في التنبيه على التعظيم في الآية الأولى، أو التسلية في الآية الثانية، فقل في مسألة أن الذاهب جاريته: يجوز إن لاحظنا فيها معنى آخر مع أنه أطلق القول بالمنع، فدل ظاهر كلامه على أن ظاهر المنع لأمر يرجه إلى التركيب، كما يمتنع قولك: رجل في الدار، وزيد كيف؟ ونحو ذلك مع أن السامع لم يحتمل عنده الفهم بهذه التراكيب، وهي ممنوعة عند النحاة، ولم تجزها العرب، فهذا ظاهر لفظه أن المنع لنفس اللفظ لا للسامع، وعلى هذا تنتقض هذه القاعدة بالطم والرم فإنا نقول: إن العشرة خمسة وخمسة، وكل حد مع محدوده، فنقول: الإنسان هو الحيوان الناطق، وكذلك جميع المحدودات.
وبقولنا: الإنسان ناطق، وحكم الله تعالى خطابه، والله ربنا، ومحمد نبينا، ونظائره كثيرة.
وسألت جماعة ممن اجتمعت بهم من الأدباء يقولون: إنما المنع لأجل أن السامع يفهم أنه صاحبها من قولك: جاريته، ولم أجد هذا التفسير ينطبق على كلام أبي على وغيره.
وكيف لم يجد أبو على في القرآن غير قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} [النساء:176]، فكم في القرآن من جملة يفهمها السامع ولم يتعرض أبو على ولا غيره لها لمنعها، وما من كلام إلا ويصح أن يفهمه سامع دون سامع، فليمنع الكل، أو ليجوز الكل، أو يفصل في الكل.
أما تخصيص هذه المواد بالمنع من غير تفصيل فأجده مشكلا، بل الجواب الصحيح أن اللفظين متى كانا مترادفين على إفادة معنى واحد، ولم يضمر في الثاني صفة زائدة، ولا فائدة لم تحصل من الأول امتنع لنفس اللفظ لا للسامع.
والإضافة في قولنا: جاريته تفيد الصحة لغة، وصاحبها كذلك، فهما مترادفان، فإن أضمرنا صفة زائدة صحت المسألة، ولذلك صح (كانتا اثنتين) لإضمار الصفة، وإن كان الألف في (كانتا) موضوعة للتثنية، ولفظ اثنتين موضوع للتثنية وكذلك قوله [الرجز]:
أنا ألو النجم وشعري شعري
لما أضمرنا المعروف صح، ومما يمتنع بهذه العلة الليل ليل، والنهار نهار، والبغل بغل، والحمار حمار، القصيدة المشهورة لوجود الترادف مع عدم الفائدة، وبهذا التقرير لا ترد الحدود مع محدوداتها لما فيها من التفصيل والفائدة، وعدم الترادف أيضا، فإن لفظ الحيوان الناطق ليس مرادفا للإنسان لوضعهما للجزءين، ووضعه للمجموع، وكذلك العشرة خمسة وخمسة، وسائر هذه النقوض لانتفاء ضابط المنع.
وكذلك لا ترد {نفخة واحدة} [الحاقة:13] و {فدكتا دكة واحدة} [الحاقة:14] لأن قولنا: نفخة ودكة لا يفيد إلا أنه وقع من المصدر فرد، فهو مثل قولنا: أعطيتك درهما، ولا ينافي ذلك إعطاء درهم آخر.
وقولنا: واحدة تحسم المادة في التكرر، ولم يدل على المنع {نفخة} و {دكة} و {إلهين اثنين} [النحل:51] أشكل من هذا كله؛ لأنا لم نستفد باثنين شيئا.
فقال بعضهم: هو على التقديم والتأخير تقديره: اثنين إلهين، فقد استفدنا من الثاني غير فائدة الأول، وهو غير متجه؛ لأن المفعولين هاهنا كالمبتدأ والخبر، والقاعدة في المبتدأ والخبر أن يكون الأعرف هو المبتدأ، والمفعول الأول، فلا تقديم ولا تأخير.
ووجه تخريج كلام (المحصول) على هذه القاعدة أن الجسم إذا كان داخلا في مسمى الأسود امتنع الإخبار عنه؛ لأنه جسم؛ لأن المبتدأ يفيده، كما قال أبو على بخلاف إذا جعلنا مدلول الأسود شيئا أعم من الجسم قام به عرض السواد، فإذا أخبرنا بالجسم زدنا فائدة، فجاز الخبر، وكان عربيا.
(تنبيه)
زاد سراج الدين الأرموي: (ولقائل أن يقول: العلم بأن التأثير غير وقوع الأثر ضروري، ثم لا برهان على وجوب الانتهاء إلى أثر أخير، بل إلى مؤثر أول، والتسلسل في الثاني ممنوع، وتقدم النسبة على محلها ممتنع دون المنسوب إليه، ولعل الأصحاب لا تدعى ذلك إلا في المشتق من المصادر).
تقريره: أن التأثير نسبة بين الأثر والمؤثر، والنسبة بين النسبتين غيرهما، ولأنها عدمية، ووجود الأثر ليس عدميا.
وقوله: (لا برهان على وجوب الانتهاء إلى أثر أخير، بل إلى مؤثر أول) معناه: لا برهان من حيث العقل، فإن العقل يجوز أن الله- تعالى- بعد هذه الساعة لا يخلق شيئا، لكن السمع ورد بأن الله- تعالى- خلاق على الدوام، وأنه يخلق النعيم في الجنة دائما، [وكذلك النار]، أما الانتهاء إلى مؤثر فلولا ذلك كان وجود أي ممكن فرض موقوفا على تقدم مؤثرات قبله، لا نهاية لها، وذلك يمنع وجوده [ويحيله] لتوقفه على دخول ما لا يتناهى في الوجود، وانقضاء ما لا نهاية له محال، والموقوف على المحال
محال، والتسلسل في المؤثرات محال، يريد بخلاف التسلسل في الآثار المستقبلة، فإنه ليس محال.
وقد مثله إمام الحرمين بقوله القائل: لا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده درهما آخر؛ فإن العطاء لا يمتنع، ويعطيه بعد كل درهم درهما أبد الآباد، بخلاف ما إذا قال: لا أعطيك درهما حتى أعطيك درهما قبله، فإنه يمتنع الإعطاء حينئذ؛ لأنه تسلسل في الماضي، بخلاف المستقبل، ففرق بين حوادث لا أول لها، وبين حوادث لا نهاية لها، والثاني ممكن اتفاقا، والأول محال عند أهل الحق القائلين بحدوث العالم، جائز عند الفلاسفة القائلين بقدم العالم وتوجيه ما قاله سراج الدين على كلام الإمام أن التأثير إذا كان حادثا افتقر إلى تأثير آخر حادث، فهو تأثير في التأثير، فهو حادث بعد حادث من القسم الجائز فيه التسلسل، وليس كما زعم سراج الدين، بل التأثير إذا كان حادثا افتقر إلى تأثير يتقدم عليه لا يتأخر عنه، فإن التأثير يتقدم على وجود الأثر، فهو يؤول إلى حوادث لا أول لها إلى حوادث لا آخر لها، فتأمله.
ومعنى قوله: (وتقدم النسبة على محلها [ممتنع]، دون المنسوب إليه كالمتقدم) يريد أن التقدم يوصف به المتقدم، وإن لم يوجد المتأخر، فإذا خلق الله- تعالى- جسما قبل وجود العالم بألف سنة صدق عليه حينئذ أنه متقدم على العالم، وإن لم يوجد العالم في تلك الأزمة، فكذلك الخلق جاز أن يتقدم وصفه الخالق، ولا يكون العالم موجودا، فيكون قديما، والعالم حادث، فهذا وجه قوله: ممتنع أي: نحن نمنعه مطلقا، بل قد يجوز تقدم النسبة، وليس كما زعم سراج الدين، فإن النسب على قسمين منها ما لا يوجد إلا مع وجود الطرفين اللذين حصلت بينهما النسبة، كالبنوة والأبوة
والمقابلة، والمدابرة، والفوقية، والتحتية، ونحو ذلك، ومنها ما يوجد، وأحد الطرفين غير موجود كالتعلق بين العلم والمعلوم، والخبر والمخبر عنه، فإن التعلق فيهما قد يوجد، والمعلوم والمخبر عنه معدومان، كما في علم الله-تعالى-وخبره عن وجود العالم في الأزل، والعالم [معدوم]، ونظائرهما كثيرة من التقدم والتأخر إذا عدم المتقدم والمستقبل والماضي، وغير ذلك، والخلق من النسب التي تتوقف على وجود الخالق والمخلوق، كالتأثير بدون المؤثر والأثر محال، لا بد من وجودهما، فاندفع منعه.
* * *