الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدراسة
في معرض ذكره سبحانه لصفات المتقين نعتهم بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران الآية 35].
روى أهل السنن الأربع وغيرهم عن أبى بكر رضي الله عنهم قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له) ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} إلى آخر الآية [آل عمران: 135]
(1)
قوله: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
قال الطبري: " الإصرار: الإقامة على الذنب عامداً، أو ترك التوبة منه .. "
(2)
.
ويعرب قوله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال من فاعل (يصروا)
(3)
أي لم يصروا على قبيح فعلهم وهم عالمين به
(4)
ومفعوله محذوف لظهوره من المقام.
قال ابن عباس والحسن {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الإصرار ضار، وأن تركه أولى وخير من التمادي
(5)
.
وقال مجاهد: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه يغفر لمن استغفر ويتوب على من تاب
(6)
وقال عبد الله بن عبيد بن عمير
(7)
: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم إن تابوا تاب الله عليهم
(8)
.
(1)
رواه أبو داود في (كتاب الوتر) باب في الاستغفار ح: 1521 ص 224/ 225، والترمذي في كتاب
…
(الصلاة) باب ما جاء في الصلاة عند التوبة ح: 406 ص: 109، وينظر ح: 3006 والنسائي في
…
(عمل اليوم والليلة) 1/ 316 ح: 417، وابن ماجة في كتاب (الصلاة) باب ما جاء في أن الصلاة كفارة ح: 1395 ص 999، ولم يذكر الآية، وأحمد في المسند ح: 2، 47، 48 وغيرهم. قال الترمذي:"حديث حسن ". وقال ابن كثير: في تفسيره 1/ 407 "و بالجملة فهو حديث حسن "
(2)
تفسير الطبري 4/ 12، وينظر: معاني القرآن وإعرابه 1/ 469 والكشاف 1/ 416، والمحرر الوجيز 1/ 510 وتفسير القرطبي 4/ 208، وتفسير النسفي 1/ 180، والبحر المحيط 3/ 65 والدر المصون 2/ 212 و تفسير ابن كثير 1/ 407، وتفسير الجلالين 1/ 85، وفتح القدير 1/ 482، والتحرير والتنوير 3/ 224
(3)
ينظر: الكشاف 1/ 416/ 417 وإملاء ما من به الرحمن 1/ 150، وتفسير البيضاوي وحاشيته لشيخ زاده 3/ 172، والبحر المحيط 3/ 65 والدر المصون 2/ 212.
(4)
ينظر: المصادر السابقة ما عدا إملاء ما من به الرحمن والدر المصون.
(5)
ينظر: زاد المسير 1/ 464، وتفسير القرطبي 4/ 209، والبحر المحيط، 3/ 65، والدر المصون 2/ 212 ولم يذكرا أن الإصرار ضار
(6)
رواه عنه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 557 ت: حكمت بشير ياسين. وينظر: تفسير مجاهد 1/ 136 وزاد المسير 1/ 464، والبحر المحيط 3/ 65، وتفسير ابن كثير 1/ 408.
(7)
عبد الله بن عبيد بن عمير: الليثي المكي، ثقة، من التابعين، استشهد غازياً سنة (113 هـ)، ينظر: السير (4/ 157)، التقريب (3455).
(8)
رواه عنه ابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 557 ت: حكمت بشير ياسين. وينظر: معاني القرآن للنحاس 1/ 480، وتفسير القرطبي 4/ 209
قال السدي
(1)
: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم قد أذنبوا ثم أقاموا ولم يستغفروا
(2)
.
وقال ابن إسحاق
(3)
: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ما حرمت عليهم من عبادة غيري
(4)
.
وقال الضحاك: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الله يملك مغفرة الذنوب
(5)
وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها
(6)
.
قال النحاس: " وهو قول حسن "
(7)
.
قال أبو حيان في تخريج هذا القول: " فأطلق اسم العلم على الذِّكر لأنه من ثمرته"
(8)
.
وهنا تتجلى قاعدة مهمة تتعلق في تفسير القرآن وهي حذف المتعلق المعمول فيه يفيد تعميم المعنى المناسب له.
وفي الحقيقة هي قاعدة مفيدة جداً، متى اعتبرها الإنسان في الآيات القرآنية أكسبته فوائد جليلة، وذلك أن الفعل، أو ما هو في معناه متى قُيِّد بشيء تقيَّد به، فإذا أطلقه الله تعالى، وحذف المُتَعَلق فعمم ذلك المعنى، ويكون الحذف هنا أحسن وأفيد كثيراً من التصريح بالمُتَعَلِّقَات، وأجمع للمعاني النافعة
(9)
.
وأقول ــ والعلم عند الله ــ أنه يظهر من جميع عبارات السلف أنهم يذهبون إلى العموم، ويدخل قول الحسين رحمه الله كغيره في هذا العموم، ويُلاحظ أن قول مجاهد وعبد الله بن عبيد والضحاك متضمن لقول الحسين رحمه الله.
(1)
السدي: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي، أبو محمد الكوفي، صاحب التفسير المشهور باسمه، من التابعين، توفي سنة (127 هـ). ينظر: السير (5/ 264)، التقريب (463).
(2)
رواه عنه ابن جرير في تفسيره 4/ 126 وابن أبى حاتم في تفسيره 2/ 557 ت: حكمت بشير ياسين.
(3)
ابن إسحاق: محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، إمام المغازي، له كتاب " السيرة "، توفي سنة (150 هـ)، ينظر: السير (7/ 33)، التقريب (5725).
(4)
رواه عنه ابن جرير في تفسيره 4/ 126، وابن أبى حاتم عنه في تفسيره 2/ 557 ت: حكمت بشير ناسين، وابن المنذر في تفسيره ص: 388، وابن إسحاق، ينظر: سيرة ابن هشام 3/ 109.
(5)
ينظر: تفسير البغوي 1/ 421.
(6)
ينظر: إعراب القرآن للنحاس 1/ 180، وتفسير القرطبي 4/ 209، والبحر المحيط 3/ 65.
(7)
إعراب القرآن للنحاس 1/ 180.
(8)
البحر المحيط 3/ 65.
(9)
ينظر: القواعد الحسان للسعدي ص: 43.
وذكر القرطبي في تفسيره قول الحسين ثم قال: " وهذا أخذه من حديث أبى هريرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربِّه عز وجل قال: (أذنب عبدٌ ذنباً فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً فعَلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي ربِّ اغفر لي ـ ذنبي ـ فذكر مثله مرتين، وفي آخره: اعمل ماشئت فقد غفرتُ لك) أخرجه مسلم "
(1)
(2)
.
قال النووي في قوله (اعمل ما شئت فقد غفرت لك)" معناه مادمت تذنب، ثم تتوب غفرت لك "
(3)
.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه) أخرجاه في الصحيحين
(4)
.
وعلى العبد إذا ذكر ذنبه علم أن له رباً يغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذلك ولو كثرت، وأن من تاب تاب الله عليه وهذا كقوله:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104] وكقوله {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، ولو تكرر ذنبه مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته ـ والحمد لله ـ.
وللترمذي
(5)
عن أبى بكر رضي الله عنهم مرفوعاً: (ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة)
(6)
.
(1)
أخرجه في صحيحه (كتاب التوبة) ح: 6986 ص 195، وخرَّجه غيره
(2)
/ 209/ 210 وراجع: كتاب التذكرة باب متى تنقطع معرفة العبد من الناس وفي التوبة وبيانها، وفي التائب من هو؟ ص: 52 - 57.
(3)
شرح صحيح مسلم 17/ 63.
(4)
أخرج البخاري في (كتاب الشهادات) باب تعديل النساء بعضهن بعضاً ح: 2661 ص 431/ 433 ومسلم في (كتاب التوبة)، ح: 7020 ص 1205 - 1209، أخرجاه من حديث عائشة مطولاً في خبر الإفك المشهور.
(5)
الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، أبو عيسى، أحد أئمة الحديث، صاحب كتاب الجامع، وكتاب الشمائل، توفي سنة (279 هـ)، ينظر: السير (13/ 270)، التقريب (6206).
(6)
جامعه كتاب (الدعوات)، باب (ما أصر من استغفر .. ) ح: 3559 ص 811، قال الترمذي: هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث أبي نصيره وليس إسناده بالقوي. وقال ابن حجر في الفتح 1/ 150 "إسناده حسن ".
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (والذي
نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم)
(1)
وهذه فائدة اسم الله الغفار التواب.
وبقى أمر مهم لا بد للعاقل أن يتنبه له وهو أن يحذر مغالطة نفسه على فعل الذنوب، وارتكاب المعاصي ثم يتكل على عفوا الله ومغفرته وذلك لأن كثيراً من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل ثم قال:(استغفر الله) زال الذنب، وراح هذا بهذا أو يعتمد ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق ذكره وفيه (اعمل ما شئت فقد غفرت لك).
وحسنٌ أن أختم بقول الناظم
(2)
ــ رحمه الله ــ:
وَتَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظيمَ بِتَوْبَةٍ
…
وَتَرْفَعُ كَفَّ المُسْتَغَيِثِ المُجَهَّد
وَتَدْعُو دُعاءَ المُخْبِتِين برغْبَةٍ
…
دُعَاءَ غَِريقٍ في دُجَى اللَّيلِ مُفْرَدِ
فإِنَّ الذي تَدْعُوهُ يَرْزُقُ مَنْ عَصَى
…
وَفَاتِحُ بَابٍ للمُطِيعِ ومُعْتدِي
ولَكَنَّمَا صدْقُ الرَّجَاءِ مَفاِتحُ الـ
…
ـخَزَائِنِ فادْعُ وَابْتَغِ الفَضْلَ واجْهَدِ
وَقُلْ بانْكِسارٍ قَارِعاً بَابَ رَاحمٍ
…
قَرِيْبٍ مُجِيبٍ بالفواضلِ يَبْتَدِي
إلهي أتَى العاصُونَ بَابَك مَلْجَأً
…
يُرَجُّونَ عَفْواً مِنْكَ رَبي وَسَيِّدِي
إلَيْكَ فَرَرْنَا مِن عَذَابِكَ رَهْبَةّ
…
فَلَا تَطْرُدَنَّا عَنْ جَنَابِكِ وأسْعدِ
دَعَوْنَاكِ للأمْرِ الذي أنتْ ضَامِنٌ
…
إجَابَتَهُ يا غَيْرَ مُخْلِفِ مَوْعدِ
إلْيكَ مَدَدْنَا بالرَّجَاءِ اَكْفَّنَا
…
فَحَاشَاكَ مِنْ رَدِّ الفَتى صَافِرَ اليد
(3)
(1)
كتاب التوبة ح: 6965 ص: 1191 وخرَّجه غيره
(2)
الإمام شمس الدين محمد بن عبد القوي، في الألفية في الآداب الشرعية.
(3)
ص 66 - 67.