الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما عن معنى تتلو: فقيل
(1)
: تحدث، وتروي وتتكلم به، وتخبر وتقرأ، والمعنى واحد
وقيل: تتبع.
قال الطبري: " ولقول القائل: " وهو يتلو كذا " في كلام العرب معنيان:
أحدهما: الاتباع.
والآخر: القراءة والدراسة.
وقال: ولم يخبرنا الله -جل ثناؤه-بأي معنى "التلاوة " كانت تلاوة الشياطين الذي تَلوْا تَلوه من السحر على عهد سليمان بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملاً، فتكون كانت متبعة بالعمل، ودراسته بالرواية. فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك، وعملت به وروته "
(2)
.
وما ذكره الحسين رحمه الله فهو أحد المعاني الصَّحيحة المحتملة للفظ " تتلو ".
قال تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]
[18] قال الحسين بن الفضل: (فيه تقديم وتأخير تقديره: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين)
الكشف والبيان للثعلبي
(3)
/ 1201
(4)
الدراسة
التقديم والتأخير معناهما لغةً بيِّن واضح.
أما اصطلاحاً: فعرَّفهما بعضهم بقوله: هو جعل اللفظ في رتبة قبل رتبته الأصلية، أو بعدها، لعارض اختصاص، أو أهمية، أو ضرورة
(5)
.
والتقديم والتأخير هما أحد الأساليب البلاغية التي يستعملها الفصحاء في كلامهم، ليتلقى القلب معناه، فيقبل عليه ويفهمه. وهو أحد الدلالات على تمكن البلغاء في الكلام.
وقد اعتنى القرآن الكريم بهذا الأسلوب لعظيم منفعته، ولاستعماله أسباب كثيرة وعلل عديدة ليس هذا مجال بحثها واستقصائها
(6)
، ولكن ينبغي أن يُعلم أنَّه لا يجري تحت قاعدة مطردة، وينبغي كذلك أن يحذر من التنقيب عن علله إلى حد التكلف فيُحمَّل كلام الله مالا يحتمل، ويخرج به أحياناً من الواضح الذي لا لبس فيه إلى ما فيه لبس.
(1)
ينظر معاني تتلو: المفردات ص: 82، وغريب القرآن للسجستاني 1/ 141. والتبيان في تفسير القرآن لشهاب الدين بن محمد الهائم المصري 1/ 101.
(2)
تفسير الطبري 1/ 515.
(3)
وافقه البغوي في تفسيره 1/ 109، والقرطبي في تفسيره 2/ 132 وأبو حيان في البحر
…
المحيط 1/ 566.
(4)
ت: خالد العنزي، ج: أم القرى.
(5)
الإكسير في علم التفسير للطوفي ص: 154.
(6)
ينظر في الأسباب: البرهان في علوم القرآن للزركشي 3/ 233، والإتقان 3/ 33، بدائع الفوائد 1/ 61، الكليات ص:257.
وقد أورد ابن القيم في عدم التقديم والتأخير إلا إذا ترك دليل يدل عليه كلاماً مفيداً فقال " فإنه نظم الكلام الطبيعي المعتاد الذي علَّمه الله للإنسان نعمة منه عليه أن يكون جارياً على المألوف المعتاد منه، فالمقدم مقدم والمؤخر مؤخر، فلا يفهم أحد قط من المضاف والمضاف إليه في لغة العرب إلا تقديم هذا وتأخير هذا، وحيث قدموا المؤخر من المفعول و نحوه، وأخروا المقدم من الفاعل ونحوه، فلا بد أن يجعلوا في الكلام دليلاً على ذلك لئلا يلتبس الخطاب .. فلا يأتون بالتقديم والتأخير إلا حيث لا يلتبس على السامع، ولا يقدح في بيان مراد المتكلم لقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]ـ وذكر غيرها من الآيات - ثم قال: فهذا من التقديم والتأخير الذي لا يقدح في المعنى ولا في الفهم وله أسباب تحسِّنه وتقتضيه مذكورة في علم البيان والمعاني"
(1)
ورحم الله الحسين حينما ذكر أنَّ في هذه الآية الواضحة الدلالة " تقديماً وتأخيراً " وقد كانت الآية في اليهود والنصارى عندما آثروا اليهودية والنصرانية على دين الإسلام؛ لأنَّ ملة إبراهيم هي الحنيفية المسلمة
(2)
.
وقوله: " لقد اصطفيناه "
والاصطفاء: الاختيار، افتعال من الصفوة، ومنه النبي المصطفى
(3)
.
ومعنى الاصطفاء: أنه نبأه واتخذه خليلاً
(4)
وقوله {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
قال الزجاج: " فالصالح في الآخرة هو الفائز
(5)
.
وما أجمل ما فسر به الطبري ـ قدَّس الله روحه ونور ضريحه ـ قوله جلَّ وعلا: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
فقال: " وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين.
(1)
الصواعق المرسلة 2/ 714 - 716.
(2)
ينظر: تفسير الطبري 1/ 608.
(3)
العين 2/ 403.
(4)
المحرر الوجيز 1/ 212، وقال النحاس: اصطفيناه: اصتفيناه أبدل من التاء طاء مطبقة كالصاد، وهي من مخرج التاء، ولم يجز أن تدغم الصاد لأنها لا تدغم إلا في أختيها الزاي والسين، لما فيهن من الصفير، ولكن يجوز أن تدغم التاء فيها في غير القرآن فتقول اصَّفَيناه. (إعراب القرآن 1/ 263/ 264)
(5)
معاني القرآن وإعرابه 1/ 211.
و " الصالح " من بني آدم: هو المؤدي حقوق الله عليه.
وقال: فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله، أنه في الدنيا صفيٌّ، وفي الآخرة ولي، وأنه وارد مواردَ أوليائه الموفِّين بعهده "
(1)
.
وقال الزمخشري: " بيان لخطأ رأي من رغب عن ملته؛ لأن من جمع الكرامة عند الله في الدارين بأن كان صفوته وخيرته في الدنيا، وكان مشهوداًّ له بالاستقامة على الخير في الآخرة لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه"
(2)
.
فهل يا ترى بعد هذا البيان تكون الآية مشكلة تحتاج إلى ترتيب لحل الإشكال فيُقدم (الآخرة) حتى يتم المعنى؟
وبعد أن ذكر هذا القول أبو حيان ونسبه للحسين بن الفضل قال وهذا الذي ذهب إليه خطأ ينزه كتاب الله عنه
(3)
.
وتبعه تلميذه السمين الحلبي بقوله ": قال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير مجازه: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة، وهذا ينبغي ألاَّ يجُوز مثله في القرآن لنبوِّ السمع عنه ".
(4)
وأقولُ ـ والله أعلم بالصواب ـ لعل لبراعة الحسين في علم المعاني وتمكنه من الفصاحة العربية تأثيره في مثل هذا القول.
(1)
تفسير الطبري 1/ 647 وينظر: تفسير ابن كثير 1/ 185.
(2)
الكشاف 1/ 216.
(3)
ينظر: البحر المحيط 1/ 566.
(4)
الدر المصون 1/ 374، والسمين الحلبي هو أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبي، شهاب الدين المعروف بـ: السمين الحلبي، تعلم النحو فمهر فيه، لازم أبا حبان إلى أن فاق أقرانه، له: الدر المصون، وشرح الشاطبية، وغير ذلك، توفي سنة (756 هـ)، ينظر: الدرر الكامنة (1/ 402)، بغية الوعاة (1/ 402).