الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النساء
قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31]
.
[25] قال الحسين بن الفضل في تفسير الكبيرة: (ما سمَّاه الله في القرآن كبيراً أو عظيماً نحو قوله {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]{إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31]{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]{إِنْ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]
…
{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 6]{إِنْ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] الكشف والبيان للثعلبي
(1)
/ 233
(2)
الدراسة
وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة أذكر منها:
ما رواه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول
(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر)
(3)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله)
(4)
وما رواه الإمام أحمد في مسنده عن سلمان الفارسي
(5)
قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:
…
(أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: أهو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم. قال: لكنِّي أدري ما يوم الجمعة، لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كانت كفارة له ما بينه وبن الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة)
(6)
.
(1)
وافقه البغوي 1/ 514 وابن القيم في مدارج السالكين 1/ 331.
(2)
ت: خالد الغامدي، ج: أم القرى.
(3)
كتاب الطهارة ح 552، ص:117.
(4)
كتاب الطهارة ح 543، ص: 115/ 116.
(5)
سلمان الفارسي: أبو عبد الله، ويقال له: سلمان الخير، أصله من أصبهان، وقيل من رامهرمز، أحد الصحابة المشاهير، توفي سنة (34 هـ)، ينظر: السير (1/ 505)، التقريب (2477).
(6)
ح: 2419، وينظر: ح: 24130 ص 1764/ 1765.
والكبائر جمع كبيرة، قال الراغب الاصفهاني "الكبير والصغير من الأسماء المتضايفة التي تقال عند اعتبار بعضها ببعض، فالشيء قد يكون صغيراً في جنب شيء وكبيراً في جنب غيره .. "
(1)
.
قال الزَّجاج: "والكبائر ما كَبرُ وعظُم من الذنوب "
(2)
.
وقد تعددت أقوال السلف في الكبائر فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر ومنها صغائر بدلالة هذه الآية وغيرها.
وشذت طائفة منهم أبو إسحاق الإسفراييني
(3)
فقال: "ليس في الذنوب صغير بل كلُّ ما نهى الله عنه كبير ".
(4)
.
ومنهم إمام الحرمين أبو المعالي الجويني
(5)
فقال: " المرضيُّ عندنا أنَّ كل ذنب كبيرة، إذ لا تراعى أقدار الذنوب حتى تضاف إلى المعصيِّ بها؛ فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران، ولو صور في حق ملك لكان كبيرة يضرب بها الرقاب. والرب تعالى أعظم من عُصي، وأحق من قُصد بالعبادة، وكل ذنب بالإضافة إلى مخالفة الباري عظيم، ولكن الذنوب وإن عظمت بما ذكرناه فهي متفاوتة على رتبها، فبعضها أعظم من بعض "
(6)
.
ومنهم القشيري عبد الرحيم
(7)
، قال:" والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم من بعض، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي "
(8)
(1)
المفردات ص: 423.
(2)
معاني القرآن وإعرابه 2/ 45.
(3)
أبو إسحاق الإسفراييني: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، أبو إسحاق الإسفراييني الأصولي الشافعي، الملقب ركن الدولة، له: أدب الجدل، توفي سنة (418 هـ)، ينظر: السير (17/ 253)، طبقات الشافعية للسبكي (4/ 256).
(4)
فتح الباري (كتاب الأدب) باب عقوق الوالدين من الكبائر، ح: 501/ 105976.
(5)
أبو المعالي الجويني: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، ثم النيسابوري، أبو المعالي الشافعي، المعروف بإمام الحرمين، الفقيه الأصولي المتكلم، له: الرسالة النظامية، نهاية المطلب، الإرشاد في أصول الدين، توفي سنة (478 هـ)، ينظر: السير (18/ 468)، طبقات الشافعية للسبكي (5/ 165).
(6)
الإرشاد ص: 391.
(7)
عبد الرحيم بن أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن، أبو نصر القُشيري النيسابوري، بحر العلوم، كان ذا ذكاء وفطنة، لازم إمام الحرمين حتى أحكم عليه المذهب والخلاف والأصول، توفي سنة
…
(514 هـ)، ينظر: البداية والنهاية (16/ 249)، طبقات المفسرين للسيوطي (ص: 55).
(8)
ينظر: تفسير القرطبي 5/ 152.
ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، وذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء: 48]
(1)
.
وأجابوا عن الآية التي احتج بها أهل القول الأول وهي قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] أن المراد: الشرك
(2)
، ويؤيده قراءة ابن مسعود وابن جبير (كبير)
(3)
على إرادة الجنس
(4)
.
وقد قال الفراء: من قرأ (كبائر) فالمراد بها (كبير) وكبير الإثم هو الشرك
(5)
وقالوا: وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر
(6)
.
قال ابن الصلاح
(7)
: " وقد اختلف الناس في الصغائر والكبائر في وجوه: منهم
من نفى الفرق في الأصل وجعل الذنوب كلها كبائر وهو مذهب مطرح".
(8)
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور.
(1)
ينظر: المصدر السابق وفتح الباري 10/ 501 - 502، وينظر إلى ما احتجوا به أيضا الجواب الكافي ص: 189، 190.
(2)
ينظر: المصدران السابقان (تفسير القرطبي وفتح الباري).
(3)
في قوله تعالى: {كَبَائِرَ الْإِثْمِ} في (الشورى: 37) و (النجم: 32) قرأ حمزة والكسائي وخلف (كبِيرَ) على التوحيد وقرأ الباقون كبائر على الجمع. ينظر: الكشف عن وجوه القراءات لمكي 2/ 253 والنشر 3/ 291) وينظر: المحرر الوجيز 2/ 43 والدر المصون 2/ 354، وابن جبير هو: سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، قال هبة الله الطبري: هو (ثقة إمام حجة على المسلمين) قتل بين يدي الحجاج سنة (95 هـ)، ينظر: تهذيب الكمال (3/ 141)، التقريب (2278).
(4)
ينظر: تفسير أبي السعود 2/ 171 وروح المعاني 5/ 17.
(5)
ينظر: معاني القرآن 2/ 25، وينظر: فتح الباري 10/ 502.
(6)
ينظر: تفسير القرطبي 5/ 152 والبحر المحيط 3/ 243.
(7)
تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان، أبو عمرو المعروف بابن الصلاح، الشيخ العلامة مفتي الشام ومحدِّثه. كان ديِّنا زاهداً ورعاً ناسكاً على طريق السَّلف الصالح، صنَّف كتباً كثيرة مفيدة في علوم الحديث وفي الفقه، توفي سنة (643 هـ). ينظر: مرآة الجنان (4/ 85)، البداية والنهاية (17/ 281).
(8)
فتاواه ص: 20.
قال النووي: " وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة واستعمال سلف الأمة وخلفها.
قال أبو حامد الغزالي
(1)
في كتابه (البسيط في المذهب): إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه، .. وهذا الذي قاله أبو حامد قد قاله غيره، بمعناه، ولا شك في كون المخالفة قبيحة جداً بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكن بعضها أعظم من بعض وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس .. والى ما لا يكفره ذلك، كما ثبت في الصحيح (مالم تغش كبيرة) فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، ومالا تكفره كبائر ولا شك في حسن هذا، ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما
فوقها، لكونها أقل قبحاً ولكونها متيسرة التكفير - والله أعلم - ".
(2)
وقال ابن القيم: "وقد دلَّ القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ} [النساء: 31]{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]
(3)
.
وقيل غير ذلك
(4)
.
وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، فقد اختلفوا في ضبطها اختلافا كثيراً كبيراً منتشراً جداً
(5)
فروي عن ابن عباس: (الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنارٍ أو غضبٍ أو لعنةٍ أو عذابٍ)
(6)
ونحو هذا عن الحسن البصري
(7)
.
(1)
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، أبو حامد الغزالي، برع في علوم كثيرة، وله مصنفات منتشرة في فنون متعددة، كإحياء علوم الدين، تهافت الفلاسفة؛ توفي سنة (505 هـ). ينظر: مرآة الجنان (3/ 136)، البداية والنهاية (16/ 213).
(2)
شرح النووي 2/ 73.
(3)
الجواب الكافي ص: 186.
(4)
ينظر:: فتح القدير 1/ 578، والتحرير والتنوير 4/ 103.
(5)
ينظر:: شرح النووي 2/ 73.
(6)
رواه عنه ابن جرير في تفسيره 5/ 52 وينظر المحرر الوجيز 2/ 44 وزاد المسير 2/ 66 وتفسير القرطبي 5/ 154 والتسهيل لعلوم التنزيل 1/ 139 والبحر المحيط 3/ 244، وتفسير ابن كثير 1/ 486، والتحرير والتنوير 4/ 103.
(7)
ينظر:: شرح النووي 2/ 73.
ورُوى عن ابن مسعود قوله: (ما نهى الله تعالى عنه في هذه السورة إلى قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} فهو كبيرة)
(1)
.
ورُوى عن الحسن وسعيد بن جبير قولهما (كل موجبة في القرآن كبيرة)
(2)
.
وقال الضحاك: هي ما أوعد الله عليه حداً في الدنيا أو عذاباً في الآخرة
(3)
.
وقيل: كل ذنب صرح بالوعيد فيه في الكتاب والسنة
(4)
.
وقال أبو المعالي وغيره: " كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة
…
الديانة
(5)
واختاره بعض المتأخرين
(6)
.
واتضح أن ما سبق من تفسيرات للكبيرة، من اختلاف التنوع لا التضاد.
فيصح أن تفسر الكبيرة بما رُوى عن ابن عباس وابن مسعود والحسن، وبما قاله الضحاك، ويصح أن يقال: كل ما تُوعد عليه في الكتاب والسنة فهو كبيرة.
قال الزجاج: " والكبائر حقيقتها أنها كل ما وعد الله عليه النار، نحو القتل والزنا والسرقة وأكل مال اليتيم "
(7)
.
وبمثل قول إمام الحرمين الجويني، قال، أبو محمد العزِّ بن عبد السلام
(8)
: "والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك، ولم أقف لأحد من العلماء على ضابط ذلك"
(9)
قال ابن حجر: " قلتُ: وهو ضابط جيد"
(10)
.
(1)
رواه عنه ابن جرير في تفسيره 5/ 47 وابن أبى حاتم في تفسيره 3/ 933 وابن المنذر في تفسيره ص 67، وينظر تفسير البغوي 1/ 514 وتفسير القرطبي 5/ 154 وتفسير ابن كثير 1/ 485 وزاد المسير 2/ 66 والتحرير والتنوير 4/ 103.
(2)
رواه عنهما ابن جرير في تفسيره 5/ 52/ 53 وينظر الفتح 10/ 503 وتفسير البيضاوي حاشية شيخ زاده 3/ 309 وتفسير ابن كثير 1/ 487 وتفسير أبى السعود 2/ 171، وفتح القدير 1/ 577، روح المعاني 5/ 17، وأضواء البيان 7/ 199 ولم ينسبوه لهما.
(3)
رواه عنه ابن جرير في تفسيره 5/ 53، وينظر: تفسير البغوي 1/ 514، وزاد المسير 2/ 66، ورُوح المعاني 5/ 17، ولم ينسبه
(4)
ينظر: الفتح 10/ 503، وزاد المسير 2/ 66، وتفسير القرطبي 5/ 154، وتفسير البيضاوي متن حاشية شيخ زاده 3/ 309، وتفسير ابن كثير 1/ 487، وتفسير الجلالين 1/ 105 وتفسير أبي السعود 2/ 171، روح المعاني 5/ 17، وأضواء البيان 7/ 199
(5)
الإرشاد ص: 392 وينظر:: شرح النووي 2/ 73 والفتح 10/ 503، وروح المعاني 5/ 17، والتحرير والتنوير 4/ 103، وأضواء البيان 7/ 199 وتفسير ابن كثير 1/ 487.
(6)
ينظر:: أضواء البيان 7/ 199.
(7)
معاني القرآن وإعرابه 2/ 45
(8)
عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، الشيخ الفقيه العلاَّمة المفتي، المدرس القاضي، سلطان العلماء، صاحب مصنفات حسان منها التفسير والقواعد الكبرى وغيرهما، توفي سنة (660 هـ) ينظر: مرآة الجنان (4/ 116)، البداية والنهاية (17/ 441).
(9)
القواعد الكبرى 1/ 34
(10)
الفتح 10/ 503.
وبمعنى قول ابن عبد السلام قال الغزالي في البسيط
(1)
.
وأما ما ذكره الحسين بأن الكبيرة ما سمَّاه الله في كتابه كبيراً أو عظيماً ومثَّل له ببعض الآيات وهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وهذا من أصح الطرق التي يفسر بها القرآن .. لكن هل يصح أن يكون هذا ضابطاً لها أو محققاً لمعناها؟
الجواب: حتماً، لا.
وذلك لأمور عدة منها:
• أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أموراً كثيرة تعد من الكبائر ولم يُطلق عليها في القرآن كبيراً وعظيماً.
•
…
أن السنة النبوية استقلت ببيان الحكم على معاصي بعينها أنها من الكبائر ولم تذكر في القرآن. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى.
ما القول الأمثل في تلك الجرائم التي قبحها القرآن وبيَّن شناعتها وعظيم عقوبة أهلها، كاللواط، مع العلم بأنه لم يطلق عليها مسمى كبيراً أوعظيماً، وكذلك ماذا يطلق على رجل قتل معصوماً ثم تبين أنه مستحقٌّ لدمه؟
فهذه الأخيرة كبيرة على قول الجويني وغيره لأنه لم يكترث بأحكام الشريعة ..
وأيضاً ماذا يكون الحال فيما يكثر عرضه اليوم من وسائل الإعلام بأساليبها المتنوعة التي لا يقرُّها عقل صحيح، أو فطرة سليمة، فضلاً عن الشريعة الحنيفية السمحة!!، وغير هذا كثير.
ولذا وذاك يصح أن يكون كلام الحسين على سبيل ضرب المثل ليس إلا، ولا يمكن بحال أن يقال عنه إنه ضابط للكبيرة أو محقق لمعناها.
ولقد قرأت كلاماً لابن الصلاح هو أدقُّ بكثير مما ذكره الحسين رحمه الله يحسن إيراده قال في (فتاواه): " وقد قلت في ذلك قولاً رجوت الله أنه صواب وهو أن الكبيرة كل ذنب كَبُر وعَظُم عظماً يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة ووصف بكونه عظيماً على الإطلاق، فهذا فاصل لها عن الصغيرة التي وإن كانت كبيرة بالإضافة إلى مادونها فليست كبيرة يطلق عليها الوصف بالكبر والعظم إطلاقاً، ثم إن لكبر الكبيرة وعظمها أمارات معرفة بها، منها إيجاب الحد ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب والسنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق
نصَّاً، ومنها اللعن كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله من غير منار الأرض)
(2)
في أشباه لذلك لا نحصيها وعند هذا يعلم أن عدة الكبائر غير محصورة والله أعلم".
(3)
.
(1)
ينظر في قوله: شرح النووي 2/ 73/ 74.
(2)
جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه (كتاب الأضاحي) ح: 1524، ص:883.
(3)
ص: 21.
والفرق بين القولين واضح.
و لذا قيَّد الحسين الأمثلة التي ذكر بأنها لا تخرج عن مسمى كبيراً وعظيماً.
وقال كقوله تعالى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]
والمعنى: هو أن أكلَكم أموال أيتامكم مع أموالكم حوب كبير، والهاء في قوله إنه داله على اسم الفعل، أي الأكل. وأما الحوب: فإنه الإثم، يقال منه حاب الرجل يحوب حَوْباً وحيابةً، ويقال منه: قد تحوب الرجل من كذا، إذا تأثم منه (3) وقد قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10].
وروي عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يارسول الله! وما هنَّ؟ قال " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)
(1)
.
• وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31].
رُوي عن عبد الله بن مسعود قوله: (قال رجل: يا رسول الله، أيُّ الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعوا لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أيٌّ؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أيّ؟ قال: ثم أن تزاني
…
بحليلة جارك) فأنزل الله عز وجل تصديقها {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}
(2)
[الفرقان: 68]
(1)
رواه البخاري في صحيحه (كتاب الوصايا) باب قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} ح: 2766 ص: 458، ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) ح: 262، ص: 53 - 54.
(2)
رواه البخاري في صحيحه (كتاب الديات) باب قوله تعالى ({وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}) ح: 6861 ص 1182/ 1183 ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان) ح: 258، ص: 53، وينظر في بيان هذا الحديث كتاب الاستقامة لابن تيمية 468/ 469.
روى ابن جرير في تفسيره عن مجاهد في قوله (خطئاً كبيراً) قال: أي خطيئة
(1)
قال الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى-: وهذا من رحمته بعباده، حيث كان أرحم بهم من والديهم، فنهى الوالدين أن يقتلوا أولادهم خوفاً من الفقر والإملاق، وتكفل برزق الجميع، وأخبر أن قتلهم كان خطئاً كبيراً، أي من أعظم كبائر الذنوب، لزوال الرحمة من القلب والعقوق العظيم والتجرؤ على قتل الأطفال الذين لم يجر منهم ذنب ولا معصية.
(2)
.
• وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
ولا يخفى هنا أن الآيات والأحاديث الواردة في الشرك أكثر من أن تحصر وقد ذُكر آنفاً شَيء منها.
• وقوله تعالى {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28].
قال ابن كثير: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} أي لما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} أي أن هذا البهت واللطخ الذي لطختِ عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}
(3)
.
وقال القرطبي: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وإنما قال عظيم لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن
(4)
.
• وقوله تعالى {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]
(أي: (ولولا) أيها الخائضون في الإفك الذي جاءت به عصبة منكم (إذ سمعتموه) ممن جاء به (قلتم) ما يحل لنا أن نتكلم بهذا، وما ينبغي لنا أن نتفوه به {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} تنزيهاً لك يار ب وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء
(1)
/ 93.
(2)
تفسيره ص: 457
(3)
تفسيره 2/ 476.
(4)
تفسيره 9/ 150
(هذا بهتان عظيم) أي هذا القول بهتان عظيم).
(1)
ومعلومٌ أن حقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس منه.
قال ابن تيمية: " وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف".
(2)
والظاهر ـ والله أعلم ـ أن الحسين أورد الآية هنا ليبين أن القذف من الكبائر.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].
• وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]
قال الزجاج: " والمعنى: وما كان لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده وذلك أنه ذكر أن رجلاً قال: إذا توفي محمدٌ تزوجت امرأته فلانة،
(3)
فأعلم الله أن ذلك محرم بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} أي كان ذنبا عظيماً
(4)
.
وأما عن ترتيب الكبائر فثابت في الكتاب والسنة
(5)
وأما عن ضابط الكبائر.
فأقول - والله أعلم ـ إنه لا قول الحسين ولا ما ذكرت من أقوال في الكبيرة يضبطها ضبطاً تاماً بحيث لا تخرج كبيرة عن قول كل قائل فيها، إذ كيف يطمع فيما لا مطمع في ضبطه.
قال الواحدي وغيره: " والصحيح أنه ليس لها حدّ يعرفه العباد وتتميّز به من الصغائر تميز إشارة، ولو عرف ذلك لكانت الصغائر مباحة، ولكن الله- تعالى - يعلم ذلك وأخفاه عن العباد، ليجتهد كل أحد في اجتناب ما نُهي عنه رجاء أن يكون مجتنب الكبائر.
ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات، وليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ".
(6)
(1)
ينظر: تفسير الطبري، 18/ 119.
(2)
مجموع الفتاوى 15/ 331.
(3)
رواه ابن جرير في تفسيره عن ابن زيد 22/ 49، وابن أبى حاتم في تفسيره عنه 10/ 3150.
(4)
معاني القرآن وإعرابه 4/ 35 وينظر: تفسير ابن كثير 3/ 506.
(5)
ينظر: الاستقامة لابن تيمية ص: 468.
(6)
البسيط ص: 223، ت: محمد المحيميد، ج: الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
قال الشنقيطي في الأضواء: (والظاهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية، سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب أو كان وجوب الحد فيه أو غير ذلك مما يدل على تغليظ لتحريم وتوكيده)
(1)
.
ولعل الأمر هيِّناً في مثل تلك الأقوال التي قيلت، فقد ذُكرت على سبيل الوصف لا الضبط التام – والله أعلم –.
ثم إنه ذهب بعض العلماء إلى ضبطها بالعد لا بالحد ومنهم ابن جرير الطبري بذكره أنها سبع
(2)
وقيل غير ذلك
(3)
.
وأوصلها الحافظ الذهبي في كتابه المشهور الكبائر إلى سبعين كبيرة.
ورُوى عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً قال له: كم الكبائر، أسبع هي، قال: إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ..
(4)
و لو قيل أن ما ذكره الحسين هو على سبيل الضبط للكبيرة، تكون الكبائر معلومة معدودة، والصحيح أن الكبائر لا حصر لعددها – والله أعلم –
(5)
.
وختاماً: فإن الله تعالى - الغفور الرحيم – قد تكفل بهذا النص {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]
لمن اجتنب الكبائر أن يدخله الجنة
(6)
.
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه خمس آيات في سورة النساء لهن أحب إليَّ من الدنيا جميعا {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] وقوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]
(1)
/ 199/ 200.
(2)
ينظر:: تفسيره 5/ 54.
(3)
ينظر: تفسير الطبري 5/ 48 –50 وص: 52.
(4)
رواه عنه عبد الرازق في تفسيره 15/ 155 وابن جرير عنه في تفسيره 5/ 52 وابن أبى حاتم عنه في تفسيره 3/ 934 وابن المنذر عنه في تفسيره ص 671، وينظر معاني القرآن وإعرابه 2/ 45 وتفسير البغوي 1/ 514 وتفسير ابن كثير 1/ 486 وأضواء البيان 7/ 199.
(5)
ينظر:: شرح النووي 2/ 72 والفتح (كتاب الحدود) باب رمي المحصنات ح: 6857، 12/ 224، وروح المعاني 5/ 18 وأضواء البيان 7/ 197.
(6)
ينظر:: كتاب (الكبائر) للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي ص 7.
وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء 48]
وقوله تعالى {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
…
[النساء: 110]
(1)
[النساء: 152].
ورى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشعر، وإن كنا نعدُّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات
قال أبو عبد الله: يعني بذلك المهلكات
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه عنه عبد الرزاق في تفسيره 1/ 155، وابن المنذر في تفسيره ص 674، ولم يذكر إلا الآية وابن جرير في تفسيره 5/ 56 وأخرج نحوه والطبراني في المعجم الكبير 9/ 220/ 2069، والحاكم في مستدركه 2/ 334/ 3194 والبيهقي نحوه في شعب الايمان 2/ 468،
(2)
(كتاب الرقاق) باب ما يقي من محقرات الذنوب ح: 6492 ص 1125.
(3)
ينظر: في هذا كلامٌ مفيدٌ أورده ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر ص 132/ 133.