الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجاهلية، فقال:"أوف بنذرك"(1) فأمره بوفائه وإن لم يلزمه ما نذره في كفره، والأظهر الأول؛ لأن على إنما تستعمل فيما يجب كما أن الأظهر أن نذرها مطلقًا إذ لو كان مقيدًا لاستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأن المقيد منه ما يجوز وما لا يجوز كذا قاله سعيد بن زيد الباجي المالكي.
وقال ابن عبد البر (2): قيل: كان صيامًا نذرته ولا يثبت ذلك، وأطال في تضعيفه، وقيل: كان عتقًا لحديث القاسم بن محمد أن سعدًا قال: إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم" وقيل: كان نذرها صدقة لآثار جاءت في ذلك، وقيل: كان نذرها نذرًا مطلقًا على ظاهر حديث ابن عباس: وكفارته كفارة اليمين عند الأكثر، وروى ذلك عن عائشة وابن عباس وجابر وجماعة من التابعن انتهى.
قال: أي: النبي صلى الله عليه وسلم "اقضِه عنها" أي: استحبابًا لا وجوبًا خلافًا للظاهرية تعلقًا بظاهر الأمر قائلين سواء كان النذر في مال أو بدونه، وروى الدارقطني في (الغرائب) عن حماد بن خالد عن مالك بسنده أن سعدًا قال: يا رسول الله أينفع أمي أن أتصدق عنها وقد ماتت؟ قال: "نعم" قال: فما تأمرني؟ قال: "اسق الماء".
قال محمد: ما كان من نذر صدقة أو حجّ يعني أو عمرة وما يجوز النيابة فيه بخلاف صلاة وصوم قضاه عنها أي: من غير وصية أجزأ أي: كفى ذلك إن شاء الله تعالى، وأما إذا كان غير وصية فيحكم بأنه أجزأ عنه من غير استثناء وهو قولُ أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا والله أعلم.
لما فرغ من بيان حكم حال الرجل يموت وعليه نذر، شرع في بيان حكم حال من حلف أو نذر في معصية الله، فقال: هذا.
* * *
باب من حلف أو نذر في معصية
في بيان حكم حال من حلف أي: أقسم أو نذر في معصية الله، وهي ما نهى عنها الشرع (ق 786) سواء كانت معصية الله أو للعباد، كالعقوق بالوالدين، محمد قال:
(1) صحيح، أخرجه البخاري (1937).
(2)
في التمهيد (14/ 13).
751 -
أخبرنا مالك، حدثنا طلحة بن عبد الملك، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ نَذَرَ أن يطيع الله فليطعْه، وَمَنْ نَذَرَ أن يعصيه فلا يعصه".
قال محمد: فبهذا نأخذ، من نذر نذرًا في معصية ولم يسمّ فليطع الله عز وجل، وليكفِّر عن يمينه، وهو قولُ أبي حنيفة.
• أخبرنا مالك، حدثنا طلحة بن عبد الملك، الأيلي بفتح الهمزة بعدها تحتية ساكنة ثقة، كان في الطبقة السادسة من طبقات التابعين، من أهل المدينة، مات بعد المائة عن القاسم بن محمد، بن أبي بكر الصديق كان في الطبقة الثانية من طبقات التابعين من أهل المدينة، مات قبل المائة. كما قاله أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي عن عمته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَذَرَ أن يطيع الله فليطعْه، بالجزم جواب الشرط والأمر للوجوب، فينقلن المستحب واجبا بالنذر شرعًا إيجاب المباح، وهو يتحقق في الطاعات وأما المعاصي، فلا شيء فيها مباح حتى يجب بالنذر، فلا يتحقق فيه النذر، فلو نذر صوم يوم العيد لم يجب عليه، ولو نذر ذبح ولده فباطل، وإليه ذهب مالك والشافعي وفقهاء الحجاز، رواه القعنبي ويحيى بن بكير وأبو مصعب وسائر رواة (الموطأ) عن مالك مسندًا. كذا قاله الزرقاني (1).
قال محمد: فبهذا نأخذ، أي: لا نعمل إلا بما رواه القاسم بن محمد عن عائشة من نذر نذرًا في معصية الله ولم يسمّ كذا في نسخة فليطع الله أي: بترك تلك المعصية وليكفِّر عن يمينه، وهو قولُ أبي حنيفة رحمه الله تعالى فمتى حلف على معصية كعدم الكلام مع أحد أبويه ينبغي أن يحنث في الحال، ويكفر عن يمينه بحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف على يمين، أي مقسم عليه فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير"(2) فإن ظاهره يقتضي وجود الحنث إذا لم يكن
(751) صحيح، أخرجه البخاري (8/ 177)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (7/ 17)، وابن ماجه (2126)، وأحمد في المسند (6/ 36، 41)، والدارمي (2/ 184)، والبيهقي (9/ 231)(19/ 68، 75)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 346).
(1)
في شرحه (3/ 82).
(2)
صحيح، أخرجه مسلم في صحيحه (1650).
المحلوف عليه معصية، ثم الفاء جزائية لا تعقيبية، كما توهم بعضهم، والواو للجمعية، فلا يصلح أن يكون حجة لمالك وأحمد في أن الكفارة تجزئ بلا حنث.
وقال الشافعي: إن كانت بالمال مجوزة، وإن كان بالصوم لا يجوزه ووجه مجزوم، فالحديث نحو قوله تعالى في سورة المائدة:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، حيث لا دلالة فيها على الترتيب، وعندنا: لم يجزئ الكفارة بل حنث؛ لأن الكفارة لستر الجناية ولا جناية قبل الحنث، كما لا يصح كفارة القتل قبل الجرح، نعم أبو داود والنسائي بسند صحيح من حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير"، لكن قد تجيء كلمة "ثم" بمعنى الواو، كما بينه في شرح (مغني اللبيب) أو يؤل هذا محمول على المبالغة أو التقدير، فلينو التكفير فلا بد من تأويل وإلا فيقتضي وجوب تقديم (ق 787) الكفارة على الحنث، ولا قائل به مع أن الحديث الأول معارض برواية مسلم له أيضًا بلفظ:"فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" والحديث الثاني معارض بما أخرجه الإِمام أبو محمد القاسم بن حرب السرقسطي في (كتاب الغريب) عن حازم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأي غيرها خيرًا منها فليأته ثم ليكفر عن يمينه" كذا قاله علي القاري.
* * *
752 -
أخبرنا مالك، أخبرني يحيى بن سعيد، قال: سمعتُ القاسم بن محمد يقول: أتت امرأة إلى ابن عباس، فقالت: إني نذرتُ أن أنحر ابني، فقال: لا تنحري ابنك وكفِّري عن يمينك، فقال شيخ عند ابن عباس جالس: كيف يكون في هذا كفارة؟ قال ابن عباس: إن الله عز وجل قال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ثم جعل فيه من الكفارة ما قد رأيت.
(752) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 459)، والطبراني في الكبير (11443)(11995)، وفي الأوسط، وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 190)، وعزاه للطبراني في الكبير والأوسط وقال: ورجاله رجال الصحيح.
قال محمد: وبقول ابن عباس نأخذ، وهذا مما وصفتُ لك، وأنَّه من حلف أو نذر نذرًا في معصية فلا يعصينّ وليكَفِّرَنَّ عن يمينه.
• أخبرنا مالك، وفي نسخة: محمد قال: أخبرني بالإِفراد، وفي نسخة: قال: ثنا يحيى بن سعيد، بن قيس الأنصاري المدني يكنى أبا سعيد القاضي، ثقة ثبت، كان في الطبقة الخامسة من طبقات التابعين من أهل المدينة، مات سنة أربع وأربعين أو بعدها ومائة قال: أي: يحيى بن سعيد سمعتُ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه يقول: أتت أي: جاءت امرأة إلى ابن عباس، رضي الله عنهما فقالت: إني نذرتُ أن أنحر ابني، أي: أذبحه كما كان يفعله الجاهلية فقال أي: ابن عباس لها: لا تنحري ابنك أي: لأن ابنك نفس حرم الله قتلها إلا بالحق ونذرك هذا باطل ومعصية وكفِّري عن يمينك، أي: بكفارة يمين، وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحر مائة من الإِبل ديته، وروى عنه أيضًا بنحر كبش، كما فدا به إبراهيم صلوات الله على نبينا وعليه وتلا:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وروى قوله الأول عن عثمان وابن عمر، وحجته حديث:"لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين"(1) وهو حديث معلول، وروى الأخير أنه عن علي كما نقله الزرقاني عن ابن عبد البر، والحديث المعلل هو ما اطلع علي علة قادحة بأن في الرواية والمروي، فليطلب الطالب تفصيلة وتصحيحه في (شرح الألفية) العراقي لعبد الرحمن بن الحسين من الأصوليين.
وقال سعيد بن زيد الباجي المالكي: وإنما سماه يمينًا؛ لأن كفارته ككفارة اليمين عنده، ولعلمه منها جاء أنها أتت بذلك على وجه اليمين فقال شيخ أي: من مشايخ العرب عند ابن عباس رضي الله عنهما جالس: كيف يكون في هذا كفارة؟ وهو نذر معصية قال ابن عباس: أرأيت إن أخبرني إن الله قال: أي: في سورة المجادلة {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] أي: يقول أحدهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي ثم جعل أي: الله فيه أي: في قولهم هذا من الكفارة ما قد رأيت. أي: علمت في بقية الآية وهي قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ
(1) تقدم.
سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 3، 4] الآية السابقة من هذه السورة: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} الآية [المجادلة: 2].
قال ابن عبد البر (1): لأن معنى الاعتبار في ذلك بكفارة الظهار؛ لأن الظهار ليس بنذر ونذر المعصية جاء فيه نص النبي (ق 788) صلى الله عليه وسلم في الحديث اللاحق: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصيه".
كما قال محمد: وبقول ابن عباس نأخذ، وهذا مما وصفتُ لك، وأنَّه من حلف أو نذر نذرًا في معصية فلا يعصينّ أي: بالإِجماع وليكَفِّرَنَّ عن يمينه، وبه قال أحمد خلافًا لمالك والشافعي، وفي كتاب (الرحمة) في اختلاف الأئمة: ومن نذر ذبح ولده لم يلزمه شيء عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومالك: يلزمه ذبح شاة، وعن أحمد روايتان: إحداهما: يلزمه ذبح شاة، والآخرى: كفارة يمين، ولو نذر ذبح نفسه أو نذر ذبح عبده لم يلزمه شيء عند الأئمة الثلاثة، وعن أحمد روايتان أحداهما: يلزمه ذبح كبش، والأخرى: كفارة يمين، كما قاله علي القاري.
* * *
753 -
أخبرنا مالك، أخبرنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ حلف على يمين فرأى خيرًا منها، فليُكَفِّر عن يمينه وليفعل".
قال محمد: وبهذا نأخذ، وهو قولُ أبي حنيفة.
• أخبرنا مالك، وفي نسخة: محمد قال: ثنا أخبرنا سهيل بالتصغير ابن أبي صالح، بن ذكوان البغدادي مجهول، كان في الطبقة العاشرة من طبقات التابعين من أهل بغداد،
(1) في التمهيد (2/ 64).
(753)
صحيح، أخرجه الشافعي في الأم (7/ 61)، ومسلم في الصحيح (4193 - 4195)، والترمذي (1530)، والنسائي في الكبرى كما في التحفة (9/ 416).