الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيد الحافظ القول بالنسخ بحديث عائشة رضي الله عنها، الذي في "صحيح مسلم"(1110)، أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه، وهي تسمع من وراء الحجاب، فقال: يا رسول الله، يدركني الفجر وأنا جُنُب أفأصوم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وأنا يدركني الفجر، وأنا جنب فأصوم» ، قال: لست مثلنا يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: «والله، إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي» .
قال الحافظ رحمه الله: ويقوي النسخ أن في حديث عائشة هذا الأخير ما يُشعر أن ذلك كان بعد الحديبية؛ لقوله فيه: «قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر» .
وأشار إلى [آية الفتح]، وهي إنما أنزلت عام الحديبية عام ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية. اهـ
وإلى القول بالنسخ ذهب ابن المنذر، والخطابي، وابن دقيق العيد، ورجحه الحافظ، وتبعه الصنعاني.
انظر: "الفتح"(1926)، "السبل"(2/ 335 - 336) ط/ دار الكتاب العربي.
مسألة: احتجام الصائم
؟
في المسألة مذهبان:
الأول: أن الحجامة لا تفطر، وإلى ذلك ذهب الجمهور، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، ومن الصحابة: ابن مسعود
(1)
، وابن عمر
(2)
، وابن عباس، وأنس بن
(1)
أثر ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 51) وفيه مسلم بن سعيد مجهول الحال.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 51) وإسناده صحيح، وأما أثر ابن عباس وأبي سعيد وأنس فهي صحيحة وسيأتي ذكرها أثناء المسألة.
مالك، وأبو سعيد، وأم سلمة
(1)
، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والشعبي، والنخعي.
واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما، الذي في "البخاري"(1938) أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم. وفي رواية: احتجم وهو صائم.
2 -
ما أخرجه البخاري (1940) عن ثابت البُناني، قال: سُئل أنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا؛ إلا من أجل الضعف.
ولفظُه عند أبي داود (2375) قال: ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد.
3 -
أخرج أبو داود (2374) بإسناد صحيح عن رجلٍ من الصحابة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما؛ إبقاء على أصحابه.
4 -
ما أخرجه النسائي في "الكبرى"(2/ 237)، وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رحمه الله، قال: رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم.
وإسناده قابل للصحة؛ إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، والراجح وقفه، وقد رجح وقفه أبو زرعة، وأبو حاتم، والترمذي، وابن خزيمة وغيرهم.
(1)
أخرجه عبدالرزاق (4/ 214) وابن أبي شيبة (3/ 53)، وفي إسناده قيس مولى أم سلمة، قال الحافظ في "الفتح" (1928): مجهول حال.
5 -
حديث أنس رضي الله عنه، عند الدارقطني (2/ 182) أنه قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:«أفطر هذان» ، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك للصائم.
وهذا الحديث ضعيف؛ لأنه من طريق: خالد بن مَخلد القَطَواني، وله مناكير، وعبد الله بن المثنى وهو صدوق كثير الغلط، وقد أعله وأنكره ابن عبد الهادي في "التنقيح" كما في "نصب الراية"(2/ 480)، وكذلك الحافظ في "الفتح"(1938)، وشيخ الإسلام في شرحه ل"كتاب الصيام"(1/ 447 - 448).
6 -
استدلوا بقياسه على الفَصْد والرُّعاف، وقد ثبت عن ابن عباس
(1)
رضي الله عنهما، أنه قال: الفطر مما دخل، وليس مما خرج.
وهذا المذهب رجحه البخاري في "صحيحه"، وابن حزم في "المحلى"، وهو ترجيح الإمام الألباني رحمه الله.
المذهب الثاني: يفطر الحاجم والمحجوم، وعليهما القضاء.
روي عن علي رضي الله عنه،
(2)
، وجاء عن عائشة رضي الله عنها عند ابن أبي شيبة، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو قول عطاء، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، ومن الشافعية ابن خزيمة، وابن المنذر، وأبو الوليد النيسابوري، وابن حبان، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم رحمه الله، ورجحه
(1)
أثر ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 51) بإسناد صحيح.
(2)
أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ضعيف، أخرجه عبدالرزاق (4/ 210) والنسائي (2/ 223) وهو من رواية الحسن عن علي ولم يدركه، فهو منقطع.
الشيخ ابن عثيمين، والشيخ ابن باز رحمهما الله، وقد شذ عطاء فأوجب الكفارة أيضًا، ولا دليل على ذلك.
واستدل هؤلاء بقوله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم»
(1)
،
وأوردوا على القول الأول ما يلي:
1 -
أما عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فقال مُهنَّا: سألت أحمد عن هذا الحديث؟ فقال: ليس فيه (صائم) إنما هو (محرم).
2 -
أجاب ابن خزيمة بما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مُحْرِمًا، والمحرم يكون مسافرًا، والمسافر يجوز له أن يفطر سواءٌ بالأكل، أو الشرب، أو الحجامة؛ فليس في حديث ابن عباس ما يمنع الإفطار.
3 -
أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما، مُبْقٍ على الأصل، وحديث:«أفطر الحاجم والمحجوم» ناقل عن الأصل، والناقل مقدم على المبقي.
والصحيح هو قول الجمهور، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:«أفطر الحاجم والمحجوم» ، فقد أجيب عنه بأجوبة منها:
1) ما ذكره الشافعي في "الأم"، وتبعه عليه الخطابي، والبيهقي، وسائر
(1)
جاء عن جمعٍ من الصحابة، وأصح ما ورد عن ثوبان، وشداد بن أوس رضي الله عنهما.
أما حديث ثوبان رضي الله عنه، فأخرجه أحمد (5/ 277)، وأبو داود (2367)، والنسائي في "الكبرى"(3137)، والحاكم (1/ 427)، وغيرهم من طريق: يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان به، وإسناده صحيح.
وأما حديث شداد رضي الله عنه، فأخرجه أحمد (4/ 122 - 123)، والنسائي في "الكبرى"(3138)(3150)، وغيرهما من طريق: خالد الحَذَّاء، عن أبي قِلابة، عن الأشعث، عن شداد، وهذا إسناد صحيح.
الشافعية من أن هذا الحديث منسوخ بحديث ابن عباس وغيره مما ذكرنا، قالوا: ويدل على النسخ أن ابن عباس لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم محرمًا إلا في حجة الوداع، وحديث:«أفطر الحاجم والمحجوم» كان في يوم الفتح، كما جاء في بعض ألفاظه، ويؤيده حديث أبي سعيد وحديث أنس اللذان تقدم ذكرهما في أدلة المذهب الأول.
وقد اعتمد على هذا الجواب ابن حزم، والشيخ الألباني رحمهما الله على حديث أبي سعيد وحديث أنس رضي الله عنهما.
ويرد على هذا الجواب أن الراجح في حديث ابن عباس أنهما قضيتان: «احتجم وهو محرم» «احتجم وهو صائم» ، وجمع بينهما بعض الرواة كما في "البخاري"، قرر ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص".
وحديث أبي سعيد وأنس رضي الله عنهما فيهما ضعف كما تقدم.
فيبقى هذا الجواب احتمالًا، وهو أقوى الأجوبة، والله أعلم.
2 -
ما أجاب به الشافعي أيضًا، وتبعه الخطابي، وبعض الشافعية من أن المراد بحديث:«أفطر الحاجم والمحجوم» أنهما كانا يغتابان في صومهما كما جاء في بعض طرق الحديث، وعلى هذا التأويل يكون المراد بإفطارهما أنه ذهب أجرهما، كما قال بعض الصحابة لمن تكلم حال الخطبة:(لا جمعة له)، أي: ليس لك أجرها، وإلا فهي صحيحة مجزئة عنه، لكن لم يصح في الحديث أنهما كانا يغتابان
(1)
، فيبقى هذا
(1)
أخرجه البيهقي (4/ 268)، من حديث ثوبان رضي الله عنه، وفي إسناده: يزيد بن ربيعة الرحبي، وهو متروك، وذكر الحافظ ابن حجر عن ابن المديني أنه قال: حديثٌ باطل.
الجواب احتمالًا فقط.
3 -
ما أجاب به الخطابي، والبغوي رحمة الله عليهما، أن معناه: تعرَّضَا للإفطار، أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المَصِّ، وأما المحجوم فلأنه لا يأمن ضعف قوته بخروج الدم فَيَئُول أمره إلى أن يفطر.
4 -
ما ذكره الخطابي رحمه الله: أنه مر بهما قريب المغرب، فقال: أفطرا، أي: حان فطرهما، كما يقال: أمسى الرجل إذا دخل وقت المساء أو قاربه.
5 -
أنه تغليظ ودعاء عليهما؛ لارتكابهما ما يعرضهما لفساد صومهما.
6 -
أن حديث ابن عباس أصح، ويعضده القياس فوجب تقديمه، أجاب بهذا الشافعي، وأقوى الأجوبة، الأول، ثم الثالث.
وأما ما أوردوه على الجمهور، فالجواب عنه كما يلي:
1 -
أما إعلال الإمام أحمد لذكر الصيام فيه، فقد عارضه في ذلك الإمام البخاري، وصحح ذكر الصيام في الحديث، وقد بين الحافظ أنهما قضيتان:
الأولى: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم» ، وهذا الحديث متفق عليه.
(1)
الثانية: «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم» ، فجاء بعض الرواة فجمع بينهما، ومن هنا حصل الإشكال؛ لكون أكثر الرواة يروونه بلفظ «وهو محرم» فقط.
2 -
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر كلام ابن خزيمة: وتَعُقِّب بأن هذا الحديث
(1)
أخرجه البخاري برقم (1835)، ومسلم برقم (1202).
ما ورد هكذا إلا لفائدة، فالظاهر أنها وجدت منه الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه واستمر.
قال الخطابي رحمه الله في "معالم السنن": وهذا تأويل باطل؛ لأنه قال: احتجم وهو صائم، فأثبت له الصيام مع الحجامة، ولو بطل صومه بها؛ لقال: أفطر بالحجامة. اهـ
قال النووي رحمه الله: قلت: ولأن السابق إلى الفهم من قول ابن عباس: «احتجم وهو صائم» الإخبار بأن الحجامة لا تبطل الصوم، ويؤيده باقي الأحاديث المذكورة. اهـ
3 -
أن هذا الترجيح لا يرجع إليه إلا عند عدم إمكان الجمع، وعند عدم النسخ، والأمر هنا بخلاف ذلك، ومع التسليم فقد يعارض بترجيح حديث ابن عباس على حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» ، والله أعلم.
ونسأله تعالى أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وما أحسن ما قاله الشوكاني رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف: فيجمع بين الأحاديث بأن الحجامة مكروهة في حق من كان يضعف بها، وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ به إلى حد يكون سببًا للإفطار، ولا تكره في حق من كان لا يضعف بها، وعلى كل حال: تجنب الحجامة للصائم أولى، فيتعين حمل قوله:«أفطر الحاجم، والمحجوم» على المجاز؛ لهذه الأدلة الصارفة له عن معناه الحقيقي. اهـ
انظر: "شرح المهذب"(6/ 349 - 353)، "الفتح"(1938)، "نصب الراية"(2/ 472)، "التلخيص