الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة: إذا رأى الهلال أهل بلدة فهل يلزم بقية البلاد الصوم
؟
اختلف في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا حتى تفرقوا في ذلك إلى ما يقارب ثمانية أقوال كما ذكر ذلك صديق بن حسن في "الروضة الندية"(1/ 224).
وقد ألَّف الإمام الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة رسالة سماها "إْطَلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال".
وأقوى هذه المذاهب ثلاثة:
الأول: أنه يلزم بقية البلدان الصوم.
وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، والليث، وغيرهم، وهو ترجيح جمع من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى"، والإمام الشوكاني وصديق بن حسن خان، والألباني، وابن باز رحمة الله عليهم أجمعين.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» .
(1)
قال الشوكاني رحمه الله: وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم. اهـ من "نيل الأوطار"(4/ 194).
الثاني: أنه يلزم بقية البلدان التي توافق البلدة التي رأته في مطالع الهلال.
(1)
أخرجه البخاري برقم (1900)، ومسلم برقم (1080) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وهو مذهب الشافعية، وقول عن أحمد، واختاره ابن عبد البر في "التمهيد"، وشيخ الإسلام في "الاختيارات"، وهو ترجيح شيخنا مقبل بن هادي الوادعي، والشيخ ابن عثيمين، وغيرهما من أهل العلم رحمة الله عليهم أجمعين.
واستدلوا بما يلي:
1 -
قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، قالوا: والذين لا يوافقون من شاهده في المطالع لا يقال: إنهم شاهدوه لا حقيقة ولا حكمًا، والله تعالى: أوجب الصوم على من شاهده.
2 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» ، فعلق الصوم بالرؤية ومن يخالف من رآه في المطالع لا يقال: إنه رآه لا حقيقة ولا حكمًا.
3 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في "صحيح مسلم" برقم (1087)، أنه سأل كُرَيبًا متى رأى الهلال - وكان بالشام- فقال: رأيناه ليلة الجمعة، فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت؛ فلا نزال نصوم حتى نرى الهلال، أو نكمل العدة. فقال كريب: أفلا تكتفي برؤية معاوية؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أنه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم؛ لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد؛ إذ حكمه نافذ في الجميع، وهو قول ابن المَاجشون.
وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: وعمل الناس اليوم على هذا، وهو من الناحية الاجتماعية قول قوي.
والقولان الأولان قويان، إلا أنَّ الذي يظهر والله أعلم أن الأول أقوى؛ لعموم الدليل الذي استدلوا به، والشرع عام، ولو كان الحكم على غير ذلك لَبَيَّنَه.
وقد ردوا على القول الثاني بما يلي:
1 -
إن اختلاف المطالع أمرٌ لا ينضبط بحد محدود، فما هو الضابط الذي يفصل بين كل مطلع وآخر.
2 -
قال الإمام الألباني رحمه الله في "تمام المنة": والمطالع أمور نسبية ليس لها حدود مادية يمكن للناس أن يتبينوها. اهـ
قال شيخ الإسلام رحمه الله: كما في "مجموع الفتاوى": إذا اعتبرنا حدًّا كمسافة القصر أو الأقاليم، فكان رجل في آخر المسافة والإقليم؛ فعليه أن يصوم ويفطر وينسك، وآخر بينه وبينه غَلْوَة سهم لا يفعل شيئًا من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين. اهـ المراد
3 -
المقصود بالآية والحديث الذي استدل بهما أصحاب القول الثاني هو العلم بحلول شهر رمضان، وقد حصل ذلك برؤية أهل بلد معين، وكما أنه يلزم أهل البلد الواحد الصوم برؤية بعض أفرادهم، فكذلك يلزم أهل البلدان الأخرى الصوم برؤية أهل هذا البلد.
4 -
استدلالهم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أجيب عنه بأجوبة:
الأول: أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين أو
يروه كما في الأحاديث الأُخَر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في "كتاب الصيام"(1/ 174): ويجوز أن يكون ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصوموا لرؤيته ويفطروا لرؤيته، ولا يفطروا حتى يروه أو يكملوا العدة كما قد رواه ابن عباس وغيره مفسرًا فاعتقد ابن عباس أن أهل كل بلد يصومون حتى يروه أو يكملوا العدة وقد تقدم عنه صلى الله عليه وسلم ما يبين أنه قصد رؤية بعض الأمة في الجملة؛ لأن الخطاب لهم، وهذا عمل برؤية قوم في غير مِصْرِه. اهـ
وقد أجاب بهذا الجواب أيضًا ابن دقيق العيد، والشوكاني في "النيل"، وصديق بن حسن في "الروضة الندية".
الثاني: قال الإمام الألباني رحمه الله في "تمام المنة": إنَّ حديث ابن عباس ورد في من صام على رؤية بلده ثم بلغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم، ففي هذه الحالة يستمر في الصيام مع أهل بلده حتى يكملوا العدة أو يروا الهلال. اهـ
وقد سبق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى الإشارة إلى مثل هذا الجواب كما في "مجموع الفتاوى"(25/ 109).
الثالث: أن هذه شهادة من كُرْيب وهو واحد، وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا بشهادة اثنين، ولو عملوا بخبره؛ لأفطروا بشهادة واحد، كذا أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "شرح العمدة".
وأشار إلى هذا الجواب الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم"، والله أعلم.
قلتُ: ويبين أن الحديث ليس فيه وجه لما استدلوا به أن مطلع الشام والمدينة النبوية لا يختلف، بل هو مطلع واحد، والله أعلم.