الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تَعشَّى واشتغل ببعض أمره.
قال الترمذي رحمه الله: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك. اهـ
انظر: "السبل"(4/ 172 - 173)، "توضيح الأحكام"(3/ 217)، "لطائف المعارف"(ص 260).
مسألة: صيام يوم الشك
؟
ذهب الجمهور إلى أن يوم الشك هو ليلة الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال ما يمنع الرؤية من سحاب، أو غيم، أو دخان، أو نحو ذلك، وهو رواية غير مشهورة عن أحمد، وذهبوا إلى تحريم صومه؛ لحديث عمار رضي الله عنه، قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود (2334)، والترمذي (686)، والنسائي (4/ 153)، وابن ماجه (1645)، وهو حديث حسن.
واستدلوا أيضًا بحديث: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» .
(1)
وقد رَجَّحَ كون يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون الرؤية حائل: شيخُ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبدالهادي، والحافظ، والصنعاني، والشوكاني، وغيرهم من أهل العلم.
قال ابن الجوزي رحمه الله في "التحقيق": ولأحمد في هذه المسألة وهي ما إذا
(1)
أخرجه البخاري برقم (1909)، ومسلم برقم (1081) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
حال دون مطلع الهلال غيم، أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان ثلاثة أقوال: أحدها: يجب صومه على أنه من رمضان. وثانيها: لا يجوز فرضًا ولا نفلاً مطلقًا، بل قضاءً، وكفارة، ونذرًا، ونفلاً وافق عادة. ثالثها: المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر. اهـ المراد
والمشهور عن أحمد القول الأول، واستدل عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:«فَاقْدُروا له» .
قالوا: وذلك بمعنى: (ضَيِّقوا عليه) مثل قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، وقوله {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، فالتضييق لا يكون إلا بأن يحسب له أقل زمان يطلع فيه، وهو طلوعه ليلة الثلاثين.
قالوا: ويؤيد ذلك فعل ابن عمر، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر
(1)
وغيرهم رضي الله عنهم، فقد صح عنهم أنهم كانوا يصومون هذا اليوم.
والجواب عن استدلالهم:
أما عن قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقدروا له» ، فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أي انظروا في أول الشهر، واحسبوا تمام الثلاثين. اهـ
وقال ابن القيم رحمه الله: فإن القدر هو الحساب المقدر، والمراد به الإكمال كما قال:«فأكملوا العدة» .اهـ
والمراد بالإكمال إكمال عدة الشهر الذي غُمَّ.
(1)
أثر ابن عمر، وعائشة أخرجه عنهما أحمد (6/ 125 - 126) بإسناد صحيح، وأثر أسماء أخرجه عنها أحمد، وسعيد بن منصور كما في "زاد المعاد"(2/ 45) بإسنادين صحيحين.
ويؤيد ما قاله الحافظان رواية مسلم: «فاقدروا له ثلاثين» ، وكذا فإنه قد جاءت أحاديث كثيرة فيها الأمر بإكمال العدة ثلاثين من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح كتاب الصيام من "العمدة"(1/ 78 - 89).
وأما استدلالهم بأفعال الصحابة المذكورين فالعبرة بما رووا لا بما رأوا، وقد جاء عن غيرهم خلافهم، كعمار، وابن مسعود، وأنس وغيرهم رضي الله عنهم بأسانيد ثابتة عنهم.
(1)
قال الشوكاني رحمه الله: والحاصل أن الصحابة مختلفون في ذلك، وليس قول بعضهم بحجة على أحد، والحق ما جاءنا عن الشارع. اهـ
وقال الصنعاني رحمه الله: واختلف الصحابة في ذلك، منهم من قال بجواز صومه، ومنهم من منع منه وَعدَّه عصيانًا لأبي القاسم، والأدلة مع المحرمين. اهـ
ومع ذلك فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، بسند حسن عند ابن أبي شيبة (3/ 71) أنه قال: لو صمت السنة كلها؛ لأفطرت اليوم الذي يشك فيه. وكذلك جاء عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم، ممن قالوا بالصومِ المنعُ من الصوم.
قال الحافظ رحمه الله -في الجمع بين أثري ابن عمر رضي الله عنهما-: فالجمع بينهما أنه في الصورة التي أوجب فيها الصوم لا يسمى يوم شك -يعني عند ابن عمر- وهذا هو المشهور عن أحمد أنه خص يوم الشك بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال، أو
(1)
أثر عمار تقدم في أول المسألة، وأثر ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 71)، والبيهقي (4/ 209) بإسناد حسن، وأما أثر أنس فأخرجه عبدالرزاق (4/ 159)، وابن أبي شيبة (3/ 71) بإسناد صحيح.
شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته، فأما إذا حال دون منظره شيء، فلا يسمى شكًّا. اهـ
وقد حمل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أفعال الصحابة في ذلك كما حمله الحافظ ابن حجر رحمه الله كما في "شرح الصيام"(1/ 105)، ثم ذكر رحمه الله جوابًا آخر (1/ 126)، وهو: أن تحمل الآثار في الصوم على الجواز والاستحباب، وتحمل أحاديث الفطر على عدم الوجوب، ويكون التغليظ فيهما على من يجزم بأنه من رمضان ويعتقد وجوب صومه كوجوب صوم الذي يليه حتى يلحق برمضان ما لم يتيقن أنه منه.
ثم قال: والقياس يقتضي صحة هذا القول؛ فإن إيجاب ما لم يتيقن وجوبه خلاف القياس، وكراهة التحري، والاحتياط في العبادات خلاف القياس أيضًا. اهـ
وارتضى هذا الجواب ابن القيم رحمه الله في "الزاد".
قال أبو عبد الله رحمه الله: الذي يظهر -والله أعلم- هو تحريم صيام يوم الشك حتى وإن كان للاحتياط والتحري، وحتى إذا لم يعتقد وجوبه؛ لما تقدم من الأدلة، وأما فعل هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، فقد عارضهم غيرُهم من الصحابة رضي الله عنهم، فوجب الرجوع إلى الأدلة كما تقدم في كلام الصنعاني، والشوكاني، والله أعلم.
انظر: "فتح الباري"(1911)، "سبل السلام"(4/ 106)، "توضيح الأحكام" 3/ 135 - 140)، و"زاد المعاد"(2/ 41 - 46)، "نيل الأوطار"(4/ 193)، "شرح الصيام" من "العمدة" (1/ 75 -