الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأعزّ أولياءه ونصر دينه. وبدا للعدو ما لم يحتسبه بمحاماة هذه العصابة عن الملّة وقيامها بنصر الكلمة. وبعث أمير المسلمين برأس الزعيم ذنّنه إلى ابن الأحمر فردّه زعموا سرا إلى قومه بعد أن طيّبه وأكرمه، ولاية أخلصها لهم، مداراة وانحرافا عن أمير المسلمين، ظهرت شواهده عليه بعد حين كما نذكره، وقفل أمير المسلمين من غزاته إلى الجزيرة منتصف ربيع من سنته، فقسّم في المجاهدين الغنائم وما نفلوه من أموال عدوّهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم، بعد الاستئثار بالخمس لبيت المال على موجب الكتاب والسنّة ليصرفه في مصارفه. ويقال: كان مبلغ الغنائم في هذه الغزاة مائة ألف من البقر وأربعة وعشرين ألفا، ومن الأسارى سبعة آلاف وثمان مائة وثلاثين، ومن الكراع أربعة عشر ألفا وستمائة، وأمّا الغنم فاتسعت عن الحصر كثرة، حتى لقد زعموا بيعت الشاة في الجزيرة بدرهم واحد، وكذلك السلاح. وأقام أمير المسلمين بالجزيرة أياما ثم خرج لجمادى غازيا إلى إشبيليّة فجاس خلالها وتقرّى نواحيها وأقطارها، وأثخن بالقتل والنهب في جهاتها وعمرانها. وارتحل إلى شريش فأذاقها وبال العيث والاكتساح. ورجع إلى الجزيرة لشهرين من غزاته، ونظر في اختطاط مدينة بفرضة المجاز من العدوة لنزل عسكره منتبذا عن الرعية لما يلحقهم من ضرر العسكر وجفائهم. وتحيّز لها مكانا لصق الجزيرة، فأوعز ببناء المدينة المشهورة بالبنية وجعل ذلك لنظر من يثق به من ذويه [1] . ثم أجاز البحر إلى المغرب في رجب من سنة أربع وسبعين وستمائة فكان مغيبه وراء البحر ستة أشهر، واحتل بقصر مصمودة وأمر ببناء السور على بادس مرفأ الجواز ببلاد غمارة. وتولى ذلك إبراهيم بن عيسى كبير بني وسناف بن محيو. ثم رحل إلى فاس فدخلها في شعبان، وصرف النظر إلى أحوال دولته، واختطاط البلد الجديد لنزله ونزل حاشيته، واستنزال الثوّار عليه بالمغرب على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن اختطاط البلد الجديد بفاس وما كان على بقية ذلك من الأحداث)
لما قفل السلطان أمير المسلمين من غزاتة الجهاديّة، وتمّ صنع الله لديه في ظهور
[1] وفي نسخة ثانية: دونه.
الإسلام على يديه، واعتزاز أهل الأندلس بفيئته، راح بالمغرب إلى نعمة أخرى من ظهور أوليائه وحسم أدواء الفساد في دولته، شفعت مواهب السعادة، وأجملت [1] عوائد الصنع، وذلك أنّ صبابة بني عبد المؤمن وفلّهم، لمّا فرّوا من مراكش عند الفتح لحقوا بجبل تين ملّل جرثومة أمرهم، ومنبعث دعوتهم. وملاحد خلفائهم، وحضرة سلفهم، ودار إمامهم، ومسجد مهديّهم. كانوا يعكفون عليه متيّمنين بطيره، ملتمسين بركة زيارته، ويقدمون ذلك أمام غزواتهم قرية بين يدي أعمالهم يعتدّونها من صالح مساعيهم. فلما خلص الفلّ إليه اعتصموا بمعقله وآووا إلى ركونه، ونصبوا للقيام بأمرهم عيصا من أعياص خلفاء بني عبد المؤمن ضعيف المنبه [2] خاسر الصفقة من مواهب الحظ، وهو إسحاق أخو المرتضى. وبايعوه سنة تسع وستين وستمائة يرجون منه رجع الكرّة، وإدالة الدولة، وكان المتولي لكبر ذلك وزير دولتهم ابن عطّوش.
ولما عقد السلطان يعقوب بن عبد الحق لمحمد بن علي بن محلى على أعمال مراكش، لم يقدّم عملا على محاربتهم، وتخذيل الناس عنهم، واستمالة أشياعهم. وجمعوا له سنة أربع وسبعين وستمائة على غرّة ظنّوها، فأوقع بهم وفلّ من غربهم. ثم صمد إلى الجبل لشهر ربيع من سنته فافتضّ عذرته وفضّ ختامه، واقتحمه عليهم عنوة بعد مطاولة النزال والحرب. وهلك الوزير ابن عطوش في جوانب الملحمة، وتقبّض على خليفته المستضعف. وابن عمّه أبي سعيد ابن السيّد أبي الربيع ومن معهما من الأولياء. وجنبوا إلى مصارعهم بباب الشريعة بمراكش، فضربت أعناقهم وصلبت أشلاؤهم. وكان فيمن قتل منهم كاتبه القبائلي وأولاده، وعاثت العساكر في جبل تينما [3] واكتسحت أمواله. وبعثرت قبور خلفاء بني عبد المؤمن. واستخرج شلو يوسف وابنه يعقوب المنصور، فقطعت رءوسهم. وتولى كبر ذلك أبو علي الملياني النازع إلى السلطان أبي يوسف من مليانة عش غوايته ومواطن انتزائه كما قدّمناه وكان السلطان أقطعه بلاد أغوات إكراما لوفادته، فحضر هذه الغزاة في جملة العساكر
[1] وفي نسخة ثانية: وأكملت.
[2]
وفي نسخة ثانية: ضعيف المنية.
[3]
تين ملل: جبال بالمغرب بها قرى ومزارع يسكنها البرابرة، بين أوّلها ومراكش، سرير ملك بني عبد المؤمن، نحو ثلاثة فراسخ، بها كان أول خروج محمد بن تومرت المسمّى بالمهديّ الّذي أقام الدولة.
وراى أن قد شفى نفسه بإخراج هؤلاء الخلائق من أرماسهم، والعيث بأشلائهم لما نقم منه الموحّدون. وأزعجوه من قراره، فنكرها السلطان لجلاله. وتجاوز عنها للملياني تأنيسا لقربته وجواره، وعدّها من هناته.
ولما وصل أمير المسلمين إلى حضرته من غزاة الجهاد، ترادفت عليه أخبار هذه الملحمة، وقطع دابر بني عبد المؤمن، فتظاهر السرور لديه، وارتفعت إلى الله كلمات الشكر طيبة منه. ولما سكن غرب الثوار، وتمهّد أمر المغرب، ورأى أمير المسلمين أنّ أمره قد استفحل، وملكه قد استوسق، واتسع نطاق دولته، وعظمت غاشيته وكثر وافده، رأى أن يختط بلدا يتميز بسكناه في حاشيته وأهل خدمته وأوليائه الحاملين سرير ملكه. فأمر ببناء البلد الجديد لصق فاس، بساحة الوادي المخترق وسطها من أعلاه، وشرع في تأسيسها لثالث من شوال في سنة أربع وسبعين وستمائة هذه.
وجمع الأيدي عليها، وحشد الصنّاع والفعلة لبنائها. وأحضر لها الحزّى والمعدلين لحركات الكواكب، فاعتاموا في الطوالع النجومية مما يرضون أثره، ورصدوا أوانه.
وكان فيهم الإمامان أبو الحسن بن القطّان وأبو عبد الله بن الحبّاك، المقدّمان في الصناعة، فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم وكما رضي. ونزلها بحاشيته، وذويه سنة أربع وسبعين وستمائة كما ذكرناه. واختطّوا بها الدور والمنازل، وأجرى فيها المياه إلى قصوره، وكانت من أعظم آثار هذه الدولة وأبقاها على الأيام. ثم أوعز بعد ذلك ببناء قصبة مدينة مكناسة، فشرع في بنائها من سنته، وكان لحين إجازته البحر قافلا من غزاته لحق طلحة بن محلى بجبل أزرو [1] نازعا إلى قبائل زناتة من صنهاجة، فاغذ إليه السلطان بعساكره وأناخ عليه. واستنزله لشهر على ما سأل من الأمان والرتبة. وحسم الداء من خروجه. واستوزر صنيعته فتح الله السدراتي، وأجرى له رزق الوزارة على عوائدهم. ثم بعث إلى يغمراسن كفاء هديته التي أتحفه بها بين يدي غزاته. وكان شغله عنها أمر الجهاد، فبعث له فسطاطا رائقا كان صنع له بمراكش، وحكمات مموهة بالذهب والفضة، وثلاثين من البغال الفارهة ذكورا وإناثا بمراكبها الفارسية من السروج، والنسوانية من الولايا، وأحمالا من الأديم المعروف دباغة بالشركسي، إلى غير ذلك مما يباهي به ملوك المغرب وينافسون فيه.
[1] وفي نسخة ثانية: أزور.