الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأثر مشيّعا من الكافة بالأسد والدّعاء، وحميد الثّناء، تلحظني العيون بالرحمة وتتناجى الآمال في بالعودة، ورتعت فيما كنت راتعا فيه قبل من مراعي نعمته وظلّ رضاه وعنايته بالعافية التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربّه، عاكفا على تدريس علم أو قراءة كتاب أو إعمال قلم في تدوين أو تأليف، مؤمّلا من الله قطع صبابة العمر [1] في العبادة، ومحو عائق السعادة، بفضل الله ونعمته.
(السفر لقضاء الحج)
ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين، واعتزمت على قضاء الفريضة، فودّعت السلطان والأمراء وزودوا وأعانوا فوق الكفاية، وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة إلى مرسي الطور [2] بالجانب الغربي من بحر السويس، وركبت البحر من هنالك عاشر الفطر، ووصلنا إلى الينبع [3] لشهر فوافينا المحمل، ورافقتهم من هنالك إلى مكة، ودخلتها ثاني ذي الحجّة، فقضيت الفريضة في هذه السنة.
ثم عدت إلى الينبع فأقمت بها خمسين ليلة حتى تهيّأ لنا ركوب البحر، ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور، فاعترضتنا الرياح فما وسعنا إلّا قطع البحر إلى جانبه الشرقي، ونزلنا بساحل القصير [4] ثم بذرقنا، ثم سرنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص [5] قاعدة الصعيد، فأرحنا بها أياما، ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر، فوصلنا إليها لشهر من سفرنا، ودخلتها في جمادى سنة تسعين وسبعمائة وقضيت حقّ السلطان في لقائه، وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له، فتقبّل ذلك بقبول حسن، وأقمت فيما عهدت من رعايته وظلّ إحسانه.
[1] أي بغية العمر.
[2]
الطور: مدينة على الساحل الغربي لشبه جزيرة سيناء (معجم البلدان) .
[3]
الينبع: من مدن الجزيرة العربية. تقع على الساحل الشرقي من البحر الأحمر (وما تزال تحتفظ باسمها إلى هذا اليوم)(معجم البلدان) .
[4]
القصير: تصغير قصر. وهو مرفأ على الساحل الغربي للبحر الأحمر، تؤمه السفن التجارية من الجزيرة العربية واليمن بينه وبين قصبة الصعيد خمسة أيام (معجم البلدان) .
[5]
قوص: مدينة واسعة: كانت قصبة صعيد مصر، وكان أهلها أرباب غنى وثروة واسعة لأنها كانت محط التجار القادمين من عدن، وأكثر تجار عدن من مدينة قوص (معجم البلدان) .
ابن خلدون م 42 ج 7
وكنت لما نزلت بالينبع لقيت بها الفقيه الأديب المتفنّن أبا القاسم بن محمد بن شيخ الجماعة، وفارس الأدباء، ومنفّق سوق البلاغة، أبي إسحاق إبراهيم الساحليّ المعروف جدّه بالطّويجن وقد قدم حاجا وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم كاتب سرّ السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة، الحظيّ لديه أبي عبد الله بن زمرك، خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوّف ويذكّر بعهود الصحبة نصّه:
سلوا البارق النجديّ على عمل نجدي [1]
…
تبسّم فاستبكى جفوني من الوجد
أجاد ربوعي باللّوى، درك [2] اللّوى
…
وسحّ به صوب الغمائم من بعدي
ويا زاجر الأظعان وهي ضوامر
…
دعوها ترد هيما عطاشا على نجد
ولا تنشّقوا الأنفاس منها مع الصّبا
…
فإنّ زفير الشوق من مثلها يعدي
براها الهوى بري القداح وخطّها
…
حزون [3] على صفح من القفر ممتدّ
عجبت لها أني تجاذبني الهوى
…
وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي
لئن شاقها بين العذيب وبارق
…
مياه بفيء الظلّ للّبان والرّند [4]
فما شاقني إلّا بدور خدورها
…
وقد لحن يوم النّفر في قضب ملد [5]
فكم في قباب الحيّ من شمس كلّة
…
وفي فلك الأزرار من قمر سعد
وكم صارم قد سلّ من لحظ أحور
…
وكم ذابل قد هزّ من ناعم القدّ
خذوا الحذر من سكّان رامة إنّها
…
ضعيفات كرّ اللحظ تفتك بالأسد
سهام جفون من قسيّ حواجب
…
يصاب بها قلب البريّ على عمد
وروض جمال ضاع عرف نسيمه
…
وما ضاع غير الورد في صفحة الخدّ
ونرجس لحظ أرسل الدمع لؤلؤا
…
فرشّ بماء الورد روضا من الورد
وكم غصن قد عانق الغصن مثله
…
وكلّ على كلّ من الشوق يستعدي
قبيح وداع قد جلا لعيوننا
…
محاسن من روض الجمال بلا عدّ
[1] وفي نسخة ثانية: سلوا البارق النجديّ من علمي نجد.
[2]
وفي نسخة ثانية: بورك.
[3]
وفي نسخة ثانية: حروفا.
[4]
وفي نسخة ثانية: العذيب: ماء لبني تميم. وكذلك بارق. والبان: شجر يسمو ويطول باستقام، ومنه يستخرج دهن البان. والرند: شجر الغار له رائحة طيبة ويستخرج منه الدهن أيضا.
[5]
الملد: اللين.
رعى الله ليلى لو علمت طريقها
…
فرشت لأخفاف المطيّ بها خدّي
وما شاقني والطيف يرهب أدمعي
…
ويسبح في بحر من الليل مزبد
وقد سلّ خفّاق الذوائب بارق
…
كما سلّ لمّاع الصّقال من الغمد
وهزّت محلاة يد الشّوق في الدّجى
…
فحلّ الّذي أبرمت للصبر من عقدي
وأقلق خفّاق الجوانح نسمة
…
تنمّ مع الأصباح خافقة البرد
وهبّ عليل لفّ طيّ بروده
…
أحاديث أهداها إلى الغور من نجد [1]
سوى صادح في الأيّك لم يدر ما الهوى
…
ولكن دعا مني الشجون على وعد
فهل عند ليلى نعّم الله ليلها
…
بأنّ جفوني ما تملّ من السّهد
وليلة إذ وافى الحجيج إلى منى [2]
…
وفت لي المنى منها بما شئت من قصد
فقضيت منها فوق ما أحسب المنى
…
وبرد عفاف صانه الله من برد
وليس سوى لحظ خفيّ نجيله
…
وشكوى كما ارفضّ الجمان من العقد
غفرت لدهري بعدها كلّ ما جنى
…
سوى ما جشى [3] وفد المشيب على فودي
عرفت بهذا الشيب فضل شبيبتي
…
وما زال فضل الضّدّ يعرف بالضّد
ومن نام في ليل الشباب ضلالة
…
سيوقظه صبح المشيب إلى الرّشد
أما والهوى ما حدت عن سنن الهدى [4]
…
ولا جرت في طرق الصّبابة عن قصد
تجاوزت حدّ العاشقين الأولى مضوا [5]
…
وأصبحت في دين الهوى أمّة وحدي
نسيت وما أنسى وفائي لخلّتي
…
وأقفر ربع القلب إلّا من الوجد
إليك أبا زيد شكاة رفعتها
…
وما أنت من عمر ولديّ ولا زيد
بعيشك خبّرني وما زلت مفضلا
…
أعندك من شوق كمثل الّذي عندي
فكم ثار بي شوق إليك مبرّح
…
فظلّت يد الأشواق تقدح من زندي
وصفّق حتى الريح في لمم الرّبى
…
وأشفق حتى الطّفل في كبد المهد
يقابلني منك الصّباح بوجنة
…
حكى شفقا فيه الحياء الّذي تبدي
[1] هو غور تهامة ما بين ذات عرق في البحر، وكل ما انحدر سبه مغرّبا عن تهامة فهو غور (معجم البلدان) .
[2]
الحجيج: قاصدين بيت الله للحجّ، وهني: موضع في جبل عرفة بجانب مكة.
[3]
وفي نسخة ثانية: ما حنى.
[4]
وفي نسخة ثانية: أما والهوى ما حلت عن سنن الهوى.
[5]
وفي نسخة ثانية:
تجاوزت حدّ العاشقين الألى قضوا
…
والعمة في البصيرة كالعمى في البصر
وتوهمني الشمس المنيرة غرّة
…
بوجهك صان الله وجهك عن ردّ
محيّاك أجلى في العيون من الضّحى
…
وذكرك أحلى في الشّفاه من الشّهد
وما أنت إلّا الشمس في علو أفقها
…
نفدّيك من قرب وتلحظ من بعد
وفي ماغمّة [1] من لا ترى الشّمس عينه
…
وما نفع نور الشمس في الأعين الرّمد
من القوم صانوا المجد صون عيونهم
…
كما قد أباحوا المال ينهب للرفد
إذا ازدحموا يوما على الماء أسرة
…
فما ازدحموا إلّا على مورد المجد
ومهما أغاروا منجدين صريخهم
…
يشبّون نار الحرب في الغور والنّجد
ولم يقتنوا بعد الثناء [2] ذخيرة
…
سوى الصّارم المصقول والصافن النّهد
وما اقتسم الأنفال إلّا ممدّح
…
بلاها بأعراف المطهّمة الجرد [3]
أتنسى ولا تنسى ليالينا التي
…
خلسنا بها العينين من جنّة الخلد [4]
ركبنا إلى اللّذات في طلق الصّبا
…
مطايا الليالي وادعين إلى حدّ
فإن لم ندر فيها الكئوس فإنّنا
…
وردنا بها للأنس مستعذب الورد
لقيتك [5] في غرب وأنت رئيسه
…
وبابك للأعلام مجتمع الوفد
فآنست حتى ما شكوت بغربة
…
وواليت حتى لم أجد مضض الفقد
وعدت لقطري شاكرا ما بلوته
…
من الخلق المحمود والحسب العدّ [6]
إلى أن أجزت البحر يا بحر نحونا
…
وزرت مزار الغيث في عقب الجهد
ألذّ من النّعمى على حال فاقة
…
وأشهى من الوصل الهنيّ على صدّ
ولو ساء أن قوّضت رحلك بالنّوى
…
وعوّضت منها بالزّميل وبالوخد [7]
لقد سرّني أن لحت في أفق العلا
…
على الطائر الميمون والطالع السّعد
طلعت بأفق الشّرق نجم هداية
…
فجئت مع الأنوار فيه على وعد
[1] وفي نسخة ثانية: وفي عمه.
[2]
وفي نسخة ثانية: بعد البناء.
[3]
المطهمة: البارعة الجمال والجرد: القصيرة الشعر.
[4]
وفي نسخة ثانية: خلسن بهنّ العيش في جنة الخلد.
[5]
آتيتك.
[6]
الحسب العدّ: القديم.
[7]
وإن ساءني ان قوّضت رجلك النوى وعوّضت عنّا بالذّميل وبالوخد والذميل: السير اللين، والوخد الإسراع في المشي أو سعة الخطو.
يمينا بمن تسري المطيّ سراهم [1]
…
عليها سهام قد رمت هدف القصد
إلى بيته كيما تزور معاهدا
…
بأنّ بها جبريل عن كرم العهد
لأنت لنا مهما دجا ليل مشكل
…
قدحت به للنور وارية الزّند
وحيث استقلّت في ركاب لطيّة
…
فأنت تحيي النفس في القرب والبعد
وإني بباب الملك حيث عهدتني
…
مذيل [2] ظلال الجاه مستحصف العقد
أجهّز بالإنشاء كلّ كتيبة
…
من الكتب والكتّاب في عرضها جندي
نلوذ من المولى الإمام محمّد
…
بظل على نهر المبرّة ممتدّ
إذا فاض من يميناه بحر سماحة
…
وعمّ به الطوفان في النّجد والوهد
ركبنا إلى الإحسان في سفن الرّجا
…
بحور عطاء ليس تزجر عن صدّ [3]
فمن مبلغ الأنصار عني ألوكة
…
مغلغلة في الصّدق منجزة الوعد
بآية ما أعطى الخليفة ربّه
…
مفاتيح فتح ساقها سائق السّعد
ودونك من روض المحامد نفحة
…
تفوق إذا اصطفّ النديّ من الندّ
ثناء يقول المسك إن ذاع عرفه
…
أيا لك من ندّ أيا لك من ندّ [4]
وما الماء في جوّ السّحاب مروّقا
…
بأظهر ذات منك في كنف المهد
فكيف وقد حلّتك أسرابها الجلا [5]
…
وباهت بك الأعلام بالعلم الفرد
وما الطلّ [6] في ثغر من الزّهر باسم
…
بأصفى وأذكى من ثنائي ومن ودّي
ولا البدر معصوما بتاج تمامه
…
بأبهر من ودّي وأسير من حمدي
بقيت ابن خلدون إمام هداية
…
ولا زلت من دنياك في جنّة الخلد
ووصلها بقوله: سيّدي شيخ الأعلام، كنز رؤساء الإسلام، مشرّف حملة السّيوف والأقلام، جمال الخواصّ والظهراء، أثير الدول، خالصة الملوك، مجتبى الخلفاء، سرّ العلاء [7] أوحد الفضلاء، قدوة العلماء، حجّة البلغاء، أبقاكم الله
[1] وفي نسخة ثانية: سواهما: وهي ج ساهمة وهي الناقة الضامرة.
[2]
وفي نسخة ثانية: مديد، والمستحصف: المستحكم.
[3]
وفي نسخة ثانية: تجزر عن قدّ.
[4]
الند الاولى: الطيب والند الثانية: القرين، المثل.
[5]
وفي نسخة ثانية: الحلي.
[6]
الطلّ: الندى.
[7]
وفي نسخة ثانية: نيّر أفق العلاء.
بقاء جميلا، يعقد لواء الفخر، ويعلى منار الفضل، ويرفع عماد المجد، ويوضح معالم السيادة [1] ، ويرسل أشعّة السعادة، ويفيض أنوار الهداية، ويطلق ألسنة المحامد، وينير [2] أفق المعارف، ويعذب مورد العناية، ويمتع بعمر النهاية ولا نهاية.
بآي التحيات أفاتحك وقدرك أعلى، ومطلع فضلك أوضح وأجلى، إن قلت تحية كسرى في الثناء وتبّع، فأثرك لا يقتفي ولا يتبع، تلك تحية عجماء لا تبين ولا تبين، وزمزمة نافرها اللسان العربيّ المبين، وهذه جهالة جهلاء، لا ينطبق على حروفها الاستعلاء، قد محا رسومها الخفاء، وعلى آثار دمنتها العفاء، وإن كانت التحيّتان طالما أوجف بهما الركاب وقعقع البريد، ولكن أين يقعان مما أريد.
تحيّة الإسلام أصل في الفخر نسبا. وأوصل بالشرع سببا، فالأولى أن نحيّيك بما حيّا الله في كتابه رسله وأنبياءه، وحيّت به ملائكته في جواره أولياءه، فأقول:
السلام عليكم يرسل من رحمة الله غماما ويفتق من الطّروس عن أزهار المحامد كماما، ويستصحب من البركات ما يكون على التي هي أحسن من ذلك مقاما، وأجدّد السؤال عن الحال الحالية بالعلم والدين المستمدّة من أنوارها سرج المهتدين. زادها الله صلاحا وعرفها نجاحا يتبع فلاحا، وأقرّر ما عندي من تعظيم ارتقي كل آونة شرفه، واعتقاد جميل يرفع عن وجه البدر كلفه، وثناء، أنشر بيدك البيضاء صحفه، وعلى ذلك أيّها السيّد المالك، فقد تشعبت عليّ في مخاطبتك المسالك، إن أخذت في تقرير فضلك العميم، ونسبك الصّميم، فو الله ما أدري بأيّ بيعة لفخرك تدفع الظلم، وفي أيّ بحر من ثنائك يسبح القلم، الأمر جلل، والشّمس تكبر على حلي وحلل، وإن أخذت في شكاة الفراق، والاستعداء على الأشواق اتّسع المجال، وحصرت الرويّة والارتجال، فالأولى أن أثرك عذبة اللسان تلعب بها رياح الأشواق وأسلة اليراع، تخضب مفارق الطّروس بصبيغ الحبر المراق، وغيرك من تركض في مخاطبته جياد اليراع، في مجال الرقاع، مستولية على أمد الإبداع والاختراع، فإنما هو بثّ يبكي، وفراق يشكي، فيعلم الله مرضي [3] عن أن أشافه
[1] وفي نسخة ثانية: السؤدد.
[2]
وفي نسخة ثانية: وينشر أفق المعارف.
[3]
وفي نسخة ثانية: جرحي.
من أنبائك ثغور البروق البواسم، وأن أحملك الرّسائل حتى مع سفراء النواسم، وأن أجتلي غرر ذلك الجبين في محيّا الشارق [1] ، ولمح البارق.
ولقد وجّهت إليك جملة من الكتب والقصائد، ولا كالقصيدة الفريدة في تأبين الجواهر اللائي استأثر بهنّ البحر، قدّس الله أرواحهم، وأعظم الله أجرك فيهمّ، فإنّها أنافت على مائة وخمسين بيتا، ولا أدري هل بلغكم ذلك أم غاله الضياع، وغدر وصوله بعد المسافة، والّذي يطرق في سوء الظنّ بذلك ما صدر في مقابلته منكم. فإنّي على علم من كرم قصدكم، ومن حين استغربناكم بذلك الأفق الشرقي [2] لم يصلني منكم كتاب، مع علمي بضياع اثنين منهما بهذا الأفق الغربي (أهـ.) .
وفي الكتاب إشارة إلى أنّه بعث قصيدة في مدح الملك الظاهر صاحب مصر، ويطلب مني رفعها إلى السلطان، وعرضها عليه بحسب الإمكان، وهي على روي الهمزة ومطلعها:
أمدامع منهلّة أم لؤلؤ
…
لمّا استهلّ العارض المتلألئ
وبعث في طيّ الكتاب، واعتذر بأنه استناب في نسخها، فكتبت همزة رويها ألفا، قال وحقها أن تكتب بالواو لأنها تبدل بالواو وتسهل بين الهمزة والواو، وحرب الإطلاق أيضا يسوقها، واوا، هذا مقتضى الصناعة، وإن قال بعض الشيوخ تكتب ألفا على كل حال على لغة من لا يسهل لكنّه ليس بشيء.
وأذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخط المشرقيّ لتسهل قراءتها عليهم ففعلت ذلك، ورفعت النسخة والأصل للسلطان، وقرأها كاتب سرّه ولم يرجع إليّ منها شيء، ولم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السلطان، فضاعت من يدي.
وكان في الكتاب فصل عرّفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحّو المستبدّ بأمر المغرب لذلك العهد، وما جاء به من الانتقاض عليهم، والكفران لصنيعهم، يقول فيه:
كان مسعود بن رحّو الّذي أقام بالأندلس عشرين عاما يتبثّك النعيم [3] ويقود الدنيا ويتحيّز العيش والجاه، قد أجيز صحبة ولد عثمان كما تعرفتم من نسخة كتب إنشائه
[1] الشارق: الشمس.
[2]
وفي نسخة ثانية: من كرم قصدكم وحسن عهدكم، ومن حين استقل نيّركم بذلك الأفق الشرقي.
[3]
تبنك بالنعيم: أقام به.
بجبل الفتح لأهل الحضرة، فاستولى على المملكة، وحصل على الدنيا، وانفرد برياسة دار المغرب لضعف السلطان رحمة الله. ولم يكن إلّا أن كفرت الحقوق، وحنظلت نخلته السحوق، وشف على سواد جلدته سواد العقوق، وداخل من سبتة، فانتقضت طاعة أهلها، وظنّوا أنّ القصبة لا تثبت لهم، وكان قائدها الشيخ الأبهة [1] فلّ الحصار وجلّى القتال، ومحشّ الحرب أبو زكريا بن شعيب، فثبت للصدمة ونوّر للأندلس، فبادره المدد من الجبل ومن مالقة، وتوالت الأمداد وخاف أهل البلد، ورجع شرفاؤه ودخلوا القصبة. واستغاث أهل البلد بمن جاورهم، وجاءهم المدد أيضا، ثم دخل الصالحون في رغبة هذا المقام، ورفع القتال، وفي أثناء ذلك غدروا ثانية، فاستدعى الحال إجازة السلطان المخلوع أبي العبّاس لتبادر القصبة به ويتوجّه منها إلى المغرب لرغبة بني مرين وغيرهم فيه، وهو ولد السلطان المرحوم أبي سالم الّذي قلّدكم رياسة داره، وأوجب لكم المزية على أوليائه وأنصاره.
وبعده فصل آخر يطلب فيه كتبا من مصر يقول فيه:
والمرغوب من سيدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت وأشياخهم على الفاتحة، إذ لا يمكن بعث تفسير كامل لأني أثبت في تفسيرها ما أرجو به النفع عند الله، وقد علمتم أنّ عندي التفسير الّذي أوصله عثمان النجاني من تأليف الطيبي [2] والسفر الأوّل من تفسير أبي حيّان، وملخّص إعرابه وكتاب المغني لابن هشام، وسمعت عن براءة تفسير للإمام بهاء الدين ابن عقيل ووصلت إليّ براءة من كلام أكمل الدين الأشيري رضي الله عن جميعهم، ولكني لم أصل إلّا للبسملة، وذكر أبو حيّان في صدر تفسيره أنّ شيخه سليمان النقيب أو أبا سليمان لا أدري الآن صنّف كتابا في البيان في سفرين جعله مقدّمة لكتاب تفسيره الكبير. فإن أمكن سيّدي توجيهه لا بأس انتهى.
وفي الكتاب فصول أخرى في أغراض متعدّدة لا حاجة إلى ذكرها هاهنا. ثم ختم الكتاب بالسلام، وكتب اسمه محمد بن يوسف بن زمرك الصّريحي، وتاريخه
[1] وفي نسخة ثانية: الشيخ البهمة.
[2]
هو الحسين بن محمد بن عبد الله شرف الدين الطيبي (توفي 743) له حاشية قيمة على «الكشاف» في أربع مجلدات ضخمة. وشرع بعدها في جمع كتاب في التفسير.
العشرون من محرّم سنة تسع وثمانين وسبعمائة (وكتب إليّ) قاضي الجماعة بغرناطة أبو الحسن علي بن الحسن البنيّ [1] :
الحمد للَّه والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد رسول الله يا سيّدي وواحدي ودّا وحبّا، ونجيّ الروح بعدا وقربا أبقاكم الله وثوب سيادتكم سابغ، وقمر سعادتكم كلما أفلت الأقمار بازغ، أسلّم بأثّم عليكم، وأقرّر بعض ما لديّ من الأشواق إليكم، من حضرة غرناطة مهّدها الله عن ذلك لكم يتضوّع طيبه وشكر لا يذوى وإن طال الزمان طيبه قد كان بلغ ما جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلّدتم أمرها، وتحملّتم مرّها، فتمثّلت بما قاله شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب [2] عند انفصال صاحبه الشريف أبي القاسم [3] عن خطّة القضاء.
لا مرحبا بالناس أنفارك [4]
…
إذ جهلت رفعة مقدارك
لو أنها قد أوتيت رشدها
…
ما برحت تعشو إلى نارك
ثم تعرّفت كيفيّة انفصالكم وأنه كان عن رغبة من السلطان المؤيّد هنا لكم فرددت وقد توهّمت مشاهدتكم هذه الأبيات.
لك الله يا بدر السماحة والبشر
…
لقد حزت في الأحكام منزلة الفخر
ولكنّك استعفيت عنها تورّعا
…
وتلك سبيل الصالحين كما تدري
جريت على نهج السلامة في الّذي
…
تخيّرته للنشر منك وللحشر [5]
وحق بأنّ العلم ولّاك خطّة
…
من العزّ لا تنفك عنها مدى العمر
تزيد على مرّ الجديدين جدّة
…
وتسري النجوم الزاهرات ولا تسري
ومن لاحظ الأحوال وازن بينها
…
وكم لذوي الدنيا الدنيّة من خطر [6]
[1] نسبة إلى بنت (معجم البلدان) وقد ضبطها ابن خلدون بضم الباء وبكسرها.
[2]
الجيّاب: هو ابو الحسن علي بن محمد بن سليمان الغرناطي الشهير بابن الجياب (673- 749) .
[3]
هو ابو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الحسني السبتي المعروف بالشريف الغرناطي (698- 760) .
[4]
وفي نسخة ثانية: لا مرحبا بالناشز الفارك.
[5]
وفي نسخة ثانية: تخيّرته أبشر بأمنك في الحشر.
[6]
وفي نسخة ثانية: ولم ير للدنيا الدنية من خطر.
وأمسى لأنواع الولايات نابذا
…
فغير نكير أن يواجه بالنكر
فيهنيك يهنيك الّذي أنت أهله
…
من الزّهد فيها والتوقّي من الوزر
ولا تكترث من حاسديك فإنّهم
…
حصى والحصى لا يرتقي مرتقى الدرّ [1]
ومن عامل الأقوام باللَّه مخلصا
…
له فيهم نال الجزيل من الأجر
بقيت لرفع المجد تحمي ذماره
…
وخار لك الرحمن في كلّ ما يجري [2]
إيه سيّدي رضي الله عنكم وأرضاكم، أطنبتم في كتابكم في الثناء على السّلطان الّذي أنعم بالاعفاء، والمساعدة على الانفصال عن خطّة القضاء، واستوهبتم الدعاء له من الأولياء وللَّه درّكم في التنبيه على الإرشاد إلى ذلكم، فالدعاء له من الواجب فيه استقامة الأمور وصلاح الخاصّة والجمهور، وعند ذلك ارتفعت أصوات العلماء والصلحاء بهذا القطر له ولكم بجميل الدعاء. أجاب الله فيكم أحسنه وأجمله، وبلغ كل واحد منكم ما قصده وأمّله. وأنتم أيضا من أهل العلم والجلالة، والفضل والأصالة، وقد بلغتم بهذه البلاد الغاية من التنويه، والحظّ الشريف النبيه، لكن أراد الله سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد العظيمة ظهور، وتحدث بعد الأمور أمور، وبكل اعتبار، فالزمان بكم حيث كنتم مباه، والمحامد مجموعة لكم جمع ثناه. ولما وقف على مكتوبكم إليّ مولانا السلطان أبو عبد الله، أطال الله الثناء على مقاصدكم، وتحقّق جميل [3] ودادكم، وصحيح اعتقادكم، وعمّر مجلسه يومئذ بالثناء عليكم، والشكر لما لديكم.
ثم ختم الكتاب بالسّلام من كاتبه عليّ بن عبد الله بن الحسن مؤرّخا بصفر سنة تسعين وسبعمائة وفي طيّه مدرجة بخطّه وقد قصّر فيها عن الإجادة نصّها:
سيّدي رضي الله عنكم وأرضاكم، وأظفركم يمناكم بذوائب مناكم أعتذر لكم عن الكتاب المدرج به هذا غير خطّي فإنّي في ذلك الوقت بحال مرض في عينيّ، ولكم العافية الوافية، فيسعني سمحكم وربّما كان لديكم تشوّف بما نزل في هذه المدّة بالمغرب من الهرج أماطه الله، وأمّن بلاد المسلمين.
والموجب أنّ الحصّة الموجّهة في خدمة أميرهم الواثق ظهر له ولوزيره ومن ساعده على
[1] وفي نسخة ثانية: البدر.
[2]
وفي نسخة ثانية: ما تجزي.
[3]
وفي نسخة ثانية: صحيح ودادكم وجميل اعتقادكم.