الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بإغراء ابن صخر وقبائل سدويكش، وكبسه في مخيّمه وركض هاربا، فلحقه وقتله، وسار إلى البلد بمواعدة أهلها. وجاءني الخبر بذلك، وأنا مقيم بقصبة السلطان بقصوره، وطلب مني جماعة من أهل البلد القيام بالأمر والبيعة لبعض أبناء السلطان، فتفاديت من ذلك، وخرجت إلى السلطان أبي العبّاس فأكرمني وحيّاني [1] ، وأمكنته من بلده، وأجرى أحوالها [2] كلها على معهودها. وكثرت السعاية عنده في والتحذير من مكاني، وشعرت بذلك، فطلبت الإذن في الانصراف بعهد كان منه في ذلك، فأذن لي بعد ما أبى، وخرجت إلى العرب، ونزلت على يعقوب بن عليّ. ثم بدا له الشأن في أمري، وقبض على أخي واعتقله ببونة. وكبس بيوتنا، فظنّ بها ذخيرة وأموالا فأخفق ظنّه. ثم ارتحلت من أحياء يعقوب بن عليّ وقصدت بسكرة [3] لصحابة بيني وبين شيخها أحمد بن يوسف بن مزنى، وبين أبيه، فأكرم وبرّ وساهم في الحادث بماله وجاهه والله أعلم.
(مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان)
كان السلطان أبو حمو قد التحم ما بينه وبين السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بالصّهر في ابنته، وكانت عنده بتلمسان. فلما بلغه مقتل أبيها واستيلاء السلطان أبي العبّاس ابن عمّه صاحب قسنطينة على بجاية، أظهر الامتعاض لذلك، وكان أهل بجاية قد توجّسوا الخيفة من سلطانهم بإرهاف حدّه، وشدّة بطشه. وسطوته فانحرفوا عنه باطنا وكاتبوا ابن عمّه بقسنطينة كما ذكرناه.
ودسّوا للسلطان أبي حمّو بمثلها يرجون الخلاص من صاحبهم بأحدهما. فلمّا استولى السلطان أبو العباس وقتل ابن عمّه رأوا أن جرحهم قد اندمل، وحاجتهم قد قضيت، فاعصوصبوا عليه، وأظهر السلطان أبو حمّو الامتعاض للواقعة يسرّ منها
[1] وفي نسخة ثانية: حباني.
[2]
وفي نسخة ثانية: احوالي.
[3]
بسكرة: بلد بالجزائر كانت قاعدة بلاد الزاب (معجم البلدان) .
ابن خلدون م 36 ج 7
حسوا في ارتقاء [1] ، ويجعله ذريعة للاستيلاء على بجاية، لما كان يرى نفسه كفؤها بعدده وعديده، وما سلف من قومه في حصارها، فسار من تلمسان يجرّ الشوك والمدر [2] ، خيّم بالرشّة من ساحتها، ومعه أحياء زغبة بجموعهم وظعائنهم من لدن تلمسان إلى بلاد حصين من بني عامر وبني يعقوب وسويد والديالم والعطاف وحصين.
وانحجر أبو العباس بالبلد في شرذمة من الجند أعجله السلطان أبو حمّو عن استكمال الحشد، ودافع أهل البلد أحسن الدفاع، وبعث السلطان أبو العبّاس عن أبي زيّان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمّو من قسنطينة، كان معتقلا بها، وأمر مولاه وقائد عسكره بشيرا أن يخرج معه في العساكر، وساروا حتى نزلوا بني عبد الجبار قبالة معسكر أبي حمو، وكانت رجالات زغبة قد وجموا من السلطان، وأبلغهم النذير أنّه إنّ ملك بجاية اعتقلهم بها، فراسلوا أبا زيّان وركبوا إليه، واعتقدوا معه وخرج رجل البلد بعض الأيام من أعلى الحصن، ودفعوا شرذمة كانت مجمّرة بإزائهم، فاقتلعوا خباءهم، وأسهلوا من تلك العقبة إلى بسيط الرشّة، وعاينهم العرب بأقصى مكانهم من المعسكر فأجفلوا، وتتابع الناس في الانجفال حتى أفردوا السلطان في مخيّمه فحمل رواحله وسار، وغصّت الطرق بزحامهم، وتراكم بعضهم على بعض، فهلك منهم عوالم. وأخذهم سكّان الجبال من البربر بالنهب من كل ناحية، وقد غشيهم الليل، فتركوا أزوادهم ورحالهم. وخلص السلطان ومن خلص منهم بعد غصّ الريق، وأصبحوا على منجاة. وقذفت بهم الطرق من كل ناحية إلى تلمسان، وكان السلطان أبو حمّو قد بلغه خبر خروجي من بجاية، وما أحدثه السلطان بعدي في أهلي ومخلفي، فكتب إليّ يستقدمني قبل هذه الواقعة، وكانت الأمور قد اشتبهت، فتفاديت بالأعذار، وأقمت بأحياء يعقوب بن عليّ. ثم ارتحلت إلى بسكرة فأقمت بها عند أميرها أحمد بن يوسف بن مزني. فلمّا وصل السلطان أبو حمّو إلى تلمسان وقد جزع للواقعة، أخذ في استئلاف قبائل رياح ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية، وخاطبني في ذلك لقرب عهدي باستتباعهم، وملك
[1] الأصح حسوا في ارتغاء: أي يشرب اللبن خفية، ويتظاهر بأنه يأخذ الرغوة، وهو مثل يضرب بمن يظهر أمرا وهو يريد غيره.
[2]
مثل عام ويعني به كثرة جيشه.
زمامهم، ورأى أن يعوّل عليّ في ذلك، واستدعاني لحجابته وعلامته، وكتب بخطّه مدرجة في الكتاب نصّها:
الحمد للَّه على ما أنعم، والشكر للَّه على ما وهب، ليعلم الفقيه المكرّم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، حفظه الله، انك تصل إلى مقامنا الكريم بما خصصناكم به من الرتبة المنيعة، والمنزلة المنيفة، وهو قلم خلافتنا، والانتظام في سلك أوليائنا، وقد أعلمناكم بذلك، وكتب بخطّ يده عبد الله المتوكل على الله، موسى بن يوسف لطف الله به وخار له.
وبعده بخطّ الكاتب ما نصّه: بتاريخ السابع عشر من شهر رجب الفرد الّذي من عام تسع وستين وسبعمائة، عرّفنا الله خيره. ونصّ الكتاب الّذي هذه مدرجته، وهو بخطّ الكاتب: «أكرمكم الله يا فقيه أبا زيد ووالى رعايتكم، إنّا قد ثبت عندنا، وصحّ لدينا ما انطويتم عليه من المحبّة في مقامنا، والانقطاع إلى جنابنا، والتشييع قديما وحديثا لنا، مع ما نعلمه من محاسن اشتملت عليها أوصافكم، ومعارف فقتم فيها نظراءكم، ورسوخ القدم في الفنون العلميّة والآداب العربيّة.
وكانت خطّة الحجابة ببابنا العليّ أسماه الله إلى درجات أمثالكم، وأرفع الخطط لنظرائكم، قربا منّا، واختصاصا بمقامنا، واطّلاعا على خفايا أسرارنا، آثرناكم بها إيثارا، وقدّمناكم لها اصطفاء واختيارا، فاعملوا على الوصول إلى بابنا العليّ أسماه الله لما لكم فيه من التنويه، والقدر النبيه، حاجبا لعليّ بابنا، ومستودعا لأسرارنا، وصاحبا لكريم علامتنا، إلى ما شاكل ذلك من الانعام العميم، والخير الجسيم، والاعتناء والتكريم. لا يشارككم مشارك في ذلك، ولا يزاحمكم أحد، وإن وجد من أمثالكم فأعملوه وعوّلوا عليه، والله تعالى يتولّاكم، ويصل سرّاءكم، ويوالي احتفاءكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .
وتأدّت إليّ هذه الكتب السلطانيّة على يد سفير من وزرائه جاء إلى أشياخ الزواودة في هذا الغرض، فقمت له في ذلك أحسن قيام وشايعته أحسن مشايعة، وحملتهم على إجابة داعي السلطان والبدار إلى خدمته. وانحرف كبراؤهم عن السلطان أبي العبّاس إلى خدمته، والاعتمال في مذاهبه، واستقام غرضه من ذلك، وكان أخي يحيى قد خلص من اعتقاله، وقدم عليّ ببسكرة، فبعثته إلى السلطان أبي حمّو كالنائب عني في الوظيفة، متفاديا عن تجشّم أهوالها بما كنت
نزعت عن غواية الرتب. وطال عليّ إغفال العلم، فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك، وبعثت الهمّة على المطالعة والتدريس، فوصل إليه الأخ فاستكفى به في ذلك، ودفعه إليه.
ووصلني مع هذه الكتب السلطانيّة كتاب رسالة من الوزير أبي عبد الله بن الخطيب من غرناطة يتشوّق إليّ، وتأدّى إلى تلمسان على يد سفراء السلطان ابن الأحمر، فبعث إليّ من هنالك ونصّه:
بنفسي وما نفسي عليّ رخيصة [1]
…
فينزلني عنها المكاس بأثمان
حبيب نأى عنّي وصمّ لا أنثني
…
وراش سهام البين عمدا فأضناني [2]
وقد كان همّ الشّيب لا كان كائنا [3]
…
فقد آدني لما ترحّل همّان
شرعت له من دمع عينيّ موردا
…
فكدّر شربي بالفراق وأظماني
وأرعيّته من حسن عهدي حميّة [4]
…
فأجدب آمالي وأوحش أزماني
حلفت على ما عنده لي من رضى
…
قياسا بما عندي فأحنّث أيماني
وإني على ما نالني منه من قلى
…
لأشتاق من لقياه نعبة ظمآن
سألت جنوني فيه تقريب عرسه
…
فقست بحرّ الشوق جنّ سليمان
إذا ما دعا داع من القوم باسمه
…
وثبت وما استثبت شيمة هيمان
وتاللَّه ما أصغيت فيه لعاذل
…
تحاميته حتى ارعوى وتحاماني
ولا استشعرت نفسي برحمة عابد
…
تظلّل يوما مثله عبد رحمان
ولا شعرت من قبله بتشوّق
…
تخلّل منها بين روح وجثمان
أمّا الشوق فحدّث عن البحر ولا حرج، وأمّا الصبر فسل به أيّة درج، بعد أن تجاوز اللوى [5] والمنعرج، لكن الشدّة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من روح الله الأرج، وأني بالصبر على إبر الزبر [6] لا بل الضّرب الهبر، ومطاولة اليوم والشهر، تحت حكم
[1] وفي نسخة ثانية: بهيّنة.
[2]
وفي نسخة ثانية: فأحماني وأحمى الصيد: رماه فقتله في مكانه.
[3]
وفي نسخة ثانية: كافيا.
[4]
وفي نسخة ثانية: جميمه.
[5]
اللوى: ما التوى من الرمل.
[6]
وفي نسخة ثانية: الدبر أي الزنانير.
القهر، ومن للعين أن تسلو سلوّ القصر عن إنسانها المبصر، أو تذهل ذهول الزاهد عن سرّها الرائي والمشاهد، وفي الجسد مضغة يصلح إذا صلحت، فكيف حاله إن رحلت عنه أو ترحت، وإذا كان الفراق هو الحمام الأوّل، فعلام المعوّل أعيت مراوضة الفراق على الرواق [1] ، وكادت لوعة الاشتياق أن تفضي إلى السياق [2] .
تركتموني بعد تشييعكم
…
أوسع أمر الصبر عصيانا
أقرع سنّي ندما تارة
…
وأستميح الدّمع أحيانا
وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية، وجدّدت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية، أسائل نون النؤى [3] عن أهليه، وهيام المرقد المهجور عن مصطليه، وثاء الأثافي المثلّثة من منازل الموحّدين، وأحار بين تلك الأطلال حيرة الملحدين. لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، كلفت لعمر الله بسائل عن جفوني المؤرقة، ونائم عن شجوني [4] المجتمعة المتفرّقة، ظعن عن ملال، لا متبرّما بشرّ حال [5] وكدر الوصل بعد صفائه، وضرّح النّصل بعد عهد وفائه.
أقل اشتياقا أيها القلب إنّما
…
رأيتك تصفي الودّ من ليس جازيا
فها أنا أبكي عليه بدم أساله، وأندب في ربع الفراق آسى له، وأشكو إليه حال قلب صدعه، وأودعه من الوجد ما أودعه، لما خدعه، ثم قلاه وودّعه، وانشقّ ريّاه أنف ارتياح قد جدعه، واستعديه على ظلم ابتدعه.
«خليليّ فيما عشتما هل رأيتما
…
قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي [6]
فلولا عسى الرجاء ولعلّه، لا بل شفاعة المحلّ الّذي حلّه، لنشرت ألوية العتب، وبثثت كتائبها كمينا في شعاب الكتب، تهزّ من الألفات رماحا هزّ الأسنّة [7] وتوتّر من النونات أمثال القسيّ المرنّة، وتقود من مجموع الطّرس والنقس بلقا تردي في
[1] وفي نسخة ثانية: عمل الرّاق.
[2]
السياق: بداية مفارقة الروح.
[3]
النؤى: الحفير حول الخيمة يمنع عنها المسيل.
[4]
وفي نسخة ثانية: عن همومي.
[5]
وفي نسخة ثانية: لا متبرّما منا بشرّ خلال.
[6]
هذا البيت «لجميل بثينة» وهو جميل بن عبد الله بن معمر العذري.
[7]
وفي نسخة ثانية خزر الأسنة.
الأعنّة، ولكنه أوى إلى الحرم الأمين، وتفيّأ ظلال الجوار المؤمّن من معرّة الغوار عن الشمال واليمين، حرم الخلال المزنيّة، والظلال اليزنيّة، والهمم السنيّة، والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدّنيّة، حيث الرّفد الممنوح، والطير الميامن يزجر لها السنوح والمثوى الّذي إليه مهما تقارع الكرام على الضيفان، حول جوابي الجفان، فهو الجنوح.
نسب كأنّ عليه من شمس الضّحى
…
نورا ومن فلق الصّباح عمودا
ومن حلّ بتلك المثابة فقد اطمأنّ جنبه، وتغمّد بالعفو ذنبه، (وللَّه در القائل) :
فو حقّه لقد انتدبت لوصفه
…
بالبخل لولا أنّ حمصا داره
بلد متى أذكره هيج [1] لوعتي
…
وإذا قدحت الزّند طار شراره
اللَّهمّ غفرا، وأين قراره النخيل، من مثوى الألف البخيل، ومكذبة المخيل، وأين نائية هجر، من متبرئ ممن ألحد وفجر [2]
من أنكر غيث مسودّة [3]
…
في الأرض ينوء بمخلفها
فبنان بني مزنى مزن
…
تنهلّ بلطف مصرّفها
مزن مذحلّ ببسكرة
…
يوما نطقت بمصحفها
شكرت حتى بعبارتها
…
وبمعنها وبأحرفها
ضحكت بأبي العباس من
…
الأيام ثنايا زخرفها
وشكرت الدنيا متى عرفت
…
مزن فيها بمعرّفها [4]
بل نقول لا محل للولد [5] ، لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلّ بهذا البلد، لقد حلّ بينك عرى الجلد، وخلد الشوق بعدك يا ابن خلدون في الصميم من الخلد، فحيّا الله زمانا شفيت في قربك زمانته [6] ، واحتليت في ذروة مجدك جمانته، ويا من لمشوق لم يفض من طول خلّتك لبانته [7] ، وأهلا بروض أضلّت شباب معارفك
[1] وفي نسخة ثانية: تهتج.
[2]
وفي نسخة ثانية: وابن ثانية هجر، من متبوإ من ألحد وفجر.
[3]
وفي نسخة ثانية: من أنكر غيثا منشؤه.
[4]
وفي نسخة ثانية: وتنكّرت الدنيا حتى عرفت منه بمعرّفها.
[5]
وفي نسخة ثانية: يا محلّ الولد.
[6]
بمعنى العامة.
[7]
وفي نسخة ثانية: وقضيت في مرعى خلّتك لبناته.
بانته، فحمائمه بعدك تندب فيساعدها الجندب، ونواسمه ترقّ فتتغاشى، وعشبانه تتهافت وتتلاشى، وأدواحه في ارتباك، وحمائمه في مأتم ذي اشتباك، كأن لم تكن قمرها لات قبابه، ولم يكن أنسك شارع بابه، إلى صفوة الظرف ولبابة، ولم يسبح إنسان عينك [1] في ماء شبابه، فلهفا عليك من درّة اختلستها يد النوى، ومطل بردّها الدّهر ولوى، ونعق غراب بينها في ربوع الهوى، ونطق بالزّجر فما نطق عن الهوى، وبأيّ شيء يعتاض منك أيتها الرّياض، بعد أن طما نهرك الفيّاض، وفهقت [2] الحياض، ولا كان الشانئ المشنوء والحرب المهنوء من قطيع ليل أغار على الصبح فاحتمل، وشارك في الأمر الناقة والجمل، واستأثر جنحه ببدر النادي لمّا كمل، فشرّع [3] الشراع فراع، وواصل الإسراع، فكأنّما هو تمساح النّيل ضايق الأحباب في البرهة، وأختطف بهم من الشط نزهة العين، وعين النزهة، ولجّج بها، والعيون تنظر، والعبر عن الاتباع [4] تخطر، فلم يقدر إلّا على الأسف، والتماح الأثر المنتسف، والرجوع بملء العيبة من الخيبة، ووفر الحبرة [5] من الحسرة، إنّما نشكو إلى الله البثّ والحزن، ونستمطر منه المزن [6] ، وبسيف الرجاء نصول، إذا شرّعت لليأس أسنّة ونصول.
ما أقدر الله أن يدني على شحط
…
من داره الحزن ممّن داره صول
فإن كان كلام [7] الفراق رغيبا، لمّا نويت مغيبا، وجلّلت الوقت الهنيّ تشغيبا، فلعلّ الملتقى يكون قريبا، وحديثه يروى صحيحا غريبا. إيه سيدي كيف حال تلك الشمائل المزهرة المخايل، والشيم الهامية الديم؟ هل يمرّ ببالها من راعت بالبعد باله، وأخمدت بعاصف البين ذباله؟ أو ترثي لمؤق [8] شأنها سكب لا يفتر، وشوق
[1] بؤبؤ العين.
[2]
امتلأت.
[3]
وفي نسخة ثانية: نشر الشراع فراع.
[4]
وفي نسخة ثانية: الغمر عن الاتباع يحظر. والغمر: الماء الكثير.
[5]
وفي نسخة ثانية: الجسرة أي الناقة.
[6]
المزن: السحاب.
[7]
وفي نسخة ثانية: كلم وهو الجرح.
[8]
وفي نسخة ثانية: لشئون.
يبتّ حبال المشوّق [1] ويبتر وضنى تقصر عن حلله الفائقة صنعاء وتستر [2] والأمر أعظم والله يستر، وما الّذي يضيرك صير من بلفح السموم يضيرك [3] ، بعد أن أضرمت وأشعلت وأوقدت، وجعلت، وفعلت فعلتك التي فعلت، إن تترفق بذماء، أو تردّ بنغبة ماء، أرماق ظماء، وتتعاهد المعاهد بتحيّة عليها شذ أنفاسك، أو تنظر إلينا من البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك وسواد أنفاسك، فربّما قنعت الأنفس المحبّة بخيال يزور، وتعلّلت بنوال منذور، ورضيت لما لم تصد العنقاء بزرزور.
يا من ترحّل والرياح لأجله
…
تشتاق أن يعبق شذا ريّاها [4]
تحيا النفوس إذا بعثت تحيّة
…
وإذا قرأت ترى ومن أحياها [5]
ولئن أحييت بها فيما سلف نفوسنا تفديك، والله إلى الخير يهديك، فنحن نقول معشر مودّيك «ثنّ ولا تجعلها بيضة الديك [6] وعذرا فإنّي لم أجترئ على خطابك بالفقرة الفقيرة، وأدللت لديّ محرابك برفع العقيرة، عن نشاط بعث مرسومه [7] ولا اغتباط بالأدب إلّا بسياسة تسوسه، أو في على الفترة ناموسه وانما هو نفاق نفثة المصدور [8] ، وهناء الجرب المجدور، وإن تعلّل به مخارق، فثمّ قياس فارق، والّذي هيّأ هذا القدر وسبّبه، وسهّل المكروه إليّ منه وحبّبه، ما اقتضاه الصّنو يحيى، أمدّ الله حياته، وحرس من الحوادث جهاته [9] ، من خطاب ارتشف لهذه القريحة العديمة بلالتها، بعد أن رضي غلالتها، ورسخ إلى الصهر الحضرميّ سلالتها، فلم يسع إلّا إسعافه، بما أعافه، فأمليت مجيبا ما لا يعدّ في يوم الرهان
[1] وفي نسخة ثانية: حبال الصبر.
[2]
صنعاء: اليمن وتستر مدينة بخوزستان وقد ضبطها ابن خلدون تستر وقد ضبطها ياقوت الحموي تستر (معجم البلدان) .
[3]
وفي نسخة ثانية: صين من لفح السموم نضيرك.
[4]
وفي نسخة ثانية: يشتاق إن هبت شذا رياها.
[5]
وفي نسخة ثانية: وإذا عزمت اقرأ «ومن أحياها» (الآية 32 من سورته المائدة) .
[6]
وفي نسخة ثانية: «ثنّي ولا تجعليها بيضه لدّيك» وهو عجز بيت لبشار بن بر وهو: قد زرتنا زوره في النوم واحدة ثني ولا تجعليها بيضه لدّيك.
[7]
وفي نسخة ثانية: مرموسة والمرموس: المدفون.
[8]
وفي نسخة ثانية: (ولا اعتباط بالأدب تغري بسياسته سوسة، وانبساط أوحى إليّ على الفترة ناموسه، وإنما هو اتفاق جرّته نفثه المصدور) .
[9]
وفي نسخة ثانية: ذاته.
نجيبا، وأسمعته وجيبا لمّا ساجلت بهذه التّرهات سحرا عجيبا، حتى إذا ألف القلم العريان فسحه [1] ، وجمح برذون الغزارة فلم أطق كبحه، لم أفق من غمرة غلوّه وموقف شلوّه [2] ، إلا وقد تحيّز إلى فئتك مغترّا بل معترّا، واستقبلها ضاحكا مفترّا، وهشّ لها برّا، وإن كان من الخجل مصفرّا، وليس بأوّل من هجر، في التماس الوصل ممن هجر، أو بعث التمر إلى هجر [3] ، وأيّ نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في محاورة الأعلام، بعد أن حال الجريض دون القريض [4] ، وشغل المريض عن التعريض، وغلب الشوق الكسل، ونشرت [5] الشعرات البيض كأنها الأسل، تروع برقط الحيّات، سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر، والشباب [6] عند البيات، والشيب الموت العاجل، وإذا ابيضّ زرع صبّحته المناجل، والمعتبر الآجل، وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده، حكم في الظاهر بإبعاده، وأسره في ملكة عاده، فأغض أبقاك الله، وأسمح لمن قصّر عن المطمح، وبالعين الكليلة فالمح، واغتنم لباس ثوب الثّواب، واشف بعض الجوى بالجواب.
تولّاك الله فيما استضفت وملكت، ولا بعدت ولا هلكت، وكان لك أية سلكت، ووسمك من السعادة بأوضح السمات، وأتاح لقاءك من قبل الممات، والسلام الكريم يعتمد حلال [7] ولدي وساكن خلدي، بل أخي وإن اتّقيت عتبة وسيّدي، ورحمة الله وبركاته، من محبّة المشتاق إليه محمد بن عبد الله بن الخطيب في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني من عام سبعين وسبعمائة.
وكان تقدّم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر إليّ، بعث به إلى تلمسان فتأخّر وصوله، حتى بعث به أخي يحيى عند وفادته على السلطان، ونصّ الكتاب.
يا سيدي إجلالا واعتدادا، وأخي ودّا واعتقادا، ومحلّ ولدي شفقة حلت مني
[1] وفي نسخة ثانية: سبحه والسبح: الجري.
[2]
وفي نسخة ثانية: مثلوّه.
[3]
الهجر: الهندي في الكلام والهجر الثانية الفراق، والهجر الثالثة: بلد بالهجرين.
[4]
الجريص: الغصّة بالريق، والقريض: الشعر.
[5]
وفي نسخة ثانية: ونصلت.
[6]
وفي نسخة ثانية: الشيات والشيات ج. شية، وهي سواد في بياض أو بياض في سواد.
[7]
حلال: ج حلة: بيت.
فؤادا. طال عليّ انقطاع أنبائك، واختفاء أخبارك، فرجوت أن أبلغ المنية بهذا المكتوب إليك، وتخترق الموانع دونك، وإن كنت في موالاتك كالعاطش الّذي لا يروى، والآكل الّذي لا يشبع، شأن من تجاوز الحدود الطبيعية، والعوائد المألوفة، فأنا بعد إنهاء التحيّة المطلولة الروض بماء الدموع، وتقرير الشوق القديم اللّزيم، وشكوى البعاد الأليم، والابتهال في إتاحة القرب [1] قبل الفوت من الله ميسّر العسير، ومقرّب البعيد، أسأل عن أحوالك سؤال أبعد الناس مجالا [2] في مجال الخلوص لك، وأشدّهم حرصا على اتّصال سعادتك، وقد اتصل بي في هذه الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك، واستقرارك ببسكرة على الغبطة بك باللجإ إلى تلك الرئاسة الزكيّة، الكريمة الأب، الشهيرة الفضل، المعروفة القدر على البعد، حرسها الله ملجأ للفضلاء، ومخيّما لرجال العلياء، ومهبّا لطيب الثناء، بحول وقوّته، وقاربت كلّ ساح السلامة [3] فاحمدوا الله على الخلاص، وقاربوا في معاملة الآمال، وضنّوا بتلك الذات الفاضلة عن المشاقّ، وأبخلوا بها عن المتالف، فمطلوب الحريص على الدّنيا خسيس، والموانع الحافّة جمّة، والحاصل حسرة، وما قلّ سعي يحمد حاله العاقبة [4] ، والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما آخره الموت، إنّما ينال منه الضروريّ، ومثلك لا يعجزه مع الناس [5] العافية، إضعاف ما يرجى به العمر من المأكل والمشرب، وحسبنا الله.
وإن تشوّفت لحال المحبّ تلك السيادة الفذّة والبنوّة البرّة، فالحال حال من جعل الزّمام بيد القدر، والسير في مهيع الغفلة، والسبح في تيار الشواغل، ومن وراء الأمور غيب محجوب، وأجل مكتوب، يؤمّل فيه عادة الستر من الله، إلّا أنّ الضجر الّذي تعلمونه حفظه الناس لما عجزت الحيلة، وأعوز الناصر [6] وسدّت المذاهب، والشأن اليوم شأن الناس فيما يقرب من الاعتدال.
[1] وفي نسخة ثانية: وسؤال إناحة القرب.
[2]
وفي نسخة ثانية: وفي نسخة ثانية محالا والمحال: التدبير. وال «مجال الاولى تكون مصدرا والمجال الثانية: مكان الجولان.
[3]
وفي نسخة ثانية: وما كل وقت تتاح فيه السلامة.
[4]
وفي نسخة ثانية: وبأقل السعي تحصل حالة العاقية.
[5]
وفي نسخة ثانية: مع التماس العاقية.
[6]
وفي نسخة ثانية: المناص: الملجأ.
وفيما يرجع إلى السلطان تولّاه الله على إضعاف ما باشر سيّدي من الأغياء في البرّ، ووصل سبب الالتحام والاشتمال مع الإقبال [1] وما ينتجه متعوّد الظهور، والحمد للَّه.
وفيما يرجع إلى الأحباب والأولاد فعلى ما علمت الآن الشوق يخامر القلوب، وتصوّر اللّقاء مما يزهد في الوطن، وحاضر النّعم سنّى الله ذلك على أفضل حال، ويسرّه قبل الارتحال من دار المحال.
وفيما يرجع إلى الوطن فأحوال النائم خصبا، وهدنة وظهورا على العدوّ، وحسبك فافتتاح حصن آش وبرغة [2] القاطعة بين بلاد الإسلام، ووبرة [3] والعارين وبيعة [4] وحصن السّهلة في عام. ثم دخل بلد إطريرة بنت إشبيلية عنوة، والاستيلاء على ما يناهز خمسة آلاف من السبي من فتح دار الملك، وبلدة قرطبة، ومدينة جيّان عنوة في اليوم الأغرّ المحجّل، وقتل المقاتلة، وسبي الذرّية، وتعفية الآثار حتى لا يلمّ بها العمران، ثم افتتاح مدينة رندة التي تلف جيّان في ملاءتها، دار التّجر، والرفاهيّة والبنات الحافلة، والنعم الثّرّة، نسأل الله جلّ وعلا أن يصل عوائد نصره، ولا يقطع عنا سيب رحمته، وأن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك والإعانة عليه.
ولم يتزيد من الحوادث إلّا ما علمتم من أخذ الله لنسب [5] السوء، وخبث الأرض، المسلوب من أثر الخير، عمر بن عبد الله، وتحكّم شرّ الميتة في نفسه، وإتيان النكال على حاشيته، والاستئصال على نفيسة [6] ، والاضطراب مستول على الوطن بعده، إلا أنّ القرب على علالته [7] لا يرجحه غيره.
[1] وفي نسخة ثانية: الاستقلال.
[2]
وفي نسخة ثانية حض آشر وبرغه وهو أصحّ وحصص آشر (Lznajar) في الجنوب الشرقي لحص روطة (Rute) على ضفة رافد من روافد شنيل، وقد حرّف فكتب في بعض النسخ (أشب) اما برغه (Burgo) فتقع بين مالقة ورندة (نفح الطيب 6/ 367- 368) .
[3]
وفي نسخة ثانية: وبذة وهي الأصح لأن وبرة من قرى اليمامة وهي بعيدة عن بحثنا هذا أما وبذة فهي مدينة من أعمال شنت بريّة بالأندلس (معجم البلدان) .
[4]
يجمع التلمساني في تفح الطيب بغية وباغة باسم واحد، «وباغة مدينة بالأندلس من كورة البيرة بين المغرب والقبلة منها» . وربما تكون بيغو:«بلد بالأندلس من أعمال جيّان» (معجم البلدان) .
[5]
وفي نسخة ثانية: لنسمة.
[6]
وفي نسخة ثانية: على ذاته.
[7]
وفي نسخة ثانية: إلا أن الغرب على علّاته.
والأندلس اليوم شيخ غزاتها عبد الرحمن بن علي ابن السلطان أبي عليّ، بعد وفاة الشيخ أبي الحسن علي بن بدر الدين رحمه الله. وقد استقرّ بها بعد انصراف سيّدي الأمير المذكور، والوزير مسعود بن رحّو، وعمر بن عثمان بن سليمان.
والسلطان ملك النصارى بطرة قد عاد إلى ملكه بإشبيليّة، وأخوه مجلب عليه بقشتالة وقرطبة مخالفة عليه، قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين على أنفسهم، داعين لأخيه، والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الريح. وخرق الله لهم عوائد في باب الظهور والخير، لم تكن تخطر في الآمال. وقد تلقّب السلطان أيّده الله بعقب هذه المكنّفات بالغنيّ باللَّه وصدرت عنه مخاطبات بمجمل الفتوح ومفصلها يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك الفضائل لو أمكن.
وأمّا ما يرجع إلى ما يتشوّف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت، فصدرت تقاييده، وتفاصيل [1] يقال فيها بعد ما اعتملت تلك السيادة بالانصراف يا إبراهيم ولا إبراهيم اليوم.
منها أنّ كتابا رفع إلى السلطان في المحبّة [2] من تصنيف ابن أبي حجلة من المشارقة فعارضته، وجعلت الموضوع أشرف، وهو محبّة الله [3] ، فجاء كتابا ادّعى الأصحاب غرابته. وقد وجّه إلى الشرق وصحبته كتاب «تاريخ غرناطة» وغيره من تأليفي. وتعرّف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء من مصر، وانتال الناس عليه، وهو في لطافة الإعراض، متكلّف أغراض المشارقة من ملحه:
سلّمت لمصر في الهوى من بلد
…
يهديه هواؤها لدى استنشاقه
من ينكر دعوتي فقل عني له
…
تكفي امرأة العزيز من عشّاقه
والله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجيهه. وصدر عني جزء سمّيته «الغيرة على أهل الحيرة» وجزء سمّيته «حمد الجمهور على السنن المشهور» . والإكباب على اختصار كتاب «التاج [4] » للجوهري وردّ حجمه إلى مقدار الخمس، مع حفظ ترتيبه
[1] وفي نسخة ثانية: تصانيف.
[2]
هو ديوان الصبابة. طبع بمصر سنة 1302 هـ.
[3]
يعني كتابه «روضة التعريف بالحب الشريف وهو من كتب التصوف قلّ ان نجد مثله في المكتبة الإسلامية. راجع نفح الطيب ج 5/ 117 وما بعدها.
[4]
هو كتاب «تاج اللغة وصحاح العربية. وفي مخطوط قديم كتب سنة 851 ذكر اسمه تاج اللغة وسرّ العربية ويعرف بالصحاح أو كتاب الصحيح في اللغة (معجم المطبوعات العربية 1/ 723) .
السّهل، والله المعين على مشغلة نقطع بها هذه البرهة القريبة البداءة من التتمة، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه.
والمطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيّادة والبنوّة، إذ لا يتعذّر وجود قافل من حجّ، أو لاحق بتلمسان يبعثها السيد الشريف منها، فالنفس شديدة التعطّش، والقلوب قد بلغت من الشوق والاستطلاع الحناجر. والله أسأل أن يصون في البعد وديعتي منك لديه، ويلبسك العافية، ويخلّصك وإياي من الورطة، ويحملنا أجمعين على الجادّة. ويختم لنا بالسعادة. والسلام الكريم عودا على بدء، ورحمة الله وبركاته من المحبّ المشوّق الذاكر الداعي ابن الخطيب، في الثاني من جمادى الأولى من عام تسعة وستين وسبعمائة انتهى.
(فأجبته) عن هذه المخاطبات، وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته فلم يكن شأوه يلحق. ونصّ الجواب: سيّدي مجدا وعلوّا، وواحدي ذخرا مرجوّا ومحلّ والدي برّا وحنّوا. ما زال الشوق مذ نأت بي وبك الدار، واستحكم بيننا البعاد، يرعي سمعي أنباءك، ويخيّل إليّ من أيدي الرياح تناول رسائلك، حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع، وعهد غير مضاع وودّ ذي أجناس وأنواع، فنشر بقلبي ميت السلوّ وحشر أنواع المسرّات، وقدح للقائك زناد الأمل، والله أسأل الامتناع [1] بك قبل الفوت على ما يرضيك، ويسني أمانيّ وأمانيك. وحيّيته تحيّة الهائم، لمواقع الغمائم، والمدلج للصّباح المتبلّج، وأملى على معترج الأولياء [2] خصوصا فيك، من اطمئنان الحال، وحسن القرار، وذهاب الهواجس، وسكون النفرة، وعموما في الدولة من رسوخ القدم، وهبوب ريح النصر، والظهور على عدوّ الله باسترجاع الحصون التي استنقذوها في اعتلال الدولة، وتخريب المعاقل التي هي قواعد النصرانيّة، غريبة لا تثبت إلّا في الحلم وآية من آيات الله. وإن خبيئة هذا الفتح في طيِّئ العصور السالفة إلى هذه المدّة الكريمة، لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة، حيث أظهر على يدها خوارق العادة، وما تجد آخر الأيام من معجزات
[1] وفي نسخة ثانية: الامتاع.
[2]
وفي نسخة ثانية: وأملّ على مقترح الأولياء.
الملّة، وكمل فيها والحمد للَّه بحسن التدبير ويمن التعبية [1] ، من حميد الأثر، وخالد الذّكر، طراز في حلّة الخلافة النّصريّة، وتاج في مفرق الوزارة. كتبه الله لك فيما يرضاه الله من عباده.
ووقفت عليه الأشراف من أهل هذا العصر المحروس، وأذعته في الملأ سرورا لعزّ الإسلام وإظهارا للنعمة، واستطرادا لذكر الدولة المولويّة بما تستحقّه من طيب الثناء والتماس الدعاء، والتحديث بنعمتها، والإشادة بفضلها على الدول السالفة والخالفة وتقدّمها، فانشرحت الصدور حباء، وامتلأت القلوب إجلالا وتعظيما، وحسنت الآثار اعتقادا ودعاء.
وكان كتاب سيدي لشرف تلك الدولة عنوانا، ولما عساه يستعجم من نعتي في مناقبها ترجمانا، زاده الله من فضله، وأمتع المسلمين سكون الغريب من الشوق المزعج [2] ، والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفا لتجافي عرمها عن الأمن [3] والتقويض عن دار العزيز المولى المنعم، والسيّد الكريم، والبلد الطيّب، والإخوان البررة، «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير» وإن تشوّفت السيادة الكريمة إلى الحال، فعلى ما علمتم سيرا مع الأمل، ومغالبة للأيام على الحظّ، وإقطاعا للغفلة جانب العمر.
هل نافعي والجدّ في صبب
…
مدى مع الآمال في صعد
رجع الله بنا إليه، ولعلّ في عظتكم النافعة شفاء من هذا الداء، العياء إن شاء الله، وأنّ لطف الله مصاحب من هذه الرئاسة المزنية، وحسبك بها عليه عصمة وافية [4] ، صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدّها منهم كما علمتم، حين تفاقم الخطب، وتلوّن الدهر، والإفلات من مظانّ النكبة، وقد رنّقت [5] حولها بعد ما جرّته الحادثة بمهلك السلطان المرحوم على يد ابن عمّه، قريعة في الملك وقسيمه في النسب، والتياث الجاه، وتغيّر السلطان، واعتقال الأخ المخلّف،
[1] وفي نسخة ثانية: ويمن النقيبة. ويقال رجل ميمون النقيبة أي مظفر المطالب ناجح الفعال.
[2]
وفي نسخة ثانية: وأمتع المسلمين ببقائه، وبثثته شكوى الغريب من السوق المزعج.
[3]
وفي نسخة ثانية: للتجافي عن مهاد الأمن.
[4]
وفي نسخة ثانية: وحسبك بها علمته عصمة وافية.
[5]
رنقت حولها: أي توقفت. وفي نسخة ثانية: رتعت.
واليأس منه لولا تكييف الله في نجائه، والعيث بعده في المنزل والولد، واغتصاب الضياع المقتناة من بقايا ما متّعت به الدولة النّصرية أبقاها الله من النعمة، فآوى إلى الوكر، وساهم في الحادث وأشرك في الجاه والمال، وأعان على نوائب الدهر وطلب الوثر [1] حين رأى الدهر قلاني وأمّل الملوك استخلاصي، وتجاوزوا في إتحافي والله المخلص من عقال الآمال، والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ المورّطة.
وأنبأني سيّدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة في هذه الفتوحات الجليلة، وبودّي لو وقع الإتحاف بها أو بعضها، فلقد عاودني الندم على ما فرّطت.
وأمّا أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم من استقرار السلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى بتونس مستبدّا بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحّدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره، رحمة الله عليه مضايقا في حياته الوطن واحكامه بالعرب، المستظهرين بدعوته، مصانعا لهم بوفرة على أمان الرعايا والسابلة. لو أمكن حسن السياسة جهد الوقت، ومن انتظام بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة خلافا كما علمتم، محمّلا الدولة بصرامته وقوّة شكيمته فوق طوقها، من الاستبداد والضرب على أيدي المستقلين من الأعراب، منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك إلّا ما شمل البلاد من تغلّب العرب ونقص الأرض من الأطراف والوسط، وخمود ذبال [2] الدول في كل جهة وكل بداية إلى تمام.
وأمّا أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه [3] . وأمّا المشرق فأخبار الحاجّ هذه السنة من اختلاله، وانتقاض سلطانه، وانتزاء الجفاة على كرسيّه، وفساد المصانع والسقايات المعدّة لوفد الله وحاجّ بيته، ما يسخن العين ويطيل البثّ، حتى زعموا أنّ الهيعة اتصلت بالقاهرة أياما. وكثر الهرج في أزقّتها وأسواقها لما وقع بين سندمر [4] المتغلّب بعد يلبغا الخاصكي، وبين سلطانه ظاهر القلعة، من الجولة التي كانت دائرتها عليه، أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى، من حاشيته، وموالي يلبغا،
[1] الوثر: الثوب الّذي تجلّل به الثياب فيعلوها. وفي نسخة ثانية طلب الوتر: أي الثأر.
[2]
ذبال ج ذبيلة: الفتيلة.
[3]
سرّه.
[4]
وفي نسخة ثانية: أسندمر وهو الأمير الدوادار الكبير في دولة الأشرف وكان دويدارا عن يلبغا الناصري ثم ثار عليه. مات بالإسكندرية سنة 769 هـ.
وتقبّض على الباقين، فأودع منهم السجون، وصلب الكثير، وقتل سندمر في محبسه، وألقى زمام الدولة بيد كبير من موالي السلطان فقام بها مستبدّا وقادها مستقلّا، وبيد الله تصاريف الأمور ومظاهر الغيوب جلّ وعلا.
ورغبتي من سيّدي أبقاه الله أن لا يغبّ خطابه عني متى أمكن، أن يصل منّته الجمة، وأن يقبّل عني أقدام تلك الذات المولويّة، ويعرّفه بما عندي من التشيع لسلطانه، والشكر لنعمته، وأن ينهي عني لحاشيته وأهل اختصاصه التحيّة المختلسة من أنفاس الرياض، كبيرهم وصغيرهم.
وقد تأدّى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاجّ نافع سلّمه الله تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إيّاه بتلمسان بحضرة السلطان أبي حمّو أيّده الله، فربّما يصل وسيّدي يوضح من ثنائي ودعاني ما عجز عنه الكتاب، والله يبقيكم ذخرا للمسلمين وملاذا للآملين بفضله، والسلام الكريم عليكم، وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب، والأهل والحاشية والأصحاب، من المحبّ فيكم المعتدّ بكم شيعة فضلكم ابن خلدون ورحمة الله وبركاته.
عنوانه سيدي وعمادي وربّ الصائع والأيادي والفضائل الكريمة الخواتم والمبادي إمام الأمّة، علم الأئمّة، تاج الملّة فخر العلماء عماد الإسلام، مصطفى الملوك الكرام، كافل الإمامة، تاج الدول أثير الله، ولي أمير المؤمنين، الغنيّ باللَّه أيّده الله، الوزير أبو عبد الله بن الخطيب أبقاه الله، وتولّى عن المسلمين جزاه.
(وكتب) إليّ من غرناطة: يا سيدي ووليّ وأخي ومحلّ ولدي، كان الله لكم حيث كنتم ولا أعدمكم لطّفه وعنايته، لو كان مستقرّكم بحيث يتأتى إليه ترديد رسول، وإنفاذ مقتطع [1] أو توجيه نائب، لرجعت على نفسي بالأئمة في إغفال حقّكم، ولكن العذر ما علمتم، واحمدوا الله على الاستقرار في كنف ذلك الفاضل الّذي وسعكم كنفه، وشملكم فضله، شكرا للَّه حسبه الّذي لم يخلف وشهرته التي لم تكدّر.
وإني اغتنمت سفر هذا الشيخ وافد الحرمين بمجموع الفتوح [2] في إيصال كتابي
[1] وفي نسخة ثانية: أو ايفاد متطّلع.
[2]
كانت العادة عندهم ان يبعثوا باخبار فتوحهم وتوسعاتهم التي تحصل كل سنة، يرسلونها الى الملوك والسلاطين وإلى الحرم النبوي بوجه خاص، وهذا ما أشار إليه ابن الخطيب.
هذا، وبودّي لو وقفتم على ما لديه من البضاعة التي أنتم رأسها وصدرها، فيكون لكم في ذلك بعض أنس، وربّما تأدّى ذلك في بعضه ممّا لم يختم عليه وظواهر الأمور نحيل عليه في تعريفكم بها، وأما البواطن فممّا لا تتأتى كثرة وجمامة، وأخص ما أظنّ تشوّفكم إليه حالي، فاعلموا أني قد بلغ بي الماء الزبى [1] واستولى عليّ سوء المزاج المنحرف، وتوالت الأمراض، وأعوز الشفاء [2] لبقاء السبب، والعجز عن دفعه، وهي هذه المداخلة جعل الله عاقبتها إلى خير، ولم أترك وجها من وجوه الحيلة إلّا بذلته، فما أغنى عني شيئا، ولولا أني بعدكم شغلت الفكر بهذا التأليف مع الزهد، وبعد العهد، وعدم الإلماع بمطالعة الكتب، لم تتمشّ من طريق فساد الفكر إلى هذا الحدّ، وأخر ما صدر عني كناش [3] سميته باستنزال اللطف الموجود في أسر الوجود. أمليته في هذه الأيام التي أقيم فيها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى الجهاد بودّي لو وقفتم عليه، وعلى كتابي في المحبّة، وعسى الله أن ييسر ذلك.
ومع هذا كله والله ما قصّرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم إمّا من جهة أخيكم أو من جهة السيد الشريف أبي عبد الله، حتى من المغرب إذا سمعت الركب متوجها منه، فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا، والأحوال كلها على ما تركتموها عليه، وأحبابكم بخير على ما علمتم من الشوق والتشوّف. والارتماض على مفارقتكم، ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه.
والله يحفظكم، ويتولّى أموركم، والسلام عليكم ورحمة الله. من المحبّ الواحش ابن الخطيب في ربيع الثاني من عام إحدى وسبعين وسبعمائة.
وبباطنه مدرجة نصّها:
سيّدي رضي الله عنكم استقرّ بتلمسان في سبيل تقلّب ومسارعة مزاج تعرفونه.
صاحبنا المقدّم في الطب أبو عبد الله الشقوري. فإذا اتصل بكم فأعينوه على ما يقف عليه اختياره، وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم.
عنوانه سيدي ومحلّ أخي الفقيه الجليل الصدر الكبير المعظّم الرئيس الحاجب العالم
[1] مثل يضرب للشيء الّذي تجاوز الحد.
[2]
وفي نسخة ثانية: أعوز العلاج.
[3]
كناش: دفتر تقيد فيه الفوائد والشوارد للضبط، يستعمله المغاربة كثيرا الى اليوم. وقد ذكره التلمساني في نفح الطيب باسم «استنزال اللطف الموجود في سر الوجود» . تاج العروس 4/ 347.
ابن خلدون م 37 ج 7
الفاضل الوزير ابن خلدون. وصل الله سعده وحرس مجده بمنّه.
وإنما طوّلت بذكر هذه المخاطبات، وإن كانت فيما يظهر خارجة عن غرض الكتاب لأنّ فيها كثيرا من أخباري وشرح حالي فيستوفي ذلك منها ما يتشوّف إليه من المطالعين للكتاب.
ثم إنّ السلطان أبا حمّو لم يزل معتملا في الإجلاب على بجاية واستئلاف قبائل رياح لذلك، ومعولا علي مشايعتي فيه، ووصل يده مع ذلك بالسلطان أبي إسحاق ابن السلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص، لما كان بينه وبين أخيه صاحب بجاية وقسنطينة من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب والملك، فكان يوفد رسله عليه في كل وقت، ويمرّون بي وأنا ببسكرة فأكّد الوصلة بمخاطبة كل منهما، وكان أبو زيان ابن عمّ السلطان أبي حمّو بعد إجفاله عن بجاية واختلال معسكره قد سار في أثره إلى تلمسان، وأجلب على نواحيها فلم يظفر بشيء، وعاد إلى حصين فأقام بينهم، واشتملوا عليه، ونجم النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط. ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع له الكثير منهم، فخرج في عساكره منتصف تسع وستين وسبعمائة إلى حصين وأبي زيان، واعتصموا بجبل تيطري، وبعث إليّ في استنفار الزواودة للأخذ بحجزتهم من جهة الصحراء، وكتب يستدعي أشياخهم يعقوب بن علي كبير أولاد محمد، وعثمان بن يوسف كبير أولاد سبّاع بن يحيى. وكتب إلى ابن مزنى قعيدة وطنهم بامدادهم في ذلك، فأمدّهم، وسرنا مغرّبين إليه حتى نزلنا القطفا بتل تيطري، وقد أحاط السلطان به من جهة التل، على أنه إذا افرغ من شأنهم سار معنا إلى بجاية، وبلغ الخبر إلى صاحب بجاية أبي العبّاس فعسكر بمن استألف من بقايا قبائل رياح، وعسكر بطرف ثنيّة القطفا المفضية إلى المسيلة. وبينما نحن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة، وهم خالد بن عامر كبير بني عامر، وأولاد عريف كبراء سويد، ونهضوا إلينا بمكاننا من القطفا، فأجفلت أحياء الزواودة، وتأخّرنا إلى المسيلة. ثم إلى الزاب، وسارت زغبة إلى تيطري واجتمعوا مع أبي زيان وحصين وهجموا على معسكر أبي حمّو ففلّوه ورجع منهزما إلى تلمسان.
ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زغبة ورياح يؤمّل الظفر بوطنه وابن عمّه، والكرة على بجاية عاما فعاما، وأنا على حالي في مشايعته، وإيلاف ما بينه وبين الزواودة، والسلطان أبي إسحاق صاحب تونس وابنه خالد من بعده. ثم دخلت
زغبة في طاعته واجتمعوا على خدمته ونهض من تلمسان لشفاء نفسه من حصين وبجاية، وذلك في أخريات إحدى وسبعين وسبعمائة فوفدت عليه بطائفة من الزواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان لنشارف أحواله، ونطالعه بما يرسم له في خدمته، فلقيناه بالبطحاء، وضرب لنا موعدا بالجزائر، انصرف به العرب إلى أهليهم، وتخلّفت بعدهم لقضاء بعض الأغراض واللحاق بهم، وصلّيت به عيد الفطر على البطحاء، وخطبت به وأنشدته عند انصرافه من المصلى تهنئة بالعيد وغرضه [1] :
هذي الديار فحيّهنّ صباحا
…
وقف المطايا بينهنّ طلاحا
لا تسأل الأطلال إن لم تروها
…
عبرات عينك واكفا ممتاحا
فلقد أخذن على جفونك موثقا
…
أن لا يرين مع البعاد شحاحا
إيه على الحيّ الجميع وربّما
…
طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا
ومنازل للظاعنين استعجمت
…
حزنا وكانت بالسرور فصاحا
وهي طويلة، ولم يبق في حفظي منها إلّا هذا.
وبينما نحن في ذلك إذ بلغ الخبر بأنّ السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى من بني مرين قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاتي بمراكش، وكان أخذ بمخنقه منذ حول، وساقه إلى فاس، فقتله بالعذاب، وأنّه عازم على النهوض إلى تلمسان لما سلف من السلطان أبي حمو أثناء حصار السلطان عبد العزيز لعامر في جبله، من الإجلاب على ثغور المغرب، ولحين وصول هذا الخبر، أضرب السلطان أبو حمّو على ذلك الّذي كان فيه، وكرّ راجعا إلى تلمسان. وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء مع شيعة بني عامر من أحياء زغبة، فاستألف وجمع وسدّد الرجال وقضى عيد الأضحى، وطلبت منه الإذن في الانصراف إلى الأندلس لتعذّر الوجهة إلى بلاد رياح، وقد أظلم الجوّ بالفتنة، وانقطعت السبل، فأذن لي وحمّلني رسالة إلى السلطان ابن الأحمر. وانصرفت إلى المرسي بهنين، وجاءه الخبر بنزول صاحب المغرب تازا في عساكره، فأجفل بعدي من تلمسان ذاهبا إلى الصحراء على طريق البطحاء. وتعذّر عليّ ركوب البحر من هنين فأقصرت، وتأدّى الخبر إلى السلطان عبد العزيز بأني مقيم بهنين، وأنّ معي وديعة احتملتها إلى صاحب
[1] وفي نسخة ثانية: أهنيه بالعيد، وأحرّضه.