الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من وفور قسمهم في الملك، واستيلائهم على سلطان المغرب الّذي غلبوا به الدول، واشتملوا الأقطار ونظّموا المشارق إلى المغارب، واقتعدوا كراسي الدول المسامتة لهم بأجمعها ما بين السوس الأقصى إلى إفريقية. والملك للَّه يؤتيه من يشاء من عباده.
فأخذ بنو مرين وبنو عبد الواد من شعوب بني واسين بحظ من الملك أعادوا فيه لزناتة دولة وسلطانا في الأرض، واقتادوا الأمم برسن الغلب، وناغاهم في ذلك الملك البدوي إخوانهم بنو توجين، وكان في هذه الطبقة الثانية بقية أخرى مما ترك آل خزر من قبائل مغراوة الأولى، كانوا موطنين بقرار عزّهم ومنشأ جيلهم بوادي شلف، فجاذبوا هؤلاء القبائل حبل الملك وناغوهم في أطوار الرئاسة، واستطالوا بمن وصل جناحهم من هذه العشائر فتطاولوا إلى مقاسمتهم في الماء [1] ومساهمتهم في الأمر، وما زال بنو عبد الواد في الغضّ من عنانهم وجدع أنوف عصبيتهم حتى أوهنوا من بأسهم، وخصّت الدولة العبد الوادية ثم المرينية بسمة الملك المخلّفة من جناح تطاولهم، وتمحض ذلك كله عن استبداد بني مرين واستتباعهم لجميع هؤلاء العصائب كما نذكر لك الآن دولهم واحدة بعد أخرى، ومصائر هؤلاء القبائل الأربعة التي هي رءوس هذه الطبقة الثانية من زناتة. والملك للَّه يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتقين.
ولنبدأ منها بذكر مغراوة) بقية الطبقة الأولى وما كان لرؤسائهم أولاد منديل من الملك في هذه الطبقة الثانية، كما ستراه إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن أولاد منديل من الطبقة الثانية وما أعادوا لقومهم مغراوة من الملك بموطنهم الأول من شلب وما إليه من نواحي المغرب الأوسط)
لما ذهب الملك من مغراوة بانقراض ملوكهم آل خزر، واضمحلت دولتهم بتلمسان وسجلماسة وفاس وطرابلس، وبقيت قبائل مغراوة متفرقة في مواطنها الأولى بنواحي المغربين وإفريقية بالصحراء والتلول، والكثير منهم بعنصرهم ومركزهم الأول بوطن
[1] وفي نسخة أخرى: الملك.
شلف وما إليه، فكان به بنو ورسيفان وبنو يرنا وبنو ينلت [1] . ويقال إنهم من وترمار وبنو سعيد وبنو زحاك [2] وبنو سنجاس، وربما يقال إنهم من زناتة وليسوا من مغراوة، وكان بنو خزرون الملوك بطرابلس لما انقرض أمرهم، وافترقوا في البلاد، ولحق منهم عبد الصمد بن محمد بن خزرون بجبل أوراس فرارا من أهل بيته هنالك الذين استولوا على الأمر وجدّه خزرون بن خليفة السادس من ملوكهم بطرابلس، فأقام بينهم أعواما. ثم ارتحل عنهم فنزل على بقايا قومه مغراوة بشلف من بني ورسيفان وبني ورتزمين وبني بوسعيد وغيرهم، فتلقّوهم بالمبرّة والكرامة، وأوجبوا له حق البيت الّذي ينسب إليه فيهم، وأصهر إليهم فأنكحوه وكثر ولده وعرفوا بينهم ببني محمد، ثم بالخزريّة نسبة إلى سلفه الأول. وكان من ولده الملقّب أبو ناس بن عبد الصمد بن ورجيع بن عبد الصمد. وكان منتحلا للعبادة والخيرية، وأصهر إليه بعض ولد ماخوخ ملوك بني وماتوا بابنته، فأنكحه إيّاها، فعظم أمره عندهم بقومه ونسبه وصهره. وجاءت دولة الموحدين على أثر ذلك فرمقوه بعين التجلّة لما كان عليه من طرق الخير، فأقطعوه بوادي شلف وأقام على ذلك. وكان له من الولد ورجيع وهو كبيرهم، وغربي ولغريات [3] وماكور، ومن بنت ماخوخ عبد الرحمن، وكان أجلّهم شأنا عنده وعند قومه عبد الرحمن هذا، لما يوجبون له بولادة ماخوخ لأمّه، ويتفرّسون فيه أنّ له ولعقبه ملكا.
وزعموا أنه لما ولد خرجت به أمه إلى الصحراء فألقته إلى شجرة وذهبت في بعض حاجاتها، فأطاف به يعسوب من النحل متواقعين عليه، وبصرت به على البعد فجاءت تعدو لما أدركها من الشفقة، فقال لها بعض العارفين: خففي عنك فو الله ليكوننّ لهذا شأن. ونشأ عبد الرحمن هذا في جوّ هذه التجلّة مدلّا بنسبه وبأسه، وكثرت عشيرته من بني أبيه، واعصوصب عليه قبائل مغراوة، فكان له بذلك شوكة. وفي دولة الموحدين تقدمة، لما كان يوجب لهم على نفسه من الانحياش والمخالطة والتقدّم في مذاهب الطاعة. وكان السادة منهم يمرّون به غزواتهم إلى إفريقية ذاهبين وجائين [4] ، فينزلون منه خير نزل، وينقلبون بحمده والشكر لمذهبه،
[1] وفي النسخة الباريسية: بنو ووترمار وبنو يلتت وفي نسخة ثانية: بنو ووتزمان وبنو ايليت.
[2]
وفي نسخة ثانية: زجاك.
[3]
وفي نسخة ثانية: عزيز ويغريان.
[4]
وفي نسخة ثانية: راجعين.
فيزيد خلفاؤهم اغتباطا به. وأدرك بعض السادة وهو بأرض قومه الخبر بمهلك الخليفة بمراكش، فخلف الذخيرة والظهر، وأسلمها لعبد الرحمن هذا، ونجا بدمائه بعد أن صحبه إلى تخوم وطنه، فكانت له بها ثروة أكسبته قوّة وكثرة فاستركب من قومه، واستكثر من عصابته وعشيرته. وهلك خلال ذلك وقد فشل ريح بني عبد المؤمن وضعف أمر الخليفة بمراكش.
(وكان له من الولد) منديل وتميم، وكان أكبرهما منديل، فقام بأمر قومه على حين عصفت رياح الفتنة، وسما لمنديل أمل في التغلّب على ما يليه، فاستأسد في عرينه وحامي عن أشباله. ثم فسح خطوته إلى ما جاوره من البلاد فملك جبل وانشريس والمريّة وما إلى ذلك واختط قصبة مرات. وكان بسيط متيجة لهذا العهد في العمران آهلا بالقرى والأمصار.
(ونقل الأخباريون) أنّ أهل متيجة لذلك العهد يجمعون في ثلاثين مصرا فجاس خلالها وأوطأ الغارات ساحتها وخرّب عمرانها حتى تركها خاوية على عروشها. وهو في ذلك يوهم التمسّك بطاعة الموحدين، وأنه سلم لمن سالمهم حرب لمن عاداهم. وكان ابن غانية منذ غلبه الموحدون عن إفريقية قد أزاحوه إلى قابس وما إليها، فنزل الشيخ أبو محمد بن أبي حفص بتونس ودفعه إلى إفريقية إلى أن هلك سنة ثمان عشرة وستمائة فطمع يحيى بن غانية في استرجاع أمره وسبق إلى الثغور والأمصار يعبث فيها ويخرّبها، ثم تجاوز إفريقية إلى بلاد زناتة وشنّ عليها الغارات واكتسح البسائط، وتكرّرت الوقائع بينه وبينهم، فجمع له منديل بن عبد الرحمن ولقيه بمتيجة، وكانت الدبرة عليه وانفضت عنه مغراوة، فقتله ابن غانية صبرا سنة اثنتين أو ثلاث وعشرين وستمائة وتغلّب على الجزائر أثر نكبته، فصلب شلوه بها وصيره مثلا للآخرين. وقام بأمره في قومه بنوه، وكان منجبا فكان لهم العدد والشرف، وكانوا يرجعون في أمرهم إلى كبيرهم العبّاس، فتقلّد [1] مذاهب أبيه واقتصر على بلاد متيجة. ثم غلبهم بنو توجين على جبل وانشريس وضواحي المريّة وما إلى ذلك.
وانقبضوا إلى مركزهم الأوّل شلف، وأقاموا فيها ملكا بدويا لم يفارقوا فيه الظعن والخيام والضواحي والبسائط. واستولى على مدينة مليانة وتنس وبرشك وشرشال
[1] وفي نسخة ثانية: فتقبّل مذاهب أبيه وأقصر على بلاد متيجة.
مقيمين فيها للدعوة الحفصيّة واختطوا قرية مازونة.
(ولما استوسق) الملك بتلمسان ليغمراسن بن زيان، واستفحل سلطانه بها وعقد له عليها ولأخيه من قبله عبد المؤمن، سما على التغلّب على أعمال المغرب الأوسط، وزاحم بني توجين وبني منديل هؤلاء بمكناسة فلفتوا وجوههم جميعا إلى الأمير أبي زكريا بن أبي حفص مديل الدولة بإفريقية من بني عبد المؤمن، وبعثوا إليه الصريخ على يغمراسن، فاحتشد لهم جميع الموحدين والعرب، وغزا تلمسان وافتتحها كما ذكرناه.
ولما قفل إلى الحضرة عقد في مرجعه لأمراء زناتة كل على قومه ووطنه، فعقد للعبّاس ابن منديل على مغراوة، ولعبد القوي على توجين ولا ولاد حورة [1] على ملكيش، وسوّغ لهم اتخاذ الآلة فاتخذوها بمشهد منه. وعقد العبّاس السلم مع يغمراسن، ووفد عليه بتلمسان فلقاه مبرّة وتكريما، وذهب عنه بعدها مغاضبا. يقال إنه تحدّث بمجلسه يوما فزعم أنه رأى فارسا واحدا يقاتل مائتين من الفرسان، فنكر ذلك من سمعه من بني عبد الواد وعرّضوا بتكذيبه، فخرج العبّاس لها مغاضبا حتى أتى بقومه، وأتى يغمراسن مصداق قوله، فإنه كان يعني بذلك الفارس نفسه.
وهلك العبّاس لخمس وعشرين سنة بعد أبيه سنة سبع وأربعين وستمائة وقام بالأمر بعده أخوه محمد بن منديل وصلحت الحال بينه وبين يغمراسن وصاروا إلى الاتفاق والمهادنة، ونفر معه بقومه مغراوة إلى غزو المغرب سنة كلومان [2] وهي سنة سبع وأربعين وستمائة، هزمهم فيها يعقوب بن عبد الحق فرجعوا إلى أوطانهم وعاودوا شأنهم في العداوة. وانتقض عليهم أهل مليانة وخلعوا الطاعة الحفصيّة.
(وكان من خبر) هذا الانتقاض أنّ أبا العباس أحمد الملياني كان كبير وقته علما ودينا ورواية، وكان عالي السند في الحديث فرحل إليه الأعلام، وأخذ عنه الأئمة وأوفت به الشهرة على ثنايا السيادة، فانتهت إليه رياسة بلده على عهد يعقوب المنصور وبنيه. ونشأ ابنه أبو عليّ في جوّ هذه العناية وكان جموحا للرئاسة طامحا للاستبداد، وهو مع ذلك خلو من المغارم. فلمّا هلك أبوه جرى في شأو رياسته طلقا، ثم رأى ما بين مغراوة وبني عبد الواد من الفتنة، فحدّثته نفسه بالاستبداد ببلده، فجمع لها
[1] وفي النسخة الباريسية: حتورة وفي نسخة ثانية: حبورة.
[2]
وفي نسخة اخرى: كلدمان.
جراميزه، وقطع الدعاء للخليفة المستنصر سنة تسع وخمسين وستمائة، وبلغ الخبر الى تونس فسرّح الخليفة أخاه في عسكر من الموحدين في جملته «دون الديك بن هرنزة [1] » من آل أدفونش ملوك الجلالقة، كان نازعا إليه عن أبيه في طائفة من قومه، فنازلوا مليانة أياما. وداخل السلطان طائفة من مشيخة البلد المنحرفين عن ابن الملياني، فسرّب إليهم جنودا بالليل واقتحموها من بعض المداخل، وفرّ أبو عليّ الملياني تحت الليل. وخرج من بعض قنوات البلد، فلحق بأحياء العرب، ونزل على يعقوب بن موسى بن العطاف من بطون زغبة، فأجاره إلى أن لحق بعدها بيعقوب بن عبد الحق، فكان من أمره ما ذكرناه في أخبارهم. وانصرف عسكر الموحدين والأمير أبو حفص إلى الحضرة، وعقد لمحمد بن منديل على مليانة، فأقام بها الدعوة الحفصية على سنن قومه. ثم هلك محمد بن منديل سنة اثنتين وستين وستمائة لخمس عشرة من ولايته، قتله أخواه ثابت وعابد بمنزل ظواعنهم بالخيس [2] من بسيط بلادهم، وقتل معه عطية ابن أخيه منيف وتولّى عابد وشاركه ثابت في الأمر، واجتمع إليه قومه وتقطع ما بين أولاد منديل وخشّنت صدورهم. واستغلظ يغمراسن بن زيان عليهم، وداخله عمر بن منديل في أن يمكّنه من مليانة، ويشدّ عضده على رياسة قومه، فشارطه على ذلك وأمكنه من أزمّة البلد سنة ثمان وستين وستمائة ونادى بعزل ثابت ومؤازرة عمر على الأمر فتمّ لهما ما أحكماه من أمرهما في مغراوة. واستمكن بها يغمراسن من قيادة قومه. ثم تناغى أولاد منديل في الازدلاف إلى يغمراسن بمثلها نكاية لعمر، فاتفق ثابت وعابد أولاد منديل أن يحكماه من تونس [3] فأمكناه منها سنة اثنتين وسبعين وستمائة على اثني عشر ألفا من الذهب.
واستمرّت ولاية عمر إلى أن هلك سنة ست وسبعين وستمائة، فاستقل ثابت بن منديل برياسة مغراوة، وأجاز عابد أخوه إلى الأندلس للرباط والجهاد مع صاحبيه زيّان بن محمد بن عبد القوي وعبد الملك بن يغمراسن فحوّل زناتة واسترجع ثابت بلاد تونس ومليانة من يد يغمراسن، ونبذ إليه العهد، ثم استغلظ يغمراسن عليهم واستردّ تونس سنة إحدى وثمانين وستمائة بين يدي مهلكه.
[1] وفي نسخة اخرى: دون الريك بن هراندة.
[2]
وفي نسخة اخرى: بالخميس.
[3]
وفي نسخة ثانية: في تنس.
(ولما) هلك يغمراسن وقام بالأمر بعده ابنه عثمان انتقضت عليه تونس، ثم ردّد الغزو إلى بلاد توجين ومغراوة حتى غلبهم آخرا على ما بأيديهم، وملك المرية بمداخلة بني لمدية أهلها سنة سبع وثمانين وستمائة وغلب ثابت بن منديل على مازونة، فاستولى عليها ثم نزل له عن تونس أيضا فملكها. ولم يزل عثمان مراغما لهم إلى أن زحف إليهم سنة ثلاث وتسعين وستمائة فاستولى على أمصارهم وضواحيهم، وأخرجهم عنها وألجأهم إلى الجبال. ودخل ثابت بن منديل إلى برشك ممانعا دونها، فزحف إليهم عثمان وحاصره بها حتى إذا استيقن أنه محاط به [1] ، ركب البحر إلى المغرب، ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين صريخا سنة أربع وتسعين وستمائة فأكرمه ووعده بالنصرة من عدوّه، وأقام بفاس وكانت بينه وبين ابن الأشهب من رجالات بني عسكر صحبة ومداخلة، فجاءه بعض الأيام الى منزله، ودخل عليه من غير استئذان وكان ابن الأشهب ثملا، فسطا به وقتله وثأر السلطان به منه، وانفجع لموته. وكان ثابت بن منديل قد أقام ابنه محمد الأمير في قومه، وولّاه عليهم لعهده واستبدّ بملك مغراوة دونه.
(ولما انصرف) أبوه ثابت إلى قومه أقام هو في إمارته على مغراوة. وهلك قريبا من مهلك أبيه، فقام بأمرهم من بعده شقيقه عليّ، ونازعه الأمر أخواه رحمون ومنيف، فقتله منيف ونكر ذلك قومهما وأبوا من إمارتهما عليهم، فلحقا بعثمان بن يغمراسن فأجازهما إلى الأندلس.
(وكان) أخوهما معمّر بن ثابت قائدا على الغزاة بالعزة [2] فنزل لمنيف عنها، فكانت أوّل ولاية وليها بالأندلس. ولحق بهم أخوهم عبد المؤمن فكانوا جميعا هنالك ومن أعقاب عبد المؤمن يعقوب بن زيان بن عبد المؤمن، ومن أعقاب منيف [3] بن عمر بن منيف وجماعة منهم لهذا العهد بالأندلس.
(ولما هلك) ثابت بن منديل سنة أربع وتسعين وستمائة كما قلناه، كفل السلطان ولده وأهله، وكان فيهم حافده راشد بن محمد، فأصهر إليه في أخته فأنكحه إياها.
ونهض إلى تلمسان سنة ثمان وتسعين وستمائة فأناخ عليها، واختطّ مدينته لحصارها
[1] وفي نسخة ثانية: انه محيط به.
[2]
كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: بالبغيرة، وفي نسخة ثانية بالنغيرة.
[3]
بياض بالأصل ولم نستطع معرفة اسم ابن عمر هذا في المراجع التي بين أيدينا.
وسرّح عساكره في نواحيها، وعقد على مغراوة وشلف لعمر بن يعزن [1] بن منديل، وبعث معه جيشا ففتح مليانة وتونس ومازونة سنة تسع وتسعين وستمائة ووجد راشد في نفسه إذ لم يوله على قومه، وكان يرى أنه الأحق لنسبه وظهره، فنزع عن السلطان ولحق بجبال متيجة ودسّ إلى أوليائه من مغراوة حتى وجد فيهم الدخلة، فأجدّ [2] السير ولحق بهم، فافترق أمر مغراوة، وداخل أهل مازونة فانتقضوا على السلطان وبيّت عمر بن ويعزن بأزمور [3] من ضواحي بلادهم فقتله، واجتمع عليه قومه وسرّح السلطان إليه الكتائب من بني عسكر لنظر الحسن بن عليّ بن أبي الطلاق، ومن بني ورتاجن لنظر عليّ بن محمد الخير، ومن بني توجين لنظر أبي بكر بن إبراهيم بن عبد القوي. ومن الجند لنظر علي بن حسّان الصبحي من صنائعه، وعقد على مغراوة لمحمد بن عمر بن منديل، وزحفوا إلى مازونة وقد ضبطها راشد، وخلّف عليها عليّا وحمّوا ابني عمه يحيى بن ثابت. ولحق هو ببني بو سعيد مطلا عليهم وأناخت العساكر على مازونة، ووالوا عليها الحصار سنين حتى أجهدوهم. وبعث عليّ بن يحيى أخاه حمّو إلى السلطان من غير عهد فتقبّض عليه. ثم اضطره الجهد إلى مركب الغرور فخرج إليهم ملقيا بيده سنة ثلاث وسبعمائة وأشخصوه إلى السلطان فعفا عنه واستبقاه، واحتسبها تأنيسا واستمالة لراشد ثم سرّح العساكر الى قاصية الشرق لنظر أخيه أبي يحيى بن يعقوب، فنازل راشد بن محمد في معقل بني بوسعيد، وطال حصاره إياه، وأمكنته الغرّة بعض الأيام في العساكر، وقد تعلقوا بأوعار البلد زاحفين إليه فهزمهم. وهلك في تلك الواقعة خلق من بني مرين وعساكر السلطان، وذلك سنة أربع وسبعمائة. وبلغ الخبر الى السلطان فأحفظه ذلك عليهم، وأمر بابن عمّه علي بن يحيى وأخيه حمّو ومن معهم من قومهم، فقتلوا رشقا بالسهام واستلحمهم.
[1] كذا في النسخة الباريسية ويعزن وفي نسخة ثانية: ويغرن.
[2]
كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: فأغذّ.
[3]
سمّاها ياقوت في معجم البلدان أزمورة بثلاث ضمات وكذلك ابن حوقل. وأزمور مدينة صغيرة على شاطئ المحيط الأطلنطي بين الدار البيضاء والجديدة على ضفة وادي أم الربيع، تعتبر مركزا مهما لقبائل.
الحوزية وشتوكه بدكاله. ويرجع تاريخها الى العصور القديمة حيث عرفها الفينيقيون. (تقع المدينة على بعد 2 كلم من الشاطئ و 17 كلم من الجديدة و 80 كلم من البيضاء) . (المعجم التاريخي 3- كتاب المغرب/ 42.
ثم سرّح أخاه أبا يحيى بن يعقوب ثانية سنة أربع وسبعمائة فاستولى على بلاد مغراوة، ولحق راشد بجبال صنهاجة من متيجة، ومعه عمّه منيف بن ثابت ومن اجتمع إليهم من قومهم، فنازلهم أبو يحيى بن يعقوب. وراسل راشد يوسف بن يعقوب فانعقدت بينهما السلم، ورجعت العساكر عنهم. وأجاز منيف بن ثابت معه بنيه وعشيرته إلى الأندلس، فاستقرّوا هنالك آخر الأيام.
(ولمّا هلك) يوسف بن يعقوب بمناخه على تلمسان آخر سنة ست وسبعمائة انعقدت السلم بين حافده أبي ثابت وبين أبي زيّان بن عثمان سلطان بني عبد الواد على أن يخلي له بنو مرين عن جميع ما ملكوه من أمصارهم وأعمالهم وثغورهم، وبعثوا في حاميتهم وعمّالهم وأسلموها لعمّال أبي زيّان. وكان راشد قد طمع في استرجاع بلاده، وزحف إلى مليانة فأحاط بها. فلما نزل عنها بنو مرين لأبي زيّان وصارت مليانة وتونس له، أخفق سعي راشد وأفرج عن البلد. ثم كان مهلك أبي زيّان قريبا، وولّى أخوه أبو حمّو موسى بن عثمان واستولى على المغرب الأوسط فهلك تافريكت [1] سنة سبع وسبعمائة وملك بعدها مليانة والمريّة، ثم ملك تونس وعقد عليها لمولاه مسامح، وقارن ذلك حركة صاحب بجاية السلطان أبي البقاء خالد ابن مولانا الأمير أبي زكريا ابن السلطان أبي إسحاق إلى متيجة لاسترجاع الجزائر من يد ابن علان الثائر بها عليهم، فلقيه هنالك راشد بن محمد وصار في جملته وظاهره على شأنه. ولقاه السلطان تكرمة وبرّا، وعقد له ولقومه حلفا مع صنهاجة أولياء الدولة والمتغلّبين على ضاحية بجاية وجبال زواوة، فاتصلت يد راشد بيد زعيمهم يعقوب بن خلوف أحد زعماء الدولة.
ولما نهض السلطان للاستيثار بملك الحضرة بتونس، استعمل يعقوب بن خلوف على بجاية وعسكر معه راشد بقومه، وأبلى في الحروب بين يديه وأغنى في مظاهرة أوليائه حتى إذا ملك حضرتهم واستولى على تراث سلفهم، أسف حاجب الدولة راشد هذا وقومه بإمضاء الحكم في بعض حشمه، وتعرّض للحرابة في السابلة، فتقبّض عليه ورفع إلى سدّة السلطان فأمضى فيه حكم الله. وذهب راشد مغاضبا ولحق بوليّه ابن خلوف ومضطربه من زواوة. وكان يعقوب بن خلوف قد هلك وولّى السلطان مكانه
[1] وفي نسخة أخرى: تافركينت.
ابنه عبد الرحمن، فلم يرع حق أبيه في إكرام صديقه راشد. وتشاجر معه في بعض الأيام مشاجرة نكر عبد الرحمن فيها ملاحاة راشد له، وأنف منها، وأدلّ فيها راشد بمكانه من الدولة وببأس قومه، فلدغه بالقول وتناوله عبد الرحمن وحشمه وخزا بالرماح إلى أن أقعصوه [1] وانذعر جمع مغراوة ولحقوا بالثغور القاصية، وأقفر منهم شلف وما إليه كأن لم يكونوا به فأجاز منهم بنو منيف وبنو يعزن إلى الأندلس للمرابطة بثغور المسلمين، فكانت منهم عصابة موطّنة هناك أعقابهم لهذا العهد. وأقام في جوار الموحّدين فلّ آخر من أوساط قومهم كانوا شوكة في عساكر الدولة إلى أن انقرضوا ولحق علي بن راشد بعمّته في قصر بني يعقوب بن عبد الحق فكفلته، وصار أولاد منديل عصبا إلى وطن بني مرين فتولّوهم وأحسنوا جوارهم، وأصهروا إليهم سائر الدولة، إلى أن تغلّب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط ومحا دولة آل زيّان، وجمع كلمة زناتة، وانتظم مع بلادهم بلاد إفريقية وعمل الموحدين وكانت نكبته على القيروان سنة تسع وأربعين وسبعمائة كما شرحناه قبل. فانتقضت العمالات والأطراف وانتزى أعياص الملك بمواطنهم الأولى، فتوثّب عليّ بن راشد بن محمد ابن ثابت بن منديل على بلاد شلف وتملّكها وتغلّب على أمصارها مليانة وتنس وبرشك وشرشال، وأعاد ما كان لسلفه بها من الملك على طريقتهم البدوية، وأرهفوا حدّهم لمن طالبهم من القبائل.
وخلص السلطان أبو الحسن من ورطته إلى إفريقية، ثم من ورطة البحر من مرسى الجزائر إلى بجاية يحاول استرجاع ملكه المفرّق، فبعث إلى عليّ بن راشد وذكّره ذمّتهم فتذكر وحنّ، واشترط لنفسه التجافي له عن ملك قومه بشلف على أن يظاهره على بني عبد الواد فأبى السلطان أبو الحسن من اشتراط ذلك له، فتحيّز عنه إلى فينة بني عبد الواد الناجمين بتلمسان كما ذكرناه قبل، وظاهرهم عليه وبرز إليهم السلطان أبو الحسن من الجزائر والتقى الجمعان بشربونة [2] سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فاختلف مصافّ السلطان أبي الحسن وانهزم جمعه، وهلك ابنه الناصر، طاح دمه في مغراوة وهؤلاء. وخرج إلى الصحراء ولحق منها بالمغرب الأقصى كما نذكره بعد.
وتطاول الناجمون بتلمسان من آل يغمراسن الى انتظام بلاد مغراوة في ملكهم كما كان
[1] قال الجوهري: يقال ضربه فاقعصه أي قتله مكانه.
[2]
كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: شربوبة وفي نسخة ثانية: شدبونة.
لسلفهم، فنهض إليهم بعساكر بني عبد الواد رديف سلطانهم وأخوه أبو ثابت الزعيم ابن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن، فأوطأ قومه بلاد مغراوة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة وفلّ جموعهم وغلبهم على الضاحية والأمصار. وأحجر عليّ بن راشد بتنس في شرذمة من قومه، وأناخ بعساكره عليه وطال الحصار ووقع الغلب ولما رأى علي بن رشد أن قد أحيط به دخل الى زاوية من زوايا قصره انتبذ فيها عن الناس وذبح نفسه بحدّ حسامه، وصار مثلا وحديثا للآخرين. واقتحم البلد لحينه، واستلحم من عثر عليه من مغراوة، ونجا الآخرون إلى أطراف الأرض، ولحقوا بأهل الدول فاستركبوا واستلحقوا وصاروا جندا للدول وحشما وأتباعا، وانقرض أمرهم من بلاد شلف.
ثم كانت لبني مرين الكرّة الثانية إلى تلمسان، وغلبوا آل زيّان ومحوا آثارهم. ثم فاء ظلّهم بملك السلطان أبي عنّان، وحسر تيارهم، وجدّد الناجمون من آل يغمراسن دولة ثانية بمكان عملهم على يد أبي حمّو الأخير ابن موسى بن يوسف كما نذكره في أخبارهم. ثم كانت لبني مرين الكرّة الثالثة إلى بلاد تلمسان، ونهض السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن إليها فدخلها فاتح سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة وسرّح عساكره في اتباع أبي حمو الناجم بها من آل يغمراسن حين فرّ أمامه في قومه وأشياعه من العرب كما يأتي ذلك كله. ولما انتهت العساكر إلى البطحاء تلوموا هنالك أياما لإزاحة عللهم. وكان في جملتهم صبيّ من ولد عليّ بن راشد الذبيح اسمه حمزة، ربّي يتيما في حجر دولتهم لذمام الصهر الّذي لقومه فيهم، فكفلته نعمهم وكنفه جوّهم، حتى شبّ واستوى وسخط رزقه في ديوانهم وحاله بين ولدانهم، واعترض بعض الأيام قائد الجيوش الوزير أبا بكر بن غازي شاكيا، فجبهه وأساء ردّه، فركب الليل ولحق بمعقل بني بو سعيد من بلاد شلف فأجاروه ومنعوه، ونادى بدعوة قومه فأجابوه، وسرّح إليه السلطان وزيره عبد العزيز عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة كبير يتريعن [1] في جيش كثيف من بني مرين والجند فنزل بساحة ذلك الجبل حولا كريتا [2] فحاصرهم ينال منهم وينالون منه، وامتنعوا عليه واتهم السلطان وزيره بالمداهنة، وسعى به منافسوه، فتقبّض عليه، وسرّ وزيره الآخر أبا بكر بن غازي، فنهض يجرّ العساكر الضخمة والجيوش الكثيفة إلى أن نزل
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: تيربيغين.
[2]
قال الجوهري: سنة كريت أي سنة تامة..
بهم وصبحهم القتال، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأنزلهم من معقلهم. وفرّ حمزة بن عليّ في فلّ من قومه، فنزل ببلاد حصين المنتقضين كانوا على الدولة مع أبي زيّان بن أبي سعيد الناجم من آل يغمراسن حسبما نذكره. وأتى بنو أبي سعيد طاعتهم، وأخلصوا الضمائر في مغبتها فحسن موقعهم وبدأ حمزة في الرجوع إليهم فأغذّ السير في لمّة من قومه، حتى إذا ألمّ بهم نكروه لمكان ما اعتقلوا به من حبل الطاعة، فتساهل إلى البسائط وقصد تيمروغت [1] يظنّ بها غرّة ينتهزها، فبرز إليه حاميتها ففلّوا حدّة وردّوه على عقبه، وتسابقوا في اتباعه إلى أن تقبّضوا عليه، وقادوه إلى الوزير ابن غازي بن الكاس. فأوعز إليه السلطان بقتله مع جملة أصحابه، فضربت أعناقهم، وبعث بها إلى سدّة السلطان وصلب أشلاؤهم على خشب مسندة نصبها لهم ظاهر مليانة، ومحّى أثر مغراوة، وانقرض أمرهم وأصبحوا خولا للأمراء، وجندا في الدول، وأوزاعا في الأقطار كما كانوا قبل هذه الدولة الأخيرة لهم. والبقاء للَّه وحده، وكل شيء هالك إلّا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون لا ربّ غيره ولا معبود سواه وهو على كل شيء قدير.
[1] كذا في النسخة الباريسية، وفي نسخة أخرى: تيمزوغت.