الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الخبر عن آل زيري بن عطية ملوك فاس وأعمالها من الطبقة الأولى من مغراوة وما كان لهم بالمغرب الأقصى من الملك والدولة ومبادئ ذلك وتصاريفه)
كان زيري هذا أمير آل خزر في وقته، ووارث ملكهم البدوي، وهو الّذي مهّد الدولة بفاس والمغرب الأقصى وأورثها بنيه إلى عهد لمتونة حسبما نستوفي في شرحه.
واسمه زيري بن عطية بن عبد الرحمن بن خزر وجدّه عبد الله أخو محمد داعية الناصر الّذي هلك بالقيروان كما ذكرناه. وكانوا أربعة إخوة محمد ومعبد الّذي قتله إسماعيل وفلفول الّذي خالف محمدا إلى ولاية الشيعة وعبد الله هذا وكان يعرف بأمه واسمها تبادلت. وقد قيل إنّ عبد الله هذا هو ابن محمد بن خزر، وأخوه حمزة بن محمد الهالك في حربه مع ميسور عند فتح تاهرت. ولما هلك الخير بن محمد كما قلناه بيد بلكّين سنة إحدى وستين وثلاثمائة وارتحلت زناتة إلى ما وراء ملوية من المغرب الأقصى، وصار المغرب الأوسط كلّه لصنهاجة، واجتمع مغراوة إلى بقية آل خزر وأمراؤهم يومئذ محمد بن خير المذكور ومقاتل وزيري ابنا مقاتل بن عطية بن عبد الله وخزرون بن فلفول.
ثم كان ما ذكرناه من ولاية بلكّين بن زيري على إفريقية، وزحف إلى المغرب الأقصى زحفه المشهور سنة تسع وستين وثلاثمائة وأجفلت أمامه ملوك زناتة من بني خزر وبني محمد بن صالح، وانحازوا جميعا إلى سبتة. وأجاز محمد بن الخير البحر إلى المنصور بن أبي عامر صريخا، فخرج المنصور في عساكره إلى الجزيرة ممدّا لهم بنفسه. وعقد لجعفر بن علي على حرب بلكّين، وأجازه البحر وأمدّه بمائة حمل من المال، فاجتمعت إليه ملوك زناتة وضربوا مصافهم بساحة سبتة. وأطلّ عليهم بلكين من جبل تطاون [1] فرأى ما لا قبل له به فارتحل عنهم، وأشغل نفسه بجهاد برغواطة إلى أن هلك منصرفا من المغرب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة كما ذكرناه.
وعاد جعفر بن علي إلى مكانه من الحضرة، وساهمه المنصور في حمل الرئاسة وبقي
[1] تطوان: قبائل المغرب/ 140. وفي نسخة أخرى تيطاوين.
المغرب غفلا من الولاية، واقتصر المنصور على ضبط سبتة ووكّل إلى ملوك زناتة دفاع صنهاجة وسائر أولياء الشيعة. وقام يبلو طاعنتهم إلى أن قام بالمغرب الحسن بن كنون من الأدارسة، بعثه العزيز نزار من مصر لاسترجاع ملكه بالمغرب، وأمدّه بلكين بعسكر من صنهاجة وهلك على تفيئة ذلك بلكّين، ودعا الحسن إلى أمره بالمغرب، وانضمّ إليه بدوي [1] بن يعلى بن محمد اليفرني وأخوه زيري وابن عمه أبو يداس فيمن إليهم من بني يفرن، فسرّح المنصور لحربه ابن عمّه أبا الحكم عمرو بن عبد الله بن أبي عامر الملقّب عسكلاجه، وبعثه بالعساكر والأموال فأجاز البحر وانحاش إليه ملوك آل خزر محمد بن الخير، ومقاتل وزيري ابنا عطية، وخزرون بن فلفول في جميع مغراوة، وظاهروه على شأنه.
وزحف بهم أبو الحكم بن أبي عامر إلى الحسن بن كنون حتى ألجئوه إلى الطاعة، وسأل الأمان على نفسه فعقد له عمرو بن أبي عامر ما رضيه من ذلك، وأمكن به من قياده، وأشخصه إلى الحضرة فكان من قتله وإخفار ذمّة أبي الحكم بن أبي عامر وقتله بعده ما تقدّم حسبما ذكرنا ذلك من قبل.
وكان مقاتل وزيري ابنا عطية من بين ملوك زناتة أشدّ الناس انحياشا للمنصور قياما بطاعة المروانية. وكان بدوي بن يعلى وقومه بنو يفرن منحرفين عن طاعتهم. ولما انصرف أبو الحكم بن أبي عامر من المغرب عقد المنصور عليه للوزير حسن بن أحمد ابن عبد الودود السلمي وأطلق يده في انتقاء الرجال والأموال فأنفذه إلى عمله سنة ست وسبعين وثلاثمائة وأوصاه بملوك مغراوة من زناتة، واستبلغ بمقاتل وزيري من بنيهم لحسن انحياشهم وطاعتهم، وأغراه ببدوي بن يعلى المضطرب الطاعة الشديد المراوغة، فنفذ لعمله ونزل بفاس، وضبط أعمال المغرب، واجتمعت إليه ملوك زناتة.
وهلك مقاتل بن عطية سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة واستقلّ برياسة الظواعن البدو من مغراوة إخوة زيري بن عطية، وحسنت مخاللته لابن عبد الودود صاحب المغرب وانحياشه بقومه إليه. واستدعاه المنصور من محله بفاس سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة إشادة بتكريمه وأغراه ببدوي بن يعلى بمنافسته في الحظ وإيثار الطاعة فبادر
[1] يدو بن يعلى اليغرني:/ قبائل المغرب/ 121.
إلى إجابته بعد ان استخلف على المغرب. ابنه المعزّ، وأنزله بتلمسان ثغر المغرب وولّى على عدوة القرويين من فاس علي بن محمود بن أبي عليّ قشوش، وعلى عدوة الأندلسيين عبد الرحمن بن عبد الكريم بن ثعلبة. وقدّم بين يديه هدية إلى المنصور، ووفد عليه فاستقبله بالجيوش والعدّة واحتفل للقائه، وأوسع نزله وجرايته ونوّه باسمه في الوزارة وأقطعه رزقها. وأثبت رجاله في الديوان ووصله بقيمة هديّته وأسنى فيها. وأعظم جائزته وجائزة وفده وعجّل تسريحه إلى عمله فقفل إلى إمارته من المغرب. ونمي عنه خلاف ما احتسب فيه من غمط [1] المعروف وإنكار الصنيع، والاستنكاف من لقب الوزارة الّذي نوّه به، حتى أنه قال لبعض حشمه، وقد دعاه بالوزير: وزير من يا لكع [2] فما والله إلا أمير ابن أمير، وا عجبا من ابن أبي عامر ومخرقته [3] ، والله لو كان بالأندلس رجل ما تركه على حاله، وإن له منّا ليوما، والله لقد تأجّرني فيما أهديت إليه حطا للقيم، ثم غالطني بما بذله تنبيتا للكرم، إلّا أن يحتسب بثمن الوزارة التي حطّني بها عن رتبتي.
ونمي ذلك إلى ابن أبي عامر فصرّ عليها أذنه وزاد في اصطناعه، وبعث بدوي بن يعلى اليفرني قريعة في ملك زناتة يدعوه إلى الوفادة فأساء إجابته وقال: متى عهد المنصور حمر الوحش تنقاد للبياطرة. وأخذ في إفساد السابلة والاجلاب على الأحياء والعيث في العمالة، فأوعز المنصور إلى عامله بالمغرب الوزير حسن بن عبد الودود بنبذ العهد إليه، ومظاهرة عدوّه زيري بن عطية عليه، فجمعوا له سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ولقوة فكانت الدائرة عليهم، وتخرّم العسكر وأثبت [4] الوزير ابن عبد الودود جراحة كان فيها حتفه. وبلغ الخبر إلى المنصور فشقّ عليه وأهمه شأن المغرب، وعقد عليه لوقته لزيري بن عطية، وكتب إليه بعهده وأمر بضبط المغرب ومكانفة [5] جند السلطان وأصحاب حسن بن عبد الودود، فاطلع بأعبائه وأحسن الغناء في عمله.
[1] غمط: احتقره وازدرى به.
[2]
بمعنى أحمق.
[3]
لعله ينوي خرقه: أي حمقه وسوء تصرّفه.
[4]
وفي نسخة أخرى: أثبتت. ويقال طعنه فاثبت فيه الرمح أي أنفذه، وضربوه حتى أثبتوه: أي أثخنوه (القاموس) .
[5]
بمعنى المحافظة على جند السلطان وفي نسخة أخرى: مكاتبة.
واستفحل شأن بدوي بن يعلى وبني يفرن، واستغلظوا على زيري بن عطية وأصلوه نار الفتنة، وكانت حروبهم سجالا، وسئمت الرعايا بفاس كثرة تعاقبهم عليها وانتزاؤهم على عملها. وبعث الله لزيري بن عطية ومغراوة مددا من أبي البهار بن زيري بن مناد بما كان انتقض على ابن أخيه منصور بن بلكّين صاحب القيروان وإفريقية، ونزع عن دعوة الشيعة إلى المروانية. واقتفى أثره في ذلك خلّوف بن أبي بكر صاحب تاهرت وأخوه عطية لصهر كان بينهما وبين زيري، فاقتسموا [1] أعمال المغرب الأوسط ما بين الزاب وأنشريس [2] ووهران، وخطبوا في سائر منابرها باسم هشام المؤيّد، وخاطب أبو البهار من وراء البحر محمد بن أبي عامر، وأوفد عليه أبا بكر بن أخيه حبّوس بن زيري في طائفة من أهل بيته ووجوه قومه، فاستقبلوا بالجيش ولقاه رحبا وتسهيلا، وأعظم موصله وأسنى جوائز وفده وصلاتهم، وأنفذ معه إلى عمه أبي البهار بخمسمائة قطعة من صنوف الثياب الخز والعبيد، وما قيمته عشرة آلاف درهم من الآنية والحلي، وبخمسة وعشرين ألفا من الدنانير، ودعاه إلى مظاهرة زيري بن عطيّة على بدوي بن يعلى، وقسّم بينهما أعمال المغرب شق الأبلمة حتى لقد اقتسما مدينة فاس عدوة بعد عدوة، فلم يرع ذلك بدوي ولا وزعه عن شأنه من الفتنة والاجلاب على البدو والحاضرة، وشق عصا الجماعة. وانتقض خلّوف بن أبي بكر على المنصور لوقته، وراجع ولاية المنصور بن بلكّين.
ومرض أبو البهار في المظاهرة عليه للوصلة التي بينهما، وقعد عمّا قام له زيري بن عطية من حرب خلّوف بن أبي بكر، وأوقع به زيري في رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة واستلحمه وكثيرا من أوليائه، واستولى على عسكره، وانحاش إليه عامّة أصحابه.
وفرّ عطية شريدا إلى الصحراء، ثم نهض على أثرها لبدوي بن يعلى وقومه فكانت بينهم لقاءات انكشف فيها أصحاب بدوي واستلحم منهم زهاء ثلاثة آلاف، واكتسح معسكره وسبيت حرمه التي كانت منهنّ أمّه وأخته، وتحيّز سائر أصحابه إلى فئة زيري وخرج شريدا إلى الصحراء إلى أن اغتاله ابن عمّه أبو يدّاس بن دوناس كما ذكرناه، وورد خبر الفتحين متعاقبين على المنصور فعظم موقعهما لديه. وقد قيل إنّ مقتل بدوي إنّما كان عند إياب زيري من الوفادة، وذلك أنه لما استقدمه المنصور
[1] وفي نسخة أخرى: فاقتطعوا.
[2]
جبال ونشريس: قبائل المغرب/ 121.
ووفد عليه كما ذكرناه، خالفه بدوي إلى فاس فملكها وقتل من مغراوة خلقا واستمكن بها أمره. فلمّا رجع زيري من وفادته امتنع بها بدوي فنازله زيري وطال الحصار وهلك من الفريقين خلق. ثم اقتحمها عليه عنوة وبعث برأسه إلى سدّة الخلافة بقرطبة. إلا أن راوي هذا الخبر يجعل وفادة زيري على المنصور وقتله لبدوي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة [1] فاللَّه أعلم أيّ ذلك كان.
(ثم إنّ زيري) فسد ما بينه وبين أبي البهار الصنهاجي وتزاحفا فأوقع به زيري وانهزم أبو البهار إلى سبتة موريا بالعبور إلى المنصور فبادر بكاتبه عيسى بن سعيد بن القطاع في قطعة من الجند إلى تلقّيه فحاد عن لقائه. وصاعد إلى قلعة جراوة، وقد قدم الرسل إلى ابن أخيه المنصور صاحب القيروان مستميلا إلى أن التحم ذات بينهما. ثم تحيّز إليه وعاد إلى مكانه من عمله، وخلع ما تمسّك به من طاعة الأموية وراجع طاعة الشيعة فجمع المنصور لزيري بن عطيّة أعمال المغرب. واستكفى به في سدّ الثغر وعوّل عليه من بين ملوك المغرب في الذبّ عن الدعوة، وعهد إليه بمناجزة أبي البهار وزحف إليه زيري في أمم عديدة من قبائل زناتة وحشود البربر وفرّ أمامه، ولحق بالقيروان. واستولى زيري على تلمسان وسائر أعمال أبي البهار. وملك ما بين السوس الأقصى والزاب فاتسع ملكه وانبسط سلطانه واشتدّت شوكته، وكتب بالفتح إلى المنصور بمائتين من الخيل وخمسين جملا من المهاري السبق، وألف درقة من جلود اللمط وأحمال من قسي الزان وقطوط الغالية والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وغيره، وألف حمل من التمر وأحمال من ثياب الصوف الرفيعة كثيرة، فجدّد له عهده على المغرب سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وأنزل أحياءه بأنحاء فاس في قياطينهم.
واستفحل أمر زيري بالمغرب ودفع بني يفرن عن فاس إلى نواحي سلا، واختط مدينة وجدة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وأنزلها عساكره وحشمه، واستعمل عليها ذويه، ونقل إليها ذخيرته، وأعدّها معتصما، وكانت ثغرا للعمالتين المغرب الأقصى والأوسط.
(ثم فسد) ما بينه وبين المنصور بما نمي عنه من التألف لهشام باستبداد المنصور عليه
[1] كذا في قبائل المغرب سنة 383 هـ./ ص 121.
فسامه المنصور الهضيمة. وأبى منها، وبعث كاتبه ابن القطاع في العساكر، فاستعصى عليه وأمكنه صاحب قلعة حجر النسر منها، فأشخصه إلى الحضرة.
وأحسن إليه المنصور وسمّاه الناصح، وكشف زيري وجهه في عداوة ابن أبي عامر والإغراء به والتشيّع لهشام المؤيّد والامتعاض له من هضيمته وحجره، فسخطه عند ابن أبي عامر وقطع عنه رزق الوزارة، ومحى اسمه من ديوانه ونادى بالبراءة منه.
وعقد لواضح مولاه على المغرب وعلى حرب زيري بن عطية، وانتقى له الحماة من سائر الطبقات، وأزاح عللهم وأمكنه من الأموال للنفقات وأحمال السلاح والكسى، وأصحبه طائفة من ملوك العدوة كانوا بالحضرة، منهم: محمد بن الخير ابن محمد بن الخير وزيري بن خزر وابن عمهما بكساس بن سيّد الناس. ومن بني يفرن أبو بخت [1] بن عبد الله بن بكار. ومن مكناسة إسماعيل بن البوري ومحمد بن عبد الله بن مدين، ومن أزداجة خزرون بن محمد وأمدّه بوجوه الجند. وفصل من الحضرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وسار في التعبية وأجاز البحر إلى طنجة فعسكر بوادي ردات [2] وزحف زيري بن عطيّة في قومه، فعسكر إزاءه وتواقفا ثلاثة أشهر، واتهم واضح رجالات بني مرزال بالادهان فأشخصهم إلى الحضرة وأغرى بهم المنصور فوبّخهم وتنصّلوا فصفح عنهم، وبعثهم في غير ذلك الوجه. ثم تناول واضح حصن أصيلا ونكّور فضبطهما واتصلت الوقائع بينه وبين زيري، وبيّت واضح معسكر زيري بنواحي أصيلا وهم غارّون [3] فأوقع بهم وخرج ابن أبي عامر من الحضرة لاستشراف أحوال واضح وإمداده، فسار في التعبية واحتلّ بالجزيرة عند فرضة المجاز، ثم بعث عن ابنه المظفّر من مكان استخلافه بالزاهرة، وأجاز إلى العدوة واستكمل معه أكابر أهل الخدمة وجلّة القواد. وقفل المنصور الى قرطبة واستراع [4] خبر عبد الملك بالمغرب ورجع إليه عامّة أصحاب زيري من ملوك البربر وتناولهم من إحسانه وبرّه ما لم يعهدوا مثله.
وزحف عبد الملك الى طنجة واجتمع مع واضح، وتلوم هناك مزيحا لعلل العسكر، فلما
[1] وفي نسخة أخرى: ابو نوبخت.
[2]
كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: وادي ركاب.
[3]
بمعنى (مغيرون) .
[4]
كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: استذاع بمعنى ذاع وهذه من التعابير التي يستعملها ابن خلدون.
استتم تدبيره زحف في جمع لا كفاء له. فلقيه زيري بوادي منى من أحواز طنجة في شوّال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فدارت بينهم حروب شديدة. وهمّ [1] فيها أصحاب عبد الملك وثبت هو. وبينهما هم في حومة الحرب إذ طعن زيري بعض الموثورين من أتباعه اهتبل الغرّة في ذلك الموقف فطعنه ثلاثا في نحره أشواه بها، ومرّ يشتدّ نحو المظفّر، وبشرّه فاستكذبه لثبوت رايته ثم سقط إليه الصحيح فشدّ عليهم فاستوت الهزيمة وأثخن فيه بالقتل، واستولى على ما كان في عسكرهم مما يذهب فيه الوصف.
ولحق زيري بفاس جريحا في قلّة، فامتنع عليه أهلها ودافعوه بحرمة، فاحتملهنّ وفرّ أمام العساكر إلى الصحراء، وأسلم جميع أعماله. وطيّر عبد الملك بالفتح إلى أبيه فعظم موقعه عنده وأعلن بالشكر للَّه والدعاء وبثّ الصدقات وأعتق الموالي، وكتب إلى ابنه عبد الملك بعهده على المغرب فأصلح نواحيه وسدّ ثغوره، وبعث العمّال في جهاته: فأنفذ محمد بن الحسن بن عبد الودود في جند كثيف إلى تادلا [2] واستعمل حميد بن يصل المكناسي [3] على سجلماسة فخرج كل لوجهه، واقتضوا الطاعة وحملوا إليه الخراج، وأقفل المنصور ابنه عبد الملك في جمادى من سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وعقد على المغرب لواضح فضبطه واستقام على تدبيره. ثم عزله في رمضان من سنته بعبيد الله ابن أخيه يحيى، ثم ولّى عليه من بعده إسماعيل بن البوري، ثم من بعده أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبيّ إلى أن هلك المنصور.
وأعاد المظفّر بن المعز بن زيري من منتبذه بالمغرب الأوسط لولاية أبيه بالمغرب فنزل فاس، وكان من خبر زيري أنه لما استقل من نكبته وهزيمة عبد الملك إيّاه، واجتمع إليه بالصحراء فلّ مغراوة، وبلغه اضطراب صنهاجة واختلافهم على باديس بن المنصور بعد مهلك أبيه، وأنه خرج عليه بعد عمومته مع ماكسن بن زيري، فصرف وجهه حينئذ إلى أعمال صنهاجة ينتهز فيها الفرصة. واقتحم المغرب الأوسط ونازل تاهرت وحاصر بها يطوّفت بن بلكّين. وخرج باديس من القيروان صريخا له.
فلمّا مرّ بطبنة امتنع عليه فلفول بن خزرون وخالفه إلى إفريقية فشغل بحربة. وكان
[1] همّ بالشيء: عزم عليه وقصد فعله ولم يعمله.
[2]
تادلا: مركز فلاحي عسكري يبلغ ارتفاعه عن سطح البحر 500 م على الضفة اليمنى لوادي أم الربيع يقع وسط ناحية اشتهرت بتربية الأغنام وبجودة الأصناف (كتاب الغرب/ 72) .
[3]
هو حميد بن يصلتين الكتامي (قبائل الغرب 120) .
أبو سعيد بن خزرون لحق بإفريقية وولّاه المنصور على طبنة كما نذكره، فلما انتقض سار إليه باديس ودفع حمّاد بن بلكين في عساكر صنهاجة إلى مدافعة زيري بن عطية فالتقيا بوادي ميناس قرب تاهرت، فكانت الدبرة على صنهاجة، واحتوى زيري على معسكرهم واستلحم ألوفا منهم. وفتح مدينة تاهرت وتلمسان وشلف وتنس والمسيلة، وأقام الدعوة فيها كلّها للمؤيد هشام ولحاجبه المنصور من بعده.
ثم اتّبع آثار صنهاجة إلى أشير قاعدة ملكهم، فأناخ عليها واستأمن إليه زاوي بن زيري ومن معه من أكابر أهل بيته المنازعين لباديس فأعطاه منه ما سأل، وكتب إلى المنصور بذلك يسترضيه ويشترط على نفسه الرهن والاستقامة إن أعيد إلى الولاية، ويستأذنه في قدوم زاوي وأخيه خلّال، فأذن لهما وقدما سنة تسعين وثلاثمائة، وسأل أخوهما أبو البهار مثل ذلك، وأنفذ رسله يذكر تقديمه فسوّفه المنصور لما سبق من نكثه. واعتلّ زيري بن عطيّة وهو بمكانه من حصار أشير فأفرج عنها. وهلك في منصرفه سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة واجتمع آل خزر وكافة مغراوة من بعده على ابنه المعزّ بن زيري فبايعوه، وضبط أمرهم وأقصر عن محاربة صنهاجة ثم استجدى للمنصور واعتلق بالدعوة العامريّة وصلحت حاله عندهم، وهلك المنصور خلال ذلك ورغب المعز من ابنه عبد الملك المظفّر أن يعيده إلى عمله على مال يحمله إليه وعلى أن يكون ولده معنصر رهينة بقرطبة فأجابه إلى ذلك وكتب له عهده وأنفذ به وزيره أبا علي بن خديم [1] (ونسخته) : بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله علي سيدنا محمد وآله من الحاجب المظفّر سيف الدولة دولة الامام الخليفة هشام المؤيد باللَّه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر إلى كافة مدنيّي فاس وكافة أهل المغرب سلّمهم الله أمّا بعد أصلح الله شأنكم وسلّم أنفسكم وأديانكم، فالحمد للَّه علّام الغيوب وغفّار الذنوب ومقلّب القلوب ذي البطش الشديد المبدئ المعيد الفعّال لما يريد، لا رادّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، بل له الملك والأمر، وبيده الخير والشرّ، إيّاه نعبد وإيّاه نستعين، وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون. وصلى الله على سيّدنا محمد سيّد المرسلين وعلى آله الطيبين، وجميع الأنبياء والمرسلين والسلام عليكم أجمعين.
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة اخرى: علي بن جدلم.
وإن المعزّ بن زيري بن عطيّة أكرمه الله تابع رسله لدينا وكتبه متنصّلا من هنات دفعته إليها ضرورات، ومستغفرا من سيئات حطتها من توبته حسنات، والتوبة محاء الذنب، والاستغفار منقذ من العيب [1] . وإذا أذن الله بشيء يسرّه، وعسى أن تكرهوا شيئا ولكم فيه خير. وقد وعد من نفسه استشعار الطاعة، ولزوم الجادة، واعتقاد الاستقامة وحسن المعونة وخفة المؤنة، فولّيناه ما قبلكم، وعهدنا إليه أن يعمل بالعدل فيكم، وأن يرفع أعمال الجور عنكم. وأن يعمّر سبلكم، وأن يقبل من محسنكم ويتجاوز عن مسيئكم إلّا في حدود الله تبارك وتعالى. وأشهدنا الله عليه بذلك وكفى باللَّه شهيدا. وقد وجّهنا الوزير أبا علي بن خديم أكرمه الله وهو من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليأخذ بشأنه ويؤكد العهد فيه عليه بذلك، وأمرناه بإشراككم فيه ونحن بأمركم معتنون وأحوالكم مطالعون، وأن يقضي على الأعلى للأدنى، ولا يرتضي فيكم بشيء من الأدنى فثقوا بذلك وأسكنوا إليه وليمض القاضي أبو عبد الله أحكامه مشدودا ظهره بنا، معقودا سلطانه بسلطاننا، ولا تأخذه في الله لومة لائم، فذلك طبنا به إذ ولّيناه، وأملنا فيه إذ قلّدناه، والله المستعان، وعليه التكلان، لا إله إلّا هو، وتبلغوا منا سلاما طيبا جزيلا ورحمة الله وبركاته كتب في ذي القعدة من سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
(ولما وصل) إلى المعز بن زيري عهد المظفّر بولايته على المغرب ما عدا كورة سجلماسة، فإنّ واضحا مولى المنصور عهد في ولايته على المغرب بها لواندين بن خزرون بن فلفول حسبما نذكره، فلم تدخل في ولاية المعز هذه. فلمّا وصله عهد المظفّر ضمّ نشره [2] وثاب إليه نشاطه، وبثّ عمّاله في جميع كور المغرب وجبى خراجها، ولم تزل ولايته متسقة، وطاعة رعاياه منتظمة.
(ولما) افترق أمر الجماعة بالأندلس واختلّ رسم الخلافة وصار الأمر فيها طوائف استحدث المعزّ في التغلّب على سجلماسة وانتزاعها من أيدي بني واندين بن خزرون فأجمع لذلك، ونهض إليه سنة سبع وأربعمائة وبرزوا إليه في جموعهم فهزموه، ورجع إلى فاس في فلّ من قومه وأقام على الاضطراب من أمره إلى أن هلك سنة سبع عشرة وأربعمائة وولي من بعده ابن عمه حمامة بن المعز بن عطية، وليس كما يزعم
[1] وفي نسخة ثانية: العتب.
[2]
النشر: القوم المتفرقون لا يجمعهم رئيس.
بعض المؤرخين انه ابنه وإنما هو اتفاق في الأسماء أوجب هذا الغلط، فاستولى حمامة هذا على عملهم واستفحل ملكه، وقصده الأمراء والعلماء وأتته الوفود ومدحه الشعراء ثم نازعه الأمر أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى اليفرني سنة أربع وعشرين وأربعمائة من بني يدوي بن يعلى المتغلبين على نواحي سلا، وزحف إلى فاس في قبائل بني يفرن ومن انضاف إليهم من زناتة.
وبرز إليه حمامة في جموع مغراوة ومن إليهم فكانت بينهم حروب شديدة أجلت عن هزيمة حمامة. ومات من مغراوة أمم واستولى تميم على فاس وأمال المغرب، ولما دخل فاس استباح يهود وسبى حرمهم واصطلم نعمتهم، ولحق حمامة بوجدة فامتدّ من هنالك من قبائل مغراوة من أنجاد مديونة وملوية. وزحف إلى فاس فدخلها سنة تسع وعشرين وأربعمائة وتحيّز تميم إلى موضع إمارته من سلا وأقام حمامة في سلطان المغرب.
وزحف إليه سنة ثلاثين وأربعمائة القائد ابن حمّاد صاحب القلعة في جموع صنهاجة، وخرج إليه مجمعا حربه، وبثّ القائد عطاءه في زناتة واستعبدهم [1] على صاحبهم حمامة، فأقصر عن لقائه ولاذ منه بالسلم والطاعة، رجع القائد عنه ورجع هو إلى فاس. وهلك سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة فولّي بعده ابنه دوناس ويكنّى أبا العطاف، واستولى على فاس وسائر عمل أبيه، وخرج عليه لأوّل أمره حمّاد ابن عمه معنصر بن المعز فكانت له معه حروب ووقائع، وكثرت جموع حمّاد فغلب دوناس على الضواحي وأحجره بمدينة فاس وخندق دوناس على نفسه الخندق المعروف بسياج حماد، وقطع حمّاد جرية الوادي عن عدوة القرويين إلى أن هلك محاصرا لها سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فاستقامت دولة دوناس، وانفسحت أيامه، وكثر العمران ببلده، واحتفل في تشييد المصانع وأدار السور على أرباضها، وبنى بها الحمامات والفنادق فاستبحر عمرانها ورحل التجّار إليها بالبضائع، وهلك دوناس سنة إحدى وخمسين وأربعمائة فولي بعده ابنه الفتوح ونزل بعدوة الأندلس ونازعه الأمر أخوه الأصغر عجيسة وامتنع بعدوة القرويين، وافترق أمره بافتراقهما وكانت الحرب بينهما سجالا، ومجالها بين المدينتين حيث يفضي باب النقبة بعدوة القرويين لهذا العهد، وشيّد الفتوح باب عدوة الأندلس وهو مسمّى به إلى الآن، واختطّ عجيسة
[1] وفي نسخة ثانية: واستفسرهم.
باب الجيسة وهو أيضا مسمّى به وإنما حذفت عينه لكثرة الاستعمال [1] وأقاموا على ذلك إلى أن غدر الفتوح بعجيسة أخيه سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وبيّته فظفر به وقتله، ودهم المغرب أثر ذلك على ما دهمه من أمر المرابطين من لمتونة، وخشي الفتوح مغبّة أحوالهم فأفرج عن فاس.
وزحف صاحب القلعة بلكين بن محمد بن حمّاد إلى المغرب سنة أربع وخمسين وأربعمائة على عادتهم في غزوة، ودخل فاس واحتمل من أكابرهم وأشرافهم رهنا على الطاعة، وقفل إلى قلعته. وولّى على المغرب بعد الفتوح معنصر بن حماد بن معنصر [2] ، وشغل بحروب لمتونة. وكانت له عليهم الوقعة المشهورة سنة خمس وخمسين وأربعمائة ولحق بضرية [3] وملك يوسف بن تاشفين والمرابطون، فاس وخلّف عليها عامله وارتحل إلى غمارة فخالفه معنصر إلى فاس وملكها وقتل العامل ومن معه من لمتونة، ومثّل بهم بالحرق والصلب. ثم زحف إلى مهدي ابن يوسف الكترنائي [4] صاحب مدينة مكناسة، وقد كان دخل في دعوة المرابطين فهزمه وقتله وبعث برأسه إلى سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة. وقد بلغ الخبر إلى يوسف بن تاشفين فسرّح عساكر المرابطين لحصار فاس فأخذوا بمخنقها، وقطعوا المرافق عنها حتى اشتدّ بأهلها الحصار ومسّهم الجهد. وبرز معنصر لإحدى الراحتين فكانت الدبرة عليه، وفقد في الملحمة ذلك اليوم سنة ستين وأربعمائة وبايع أهل فاس من بعده لابنه تميم بن معنصر فكانت أيامه أيام حصار وفتنة وجهد وغلاء. وشغل يوسف بن تاشفين عنهم بفتح بلاد غمارة حتى إذا كان سنة اثنتين وستين وأربعمائة وفرغ من فتح غمارة صمد إلى فاس فحاصرها أياما، ثم اقتحمها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زنانة. وهلك تميم في جملتهم حتى أعوزت مواراتهم فرادى، فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات. وخلص من نجا من القتل منهم إلى تلمسان، وأمر يوسف بن تاشفين بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين العدوتين وصيّرهما مصرا، وأدار عليهما سورا واحدا، وانقرض أمر مغراوة من فاس والبقاء للَّه سبحانه وتعالى.
[1] وفي نسخة ثانية: لكثرة الدوران في استعمالهم.
[2]
وفي نسخة ثانية: بن منصور.
[3]
وفي نسخة ثانية: ولحق بصدينة.
[4]
وفي نسخة ثانية: الكزنائي.