الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حصار القلعة فطوى المراحل إلى تلمسان، فسبق إليها يوسف بن يعقوب بعض يوم.
ثم أشرفت طلائع بني مرين عشيّ ذلك اليوم، فأناخوا بها في شعبان سنة ثمان وتسعين وستمائة وأحاط العسكر بها من جميع جهاتها. وضرب يوسف بن يعقوب عليها سياجا من الأسوار محيطا بها، وفتح فيه أبوابا مداخل لحربها، واختط لنزله إلى جانب الأسوار مدينة سمّاها المنصورة. وأقام على ذلك سنين يغاديها القتال ويراوحها. وسرّح عسكره لافتتاح المغرب الأوسط وثغوره، فملك بلاد مغراوة وبلاد توجين كما ذكرناه في أخباره وجثم هو بمكانه من حصار تلمسان لا يعدوها كالأسد الضاري على فريسته إلى أن هلك عثمان وهلك هو من بعده كما نذكره. وإلى الله المصير سبحانه وتعالى لا رب غيره.
(الخبر عن مهلك عثمان بن يغمراسن وولاية ابنه أبي زيان وانتهاء الحصار من بعده الى غايته)
لما أناخ يوسف بن يعقوب بعساكره على تلمسان، انحجز بها عثمان وقومه واستسلموا، والحصار آخذ بمخنقهم. وهلك عثمان لخامسة السنين من حصارهم سنة ثلاث وسبعمائة، وقام بالأمر من بعده ابنه أبو زيان محمد.
(أخبرني) شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم الايلي، وكان في صباه قهرمان دارهم قال: هلك عثمان بن يغمراسن بالديماس، وكان قد أعدّ لشربه لبنا، فلما أخذ منه الديماس وعطش، دعا بالقدح فشرب اللبن ونام فلم يكن بأوشك أن فاضت نفسه. وكنا نرى معشر الصنائع أنه داف فيه السم تفاديا من معرّة غلب عدوهم إياهم. قال: وجاء الخادم إلى قعيدة بيته زوجه بنت السلطان أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس، وخبرها الخبر فجاءت ووقعت عليه واسترجعت وخيّمت على الأبواب بسدادها. ثم بعثت إلى أبيه محمد أبي زيان وموسى أبي حمو فعزتهما عن أبيهما. وأحضرا مشيخة بني عبد الواد وعرضوا لهم بمرض السلطان فقال أحدهم مستفهما عن الشأن ومترجما عن القوم:
السلطان معنا آنفا، ولم يمتدّ الزمن لوقوع المرض، فإن يكن هلك فخبّرونا، فقال له أبو حمو: وإذا هلك فما أنت صانع؟ فقال: إنما نخشى من مخالفتك، وإلا فسلطاننا
أخوك الأكبر أبو زيان. فقام أبو حمّو من مكانه وأكبّ على يد أخيه يقبّلها، وأعطاه صفقة يمينه واقتدى به المشيخة، فانعقدت بيعته لوقته واشتمل بنو عبد الواد على سلطانهم واجتمعوا إليه، وبرزوا إلى قتال عدوّهم على العادة فكأنّ عثمان لم يمت.
(وبلغ الخبر) إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم فتفجّع له، وعجب من صرامة قومه من بعده. واستمرّ حصاره إيّاهم إلى ثمانية سنين وثلاثة أشهر من يوم نزوله، نالهم فيها من الجهد ما لم ينله أمّة من الأمم، واضطروا إلى أكل الجيف والقطوط والفيران حتى أنهم زعموا أنهم أكلوا فيها أشلاء الموتى من الناس، وخرّبوا السقف للوقود، وغلت أسعار الأقوات والحبوب وسائر المرافق بما تجاوز حدود العوائد. وعجز وجدهم عنه فكان ثمن مكيال القمح الّذي يسمونه البرشالة ويتبايعون به، مقداره اثنا عشر رطلا ونصف مثقالين ونصفا من الذهب العين. وثمن الشخص الواحد من البقر ستين مثقالا، ومن الضأن سبعة مثاقيل ونصفا، وأثمان اللحم من الجيف الرطل من لحم البغال والحمير بثمن المثقال، ومن الخيل بعشرة دراهم صغار من سكتهم، تكون عشر المثقال والرطل من الجلد البقري ميتة أو مذكى بثلاثين درهما، والهرّ الداجن بمثقال ونصف، والكلب بمثله والفار بعشرة دراهم. والحية بمثله، والدجاجة بثلاثين درهما، والبيض واحدة بستة دراهم، والعصافير كذلك.
والأوقية من الزيت باثني عشر درهما، ومن السمن بمثلها ومن الشحم بعشرين، ومن الفول بمثلها، ومن الملح بعشرة، ومن الحطب كذلك. والأصل الواحد من الكرنب بثلاثة أثمان المثقال. ومن الخس بعشرين درهما ومن اللفت بخمسة عشر درهما، والواحدة من القثاء والفقوس بأربعين درهما، والخيار بثلاثة أثمان الدينار، والبطيخ بثلاثين درهما، والحبة من التين والإجاص بدرهمين. واستهلك الناس أموالهم وموجودهم، وضاقت أحوالهم.
واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارها، واتسعت خطة مدينة المنصور المشيّدة عليها. ورحل إليها التجّار بالبضائع من الآفاق، واستبحرت في العمران بما لم تبلغه مدينة، وخطب الملوك سلمه ووده، ووفدت عليه رسل الموحّدين وهداياهم من تونس وبجاية، وكذلك رسل صاحب مصر والشام وهديتهم، واعتز اعتزازا لا كفاء له كما يأتي في أخباره وهلك الجند حامية بني يغمراسن وقبيلتهم وأشرفوا على الهلاك فاعتزموا على الإلقاء باليد والخروج بهم للاستماتة، فكيّف الله لهم الصنيع
الغريب. ونفس عن مخنقهم بمهلك السلطان يوسف بن يعقوب على يد خصيّ من العبيد، فأسخطته بعض النزعات الملوكية فاعتمده في كسر بيته ومخدع نومه، وطعنه بخنجر قطع أمعاءه، وأدرك فسيق إلى وزرائه فمزّقوه أشلاء. ولم يبق شيء من بقايا عهدهم كما ذكرناه والأمر للَّه وحده. وأذهب الله العناء عن آل زيان وقومهم وساكني مدينتهم كأنما نشروا من الأجداث. وكتبوا لها في سكتهم ما أقرب فرج الله استغرابا لحادثتها.
(وحدثني) شيخنا محمد بن إبراهيم الآيلي قال: جلس السلطان أبو زيّان صبيحة يوم الفرج وهو يوم الأربعاء في خلوة زوايا قصره، واستدعى ابن حجاف خازن الزرع فسأله كم بقي من الأهراء والمطامير المختومة؟ فقال له: إنما بقي عولة اليوم وغد فاستوصاه بكتمانها. وبينما هم في ذلك دخل عليه أخوه أبو حمّو فأخبروه فوجم لها، وجلسوا سكوتا لا ينطقون. وإذا بالخادم دعد قهرمانة القصر من وصائف بنت السلطان أبي إسحاق وحظية أبيهم خرجت من القصر إليهم، فوقفت وحيتهم تحيتها وقالت: تقول لكم حظايا قصركم وبنات زيّان حرمكم ما لنا وللبقاء، وقد أحيط بكم وأسف عدوّكم لاتهامكم، ولم يبق إلّا فواق بكيئة لمصارعكم. فأريحونا من معرّة السبي، وأريحوا فينا أنفسكم وقربوا إلى مهالكنا فالحياة في الذل عذاب والوجود بعدكم عدم. فالتفت أبو حمو إلى أخيه وكان من الشفقة بمكان وقال: قد صدقتك الخبر فما تنظر بهنّ؟ فقال: يا موسى أرجئني ثلاثا لعلّ الله يجعل بعد عسر يسرا، ولا تشاورني بعدها فيهن، بل سرّح اليهود والنصارى إلى قتلهنّ وتعال إليّ نخرج مع قومنا إلى عدوّنا فنستميت، ويقضي الله ما يشاء. فغضب أبو حمو وأنكر الأرجاء في ذلك، وقال: إنما نحن والله نتربّص المعرّة بهنّ وبأنفسنا، وقام عنه مغضبا وجهش السلطان أبو زيان بالبكاء. قال ابن حجاف: وأنا بمكاني بين يديه لا أملك متأخرا ولا متقدّما إلى أن غلب عليه النوم فما راعني إلّا حرسيّ الباب يشير إليّ أن اذن السلطان بمكان رسول من معسكر بني مرين لسيدة القصر، فلم أطق رجع جوابه إلا بإشارة وانتبه السلطان من خفيف إشارتنا فزعا، فأذنته واستدعاه.
فلما وقف بين يديه قال له: إنّ يوسف بن يعقوب هلك الساعة، وأنا رسول حافده أبي ثابت إليكم، فاستبشر السلطان واستدعى أخاه وقومه حتى أبلغ الرسول رسالته