الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكواكب البابانية [1] حمائل أمانيه. وإن تشوّف سيدي لحال وليّه، فخلوة طيبة، ورحمة من جانب الله صيّبة، وبرق يشام [2]، فيقال: حدّث ما وراءك يا هشام. وللَّه درّ شيخنا إذ يقول:
لا بارك للَّه في إن لم
…
أصرّف النّفس في الأهمّ
وكثّر الله في همومي
…
إن كان غير الخلاص همّي
وإن أنعم سيّدي بالإلماع بحاله، وحال الولد المبارك، فذلك من غرر إحسانه، ومنزلته في لحظ لحظبي بمنزلة إنسانه، والسّلام.
(العودة الى المغرب الأقصى)
ولما كنت في الاعتمال في مشايعة السلطان عبد العزيز ملك المغرب [3] ، كما ذكرت تفاصيله، وأنا مقيم ببسكرة في جوار صاحبها أحمد بن يوسف بن مزنى، وهو صاحب زمام رياح، وأكثر عطائهم من السلطان مفترض عليه في جباية الزّاب [4] ، وهم يرجعون اليه في الكثير من أمورهم، فلم أشعر إلّا وقد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب، ووغر صدره [5] ، وصدّق في ظنونه وتوهّماته، وطاوع الوشاة فيما يوردون على سمعه من التّقوّل والاختلاق، وجاش صدره بذلك، فكتب إلى ونزمار بن عريف، وليّ السلطان، وصاحب شواره، يتنفّس الصّعداء من ذلك، فأنهاه إلى السلطان، فاستدعاني لوقته، وارتحلت من بسكرة
[1] الكواكب الببانيات (أو البابانية) : هي التي لا تنزل الشمس بها، ولا القمر.
[2]
شام البرق: نظر الى سحابته اين تمطر.
[3]
هو أبو فارس، عبد العزيز بن أبي الحسن بن أبي سعيد بن يعقوب بن عبد الحق المريني، بويع سنة 767، وتوفي سنة 774. من ألمع ملوك بني مرين، أعاد الدولة قوتها وشبابها، وأزال عنها حجر المستبدين، وإلى أبي فارس هذا أهدى ابن خلدون مقدمته، ولا تزال صيغة الإهداء محفوظة بديباجة النسخة المطبوعة ببولاق.
[4]
بلاد الزاب: منطقة واسعة كانت تشغل المساحة الواقعة في جنوب جبال أوراس، وتشمل بسكرة، وما حولها. ياقوت (معجم البلدان) .
[5]
وغر صدره: امتلأ غيظا وحقدا.
بالأهل والولد، في يوم المولد الكريم سنة أربع وسبعين وسبعمائة متوجها الى السلطان وكان قد طرقه المرض فما هو إلا أن وصلت مليانة من أعمال المغرب الأوسط، لقيني هنالك خبر وفاته، وأنّ ابنه أبا بكر السعيد نصّب بعده للأمر في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي وأنه ارتحل إلى المغرب الأقصى مغذّا السير إلى فاس، وكان على مليانة يومئذ عليّ بن حسون بن أبي علي الهساطي [1] من قواد السلطان وموالي بيته، فارتحلت معه إلى أحياء العطاف ونزلنا على أولاد يعقوب بن موسى من أمرائهم، وبدرني بعضهم إلى حلّة أولاد عريف أمراء سويد، ثم لحق بنا بعد أيام عليّ بن حسّون في عساكره وارتحلنا جميعا إلى المغرب على طريق الصحراء، وكان أبو حمّو قد رجع بعد مهلك السلطان من مكان انتباذه بالقفر في تيكورارين إلى تلمسان فاستولى عليها وعلى سائر أعماله، وأوعز إلى بني يغمور من شيوخ عبيد الله في المعقل أن يعترضونا بحدود بلادهم من رأس العين [2] مخرج وادي صا [3] ، فاعترضونا هنالك فنجا من نجامّنا على خيولهم إلى جبل دبدو وانتهبوا جميع ما كان معنا وأرجلوا الكثير من الفرسان، وكنت فيهم، وبقيت يومئذ في قفره ضاحيا عاريا إلى أن حصلت إلى العمران ولحقت بأصحابي بجبل دبدو ووقع في خلال ذلك من الألطاف ما لا يعبّر عنه، ولا يسع الوفاء بشكره. ثم سرنا إلى فاس ووفدت على الوزير أبي بكر وابن عمّه محمد بن عثمان بفاس في جمادى من السنة، وكان لي معه قديم صحبة واختصاص منذ نزع معي إلى السلطان أبي سالم بجبل الصفيحة، عند إجازته من الأندلس لطلب ملكه كما مرّ في غير موضع من الكتاب، فلقيني من برّ الوزير وكرامته وتوفير جرايته وإقطاعه، فوق ما احتسب وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل، ثابت [4] الرتبة عظيم الجاه، منوّة المجلس عند السلطان. ثم انصرم فصل الشتاء وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي وبين السلطان ابن الأحمر منافرة بسبب ابن الخطيب، وما دعا إليه ابن الأحمر من إبعاده عنهم، وأنف الوزير من ذلك فأظلم الجو بينهما، وأخذ الوزير في تجهيز بعض القرابة من بني الأحمر ليشغله به ونزع ابن
[1] وفي نسخة ثانية: اليناطي.
[2]
رأس العين يعرف بعين بني مطهر، وهي منابع تقع في شرق مدينة دبدو.
[3]
وادي صا، أو زا بقع في جنوب عين البرديل عن يمين وادي ملوية حوالي 51 كلم.
[4]
وفي نسخة ثانية: نابه الرتبة.
الأحمر [1] إلى إطلاق عبد الرحمن بن أبي يفلوسن من ولد السلطان أبي علي، والوزير مسعود بن رحّو [2] بن ماسي كان حبسهما أيام السلطان عبد العزيز وأشار بذلك ابن الخطيب حين كان في وزارتهما بالأندلس، فأطلقهما الآن وبعثهما لطلب الملك بالمغرب، وأجازهما في الأسطول إلى سواحل غساسة [3] فنزلوا بها ولحقوا بقبائل بطوية هنالك، فاشتملوا عليهم، وقاموا بدعوة الأمير عبد الرحمن. ونهض ابن الأحمر من غرناطة في عساكر الأندلس فنزل على جبل الفتح فحاصره، وبلغت الأخبار بذلك إلى الوزير أبي بكر بن غازي القائم بدعوة بني مرين، فوجّه لحينه ابن عمه محمد بن عثمان بن الكاس إلى سبتة لإمداد الحامية الذين لهم بالجبل، ونهض هو في العساكر إلى بطوية لقتال الأمير عبد الرحمن، فوجده قد ملك ملك تازي، فأقام عليها يحاصره، وكان السلطان عبد العزيز قد جمع شبابا من بني أبيه المرشّحين، فحبسهم بطنجة. صاحبه على ما كان منه، واشتدّ عذل ابن الأحمر على إخلائهم الكرسيّ من كفئه، ونصبهم السعيد بن عبد العزيز صبيّا لم يثغر، فاستعتب له محمد، واستقال من ذلك، فحمله ابن الأحمر على أن يبايع لأحد الأبناء المحبوسين بطنجة، وقد كان الوزير أبو بكر أوصاه أيضا بأنه إن تضايق عليه الأمر من الأمير عبد الرحمن، يفرّج عنه بالبيعة لأحد أولئك الأبناء.
وكان محمد بن الكاس قد استوزره السلطان أبو سالم لابنه أحمد أيام ملكه، فبادر من وقته إلى طنجة وأخرج السلطان أحمد ابن السلطان أبي سالم من محبسه، وبايع له وسار به إلى سبتة، وكتب لابن الأحمر يعرّفه بذلك، ويطلب منه المدد على أن ينزل له عن جبل الفتح، فأمدّه بما شاء من المال والعسكر واستولى على جبل الفتح وشحنه بحاميته، وكان أحمد ابن السلطان أبي سالم قد تعاهد مع بني أبيه في محبسهم، على أنّ من صار له الملك إليه منهم، يجيز الباقين إلى الأندلس، فلما بويع له ذهب إلى الوفاء لهم بعهدهم، وأجازهم جميعا، فنزلوا على السلطان ابن الأحمر، فأكرم نزلهم ووفّر جراياتهم. وبلغ الخبر بذلك كلّه إلى الوزير أبي بكر بمكانه من حصار الأمير عبد الرحمن بتازى، فأخذه المقيم المقعد من فعلة ابن عمّه،
[1] وفي نسخة ثانية: للإجلاب على الأندلس، فبادر ابن الأحمر.
[2]
رحو في اللغة البربرية تعني تصغير عبد الرحمن.
[3]
غساسة تقع عند مصب وادي ملوية حيث تقطن قبائل بطوية.
وكرّ [1] راجعا إلى دار الملك، وعسكر بكدية العرائس من فاس [2] وتوعّد ابن عمّه محمد بن عثمان فاعتذر بأنه امتثل وصيّته، فاستشاط وتهدّده واتسع الخرق بينهما، وارتحل محمد بن عثمان بسلطانه ومدده من عسكر الأندلس إلى أن احتل بجبل زرهون [3] المطل على مكناسة، فعسكر به، واشتملوا عليه، وزحف إليهم الوزير أبو بكر وصعد الجبل فقاتلوه وهزموه، ورجع إلى مكانه بظاهر دار الملك، وكان السلطان ابن الأحمر قد أوصى محمد بن عثمان بالاستعانة بالأمير عبد الرحمن والاعتضاد به، ومساهمته في جانب من أعمال المغرب يستبدّ به لنفسه، فراسله محمد ابن عثمان في ذلك، واستدعاه واستمدّه وكان ونزمار بن عريف وليّ سلفهم قد أظلم الجوّ بينه وبين الوزير أبي بكر، لأنّه سأله وهو يحاصر تازى في الصلح مع الأمير عبد الرحمن فامتنع، واتهمه بمداخلته والميل له، فاعتزم على التقبّض عليه، ودسّ إليه بعض عيونه، فركب الليل ولحق بأحياء الأحلاف من المعقل، وكانوا شيعة للأمير عبد الرحمن، ومعهم علي بن عمر الويغلاني كبير بني ورتاجن، كان انتقض على الوزير ابن غازي ولحق بالسوس [4] . ثم خاض القفر إلى هؤلاء الأحلاف فنزل بينهم مقيما لدعوة الأمير عبد الرحمن، فجاءهم ونزمار مفلتا من حبالة الوزير أبي بكر وحرّضهم على ما هم فيه، ثم بلغهم خبر السلطان أحمد بن أبي سالم ووزيره محمد ابن عثمان، وجاءهم وافد الأمير عبد الرحمن يستدعيهم. وخرج من تازي فلقيهم، ونزل بين أحيائهم، ورحلوا جميعا إلى إمداد السلطان أبي العبّاس حتى انتهوا إلى صفروي [5] . ثم اجتمعوا جميعا على وادي النجا، وتعاقدوا على شأنهم، وأصبحوا غدا على التعبية، كل من ناحيته.
[1] وفي نسخة ثانية: وفوّض راجعا ولا معنى لها هنا حسب مقتضى السياق.
[2]
وفي نسخة ثانية: بكدية العرائس من ظاهرها.
[3]
جبل زرهون: بقرب فاس فيه أمّة لا يحصون ويقع على بعد 30 كلم من مدينة مكناسة الزيتون، وبه مدفن المولى إدريس الأكبر مؤسس الدولة الإدريسية بالمغرب، وبالجبل تقع مدينة وليلى التاريخية.
[4]
السوس: إقليم واسع. يقع في جنوب مدينة مراكش وراء جبال أطلس، ويتخلله واد عظيم يسمى وادي سوس، تتفرع منه عدة اودية، وحول الوادي وفروعه مزارع واسعة، بها أشجار ونخيل، وباقليم السوس مدن كبيرة. منها: تارودانت وتزنيت، وعلى ساحلي البحر المحيط حيث مصب وادي سوس تقع مدينة اغادير.
[5]
وفي نسخة ثانية: صفووى.
وركب الوزير أبو بكر لقتالهم فلم يطق، وولّى منهزما فانحجر بالبلد الجديد [1] ، وخيّم القوم بكدية العرائس محاصرين له، وذلك أيام عيد الفطر من سنة خمس وسبعين وسبعمائة فحاصروها ثلاثة أشهر وأخذوا بمخنقها إلى أن جهد الحصار الوزير ومن معه، فأذعن للصلح على خلع الصبيّ المنصوب السعيد ابن السلطان عبد العزيز، وخروجه إلى السلطان أبي العباس ابن عمّه، والبيعة له، وكان السلطان أبو العبّاس والأمير عبد الرحمن قد تعاهدوا عند الاجتماع بوادي النجا على التعاون والتناصر، على أنّ الملك للسلطان أبي العبّاس بسائر أعمال المغرب، وأنّ للأمير عبد الرحمن بلد سجلماسة ودرعة [2] والأعمال التي كانت لجدّه السلطان أبي علي أخي السلطان أبي الحسن. ثم بدا للأمير عبد الرحمن في ذلك أيام الحصار، واشتطّ بطلب مراكش وأعمالها فأغضوا له في ذلك، وشارطوه على ذلك حتى يتمّ لهم الفتح، فلما انعقد ما بين السلطان أبي العبّاس والوزير أبي بكر، وخرج إليه من البلد الجديد، وخلع سلطانه الصبيّ المنصوب، ودخل السلطان أبو العبّاس إلى دار الملك فاتح ست وسبعين وسبعمائة وارتحل الأمير عبد الرحمن يغذّ السير إلى مراكش، وبدا للسلطان أبي العبّاس ووزيره محمد بن عثمان في شأنه، فسرّحوا العساكر في اتباعه، وانتهوا خلفه إلى وادي بهت فواقفوه ساعة من نهار، ثم أحجموا عنه، وولّوا على راياتهم، وسار هو إلى مراكش، ورجع عنه وزيره مسعود بن ماسي بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودّع بها، فسرّحه لذلك، وسار إلى مراكش فملكها.
وأمّا أنا فكنت مقيما بفاس في ظلّ الدولة وعنايتها، منذ قدمت على الوزير سنة أربع وسبعين وسبعمائة كما مرّ، عاكفا على قراءة العلم وتدريسه، فلمّا جاء السلطان أبو العبّاس والأمير عبد الرحمن وعسكروا بكدية العرائس، وخرج أهل الدولة إليهم من الفقهاء والكتاب والجند، وأذن للناس جميعا في مباكرة أبواب السلطانين من غير نكير في ذلك، فكنت أبا كرهما معا، وكان بيني وبين الوزير محمد بن عثمان ما مرّ
[1] البلد الجديد: تسمّى أيضا المدينة البيضاء، وفاس الجديد، بناها يعقوب بن عبد الحق المريني على وادي فاس سنة 764.
[2]
درعة: وتنطق درا وكذلك تكتب على الخرائط، وهي مقاطعة كبيرة وراء جبال أطلس شرقي إقليم السوس، تصل حدودها الى البحر المحيط من مدن هذا الإقليم: ورزازت في السفح الجنوبي لجبال أطلس وسكانها مختلطين من العرب وبربر صنهاجة. وهذا الإقليم هو الموطن الأصلي لدولة السعديين بالمغرب.