الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمّ كتاب أخبار الدول الإسلامية بالمغرب لولي الدين أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرميّ الإشبيلي المالكي.
والحمد للَّه رب العالمين [1] .
(التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب)[2]
أصل هذا البيت من إشبيلية انتقل عند الجلاء وغلب ملك الجلالقة ابن أدفونش عليها إلى تونس في أواسط المائة السابعة (نسبه) عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون [3] هذا لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هذه العشرة، ويغلب على الظنّ أنّهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عددا، لأنّ خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس، فإن كان أوّل الفتح فالمدّة لهذا العهد سبعمائة سنة، فيكونون زهاء العشرين، ثلاثة لكل مائة، كما تقدّم في أوّل الكتاب الأوّل. ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب، معروف وله صحبة. قال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة: هو وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل، ابن النعمان بن ربيعة بن الحرث بن عوف بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن شرحبيل بن الحرث بن مالك بن مرّة بن حمير بن زيد بن الحضرميّ بن عمر بن عبد الله بن
[1] هكذا في النسخة الجزائرية تحقيق البارون دي سلان وفي طبعة بولاق المصرية وغيرها فقد أضيف الى هذا الكتاب فصل التعريف بابن خلدون.
[2]
هكذا ختم ابن خلدون الجزء الأخير من كتابه بالتعريف عن نفسه وأضاف بخطه في بعض النسخ «ورحلته غربا وشرقا» .
[3]
بفتح الخاء هكذا اضبطه بخط يده وكما نص عليه السخاوي في الضوء اللامع ج 4 ص 145.
عوف بن جردم بن جرسم بن عبد شمس بن زيد بن لؤيّ بن ثبت [1] بن قدامة ابن أعجب بن مالك بن مالك بن لؤيّ بن قحطان. وابنه علقمة بن وائل وعبد الجبّار بن علقمة بن وائل.
وذكره أبو عمر بن عبد البرّ في حرف الواو من الاستيعاب. وأنه وفد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبسط له رداءه وأجلسه عليه، وقال:«اللَّهمّ بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة» . وبعث معاوية بن أبي سفيان إلى قومه يعلّمهم الإسلام والقرآن، فكان له بذلك صحابة مع معاوية. ووفد عليه لأوّل خلافته فأجازه، فردّ عليه جائزته ولم يقبلها.
ولما كانت وقعة حجر بن عديّ الكندي بالكوفة، اجتمع رءوس أهل اليمن، فيهم وائل هذا فكانوا مع زياد بن أبي سفيان [2] عليه، حتى أوثقوه وجاءوا به إلى معاوية فقتله كما هو معروف.
وقال ابن حزم: ويذكر بنو خلدون الإشبيليّون من ولده، جدّهم الداخل من المشرق خالد المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريت [3] بن معديكرب بن الحرث بن وائل بن حجر قال: ومن عقبه كريت بن عثمان بن خلدون وأخوه خالد، وكانا من أعظم ثوار الأندلس.
قال ابن حزم: وأخوه محمد، كان من عقبه أبو العاصي عمرو بن محمد بن خالد بن محمد بن خلدون. وترك أبو العاصي محمدا وأحمد وعبد الله. قال: وأخوهم عثمان، له عقب ومنهم الحكيم المشهور بالأندلس تلميذ مسلمة المجريطي [4] . وهو أبو مسلم عمر بن محمد [5] بن تقي بن عبد الله بن أبي بكر بن خالد بن عثمان بن خلدون الداخل. وابن عمّه أحمد بن محمد بن عبد الله. قال: ولم يبق من ولد كريت
[1] قيّدها بخطه بفتح الشين وسكون الباء الموحدة بعدها مثناة فوفية.
[2]
هو زياد بن أبيه وهو الّذي اعترف به معاوية بانه أخوه.
[3]
وفي نسخة ثانية: كريب وقد قيّده بخطه بضم الكاف وفتح الراء.
[4]
المجريطي وهو مسلمة بن أحمد بن قاسم بن عبد الله المجريطي: فيلسوف، رياض، فلكي، كان أمام الرياضيين بالأندلس وأوسعهم احاطة بعلم الأفلاك وحركات النجوم مولده ووفاته بمجريط (مدريد) الأعلام للزركلي/ ج 7 ص 224.
[5]
وفي عيون الانباء ج 2 ص 41: عمر بن أحمد بن خلدون بن بقي، وابن خلدون هذا من أشراف إشبيلية، وكان فيلسوفا مهندسا طبيبا توفي سنة 449 هـ.
الرئيس المذكور إلّا أبو الفضل بن محمد بن خلف بن أحمد بن عبد الله بن كريت انتهى. كلام ابن حزم.
(سلفه بالأندلس) ولما دخل خلدون بن عثمان جدّنا إلى الأندلس، نزل بقرمونة في رهط من قومه حضرموت، ونشأ بيت بنيه بها، ثم انتقل إلى إشبيلية. وكانوا في جند اليمن، وكان الكريت من عقبه وأخيه خالد، الثورة المعروفة بإشبيليّة أيام الأمير عبد الله المرواني، ثار على أبي عبدة وملكها من يده أعواما. ثم ثار عليه عبد الله بن حجّاج بإملاء الأمير عبد الله وقتله، وذلك في أواخر المائة الثالثة.
(وتلخيص الخبر عن ثورته [1] ) ما نقله ابن سعيد [2] عن الحجازي [3] وابن حيان [4] وغيرهما، وينقلونه عن ابن الأشعث مؤرّخ إشبيلية أنّ الأندلس لما اضطرمت بالفتن أيام الأمير عبد الله، تطاول رؤساء إشبيلية إلى الثورة والاستبداد، وكان رؤساؤها المتطاولون إلى ذلك في ثلاثة بيوت: بيت أبي عبدة وبرئيسهم يومئذ ابن عبد الغافر بن أبي عبيدة، وكان عبد الرحمن الداخل ولّى إشبيلية وأعمالها أبا عبدة، وكان حافده أميّة من أعلام الدولة بقرطبة، ويولّونه الممالك الضخمة.
وبيت بني خلدون ورئيسهم كريت المذكور، ويردفه خالد أخوه.
قال ابن حيّان: وبيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية، نهاية في النباهة، ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانيّة ورياسة علمية. ثم بيت بني حجّاج ورئيسهم يومئذ عبد الله. قال ابن حيّان: هو من لخم وبيتهم إلى الآن في إشبيلية ثابت الأصل نابت الفرع موسوم بالرياسة السلطانية والعلمية. فلمّا عظمت الفتنة بالأندلس أعوام الثمانين ومائتين، وكان الأمير عبد الله قد ولّى على إشبيلية أمية بن عبد الغافر، وبعث معه ابنه محمدا وجعله في كفالته، فاجتمع هؤلاء النفر وثاروا بمحمد بن الأمير
[1] راجع أخبار هذه الثورة في المجلد الرابع من هذا الكتاب.
[2]
هو علي بن موسى بن سعيد العنسيّ الغرناطي (610- 673) صاحب كتاب «المغرب» و «المشرق» وغيرهما. يعتمد عليه ابن خلدون كثير في النسب والتاريخ.
[3]
هو صاحب كتاب «المسهب في غرائب المغرب، وهو أبو محمد عبد الله إبراهيم الحجاري نسبة إلى وادي الحجارة وهو من أهل القرن السابع.
[4]
ابن حيان: هو مؤرخ الأندلس واسمه أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان القرطبي (377- 469) له كتاب المتين في التاريخ، والمقتبس في تاريخ الأندلس وكتاب معرفة الصحابة.
(وفيات الأعيان 1 ص 210) .
عبد الله، وبأميّة صاحبهم، وهو يمالئهم على ذلك، ويكيد بابن الأمير عبد الله.
وحاصروه حتى طلب منهم اللحاق بأبيه فأخرجوه، واستبدّ أمية بإشبيليّة، ودسّ على عبد الله بن حجّاج من قتله، وأقام أخاه إبراهيم مكانه. وضبط إشبيلية واسترهن أولاد بني خلدون وبني حجّاج ثم ثاروا به، وهمّ بقتل أبنائهم فراجعوا طاعته، وحلفوا له، فأطلق أبناءهم فانتقضوا ثانية. وحاربوه فاستمات وقتل حرمه وعقر خيوله، وأحرق موجودة. وقاتلهم حتى قتلوه مقبلا غير مدبر، وعاثت العامة في رأسه. وكتبوا إلى الأمير عبد الله بأنه خلع فقتلوه، فقبل منهم مداراة، وبعث عليهم هشام بن عبد الرحمن من قرابته، فاستبدّوا عليه وفتكوا بابنه، وتولّى كبر ذلك كريت بن خلدون. واستقل بإمارتها.
وكان إبراهيم بن حجّاج بعد ما قتل أخوه عبد الله على ما ذكره ابن سعيد عن الحجاري سمت نفسه إلى التفرّد، فظاهر ابن حفصون [1] أعظم ثوّار الأندلس يومئذ، وكان بمالقة وأعمالها إلى رندة، فكان له منه ردء. ثم انصرف إلى مداراة كريت بن خلدون وملابسته، فردفه في أمره، وأشركه في سلطانه، وكان في كريت تحامل على الرعيّة وتعصّب، فكان يتجهّم لهم ويغلظ عليهم، وابن حجّاج يسلك بهم الرّفق والتلطّف في الشفقة [2] بهم عنده، فانحرفوا عن كريت إلى إبراهيم. ثم دسّ إلى الأمير عبد الله يطلب منه الكتاب بولاية إشبيلية، لتسكن إليه العامّة، فكتب إليه العهد بذلك. وأطلع عليه عرفاء البلد مع ما أشربوا من حبّه، والنفرة عن كريت، ثم أجمع الثورة. وهاجت العامّة بكريت فقتلوه، وبعث برأسه إلى الأمير عبد الله، واستقرّ بإمارة إشبيلية.
قال ابن حيّان: وحصّن مدينة قرمونة من أعظم معاقل الأندلس، وجعلها مرتبطا لخيله، وكان ينتقل بينها وبين إشبيلية. واتخذ الجند ورتّبهم طبقات، وكان يصانع الأمير عبد الله بالأموال والهدايا، وبعث إليه المدد في الصوائف [3] . وكان مقصودا
[1] هو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن ادفونش القس. وهو أول ثائر بالأندلس وهو الّذي افتتح الخلاف بها، وفارق الجماعة أيام محمد بن عبد الرحمن سنة 270 وتوفي سنة 306 (راجع أخبار ثورته في المجلد الرابع من هذا الكتاب.
[2]
وفي نسخة ثانية: في الشفاعة.
[3]
الصوائف: جمع صائفة: «وهي غزوات المسلمين الى بلاد الروم. سميت صوائف لأنهم كانوا يغزون صيفا تفاديا من شدة البرد (تاج العروس) .
ممدّحا، قصده أهل البيوتات فوصلهم، ومدحه الشعراء ومدحه أبو عمر بن عبد ربّه صاحب العقد [1] وقصده من بين سائر الثوّار فعرف حقه وأعظم جائزته.
ولم يزل بين بني خلدون بإشبيليّة كما ذكره ابن حيّان وابن حزم وغيرهما، سائر أيام بني أمية إلى زمان الطوائف [2] ، وانمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة.
ولما غلب كعب بن عبّاد [3] على إشبيلية، واستبدّ على أهلها استوزر من بني خلدون هؤلاء واستعملهم في رتب دولته، وحضروا معه وقعة الجلالقة [4] كانت لابن عبّاد وليوسف بن تاشفين على ملوك الجلالقة، فاستشهد فيها طائفة كبيرة من بني خلدون هؤلاء ثبتوا في الجولة مع ابن عبّاد فاستلحموا في ذلك الموقف. بما كان الظهور للمسلمين، ونصرهم الله على عدوّهم. ثم تغلّب يوسف بن تاشفين والمرابطون على الأندلس، واضمحلّت دولة العرب وفنيت قبائلهم.
(سلفه بإفريقية) ولما استولى الموحدون [5] على الأندلس وملكوها من يد المرابطين، وكان ملوكهم عبد المؤمن وبنيه. وكان الشيخ أبو حفص [6] كبير هنتاتة زعيم دولتهم. وولّوه على إشبيلية وغرب الأندلس مرارا، ثم ولّوا ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم، ثم ابنه أبا زكريا كذلك، فكان لسلفنا بإشبيليّة اتصال بهم، وأهدى بعض أجدادنا من قبل الأمّهات، ويعرف بالمحتسب للأمير أبي زكريا [7]
[1] هو أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم أبو عمر (246- 328) الأديب الإمام صاحب العقد الفريد من أهل قرطبة (الأعلام 1/ 207) وله ترجمة في وفيات الأعيان 1/ 39.
[2]
يبتدأ عصر ملوك الطوائف بالأندلس بنهاية الخلافة الاموية، وينتهي بغلبة يوسف ابن تاشفين المرابطي عليهم جميعا، واستيلائه على الأندلس (راجع المجلد الرابع من هذا الكتاب) .
[3]
هو أبو القاسم المعتمد محمد بن المعتضد بن عباد (431- 488) أكبر ملوك الطوائف بالأندلس (راجع ترجمته في المجلد الرابع من هذا الكتاب) و (وفيات الأعيان) .
[4]
وفي نسخة ثانية: الزلاقة: وهي من المعارك المشهورة في تاريخ الأندلس بل في التاريخ الإسلامي، وكان لها الأثر البعيد في الحياة الإسلامية في الأندلس وقد أسهب المؤرخون في ذكرها وذكر تفاصيلها.
[5]
نشأت دولة الموحدين على يد محمد بن تومرت وهو المهدي. وقد ابتدأت دولتهم بالغرب سنة 514 وانتهت سنة 688 هـ، وامتد سلطانها الى الأندلس من سنة 540- 609 هـ. راجع تاريخ أبي الفداء 2/ 243.
[6]
هو أول التابعين لدعوة مهدي الموحدين وكان يسمى بالشيخ واسمه عمر بن يحيى بن محمد الهنتاتي ولقبه أبو حفص، وإليه تنسب الدولة الحفصية بإفريقية ومنهم من يردهم الى ذرية عمر بن الخطاب وليس هذا بصحيح.
[7]
«هو الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد الحفصي، ملك جل إفريقية. بايعه أهل الأندلس وامّله أهل
يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص أيام ولايته عليهم، جارية من سبي الجلالقة، اتخذها أم ولد، وكان له منها ابنه أبو زكريا يحيى وليّ عهده الهالك في أيامه، وأخواه عمر وأبو بكر، وكانت تلقّب أمّ الخلفاء. ثم انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية إفريقية سنة عشرين وستمائة. ودعا لنفسه بها وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس وعشرين وستمائة واستبدّ بإفريقية، وانتقضت دولة الموحدين بالأندلس، وثار عليهم ابن هود [1] . ثم هلك واضطربت الأندلس وتكالب الطاغية عليها، وتردّد الغزو إلى الفرنتيرة بسيط قرطبة وإشبيلية إلى جيّان. وثار ابن الأحمر من غرب الأندلس من حصن أرجونة يرجو التماسك بما بقي من رمق الأندلس. وفاوض أهل الشورى يومئذ بإشبيليّة. وهم بنو الباجي، وبنو الجدّ، وبنو الوزير، وبنو سيّد الناس، وبنو خلدون. وداخلهم في الثورة على ابن هود، وأن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة، ويتمسّكوا بالجبال الساحلية وأمصارها المتوعّرة، من مالقة إلى غرناطة إلى المريّة، فلم يوافقوه على بلادهم. وكان مقدّمهم أبو مروان الباجي، فنابذهم ابن الأحمر وخلع طاعة الباجي وبايع مرّة لابن هود ومرّة لصاحب مراكش من بني عبد المؤمن، ومرّة للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية. ونزل غرناطة واتخذها دار ملكه، وبقيت الفرنتيرة وأمصارها ضاحية من ظل الملك، فخشي بنو خلدون سوء العاقبة من الطاغية، وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة، ونزلوا سبتة، وأجلب الطاغية على تلك الثغور فملك قرطبة وإشبيلية وقرمونة وجيّان وما إليها في مدّة عشرين سنة. ولما نزل بنو خلدون بسبتة أصهر إليهم العزفيّ بأبنائه وبناته، فاختلط بهم، وكان له معهم صهر مذكور. وكان جدّنا الحسن بن محمد، وهو سبط ابن المحتسب قد أجاز فيمن أجاز إليهم، فذكروا سوابق سلفه عند الأمير أبي زكريا، فقصده، وقدم عليه فأكرم قدومه، وارتحل إلى المشرق فقضى فرضه. ثم رجع ولحق بالأمير أبي زكريا على بونة، فأكرمه واستقرّ في ظل دولته ومرعى نعمته، وفرض له الأرزاق وأقطع الأقطاع. وهلك هنالك فدفن ببونة سنة سبع وأربعين وستمائة وولي ابنه المستنصر
[ () ] شرق الأندلس لصد هجوم ملكي ارغون وقشتالة، فأوفدوا إليه كاتب ابن مردنيش ابا عبد الله بن الأبار فأنشده القصيدة السينية المشهورة:
أدرك بخيلك خيل الله اندلسا
…
ان السبيل الى منجاتها درسا»
[1]
هو محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العظيم بن هو الجذامي. راجع أخبار ثورته في المجلد الرابع من هذا الكتاب.
محمد، فأجرى جدّنا أبا بكر على ما كان لأبيه. ثم ضرب الدهر ضرباته، وهلك المستنصر سنة خمس وسبعين وستمائة، وولي ابنه يحيى، وجاء أخوه الأمير أبو إسحاق من الأندلس بعد أن كان فرّ إليها أمام أخيه المستنصر. فخلع يحيى، واستقلّ هو بملك إفريقية، ودفع جدّنا أبا بكر محمدا على عمل الأشغال في الدولة على سنن عظماء الدولة الموحدين فيها قبله، من الانفراد بولاية العمّال وعزلهم وحسبانهم على الجباية، فاضطلع بتلك الرتبة. ثم عقد السلطان أبو إسحاق لابنه محمد، وهو جدّنا الأقرب على حجابة وليّ عهده ابنه أبي فارس أيام أن أقصاه إلى بجاية [1] . ثم استعفى جدّنا من ذلك فأعفاه ورجع إلى الحضرة، ولما غلب الدعي ابن أبي عمارة [2] على ملكهم بتونس، اعتقل جدّنا أبا بكر محمدا، وصادره على الأموال ثم قتله خنقا في محبسه. وذهب ابنه محمد جدّنا الأقرب مع السلطان أبي إسحاق وأبنائه إلى بجاية فتقبّض عليه ابنه أبو فارس، وخرج مع العساكر هو وإخوته لمدافعة الدعي ابن أبي عمارة، وهو يشبه بالفضل بن المخلوع حتى إذا استلحموا بمرماجنّة جنّة خلص جدّنا محمد مع أبي حفص ابن الأمير أبي زكريا من الملحمة، ومعهما الفازازي وأبو الحسين بن سيّد الناس فلحقوا بمنجاتهم من قلعة سنان. وكان الفازازي من صنائع المولى أبي حفص، وكان يؤثره عليهم. فأما أبو الحسين بن سيّد الناس، فاستنكف من إيثار الفازازي عليه، بما كان أعلى رتبة منه ببلده إشبيلية، ولحق بالمولى أبي زكريا الأوسط بتلمسان، وكان من شأنه ما ذكرناه. وأما محمد بن خلدون فأقام مع الأمير أبي حفص وسكن لايثار الفازازي. ولما استولى أبو حفص على الأمور رعى له سابقته وأقطعه، ونظّمه في جملة القوّاد ومراتب أهل الحروب، واستكفى به في الكثير من أمر ملكه، ورشّحه لحجابته من بعد الفازازي. وهلك فكان من بعده حافد أخيه المستنصر أبو عصيدة، واصطفى لحجابته محمد بن إبراهيم الدبّاغ كاتب الفازازي وجعل محمد بن خلدون رديفا له في حجابته. فكان كذلك إلى أن هلك السلطان، وجاءت دولة الأمير خالد، فأبقاه على حاله من التجلّة والكرامة، ولم
[1] بجاية: وتسمى الناصرية نسبة الى بانيها الناصر بن علناس بن حماد بن زيري الصنهاجي، بناها في حدود سنة 457:- تقع اليوم- على ساحل البحر الأبيض من الجزائر وكانت قاعدة المغرب الأوسط (معجم البلدان) .
[2]
هو أحمد بن روق بن أبي عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من المسيلة (الاحاطة في تاريخ غرناطة 1 174) .
يستعمله ولا عقد له، إلى أن كانت دولة أبي يحيى بن اللحياني فاصطنعه، واستكفى به عند ما تنبّضت عروق التغلّب من العرب، ودفعه إلى حماية الجزيرة من لاج [1] إحدى بطون سليم الموطنين بنواحيها، فكانت له في ذلك آثار مذكورة. ولما انقرضت دولة ابن اللحياني خرج إلى الشرق وقضى سنة ثمان عشرة وأظهر التوبة والإقلاع، وعاود الحج متنقلا سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ولزم كسر بيته. وأبقى السلطان أبو يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الاقطاع والجراية، ودعاه إلى حجابته مرارا فامتنع.
(أخبرني) محمد بن منصور بن مزني قال: لما هلك الحاجب بن محمد بن عبد العزيز الكردي المعروف بالمزوار سنة سبع وعشرين وسبعمائة، استدعى السلطان جدّك محمد بن خلدون وأراده على الحجابة، وأن يفوّض إليه أمره، فأبى واستعفى فأعفاه وآمره فيمن يوليه حجابته، فأثار عليه بصاحب ثغر بجاية محمد بن أبي الحسين بن سيّد الناس لاستحقاقه ذلك بكفايته واضطلاعه، ولقديم صحابة بين سلفهما بتونس، وإشبيلية من قبل. وقال له: هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والدين [2] فعمل السلطان على إشارته واستدعى ابن سيّد الناس وولّاه حجابته. وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من تونس يستعمل جدّنا محمدا عليها وثوقا بنظره واستنامة إليه إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ونزع ابنه، وهو والدي محمد بن أبي بكر عن طريقة السيف والخدمة إلى طريقة العلم والرباط، لما نشأ عليه في حجر أبي عبد الله الرندي [3] الشهير بالفقيه، كان كبير تونس لعهده في العلم والفتيا، وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبي حسين وعمّه حسن، الوليّين الشهيرين. وكان جدّنا رحمه الله قد لازمه من يوم نزوعه عن طريقه، وألزمه ابنه وهو والدي رحمه الله فقرأ وتفقّه، وكان مقدّما في صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه، عهدي بأهل البلد يتحاكمون إليه فيه، ويعرضون حوكهم عليه، وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
[1] وفي نسخة ثانية: دلاج.
[2]
وفي نسخة ثانية: الذوين.
[3]
وفي نسخة ثانية: الزبيديّ. نسبة الى قرية بساحل المهدية توفي عام 740 هـ وهو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن عبد الله القرشي الزبيدي. والرندي نسبة الى (رندة) .
(أمّا نشأتي) فإنّي ولدت بتونس في غرّة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربّيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعت وقرأت القرآن العظيم على الأستاذ أبي عبد الله محمد بن سعد بن نزال [1] الأنصاري، أصله من جالبة الأندلس من أعمال بلنسية، أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها، وكان إماما في القراءات لا يلحق شأوه، وكان من أشهر شيوخه في القراءات السبع أبو العباس أحمد بن محمد بن البطوي [2] ومشيخته فيها، وأسانيده معروفة. وبعد أن استظهرت القرآن العظيم عن حفظي، قرأته عليه بالقراءات السبع المشهورة إفرادا وجمعا [3] في إحدى وعشرين ختمة، ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى ثم قرأت برواية يعقوب [4] ختمة واحدة جمعا بين الروايتين عنه، وعرضت عليه رحمه الله قصيدة الشاطبي [5] اللامية في القراءات والرائية في الرسم. وأخبرني بهما عن الأستاذ أبي عبد الله البطوي وغيره من شيوخه، وعرضت عليه كتاب التفسير لأحاديث الموطأ لابن عبد البرّ حذا به حذو كتابه التمهيد على الموطأ، مقتصرا على الأحاديث فقط.
ودرست عليه كتبا جمّة مثل كتاب التسهيل لابن مالك [6] ومختصر ابن الخطيب في الفقه [7] ولم أكملهما بالحفظ، وفي خلال ذلك تعلّمت صناعة العربية على والدي
[1] وفي نسخة ثانية برال: بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المشددة، هكذا قيّده ابن خلدون بخط يده.
[2]
وفي نسخة ثانية: البطرني: نسبة الى بطرنة من إقليم بلنسية بشرق الأندلس. وقد ضبطها ابن خلدون بخط يده: بفتح الباء والطاء المهملة وراء ساكنة بعدها نون.
[3]
«الإفراد ان يتلى القرآن كله أو جزء منه برواية واحدة لأحد القراء السبع أو العشرة المشهورين، والجمع أن يجمع القارئ عند قراءته للقرآن كله أو جزء منه بين روايتين فأكثر من الروايات السبع أو العشر المتواترة. ويسمى بالجمع الكبير ان استوفى القارئ سبع قراآت فأكثر. وإلّا سموه بالجمع الصغير.
[4]
هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرميّ البصري (117- 205) أحد القراء العشرة، وله قراءة مشهورة عنه، وهي احدى القراءات العشر. راجع طبقات القراء (1/ 285) و (2/ 234) .
[5]
هو أبو القاسم بن خلف بن أحمد الشاطبي الرعينيّ، رحل الى الشرق ودخل القاهرة، حيث مدرسة القاضي الفاضل، وقد نظم قصيدته اللامية المعروفة بالشاطية أو حرز الأماني، والرائية وتعرف بالعقيلة (طبقات القراء 2/ 20) .
[6]
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي الحياني النحويّ المشهور (600- 672) وكتابه تسهيل الفوائد جمع قواعد النحو بإيجاز.
[7]
وفي نسخة ثانية: ابن الحاجب وهو عثمان بن عمر بن يونس المعروف بابن الحاجب جمال الدين المصري (570- 646) له مختصر في الفقه ذكره ابن خلدون في مقدمته راجع (وفيات الأعيان 1/ 395) .
وعلى أستاذي تونس: منهم الشيخ أبو عبد الله محمد العربيّ الحصايري، وكان إماما في النحو وله شرح مستوفى على كتاب التسهيل. ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش المزازي [1] . ومنهم أبو العبّاس أحمد بن القصّار، كان ممتعا في صناعة النحو، وله شرح على قصيدة البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي وهو حيّ لهذا العهد بتونس.
ومنهم إمام العربية والأدب بتونس أبو عبد الله محمد بن بحر، لازمت مجلسه وأفدت عليه، وكان بحرا زاخرا في علوم اللسان. وأشار عليّ بحفظ الشعر فحفظت كتب الأشعار الستة، والحماسة للأعلم [2] وشعر حبيب [3] وطائفة من شعر المتنبي، ومن أشعار كتاب الأغاني. ولازمت أيضا مجلس إمام المحدّثين بتونس، شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القيسيّ الوادياشي صاحب الرحلتين، وسمعت عليه كتاب مسلم بن الحجّاج إلّا فوتا يسيرا من كتاب الصّيد، وسمعت عليه كتاب الموطأ من أوّله إلى آخره، وبعضا من الأمّهات الخمس، وناولني [4] كتبا كثيرة في العربية والفقه وأجازني إجازة عامّة، وأخبرني عن مشايخه المذكورين أشهرهم بتونس قاضي الجماعة أبو العبّاس أحمد بن الغمّاز الخزرجي.
وأخذت الفقه بتونس من جماعة، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحيّاني، وأبو القاسم محمد القصير، وقرأت عليه كتاب التهذيب لأبي سعيد البرادعي، مختصر المدوّنة، وكتاب المالكيّة، وتفقّهت عليه. وكنت في خلال ذلك انتاب مجلس شيخنا الإمام قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام مع أخي عمر رحمة الله عليهما، وأفدت منه وسمعت عليه أثناء ذلك كتاب الموطأ للإمام مالك، وكانت له طرق عالية عن أبي محمد بن هارون الطائي قبل اختلاطه إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس، وكلّهم سمعت عليه، وكتب لي وأجازني، ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف.
[1] وفي نسخة ثانية: الزرزالي.
[2]
هو يوسف بن سليمان بن عيسى النحويّ الشنتمري- نسبة الى شنت مريّة- المعروف بالأعلم (وفيات الأعيان) ج 2 ص 465.
[3]
المشاعر المشهور وهو حبيب بن أوس الحارث الطائي أبو تمام (190- 226)(وفيات الأعيان) .
[4]
المناولة حسب مصطلح الحديث تعني الإجازة لشخص بالرواية عن شخص آخر.
وكان قدم علينا في جملة السلطان أبي الحسن عند ما ملك إفريقية سنة ثمان وأربعين جماعة من أهل العلم كان يلزمهم شهود مجلسه، ويتجمّل بمكانهم فيه، فمنهم شيخ الفتيا بالمغرب وإمام مذهب مالك أبو عبد الله محمد بن سليمان السطّي، فكنت انتاب مجلسه وأفدت عليه. ومنهم كاتب السلطان أبي الحسن وصاحب علامته التي توضع أسفل مكتوباته، إمام المحدّثين أبو محمد عبد المهيمن الحضرميّ، لازمته وأخذت عنه سماعا وإجازة، الأمّهات الست. وكتاب الموطأ، والسير لابن إسحاق، وكتاب ابن الصلاح في الحديث، وكتبا كثيرة سرت [1] عن حفظي. وكانت بضاعته في الحديث وافرة، ونحلته في التقييد والحفظ كاملة، كانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة الاف سفر في الحديث والفقه والعربية والأدب والمعقول وسائر الفنون، مضبوطة كلها مقابلة. ولا يخلو ديوان منها عن ضبط بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفة، حتى الفقه والعربية الغريبة الإسناد إلى مؤلفها في هذه العصور. ومنهم الشيخ أبو العباس أحمد الزواوي إمام المقرءين بالمغرب. قرأت عليه القرآن العظيم بالجمع الكبير بين القراءات السبع، من طريق أبي عمر والداني وابن شريح [2] لم أكملها، وسمعت عليه عدّة كتب، وأجازني بالإجازة العامّة.
ومنهم شيخ العلوم العقلية أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأيلّي أصله من تلمسان وبها نشأ، وقرأ كتب التعليم وحذق فيها، وأظلّه الحصار الكبير بتلمسان أعوام المائة السابعة، فخرج منها وحجّ ولقي أعلام المشرق يومئذ، فلم يأخذ عنهم لأنه كان مختلطا بعارض عرض في عقله. ثم رجع من المشرق وأفاق وقرأ المنطق والأصلين على الشيخ أبي موسى عيسى ابن الإمام، وكان قرأ بتونس مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن على تلميذ أبي زيتون الشهير الذكر [3] وجاءا إلى تلمسان بعلم كثير من المنقول والمعقول، فقرأ الأيلّي على أبي موسى منهما كما قلناه، ثم خرج من تلمسان هاربا إلى المغرب لأنّ سلطانها أبا حمّو يومئذ من ولد يغمراسن بن زيّان، كان يكرهه على التصرّف في أعماله، وضبط الجباية بحسبانه، ففرّ إلى المغرب، ولحق
[1] وفي نسخة ثانية: شذت.
[2]
هو المقرئ محمد بن شريح بن أحمد بن محمد ابو عبد الله الإشبيلي (388- 476) .
[3]
هو ابن زيتون أبو القاسم، القاسم بن أبي بكر بن مسافر (621- 691) قام برحلة الى الشرق وأخذ عن علمائه، ثم رجع بعدها الى تونس ما سند إليه مهمة القضاء والإفتاء، وهو أول من أظهر تآليف فخر الدين الرازيّ في تونس.
ابن خلدون م 33 ج 7
بمراكش، ولازم العالم الشهير الذكر أبا العبّاس بن البناء، فحصّل عنه سائر العلوم العقلية، وورث مقامه فيها وأرفع، ثم صعد إلى جبل الهساكرة بعد وفاة الشيخ باستدعاء علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، فأفاده وبعد أعوام استنزله ملك المغرب، السلطان أبو سعيد، وأسكنه بالبلد الجديد والأبلّي معه.
ثم اختصّه السلطان أبو الحسن ونظّمه في جملة العلماء بمجلسه، وهو في خلال ذلك يعلّم العلوم العقلية، ويبثّها بين أهل المغرب حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصاره. وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه. ولما قدم على تونس في جملة السلطان أبي الحسن، لزمته، وأخذت عنه العلوم العقلية [1] ، والمنطق، وسائر الفنون الحكمية، والتعليمية، وكان رحمه الله تعالى يشهد لي بالتبريز في ذلك.
وممن قدم في جملة السلطان أبي الحسن، صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقي، كان يكتب عن السلطان ويلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتّاب يومئذ، وصاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات، وبعضها يضعه السلطان بخطّه. وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب في براعة خطّه، وكثرة علمه، وحسن سمته، وإجادته في فقه الوثائق، والبلاغة في الترسيل عن السلطان، وحوك الشعر والخطابة على المنابر، لأنه كان كثيرا ما يصلّي بالسلطان. فلمّا قدم علينا بتونس صحبته، واغتبطت به، وإن لم أتخذه شيخا، لمقاربة السن، فقد أفدت منه كما أفدت منهم. وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرحويّ شاعر تونس في قصيدة على رويّ النون يرغب منه أن يذكره [2] لشيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال مدحه للسلطان أبي الحسن في قصيدة [3] على روي الياء، وقد تقدّم ذكرها في أخبار السلطان. وذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع السلطان وهي هذه:
عرفت زماني حين أفكرت عرفاني
…
وأيقنت أن لا حظّ في كفّ كيوان [4]
وأن لا اختيار في اختيار مقوّم
…
وأن لا قراع بالقران لأقران
[1] وفي نسخة ثانية: وأخذت عنه الأصلين.
[2]
وفي نسخة ثانية: يرغب منه تذكرة.
[3]
وفي نسخة ثانية: في قصيدته.
[4]
اسم لأحد الكواكب السيارة ويدعى زحل.
وأن نظام الشكل أكمل نظمه
…
لأضعاف قاض في الدليل برجحان
وأنّ افتقار المرء من فقراته
…
ومن ثقله يغني اللبيب بأوزان
إلى آخرها، ثم يقول في ذكر العلماء القادمين:
هم القوم كلّ القوم أمّا حلومهم
…
فأرسخ من طودي ثبير وثهلان [1]
فلا طيش يعلوهم [2] وأمّا علومهم
…
فأعلامها تهديك من غير نيران
ثم يقول في آخرها
وهامت على عبد المهيمن تونس
…
وقد ظفرت منه بوصل وقربان
وما علقت مني الضمائر غيره
…
وإن هويت كلا بحب ابن رضوان
وكتب هذا الشاعر صاحبنا الرحوي يذكّر عبد المهيمن بذلك.
لهي النفس في اكتساب وسعي
…
وهو العمر في انتهاب وفي
وأرى الناس بين ساع لرشد
…
يتوخّى الهدى وساع لغيّ
وأرى العلم للبريّة زينا
…
فتزيّ منه بأحسن زيّ
وأرى الفضل قد تجمّع كلّا
…
في ابن عبد المهيمن الحضرميّ
ثم يقول في آخرها
ينبغي القرب من مراقي الأماني
…
والتّرقّي للجانب العلويّ
فأنلها مرامها مستهلا [3]
…
كلّ دان يسعى وكلّ قصيّ
ثم كانت واقعة العرب على السلطان بالقيروان فاتح تسع وأربعين وسبعمائة فشغلوا عن ذلك ولم يظفر هذا الرحوي بطلبته. ثم جاء الطاعون الجارف فطوى البساط بما فيه، وهلك عبد المهيمن فيمن هلك، ودفن بمقبرة سلفنا بتونس، لخلّة كانت بينه وبين والدي رحمه الله أيام قدومهم علينا.
فلما كانت وقعة القيروان ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السلطان أبي الحسن، فاعتصموا بالقصبة دار الملك، حيث كان ولد السلطان وأهله، وانتقض عليه ابن تافراكين، وخرج من القيروان إلى العرب، وهم يحاصرون السلطان، وقد
[1] ثبير: جبل بظاهر مكة. ثهلان: جبل في بلاد بني غير (تاج العروس) .
[2]
وفي نسخة ثانية: يعروهم.
[3]
وفي نسخة ثانية:
فأنلها مرامها نلت سهلا
…
كل دان بغي وكل قصيّ
اجتمعوا على أبي دبّوس وبايعوا له كما مرّ في أخبار السلطان، فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس، فحاصر القصبة وامتنعت عليه. وكان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس، وقد سمع الهيعة [1] خرج من بيته إلى دارنا فاختفى عند أبي رحمه الله، وأقام متخفيا عندنا نحوا من ثلاثة أشهر. ثم نجا السلطان من القيروان إلى سوسة، وركب البحر إلى تونس، وفرّ ابن تافراكين إلى المشرق، وخرج عبد المهيمن من الاختفاء، وأعاده السلطان إلى ما كان عليه من وظيفة الولاية والكتابة [2] وكان كثيرا ما يخاطب والدي رحمه الله ويشكره على موالاته، ومما كتب إليه وحفظته من خطّه:
محمد ذو المكارم قد ثناني [3]
…
فعال شكره أبدا عناني
جزى الله ابن خلدون حياة
…
منعّمة وخلدا في الجنان
فكم أولى ووالى من جميل
…
وبرّ بالفعال وباللّسان
وراعى الحضرميّة في الّذي قد
…
جنى من ودّه ورد الحنان [4]
أبا بكر ثناؤك طول دهري
…
أردّد باللسان وبالجنان
وعن علياك ما امتدّت حياتي
…
أكافح بالحسام وباللسان
فمنك أفدت خلّا لست دهري
…
أرى عن حبّه أثنى عناني
أوهؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرحوي في شعره، هم سبّاق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن، اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب، فأمّا ابنا الإمام منهم، فكانا أخوين من أهل برشك من أعمال تلمسان، واسم أكبرهم أبو زيد عبد الرحمن، والأصغر أبو موسى عيسى. وكان أبوهما إماما ببعض مساجد برشك، واتهمه المتغلّب يومئذ على البلد زيرم بن حمّاد [5] بأنّ عنده وديعة من المال لبعض أعدائه، فطالبه بها، ولاذ بالامتناع، وبيّته زيرم لينتزع المال من يده، فدافعه وقتل، وارتحل ابناه هذان الأخوان إلى تونس في آخر المائة
[1] وفي نسخة ثانية: ووقوع الهيعة.
[2]
وفي نسخة ثانية: وظيفة العلامة والكتابة.
[3]
وفي نسخة ثانية: لمحمد ذوي المكارم قد ثناني.
[4]
وفي نسخة ثانية:
وراعى الحضرمية في الّذي قد
…
حبا من ودّه ومن الحنان
[5]
زيري بن حمّاد: وقد ورد في مكان سابق من هذا الكتاب.
السابعة، وأخذا العلم بها عن تلميذ ابن زيتون، وتفقّها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدّكّالي، وانقلبا إلى المغرب بحظّ وافر من العلم، وأقاما بالجزائر يبثّان العلم بها لامتناع برشك عليهما من أجل زيرم المتغلّب عليها، والسلطان أبو يعقوب يومئذ صاحب المغرب الأقصى من بني مرين جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل المشهور [1] ، وبث بها جيوشه في نواحيها، وغلب على الكثير من أعمالها وأمصارها، وملك عمر مغراوة بشلف، وحصر مليانة، بعث إليها الحسن بن أبي الطلاق من بني عسكر، وعليّ بن محمد ابن الخيّر من بني ورتاجن، ومعهما لضبط الجباية واستخلاص الأموال الكاتب منديل بن محمد الكناني، فارتحل هذان الأخوان من الجزائر، وأخذا عليه [2] ، فحليا بعين منديل الكناني [3] ، فقرّبهما واصطفاهما، واتّخذهما لتعليم ولده محمد. فلما هلك يوسف بن يعقوب سلطان المغرب بمكانه من حصار تلمسان سنة خمس وسبعمائة [4] على يد خصيّ من خصيانه طعنه فأشواه، وهلك. وأقام بالملك بعده حافده أبو ثابت بعد أمور ذكرناها في أخباره، ووقع بينه وبين صاحب تلمسان من بعده يومئذ، أبي زيّان محمد بن عثمان بن يغمراسن وأخيه أبي حمّو العهد المتأكد على الإفراج عن تلمسان، وردّ أعمالها عليه، فوفّى لهم بذلك وعاد إلى المغرب.
وارتحل ابن أبي الطلاق من شلف، والكناني من مليانة راجعين إلى المغرب. ومرّوا بتلمسان فأوصى لهما أبو حمّو وأثنى عليهما حلّة بمقامهما في العلم، واغتبط بهما أبو حمّو وبنى لهما المدرسة المعروفة بهما بتلمسان. وأقاما عنده على مجرى أهل العلم.
وسننهم. وهلك أبو حمّو، وكانا كذلك مع ابنه أبي تاشفين إلى أن زحف السلطان أبو الحسن المريني الى تلمسان، وملكها عنوة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وكانت لهما شهرة في أقطار المغرب، أسست لهما عقيدة صالحة، فاستدعاهما لحين دخوله، وأدنى مجلسهما وشاد بمكرمتهما، ورفع جاههما على أهل طبقتهما. وصار يجمّل بهما مجلسه متى مرّ بتلمسان ووفدا عليه في الأولى التي نفر فيها أعيان بلادهما. ثم استنفرهما
[1] دام هذا الحصار حوالي ثمان سنوات وثلاث أشهر.
[2]
وفي نسخة ثانية: واحتلا بمليانة.
[3]
وفي نسخة ثانية: الكناني.
[4]
وفي كتاب العبر والإحاطة انه قتل سنة 706 راجع الدرر الكامنة ج 4 ص 480.
إلى الغزو وحضرا معه واقعة طريف، وعادا إلى بلدهما. وتوفي أبو زيد منهما إثر ذلك، وبقي أخوه موسى متبوّئا ما شاء من ظلال تلك الكرامة.
ولما سار السلطان أبو الحسن إلى إفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كما مرّ في أخباره استصحب أبا موسى ابن الإمام معه مكرّما موقّرا، عالي المحل، قريب المجلس منه.
فلما استولى على إفريقية سرّحه إلى بلده، فأقام بها يسيرا وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة وبقي أعقابهما بتلمسان دارجين في مسالك تلك الكرامة موقرين فيها طبقا على طبق إلى هذا العهد. وأمّا السطّي، واسمه محمد بن سليمان من قبيلة سطّة، من بطون أوربة بنواحي فاس، فنزل أبوه سليمان مدينة فاس. ونشأ محمد فيها وأخذ العلم عن الشيخ أبي الحسن الصغير إمام المالكيّة بالمغرب، والطائر الذكر وقاضي الجماعة بفاس، وتفقّه وقرأ عليه، وكان أحفظ الناس لمذهب مالك، وأفقههم فيه. وكان السلطان أبو الحسن لعظم همته [1] وبعد شأوه في الفضل يتشوّف إلى تزيين مجلسه. بالعلماء، واختار منهم جماعة لصحابته ومجالسته، كان منهم هذا الإمام محمد بن سليمان. وقدم علينا بتونس في جملته، وشهدنا وفور فضله [2] ، وكان في الفقه من بينهم لا يجارى حفظا وفهما، عهدي به رحمه الله تعالى، وأخي موسى [3] يقرأ عليه كتاب التبصرة لأبي الحسن اللخميّ، وهو يصحّحه عليه من إملائه وحفظه في مجالس عديدة، وكان هذا حاله في أكثر ما يعاني في جملة من الكتب [4] . وحضر مع السلطان أبي الحسن واقعة القيروان وخلص معه إلى تونس، وأقام بها نحوا من سنتين، وانتقض المغرب على السلطان واستقلّ به ابنه أبو عنان. ثم ركب السلطان أبو الحسن في أساطيله من تونس آخر سنة خمسين وسبعمائة ومرّ ببجاية فأدركه الغرق في سواحلها، فغرقت أساطيله وغرق أهله، وأكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء وغيرهم، ورمى به البحر ببعض الجزر هنالك حتى استنقذه منها بعض أساطيله، ونجا إلى الجزائر بعد أن تلف موجودة، وهلك الكثير من عياله وأصحابه، وكان من أمره ما مرّ في أخباره.
[1] وفي نسخة أخرى: وكان السلطان أبو الحسن لدينه وسرواته.
[2]
وفي نسخة أخرى: فضائله.
[3]
وفي نسخة أخرى: أخي محمد.
[4]
وفي نسخة أخرى: وكذا كان حاله في أكثر ما يعاني حمله من الكتب.
وأمّا الأيلّي واسمه محمد بن إبراهيم فمنشؤه بتلمسان، وأصله من جالية الأندلس من أهل أيلّة من بلد الجوف [1] منها، أجاز بأبيه وعمه أحمد، فاستخدمهم يغمراسن ابن زيّان وولده في جندهم، وأصهر إبراهيم منهما إلى القاضي بتلمسان محمد بن غلبون في ابنته، فولدت له محمدا هذا. ونشأ بتلمسان في كفالة جدّه القاضي، فنشأ له بذلك ميل إلى انتحال العلم عن الجنديّة التي كانت منتحل أبيه وعمّه. فلما أيفع وأدرك سبق إلى ذهنه محبّة التعاليم، فبرز بها واشتهر وعكف الناس عليه في تعلّمها، وهذا في سنّ البلوغ. ثم أظل السلطان يوسف بن يعقوب وخيّم عليها يحاصرها، وسيّر العساكر إلى الأعمال، فافتتح أكثرها. وكان إبراهيم الأيلّي قائدا بهنين مرسى تلمسان في لجّة من الجند، فلمّا ملكها يوسف بن يعقوب اعتقل من وجد بها من أشياع بني عبد الواد [2] واعتقل إبراهيم الأيلّي، وشاع الخبر في تلمسان بأنّ يوسف ابن يعقوب يسترهن أبناءهم ويطلقهم، فتشوّف ابنه محمد إلى اللحاق بهم من أجل ذلك. وأغراه أهله بالعزم عليه، فتسوّر الأسوار وخرج إلى أبيه فلم يجد خبر الاسترهان صحيحا. واستخدمه يوسف بن يعقوب قائدا على الجند الأندلسيين بتاوريرت، فكره المقام على ذلك، ونزع عن طوره، ولبس المسوح، وسار قاصدا إلى الحجّ. وانتهى إلى رباط العبّاد [3] مختفيا في صحبة الفقراء، فوجد هنالك رئيسا من أهل كربلا [4] من بني الحسين جاء إلى المغرب يروم إقامة دعوته فيه، وكان مغفلا [5] ، فلما رأى عساكر يوسف بن يعقوب وشدّة غلبه أيس من مرامه ونزع عن ذلك، واعتزم على الرجوع إلى بلده، فسار شيخنا محمد بن إبراهيم في جملته.
قال رحمه الله: وبعد حين انكشف لي حاله وما جاء له، واندرجت في جملته
[1] المراد بالجوف، الشمال في لغة المغاربة والأندلسيين.
[2]
وفي نسخة ثانية: من شيع ابن زيان.
[3]
رباط العبّاد: (مرتفع جميل خارج مدينة تلمسان، كان مدفن الأولياء والصلحاء والعلماء. وهناك موضعان عرفا باسم «العبارة» أحدهما يسمى (العباد الفوقي والعباد السفلي) وكان بباب الجياد من أبواب تلمسان) .
[4]
كربلاء: بالمدّ: وهو الموضع الّذي قتل فيه الحسين بن علي رضي الله عنه، في طرف البرية عند الكوفة، فاشتقاقه فالكربلة رخاوة في القدمين، يقال جاء يمشي مكربلا، فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة فسميت بذلك. (معجم البلدان) ويطلق هذا الاسم اليوم على لواء كامل من ألوية العراق.
[5]
وفي نسخة ثانية: وكان معقلا.
وأصحابه وتابعيه. قال: وكان يتلقّاه في كل بلد من أصحابه وأشياعه وخدمه من يأتيه بالأزواد والنفقات من بلده، إلى أن ركبنا البحر من تونس إلى الاسكندرية.
قال: واشتدّت عليّ الغلمة في البحر واستحييت من كثرة الاغتسال لمكان هذا الرئيس، فأشار عليّ بعض بطانته بشرب الكافور، فاغترفت منه غرفة فشربتها فاختلطت. وقدم الديار المصرية على تلك الحال، وبها يومئذ تقيّ الدين بن دقيق العيد وابن الرفعة وصفيّ الدين الهندي، والتبريزي وغيرهم من فرسان المعقول والمنقول. فلم يكن قصاراه إلّا تمييز أشخاصهم إذا ذكرهم لنا، لما كان به من الاختلاط. ثم حجّ مع ذلك الرئيس وسار في جملته إلى كربلاء فبعث به من أصحابه من أوصله إلى مأمنه ببلاد زواوة من أطراف المغرب. وقال لي شيخنا رحمه الله: كان معي دنانير كثيرة تزودتها من المغرب واستبطنتها في جبّة كنت ألبسها، فلمّا نزل بي ما نزل انتزعها مني، حتى إذا بعث أصحابه يشيّعوني إلى المغرب دفعها إليهم، حتى إذا أوصلوني إلى المأمن أعطوني إياها، وأشهدوا عليّ في كتاب حملوه معهم إليه كما أمرهم. ثم قارن وصول شيخنا إلى المغرب مهلك يوسف بن يعقوب وخلاص أهل تلمسان من الحصار، فعاد إلى تلمسان وقد أفاق من اختلاطه، وانبعثت همّته إلى تعلّم العلم. وكان مائلا إلى العقليات فقرأ المنطق على أبي موسى ابن الإمام، وجملة من الأصلين، وكان أبو حمّو صاحب تلمسان قد استفحل ملكه، وكان ضابطا للأمور، وبلغه عن شيخنا تقدّمه في علم الحساب، فدفعه إلى ضبط أمواله ومشارفة أحواله [1] . وتفادى شيخنا من ذلك فأكرهه عليه، فأعمل الحيلة في الخلاص منه، ولحق بفاس أيام السلطان أبي الربيع [2] ، وبعث فيه أبو حمّو، فاختفى بفاس للتعاليم من اليهودي خليفة المغيلي [3] ، فاستوفى عليه فنونها، وحذق وخرج متواريا من فاس، فلحق بمراكش أعوام عشر وسبعمائة. ونزل على الإمام أبي العبّاس بن البنّاء شيخ المعقول والمنقول، والمبرّز في التصوّف علما وحالا، فلزمه، وأخذ عنه وتضلّع في علم المعقول
[1] وفي نسخة ثانية: مشارفة عمّا له.
[2]
ابو الربيع: وهو سليمان بن عبد الله بن أبي يعقوب بن يوسف بن عبد الحق المريني المتوفى سنة 710 هـ.
[3]
وفي نسخة ثانية: واختفى بفاس عند شيخ التعاليم من اليهود، خلّوف المغيلي.
والتعاليم والحكمة. ثم استدعاه شيخ الهساكرة علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه، وكان في طاعة السلطان، فدخل [1] إليه شيخنا وأقام عنده مدّة، قرأ عليه فيها وحصّل. واجتمع طلبة العلم هنالك على الشيخ، فكثرت إفادته، واستفادته، وعلي ابن محمد في ذلك على محبته وتعظيمه، وامتثال إشارته، فغلب على هواه، وعظمت رياسته في تلك القبائل. ولما استنزل السلطان أبو سعيد علي بن تروميت من جبله، نزل الشيخ معه، وسكن بفاس. وانثال عليه طلبة العلم من كلّ ناحية، فانتشر علمه، واشتهر ذكره، فلمّا فتح السلطان أبو الحسن تلمسان ولقي أبا موسى ابن الإمام، ذكره له بأطيب الذكر، ووصفه بالتقدّم في العلوم، وكان السلطان معتنيا بجمع العلماء بمجلسه كما ذكرناه. فاستدعاه من مكانه بفاس ونظمه في طبقة العلماء بمجلسه، وعكف على التدريس والتعليم، ولزم صحابة السلطان، وحضر معه واقعة طريف، وواقعة القيروان بإفريقية. وكانت قد حصلت بينه وبين والدي رحمه الله خلّة [2] ، كانت وسيلتي إليه في القراءة عليه، فلزمت مجلسه وأخذت عنه العلوم العقليّة بالتعاليم. ثم قرأت المنطق وما بعده من الأصلين، وعلوم الحكمة. وعرض أثناء ذلك ركوب السلطان أساطيله من تونس إلى المغرب. وكان الشيخ في نزلنا وكفالتنا، فأشرنا عليه بالمقام وثبّطناه عن السفر، فقبل وأقام. وطالبنا به السلطان أبو الحسن فأحسنّا له العذر، فتجافى عنه. وكان من حديث غرقه في البحر ما قدّمناه.
وأقام الشيخ بتونس، ونحن وأهل بلدنا جميعا نتساجل في غشيان مجلسه، والأخذ عنه، فلمّا هلك السلطان أبو الحسن بجبل هنتاتة وفرغ ابنه أبو عنان من شواغله، وملك تلمسان من بني عبد الواد، كتب فيه يطلبه من صاحب تونس وسلطانها يومئذ أبو إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي يحيى في كفالة شيخ الموحّدين أبي محمد بن تافراكين، فأسلمه إلى سفيره. وركب معه البحر في اسطول أبي عنان الّذي جاء فيه السفير، ومرّ ببجاية ودخلها، وأقام بها شهرا، حتى قرأ عليه طلبة العلم بها مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه برغبتهم في ذلك منه ومن صاحب الأسطول. ثم ارتحل ونزل بمرسى هنين وقدم على أبي عنان بتلمسان، وأحلّه محل التكرمة، ونظمه في طبقة أشياخه من العلماء. وكان يقرأ عليه ويأخذ عنه إلى أن هلك بفاس سنة سبع
[1] وفي نسخة ثانية: فصعد إليه شيخنا.
[2]
وفي نسخة ثانية: صحابة.
وخمسين وسبعمائة. وأخبرني رحمه الله أن مولده بتلمسان سنة إحدى وثمانين وستمائة.
(وأمّا عبد المهيمن) كاتب السلطان أبي الحسن، فأصله من سبتة، وبيتهم بها قديم، ويعرفون ببني عبد المهيمن وكان أبوه محمد قاضيها أيام بني العزفي. ونشأ ابنه عبد المهيمن في كفالته وأخذ عن مشيختها واختصّ بالأستاذ أبي إسحاق الغافقي [1] ، ولما ملك عليهم الرئيس أبو سعيد صاحب الأندلس سبتة، ونقل بني العزفي مع جملة أعيانها إلى غرناطة، ونقل معهم القاضي محمد بن عبد المهيمن وابنه عبد المهيمن، فاستكمل قراءة العلم هنالك وقرأ على مشيختها ابن الزبير ونظرائه [2] ، وتقدّم في معرفة كتاب سيبويه، وبرز في علوّ الإسناد، وكثرة المشيخة. وكتب له أهل المغرب والأندلس والمشرق، واستكتبه رئيس الأندلس يومئذ الوزير أبو عبد الله ابن الحكيم الرندي، المستبد على السلطان المخلوع ابن الأحمر [3] فكتب عنه ونظمه في طبقة الفضلاء الذين كانوا بمجلسه، مثل المحدّث أبي عبد الله بن سيد الفهري [4] وأبي العبّاس أحمد العزفي، والعالم الصوفيّ المتجرّد أبي عبد الله محمد بن خميس التلمساني، وكانا لا يجاريان في البلاغة والشعر إلى غير هؤلاء ممن كان مختصّا به، وقد ذكرهم ابن الخطيب في تاريخ غرناطة. فلما انكب الوزير الحكيم [5] ، وعادت سبتة إلى طاعة بني مرين، عاد عبد المهيمن إليها واستقر بها. ثم ولي الأمر أبو سعيد وغلب عليه ابنه أبو علي، واستبدّ بحمل الدولة. تشوّف إلى استدعاء الفضلاء، وتجمّل بمكانهم، فاستقدم عبد المهيمن من سبتة واستكتبه سنة اثنتي عشرة وسبعمائة. ثم خالف على أبيه سنة أربع عشرة وسبعمائة، وامتنع بالبلد الجديد، وخرج منها إلى سجلماسة لصلح عقده مع أبيه، فتمسّك السلطان أبو سعيد بعبد المهيمن واتخذه كاتبا إلى أن دفعه إلى رياسة الكتّاب، ورسم علامته في الرسائل
[1] هو إبراهيم بن أحمد بن عيسى الإشبيلي ابو إسحاق، عرف بالغافقي، دخل سبته وولي القضاء بها. توفي سنة 716 هـ (الدرر الكامنة 1/ 13) .
[2]
وفي نسخة ثانية: وأخذ عن أبي جعفر بن الزبير ونظرائه.
[3]
وفي نسخة ثانية: السلطان المخلوع من بني الأحمر وهو محمد بن محمد بن محمد بن نصر، يكنى (أبا عبد الله) ثالث ملوك بني الأحمر (655- 713) وهو الّذي بنى مسجد الحمراء الأعظم بغرناطة.
[4]
وفي نسخة ثانية: المحدّث أبي عبد الله بن رشيد الفهري وهو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد الفهري السبتي، محدّث ورحالة مشهور.
[5]
الوزير ابن الحكيم أو الوزير الشاعر أبو عبد الله الرندي محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم وشهرته ابن الحكيم. راجع: الاحاطة في تاريخ غرناطة ج 2/ 378.
والأوامر، فتقدّم لذلك سنة ثمان عشرة وسبعمائة، ولم يزل عليها سائر أيام السلطان أبي سعيد وابنه أبي الحسن. وسار مع أبي الحسن إلى إفريقية، وتخلّف عن واقعة القيروان بتونس، لما كان به من علّة التقرس. فلمّا كانت الهيعة بتونس، ووصل خبر الواقعة، وتحيّز أولياء السلطان إلى القصبة مع حرمه، تسرّب عبد المهيمن في المدينة منتبذا عنهم، وتوارى في بيتنا خشية أن يصاب معهم بمكروه. فلمّا انجلت تلك الغيابة، ورجع السلطان من القيروان إلى سوسة وركب منها البحر إلى تونس، أعرض عن عبد المهيمن لما سخط غيبته عن قومه بالقصبة، وجعل العلامة لأبي الفضل ابن الرئيس عبد الله بن أبي مدين [1] وقد كانت من قبل مقصورة على هذا البيت، وأقام عبد المهيمن عطلا من العمل شهرا [2] . ثم أعتبه السلطان ورضي عنه، وردّ إليه العلامة كما كان، ثم توفي لأيام قلائل بتونس بالطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة ومولده سنة خمس وسبعين وستمائة من المائة قبلها، وقد استوعب ابن الخطيب التعريف به في تاريخ غرناطة، فليطالع هناك من أحبّ الوقوف عليه.
(وأمّا ابن رضوان) الّذي ذكره الرّحويّ في قصيدته، فهو أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان البحاري [3] أصله من الأندلس، نشأ بمالقة، وأخذ عن مشيختها، وحذق في العربية والأدب، وتفنّن في العلوم ونظم ونثر، وكان مجيدا في الترسيل، ومحسنا في كتابة الوثائق. وارتحل بعد واقعة طريف ونزل سبتة، ولقي بها السلطان أبا الحسن [4] ومدحه وأجازه، واختصّ بالقاضي إبراهيم بن يحيى [5] وهو يومئذ قاضي العساكر وخطيب السلطان، وكان يستنيبه في القضاء والخطابة، ثم نظمه في جملة الكتّاب بباب السلطان. واختصّ بخدمة عبد المهيمن رئيس الكتّاب
[1] هو عبد الله بن أبي مدين شعيب العثماني كان في خدمة بني مرين فاشتهر، فقلّدوه الحجابة ورياسة الكتّاب. ولد بقصر كتامة ونشأ بمكناسة وتعلم بها.
[2]
وفي نسخة ثانية: مدة أشهر.
[3]
أو البخاري كما في نسخة أخرى.
[4]
هو السلطان أبو الحسن علي بن أبي سعيد بن يعقوب المريني المتوفى سنة 752 هـ (شذرات الذهب) 6/ 172.
[5]
هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي التازي أبو إسحاق، ويعرف بابن أبي يحيى المتوفى بعد سنة 748 (الإحاطة في تاريخ غرناطة 1/ 217) .
والأخذ عنه، إلى أن رحل السلطان إلى إفريقية، وكانت واقعة القيروان، وانحصر بالقصبة بتونس مع من انحصر بها من أشياعه مع أهله وحرمه. وكان السلطان قد خلّف ابن رضوان في بعض خدمته، فجلا عند الحصار فيما عرض لهم من المكاتبات. وتولّى كبر ذلك، فقام فيه أحسن قيام إلى أن وصل السلطان من القيروان، فرعى له حق خدمته تأنيسا وقربا، وكثرة استعمال إلى أن رحل من تونس في الأسطول إلى المغرب سنة خمسين وسبعمائة كما مرّ. واستخلف بتونس ابنه أبا الفضل، وخلّف أبا القاسم بن رضوان كاتبا له، فأقاما كذلك أياما. ثم غلبهم على تونس سلطان الموحّدين الفضل ابن السلطان أبي يحيى. ونجا أبو الفضل إلى أبيه، ولم يطق ابن رضوان الرحلة معه، فأقام بتونس حولا، ثم ركب البحر إلى الأندلس، وأقام بالمريّة مع جملة من هنالك من أشياع السلطان أبي الحسن، كان فيهم عامر ابن محمد بن علي شيخ هنتاتة كافلا لحرم السلطان أبي الحسن وابنه. أركبهم السفين معه من تونس عند ما ارتحل، فخلص إلى الأندلس، ونزلوا بالمريّة وأقاموا بها تحت جراية سلطان الأندلس، فلحق بهم ابن رضوان وأقام معهم. ودعاه أبو الحجّاج سلطان الأندلس [1] الى أن يستكتبه فامتنع، ثم هلك السلطان أبو الحسن وارتحل مخلّفه الذين كانوا بالمريّة، ووفدوا على السلطان أبي عنان، ووفد معهم ابن رضوان، فرعى له وسائله في خدمة أبيه، واستكتبه واختصّه بشهود مجلسه مع طلبة العلم بحضرته. وكان محمد بن أبي عمرو يومئذ رئيس الدولة، ونجيّ الخلوة وصاحب العلامة، وحسبان الجباية والعساكر، قد غلب على هوى السلطان، واختص به، فاستخدم له ابن رضوان حتى علق منه بذمّة [2] ، ولاية وصحبة وانتظام في السمر، وغشيان المجالس الخاصة، وهو مع ذلك يدنيه من السلطان. وينفق سوقه عنده، ويستكفي به في مواقف خدمته إذا غاب عنها لما هو أهمّ، فحلا بعين السلطان ونفقت عنده فضائله. فلما سار أبو عمرو في العساكر إلى بجاية سنة أربع وخمسين وسبعمائة انفرد ابن رضوان بعلامة الكتاب عن السلطان، ثم رجع ابن أبي عمرو وقد سخطه السلطان، فأقصاه إلى بجاية وولّاه
[1] ابو الحجاج هذا، هو يوسف بن إسماعيل ابن الأحمر (718- 755) هو سابع ملوك بني الأحمر تولى الحكم سنة 334.
[2]
وفي نسخة ثانية: بدمه.
عليها، وعلى سائر أعمالها، وعلى حرب الموحّدين بقسنطينة. وأفرد ابن رضوان بالكتابة، وجعل إليه العلامة كما كانت لابن أبي عمرو، فاستقلّ بها موفّر الاقطاع والإسهام والجاه. ثم سخطه آخر سبع وخمسين وسبعمائة وجعل العلامة لمحمد بن أبي القاسم بن أبي مدين والإنشاء والتوقيع لأبي إسحاق إبراهيم بن الحاج الغرناطي [1] ، فلما كانت دولة السلطان أبي سالم [2] جعل العلامة لعلي بن محمد بن مسعود [3] صاحب ديوان العساكر والإنشاء والتوقيع والسرّ لمؤلف الكتاب عبد الرحمن ابن خلدون. ثم هلك أبو سالم سنة اثنتين وستين وسبعمائة واستبدّ الوزير عمر بن عبد الله على من كفله من أبنائه، فجعل العلامة لابن رضوان سائر أيامه، وقتله عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن، واستبدّ بملكه، فلم يزل ابن رضوان على العلامة، وهلك عبد العزيز وولي ابنه السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي بن الكاس وابن رضوان على حاله، ثم غلب السلطان أحمد على الملك وانتزعه من السعيد، وأبي بكر بن غازي، وقام بتدبير دولته محمد بن عثمان بن الكاس، مستبدّا عليه، والعلامة لابن رضوان كما كانت إلى أن هلك بأزمور [4] في حركة السلطان أحمد إلى مراكش، لحصار عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي.
وكان في جملة السلطان أبي الحسن جماعة كثيرة من فضلاء المغرب وأعيانه، هلك كثير منهم في الطاعون الجارف بتونس، وغرق جماعة منهم في أسطوله لمّا غرق، وتخطّت النكبة منهم آخرين إلى أن استوفوا ما قدّر من آجالهم.
(فمن حضر معه بإفريقية) الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الزواويّ شيخ القرّاء بالمغرب، أخذ العلم والعربية عن مشيخة فاس، وروى عن الرحّالة أبي عبد الله بن رشيد، وكان إماما في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا يجاري. وله مع ذلك
[1] النميري أبو إسحاق يعرف بابن الحاج ولد سنة 713 وهو إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم
…
راجع (الإحاطة 1/ 193) .
[2]
أبو سالم هو إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن وشقيق السلطان أبي عنان فارس.
[3]
كنيته أبو الحسن من الأندلس نشأ في بيت علم وكان فقيها أديبا لغويا، قدم مع أبيه الى تلمسان واسمه علي بن محمد بن أحمد بن موسى بن سعود الخزاعي.
[4]
ذكرها ياقوت تحت اسم: أزمورة: ثلاث ضمات متواليات وتشديد الميم والواو ساكنة وراء مهملة: بلد بالمغرب في جبال البربر (معجم البلدان) .
صوت من مزامير آل داود [1] وكان يصلّي بالسلطان التراويح ويقرأ عليه بعض الأحيان حزبه.
(وممن حضر معه) بإفريقية الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن الصبّاغ من أهل مكناسة، كان مبرّزا في المعقول والمنقول، وعارفا بالحديث وبرجاله، وإماما في معرفة كتّاب الموطأ وإقرائه، أخذ العلوم عن مشيخة فاس ومكناسة، ولقي شيخنا أبا عبد الله الأيلّي، ولازمه وأخذ عنه العلوم العقلية، فاستنفد بقيّة طلبه عليه، فبرز آخرا، واختاره السلطان لمجلسه واستدعاه، ولم يزل معه إلى أن هلك غريقا في ذلك الأسطول.
(ومنهم القاضي أبو عبد الله) محمد بن عبد الله بن عبد النور من أعمال ندرومة ونسبه في صنهاجة كان مبرّزا في الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس، تفقّه فيه على الأخوين أبي زيد وأبي موسى ابني الإمام، وكان من جملة [2] أصحابهما.
ولما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان رفع من منزلة ابني الإمام واختصهما بالشورى في بلدهما. وكان يستكثر من أهل العلم في دولته، ويجري لهم الأرزاق ويعمر بهم مجلسه، فطلب يومئذ من ابن الإمام أن يختار له من أصحابه من ينظمه في فقهاء المجالس، فأشار عليه بابن عبد النور هذا، فأدناه وقرّب مجلسه، وولّاه قضاء عسكره، ولم يزل في جملته إلى أن هلك بالطاعون بتونس سنة تسع وأربعين وسبعمائة وكان قد خلف أخاه عليّا رفيقه في تدريس ابن الإمام إلّا أنه أقصر باعا منه في الفقه. فلمّا خلع السلطان أبو عنان طاعة أبيه السلطان أبي الحسن، ونهض إلى فاس، استنفره في جملته وولّاه قضاء مكناسة، فلم يزل بها حتى تغلّب عمر بن عبد الله على الدولة كما مرّ، فنزع إلى قضاء فرضه فسرّحه. فخرج حاجّا سنة أربع وستين وسبعمائة فلمّا قدم على مكة وكان به بقية مرض، هلك في طواف القدوم.
وأوصى أمير الحاج على ابنه محمد، وأن يبلغ وصيته به للأمير المتغلّب على الديار المصرية يومئذ يلبغا الخاصكي [3] فأحسن خلافته فيه وولّاه من وظائف الفقهاء ما
[1] يروى ابن أبي موسى الأشعري أنه كان يقرأ القرآن، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطيت مزمارا من مزامير آل داود يعني بذلك حسن صوته (تاج العروس 3/ 340) .
[2]
وفي نسخة ثانية: جلّة.
[3]
هو يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري الأمير الكبير الشهير. أول ما أمّره الناصر حسن مقدم ألف بعد موت تنكره ثم كان يلبغا راس من قام على استاذه الناصر حسن حتى قتل وتسلطن المنصور محمد بن
سدّ به خلّته، وصان عن سؤال الناس وجهه، وكان له عفا الله عنه كلف بعلم الكيمياء، طالبا لمن غلط في ذلك وأمثاله [1] . فلم يزل يعاني من ذلك ما يورّطه مع الناس في دينه وعرضه إلى أن دعته الضرورة للترحّل عن مصر، ولحق ببغداد وناله مثل ذلك. فلحق بماردين [2] واستقرّ عند صاحبها، فأحسن جواره إلى أن بلغنا بعد التسعين أنه هلك هنالك حتف أنفه والبقاء للَّه وحده.
(ومنهم شيخ التعاليم) أبو عبد الله محمد بن النجّار من أهل تلمسان، أخذ العلم ببلده عن مشيختها، وعن شيخنا الأيلّي وبرّز عليه. ثم ارتحل إلى المغرب فلقي بسبتة إمام التعاليم أبا عبد الله محمد بن هلال شارح المجسطيّ في الهيئة، وأخذ بمراكش عن الإمام أبي العبّاس بن البنّاء، وكان إماما في علم النجامة وأحكامها، وما يتعلّق بها، ورجع إلى تلمسان بعلم كثير، واستخلصته الدولة. فلمّا هلك أبو تاشفين وملك السلطان أبو الحسن نظمه في جملته وأجرى له رزقه، فحضر معه بإفريقية وهلك في الطاعون.
(ومنهم) أبو العبّاس أحمد بن شعيب [3] من أهل فاس، برع في الأدب واللسان والعلوم العقلية، من الفلسفة والتعاليم والطب وغيرها. ونظمه السلطان أبو سعيد في جملة الكتّاب وأجرى عليه رزق الأطبّاء لتقدّمه فيه، فكان كاتبه وطبيبه، وكذا مع السلطان أبي الحسن بعده، فحضر بإفريقية وهلك بها في ذلك الطاعون. وكان له شعر سابق به الفحول من المتقدّمين والمتأخّرين، وكانت له إمامة في نقد الشعر وبصر به، وما حضرني الآن من شعره إلا قوله:
[ () ] حاجي
…
وعند ما تسلطن الأشرف شعبان تناهت الى يلبغا الرئاسة ولقب نظام الملك وصار إليه الأمر والفهي وهو السلطان في الباطن
…
(شذرات الذهب 6/ 212) .
[1]
وفي نسخة ثانية: كلف بعمل الكيمياء، تابعا لمن غلط في ذلك من أمثاله.
[2]
ماردين: قلعة مشهورة على قنّة جبل الجزيرة مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين وذلك الفضاء الواسع مشهورة بمدارسها وخاناتها ودورها وهي كالدرج، كل دار فوق الأخرى وكل درب منها يشرف على ما تحته من الدور، ذكرها جرير في قوله:
يا خزر تغلب إن اللؤم حالفكم ما دام في ماردين الزيت يعتصر. (معجم البلدان) ويطلق هذا الاسم اليوم على إقليم واسع من تركيا.
[3]
هو احمد بن شعيب الجزنائي التازي نزيل فاس. كتب للسلطان أبي الحسن المريني وتوفي بتونس سنة 750 هـ.
دار الهوى نجد وساكنها
…
أقصى أمانيّ النفس من نجد
هل باكر الوسميّ ساحتها
…
واستنّ في قيعانها الجرد
أو بات معتلّ النسيم بها
…
مستشفيا بالبان والرند
يتلو أحاديث الذين هم
…
قصدي وإن جاروا عن القصد
أيام سمر ظلالها وطني
…
منها وزرق مياهها وردي
ومطارح النظرات في رشاء
…
أحوى المدامع أهيف القدّ
يرنو إليك بعين جارية
…
قتل المحبّ بها على عمد
حتى أجدّ بهم على عجل
…
ريب الخطوب وعاثر الجدّ
فقدوا فما وأبيك بعدهم
…
عيشي شفى إلّا على الفقد [1]
وغدوا دفينا قد تضمّنه
…
بطن الثرى وقرارة اللّحد
ومشرّدا من دون رؤيته
…
قذف النّوى وتنوفة البعد
أجرى عليّ العيش بعدهم
…
أني جرعت حميمهم وحدي [2]
لا تلحني يا صاح في شجن
…
أخفيت منه فوق ما أبدي
بالقرب لي سكن يؤوّبني
…
من ذكره سهد على سهد
فرخان قد تركا بمضيعة
…
رزئت [3] عن الرّفداء والرفد
(ومنهم) صاحبنا الخطيب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق من أهل تلمسان، كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعبّاد، ومتوارثين خدمة تربته من لدن جدّهم خادمه في حياته. وكان جدّه الخامس أو السادس واسمه أبو بكر بن مرزوق معروفا بالولاية فيهم. ولما هلك دفنه يغمراسن [4] بن زيّان السلطان بتلمسان من بني عبد الواد في التربة بقصره، ليدفن بإزائه متى قدّر بوفاته. ونشأ محمد هذا بتلمسان، ومولده فيما أخبرني سنة عشر وسبعمائة [5] ، وارتحل مع أبيه إلى المشرق سنة ثمان عشرة
[1] وفي نسخة ثانية: فقدوا فلا وأبيك بعدهم ما عشت لا آسي على الفقد.
[2]
وفي نسخة ثانية: اني فقدت جميعهم وحدي.
[3]
وفي نسخة ثانية: زويت.
[4]
يغمراسن بن زيان بن ثابت بن محمد السلطان من بني عبد الواد، كان من أشد بني عبد الواد بأسا، وكانت له في النفوس مهابة، ولي الملك سنة 733، ودان له المغرب الأوسط وتلمسان.
[5]
ما ذكره ابن خلدون عن مولد تاريخ ابن مرزوق يختلف عما ذكره ابن الخطيب في الإحاطة حيث يقول أنه ولد سنة 711 هـ بدل 710 هـ.
وسبعمائة ومرّ ببجاية فسمع بها على الشيخ أبي علي ناصر الدين ودخل الشرق. وجاور أبوه بالحرمين الشريفين، ورجع هو إلى القاهرة وأقام بها. وقرأ على برهان الدين الصّفاقصيّ المالكيّ وأخيه. وبرع في الطلب والرواية، وكان يجيد الخطّين. ثم رجع سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة الى المغرب ولقي السلطان أبا الحسن بمكانه من حصار تلمسان، وقد شيد بالعبّاد مسجدا عظيما، وكان عمّه ابن مرزوق خطيبا به على عادتهم في العبّاد. وتوفي فولّاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمّه. وسمعه يخطب على المنبر ويشيد بذكره والثناء عليه، فحلا بعينه واختصّه وقرّبه، وهو مع ذلك يلازم مجلس الشيخين ابني الإمام، ويأخذ نفسه بلقاء الفضلاء والأكابر والأخذ عنهم، والسلطان كل يوم يزيد ترقّيه [1] ، وحضر معه واقعة طريف التي كان فيها تمحيص المسلمين، فكان يستعمله في السفارة عنه إلى صاحب الأندلس. ثم سفر عنه بعد أن ملك إفريقية إلى ابن أدفونش ملك قشتالة في تقرير الصلح، واستنقاذ ابنه أبي عمر تاشفين. كان أسر يوم طريف فغاب في تلك السفارة عن واقعة القيروان. ورجع بتاشفين مع طائفة من زعماء النصرانيّة جاءوا في السفارة عن ملكهم، ولقيهم خبر واقعة القيروان بقسنطينة من بلاد إفريقية، وبها عامل السلطان وحاميته، فثار أهل قسنطينة بهم جميعا ونهبوهم، وخطبوا للفضل ابن السلطان أبي يحيى، وراجعوا الموحّدين، واستدعوه فجاء إليهم وملك البلد. وانطلق ابن مرزوق عائدا إلى المغرب مع جماعة من الأعيان، والعمّال والسفراء عن الملوك. ووفد على السلطان أبي عنان مع أمة حظية أبي الحسن وأثيرته. كانت راحلة إليه، فأدركها الخبر بقسنطينة، وحضرت الهيعة. فوثب ابنها أبو عنان على ملك أبيه واستيلائه على فاس، فرجعت إليه وابن مرزوق في خدمتها. ثم طلب اللحاق بتلمسان فسرّحوه إليها، وأقام بالعبّاد مكان سلفه. وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن يغمراسن بن زيّان قد بايع له قبيلة بني عبد الواد بعد واقعة القيروان بتونس، وابن تافراكين يومئذ محاصر للقصبة كما مرّ في أخبارهم. وانصرفوا إلى تلمسان فوجدا بها أبا سعيد عثمان بن جرّار أقد استعمله عليها السلطان أبو عنان عند انتقاضه على أبيه، ومسيره إلى فاس، وانتقض ابن جرّار من بعده، ودعا لنفسه، وصمد إليه عثمان بن
[1] وفي نسخة ثانية: والسلطان في كل يوم يزيده رتبة.
ابن خلدون م 34 ج 7
عبد الرحمن ومعه أخوه أبو ثابت وقومهما، فملكوا تلمسان من يد ابن جرّار وحبسوه ثم قتلوه. واستبدّ أبو سعيد بملك تلمسان وأخوه أبو ثابت يردفه، وركب السلطان أبو الحسن البحر من تونس وغرق أسطوله ونجا هو إلى الجزائر فاحتل بها، وأخذ في الحشد إلى تلمسان، فرأى أبو سعيد أن يكفّ غربة عنهم، بمواصلة تقع بينهما، واختار لذلك الخطيب ابن مرزوق [1] فاستدعاه وأسرّ إليه بما يلقيه عند السلطان أبي الحسن، وذهب لذلك على طريق الصحراء. وأطلّ أبو ثابت وقومه على الخبر فنكروه على أبي سعيد وعاتبوه فأنكر، فبعثوا صغير بن عامر في اعتراض ابن مرزوق فجاء به وحبسوه أياما. ثم أجازوه البحر إلى الأندلس فنزل على السلطان أبي الحجّاج بغرناطة، وله إليه وسيلة منذ اجتماعه به بمجلس السلطان أبي الحسن بسبتة إثر واقعة طريف، فرعى له أبو الحجّاج ذمّة تلك المعرفة، وأدناه واستعمله في الخطابة بجامعة بالحمراء. فلم يزل خطيبه إلى أن استدعاه السلطان أبو عنان سنة أربع وخمسين وسبعمائة بعد مهلك أبيه، واستيلائه على تلمسان وأعمالها، فقدم عليه ورعى له وسائله، ونظمه في أكابر أهل مجلسه. وكان يقرأ الكتب بين يديه في مجلسه العليّ [2] ويدرّس في نوبته مع من يدرّس في مجلسه منهم. ثم بعثه إلى تونس عام ملكها سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ليخطب له ابنه السلطان أبي يحيى، فردّت تلك الخطبة واختفت بتونس. ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعا على مكانها، فسخطه لذلك ورجع السلطان من قسنطينة، فثار أهل تونس بمن كان بها من عمّاله وحاميته. واستقدموا أبا محمد بن تافراكين من المهديّة، فجاء وملك البلد. وركب القوم الأسطول ونزلوا بمراسي تلمسان. وأوعز السلطان باعتقال ابن مرزوق، وخرج لذلك يحيى بن شعيب من مقدّمي الحجّاب [3] ببابه، فلقيه بتاسالت فقيّده هنالك. وجاء به فأحضره السلطان وقرّعه، ثم حبسه مدّة وأطلقه بين يدي مهلكه.
واضطربت الدولة بعد موت السلطان أبي عنان، وبايع بعض بني مرين لبعض الأعياص من بني يعقوب بن عبد الحق. وحاصروا البلد الجديد، وبها ابنه السعيد ووزيره المستبدّ عليه الحسن بن عمر، وكان السلطان أبو سالم بالأندلس غرّبه إليها
[1] وفي نسخة ثانية: ابن مرزوي.
[2]
وفي نسخة ثانية: العلمي.
[3]
وفي نسخة ثانية: الجنادرة وهو تحريف.
أخوه السلطان أبو عنان مع بني عمّهم ولد السلطان أبي علي بعد وفاة السلطان أبي الحسن، وحصولهم جميعا في قبضته. فلما توفي أراد أبو سالم النهوض لملكه بالمغرب، فمنعه رضوان القائم يومئذ بملك الأندلس مستبدّا على ابن السلطان أبي الحجّاج، فلحق هو بإشبيليّة من دار الحرب، ونزل على بطرة [1] ملكهم يومئذ، فهيّأ له السفن وأجازه إلى العدوة فنزل، بجبل الصفيحة من بلاد غمارة، وقام بدعوته بنو مسير [2] وبنو منير أهل ذلك الجبل منهم، ثم أمدّوه واستولى على ملكه في خبر طويل ذكرناه في أخبار دولته. وكان ابن مرزوق يداخله وهو بالأندلس ويستخدم له، ويفاوضه في أموره وربما كان يكاتبه، وهو بجبل الصفيحة، ويداخل زعماء قومه في الأخذ بدعوته. فلمّا ملك السلطان أبو سالم رعى له تلك الوسائل أجمع، ورفعه على الناس، وألقى عليه محبّته وجعل زمام الأمور بيده، فوطئ الناس عقبه وغشي أشراف الدولة بابه، وصرفت الوجوه إليه، فمرضت لذلك قلوب أهل الدولة ونقموه على السلطان، وتربّصوا به حتى وثب عبد الله بن عمر بالبلد الجديد، وافترق الناس عن السلطان. وقتله عمر بن عبد الله آخر اثنتين وستين وسبعمائة وحبس ابن مرزوق وأغرى به سلطانه الّذي نصبه، محمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي الحسن فامتحنه واستصفاه، ثم أطلقه بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله فمنعه منهم.
ولحق بتونس سنة أربع وستين وسبعمائة ونزل على السلطان أبي إسحاق وصاحب دولته المستبدّ عليه أبي محمد بن تافراكين، فأكرموا نزله وولّوه الخطابة بجامع الموحّدين بتونس. وأقام بها إلى أن هلك السلطان أبو إسحاق سنة سبعين وسبعمائة وولي ابنه خالد. وزحف السلطان أبو العبّاس حافد السلطان أبي يحيى من مقرّه بقسنطينة إلى تونس فملكها، وقتل خالدا سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة.
وكان ابن مرزوق يستريب منه لما كان يميل وهو بفاس مع ابن عمّه محمد صاحب بجاية، ويؤثره عند السلطان أبي سالم عليه، فعزله السلطان أبو العبّاس عن الخطبة بتونس، فوجم لها وأجمع الرحلة إلى المشرق. وسرّحه السلطان فركب السفن ونزل بالإسكندريّة، ثم رحل إلى القاهرة ولقي أهل العلم وأمراء الدولة، ونفقت بضائعه
[1] بطرة بطاء فوقها نقطتان: اشارة الى أن نطقها بين الطاء والتاء وهذا ما أشار اليه ابن خلدون في مقدمته.
[2]
وفي نسخة ثانية: بنو مثنى.