الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الخبر عن بني توجين من شعوب بني يادين من أهل هذه الطبقة الثالثة من زناتة وما كان لهم من الدولة والسلطان بالمغرب الأوسط وأوّلية ذلك ومصايره)
كان هذا الحيّ من أعظم أحياء بني يادين وأوفرهم عددا. وكانت مواطنهم حفافي وادي شلف قبلة جبل وانشريس من أرض السرسو، وهو المسمّى لهذا العهد نهر صا [1] وكان بأرض السرسو بجهة الغرب منه بطون من لواتة، وغلبهم عليها بنو وجديجن
[1] وفي نسخة ثانية: نهر واصل واما صاحب معجم البلدان فقد ذكر صا: بالقصر كورة بمصر، وصا مسماة بصا بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح.
ومطماطة. ثم صارت أرض السرسو لبني توجين هؤلاء واستضافوها الى مواطنهم الأولى وصارت مواطنهم ما بين موطن بني راشد وجبل دراك في جانب القبلة. وكانت لهم رياسة أيام صنهاجة لعطيّة بن دافلتن، وابن عمه لقمان بن المعتز كما ذكره ابن الرقيق. ولما كانت فتنة حمّاد بن بلكين مع عمه باديس، ونهض إليه باديس من القيروان حتى احتل بوادي شلف، تحيّز إليه بنو توجين هؤلاء، وكان لهم في حروب حمّاد آثار مذكورة. وكان لقمان بن المعتز أظهر من عطية بن دافلتن، وكان قومهم يومئذ زهاء ثلاثة آلاف. وأوفد لقمان ابنه بدرا على باديس قبل اللقاء طاعة له وانحياشا. فلما انهزم حمّاد رعى لهم باديس انحياشهم إليه، وسوّغ لهم ما غنموه، وعقد للقمان على قومه ومواطنه، وعلى ما يفتحه من البلاد بدعوته. ثم انفرد برياستهم بعد حين بنو دافلتن. ويقال إنه دافلتن بن أبي بكر بن الغلب. وكانت رياستهم لعهد الموحدين لعطية بن مناد بن العبّاس بن دافلتن، وكان يلقّب عطية الحيو.
وكانت بينهم لعهده وبين بني عبد الواد حروب، كان متولي كبرها من بني عبد الواد شيخهم لذلك العهد عدوى بن يكنيجن [1] بن القاسم، فلم تزل تلك الفتنة بينهم إلى أن غلبهم بنو عبد الواد آخرا على مواطنهم كما نذكره.
ولما هلك عطية الحيو قام بأمرهم أبو العبّاس، وكانت له آثار في الإجلاب على ضواحي المغرب الأوسط. ونقض طاعة الموحدين إلى أن هلك سنة سبع وستمائة، دسّ عامل تلمسان يومئذ أبو زيد بن لوحان [2] من اغتاله فقتله. وقام بأمرهم من بعده ابنه عبد القوي، فانفرد برياستهم وتوارثها عقبه من بعده كما نذكره. وكان من أشهر بطون بني توجين هؤلاء يومئذ بنو يدللتن وبنو قمري [3] وبنو مادون وبنو زنداك وبنو وسيل وبنو قاضي وبنو مامت، ويجمع هؤلاء الستة بنو مدن. ثم بنو تيغرين وبنو يرناتن وبنو منكوش، ويجمع هؤلاء الثلاثة بنو سرغين [4] ، ونسب بني زنداك دخيل فيهم، وإنما هم من بطون مغراوة. وبنو منكوش هؤلاء منهم عبد القوي بن العبّاس ابن عطية الحيو، هكذا رأيت نسبه لبعض مؤرّخي زناتة المنكوشي. وكانت رياسة بني
[1] وفي نسخة ثانية: يكنمن.
[2]
وفي نسخة ثانية: بوجان.
[3]
وفي نسخة ثانية: نمزي.
[4]
وفي نسخة ثانية: رسوغين.
توجين جميعا عند انقراض أمر بني عبد المؤمن لعبد القويّ بن العبّاس بن عطية الحيو، وأحياؤهم جميعا بتلك المجالات القبلية.
فلمّا وهن أمر بني عبد المؤمن وتغلّب مغراوة على بسائط متيجة، ثم على جبل وانشريس، نازعهم عبد القوي هذا وقومه أمر وانشريس، وغالبوهم إلى أن غلبوهم عليه، واستقرّ في ملكهم وأوطنه بنو تيغرين وبنو منكوش من أحيائهم. ثم تغلبوا على منداس وأوطنها أحياء بني مدن جميعا. وكان الظهور منهم لبني يدللتن، ورياسة بني يدللتن لبني سلامة. وبقي بنو يرناتن من بطونهم بمواطنهم الأولى قبلة وانشريس. وكان من أحلاف بني عطية الحيو بنو تيغرين منهم خاصة، وأولاد عزيز بن يعقوب، ويعرفون جميعا بالوزراء [1] ولما تغلّبوا على الأوطان والتلول، وأزاحوا مغراوة عن المدية ووانشريس وتافركينت، واستأثروا بملكها وملك الأوطان عن غربيها مثل:
منداس والجعبات وتاوغزوت، ورئيسهم لذلك العهد عبد القويّ بن العبّاس، والكل لأمره. فصار له ملك بدوي ولم يفارق فيه سكنى الخيام ولا أبعاد النجعة ولا ائتلاف الرحلتين. ينتابون في مشاتيهم إلى مصاب والزاب، وينزلون في المصايف بلادهم هذه من التل ولم يزل هذا شأن عبد القوي وابنه محمدا، إلى أن تنازع بنوه الأمر من بعده، وقتل بعضهم بعضا. وتغلّب بنو عبد الواد على عامّة أوطانهم وأحيائهم، واستبدّ عليهم بنو يرناتن وبنو يدللتن فصاروا إلى بني عبد الواد. وبقي أعقابهم بجبل وانشريس إلى أن انقرضوا على ما نذكره بعد.
وكان عبد القويّ لما غلب مغراوة على جبل وانشريس، اختطّ حصن مرات، بعد أن كان منديل المغراوي شرع في اختطاطه، فبنى منه القصبة ولم يكمله، فأكمله محمد بن عبد القوي من بعده. ولما استبدّ بنو أبي حفص بأمر إفريقية، وصارت لهم خلافة الموحّدين نهض الأمير أبو زكريا إلى المغرب الأوسط، ودخلت في طاعته قبائل صنهاجة، وفرّت زناتة أمامه. وردّد إليهم الغزو فأصاب منهم. وتقبّض في بعض غزواته على عبد القوي بن العبّاس أمير بني توجين فاعتقله بالحضرة. ثم من عليه وأطلقه على أن يستألف له قومه، فصاروا شيعة له ولقومه آخر الدهر. ونهض الأمير أبو زكريا بعدها إلى تلمسان، فكان عبد القوي وقومه في جملته حتى إذا ملك
[1] وفي نسخة ثانية: بالحشم.
تلمسان، ورجع إلى الحضرة عقد لعبد القويّ هذا على قومه ووطنه، وأذن له في اتخاذ الآلة، فكانت أوّل مراسم الملك لبني توجين هؤلاء. وكانت حالهم مع بني عبد الواد تختلف في السلم والحروب. ولما هلك السعيد على يد يغمراسن وقومه كما ذكرناه، استنفر يغمراسن سائر أحياء زناتة لغزو المغرب، ومسابقة بني مرين إليه، فنفر معه عبد القوي في قومه سنة سبع وأربعين وستمائة وانتهوا إلى تازى، واعترضهم أبو يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين في قومه، فنكصوا واتبعهم إلى انكاد فكان اللقاء، وانكشفت جموع بني يادين وكانت الهزيمة التي ذكرناها في أخبار بني عبد الواد. وهلك عبد القوي مرجعه منها في سنته بالموضع المعروف باحمون [1] من مواطنهم. وتصدّى للقيام بعده بأمرهم ابنه يوسف، فمكث في تلك الإمارة أسبوعا، ثم قتله على جدث أبيه أخوه محمد بن عبد القويّ، وولي عهد أبيه سابع مواراته. وفرّ ابنه صالح بن يوسف إلى بلاد صنهاجة بجبال المدية، فأقام بها هو وبنوه. واستقلّ محمد برياسة بني توجين، واستغلظ ملكه، وكان الفحل الّذي لا يقرع أنفه. ونازعه يغمراسن أمره ونهض إلى حربه سنة تسع وأربعين وستمائة وعمد إلى حصن تافركينت فنازله، وبه يومئذ حافده عليّ بن زيان بن محمد في عصابة من قومه، فحاصره أياما وامتنعت عليه فارتحل عنها، ثم تواضعوا أوزار الحرب ودعاه يغمراسن إلى مثل ما دعا إليه أباه من غزو بني مرين في بلادهم فأجاب. ونهضوا سنة سبع وخمسين وستمائة ومعهم مغراوة فانتهوا إلى كلدمان ما بين تازى وأرض الريف. ولقيهم يعقوب بن عبد الحق في جموعه فانكشفوا ورجعوا منهزمين إلى بلادهم كما ذكرناه. وكانت بينه وبين يغمراسن بعد ذلك فتن وحروب، فنازله فيها بجبل وانشريس مرّات، وجاس خلال وطنه. ولم يقع بعدها بينهما مراجعة لاستبداد يغمراسن بالملك، وسمّوه إلى التغلّب على زناتة أجمع وبلادهم، وكانوا جميعا منحاشين إلى الدولة [2] الحفصيّة. وكان محمد بن عبد القوي كثير الطاعة للسلطان المستنصر.
(ولما نزل) النصارى الإفرنجة بساحل تونس سنة ثمان وستين وستمائة وطمعوا في ملك الحضرة، بعث المستنصر إلى ملوك زناتة بالصريخ فصرفوا وجوههم إليه، وخفّ من بينهم محمد بن عبد القويّ في قومه ومن احتشد من أهل وطنه، ونزل على السلطان
[1] وفي نسخة ثانية: ماحنون، وفي نسخة أخرى: ماحيون.
[2]
وفي نسخة ثانية: الدعوة الحفصيّة.
بتونس وأبلى في جهاد العدوّ أحسن البلاء، وكانت له في أيامه معهم مقامات مذكورة، ومواقف مشهورة، وعند الله محتسبة معدودة. ولما ارتحل العدوّ عن الحضرة وأخذ محمد بن عبد القويّ في الانصراف إلى وطنه، أسنى السلطان جائزته، وعمّ بالإحسان وجوه قومه وعساكره، وأقطعه بلاد مغراوة وأوماش من وطن الزاب، وأحسن منقلبه. ولم يزل بعد ذلك معتقلا بطاعته مستظهرا على عدوه بالانحياش إليه. ولما استغلظ بنو مرين على يغمراسن بعد استيلائهم على أمصار المغرب واستبدادهم بملكه، وصل محمد يده بهم في الاستظهار على يغمراسن، وأوفد ابنه زيّان بن محمد عليهم.
ولما نهض يعقوب بن عبد الحق إلى تلمسان سنة سبعين وستمائة وأوقع بيغمراسن في الوقيعة التي هلك فيها ابنه فارس. نهض محمد بن عبد القوي للقائه ومرّ في طريقه بالبطحاء، وهي يومئذ ثغر لأعمال يغمراسن فهدمها. ولقي يعقوب بن عبد الحق في ساحة تلمسان مباهيا بآلته فأكرم يعقوب وفادته وبرّ مقدمه. ونازلوها أياما فامتنعت عليهم، وأجمعوا على الإفراج وتأذن لهم يعقوب بن عبد الحق متلوما عليها إلى أن يلحق محمد وقومه ببلادهم، حذرا عليهم من غائلة يغمراسن ففعل، وملأ حقائبهم باتحافه، وجنّب لهم مائة من الجياد العتاق بالمراكب الثقيلة، وأراح عليهم ألف ناقة حلوب، وعمّهم بالصلات والخلع الفاخرة، واستكثر لهم من السلاح والفازات والأخبية والحملان وارتحلوا، ولحق محمد بن عبد القويّ بمكانه من جبل وانشريس، واتصلت حروبه مع يغمراسن، وكثر اجلابه على وطنه وعيثه في بلاده. وهو مع ذلك مقيم على موالاة يعقوب واتحافه بالعتاق من الخيل والمستجاد من الطرف. حتى أنّ يعقوب إذا اشترط على يغمراسن في مهادنته جعل سلمهم من سلمه، وحربهم من حربه، وبسببهم كان نهوض يعقوب بن عبد الحق سنة ثمانين وستمائة لما اشترط عليه ذلك، ولجّ في قبوله، فنهض إليه وأوقع به بخرزوزة. ثم أناخ عليه بتلمسان، ووافاه هنالك محمد بن عبد القويّ فلقيه بالقصاب [1] ، وعاثوا في نواحي تلمسان نهبا وتخريبا. ثم أذن يعقوب لمحمد وقومه في الانطلاق إلى بلادهم، وتلوم هو بمكانه من ضواحي تلمسان مدة منجاتهم إلى مكانهم من وانشريس حذرا عليهم من اعتراض
[1] وهي القصبات: مدينة بالمغرب من بلاد البربر: معجم البلدان.
ابن خلدون م 14 ج 7
يغمراسن. ولم يزل شأنهما ذلك إلى أن هلك يغمراسن بسدلونة [1] من بلاد مغراوة خاتمة إحدى وثمانين وستمائة وفي خلال ذلك استغاظ بنو مرين على بني عبد الواد، واستوسق لمحمد هذا ملكه، فتغلب على أوطان صنهاجة بجبال المدية، وأخرج الثعالبة من جبل تيطري بعد أن غدر بمشيختهم وقتلهم، فانزاحوا عنه إلى بسائط متيجة وأوطنوها. واستولى محمد على حصن المدية وهو المسمى بأهله لمديّة (بفتح اللام والميم وكسر الدال وتشديد الياء بعدها وهاء النسب في آخرها) . وهم بطن من بطون صنهاجة وكان المختط لها بلكّين بن زيري. ولما استولى محمد عليها وعلى ضواحيها انزل أولاد عزيز بن يعقوب من حشمه بها، وجعلها لهم موطنا وولاية. وفرّ بنو صالح ابن أخيه يوسف بن عبد القوي من مكانهم بين صنهاجة منذ مقتل أبيه يوسف كما ذكرناه. ولحقوا ببلاد الموحدين بإفريقية، فلقوهم مبرّة وتكريما. وأقطعوا لهم بضواحي قسنطينة، وكانوا يقولون عليهم أيام حروبهم وفي مواطن قتالهم.
وكان من أظهرهم عمر بن صالح وابناه صالح ويحيى بن عمر، وحافده يحيى بن صالح بن عمر في آخرين مشاهير.
وأعقابهم لهذا العهد بنواحي قسنطينة وفي إيالة الملوك من آل أبي حفص، يعسكرون معهم في غزواتهم ويبلون في حروبهم، ويقومون بوظائف خدمتهم. وكان الوالي من أولاد عزيز على المدية حسن بن يعقوب، وبنوه من بعده يوسف وعليّ، وكانت مواطنهم ما بين المدية وموطنهم الأوّل ماخنون. وكان بنو يدللتن أيضا من بني توجين قد استولوا على حصن الجعبات وقلعة تاوغزوت. ونزل القلعة كبيرهم سلامة بن علي مقيما على طاعة محمد بن عبد القوي وقومه، فاتصل ملك محمد بن عبد القوي في ضواحي المغرب الأوسط ما بين مواطن بني راشد إلى جبال صنهاجة بنواحي المدية، وما في قبلة ذلك من بلاد السرسو وجباله إلى أرض الزاب. وكان يبعد الرحلة في مشتاه فينزل الروسن ومغرة [2] والمسيلة. ولم يزل دأبه ذلك. ولما هلك يغمراسن سنة إحدى وثمانين وستمائة كما ذكرناه استجدّت الفتنة بين عثمان ابنه وبين محمد بن عبد القوى على أثر ذلك سنة أربع وثمانين وستمائة وولي من بعده ابنه سيّد الناس، فلم تطل مدّة ملكه. وقتله أخوه موسى لسنة أو نحوها من بعده مهلك أبيه. وقام موسى بن
[1] وفي نسخة أخرى: شدبوية ولم يذكرها ياقوت الحموي في معجمه.
[2]
وفي نسخة ثانية: الدوسن والمقرة.
محمد في إمارة بني توجين نحوا من عامين. وكان أهل مرات من أشدّ أهل وطنه شوكة وأقواهم غائلة، فحدّثته نفسه أن يستلحم مشيختهم ويريح نفسه من محاذرتهم، فأجمع لذلك ونزلها، ونذروا بشأنه ورأيه فيهم فاستماتوا جميعا وثاروا به فقاتلهم. ثم انهزم مثخنا بالجراحة وألجئوه إلى مهاوي الحصن فتردّى منها وهلك. وولي من بعده عمر ابن أخيه إسماعيل بن محمد مدّة أربعة أعوام، ثم غدر به أولاد عمّه زيان بن محمد فقتلوه وولّوا كبيرهم إبراهيم بن زيان وكان حسن الولاية عليهم، يقال: ما ولي بعد محمد فيهم مثله. وفي خلال هذه الولايات استغلظ عليهم بنو عبد الواد واشتدّت وطأة عثمان بن يغمراسن عليهم بعد مهلك أبيهم محمد، فنهض إليهم سنة ست وثمانين وستمائة وحاصرهم بجبل وانشريس وعاث في أوطانهم ونقل زروعها إلى مازونة حين غلب عليها مغراوة. ثم نازل حصن تافركينت وملكها بمداخلة القائد بها غالب الخصيّ مولى سيّد الناس بن محمد، وقفل إلى تلمسان. ثم نهض إلى أولاد سلامة بقلعة تاوغزوت، وامتنعوا عليه مرارا، ثم أعطوه اليد على الطاعة ومفارقة بني محمد بن عبد القوي فنبذوا لهم العهد، وصاروا إلى إيالة عثمان بن يغمراسن. وفرضوا لهم المغارم على بني يدللتن. وسلك عثمان بن يغمراسن مسلك التضريب بين قبائل بني توجين وتحريضهم على إبراهيم بن زيّان أميرهم، فعدا عليه زكراز [1] بن أعجمي شيخ بني مادون وقتله بالبطحاء في إحدى غزواته لسبعة أشهر من ملكه. وولي بعده موسى بن زرارة بن محمد بن عبد القوي، بايع له بنو تيغرين واختلف سائر بني توجين فأقام بعض سنة. وعثمان بن يغمراسن في خلال هذا يستألف بني توجين شعبا فشعبا إلى أن نهض إلى جبل وانشريس فملكه. وفرّ أمامه موسى بن زرارة إلى نواحي المدية وهلك في مفرّه ذلك. ثم نهض عثمان إلى المدية سنة ثمان وثمانين وستمائة بعدها فملكها بمداخلة المدية من قبائل صنهاجة، غدروا بأولاد عزيز وأمكنوه منها. ثم انتقضوا عليه لسبعة أشهر ورجعوا إلى إيالة أولاد عزيز، فصالحوا عثمان بن يوسف على الإتاوة والطاعة كما كانوا مع محمد بن عبد القوي وبنيه، فملك عثمان بن يغمراسن عامّة بلاد توجين. ثم شغل بما دهمه من مطالبة بني مرين أيام يوسف بن يعقوب، فولّى على بني توجين من بني محمد بن عبد القوي أبو بكر بن إبراهيم بن محمد مدّة
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: زكدان.
عامين، أخاف فيها الناس وأساء السيرة. ثم هلك فنصب بنو تيغرين بعده أخاه عطية المعروف بالأصمّ، وخالفهم أولاد عزيز وجميع قبائل توجين فبايعوا ليوسف ابن زيان بن محمد. وزحفوا إلى جبل وانشريس فحاصروا به عطية وبني تيغرين عاما أو يزيد. وكان يحيى بن عطية كبير بني تيغرين هو الّذي تولّى البيعة لعطية الأصمّ.
فلما اشتدّ بهم الحصار واستفحل ملك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان ورغبه في ملك جبل وانشريس فبعث معه الجيوش لنظر أخيه أبي سرحان، ثم أخيه أبي يحيى. وكان نهوض أبي يحيى سنة إحدى وسبعمائة، فتوغّل في ناحية الشرق، ولما رجع صمد إلى جبل وانشريس، فهدم حصونه، وقفل ونهض ثانية إلى بلاد بني توجين فشرّدهم عنها، وأطاعه أهل تافركينت، ثم انتهى إلى المدية فافتتحها صلحا، واختطّ قصبتها ورجع إلى أخيه يوسف بن يعقوب، فانتقض أهل تافركينت بعد صدوره عنهم. ثم راجع بنو عبد القوي بصائرهم في التمسّك بالطاعة. ووفدوا على يوسف بن يعقوب فتقبّل طاعتهم وأعادهم إلى بلادهم، وأقطعهم. وولّى عليهم علي بن الناصر بن عبد القوي، وجعل وزارته ليحيى بن عطية فغلبه على دولته، واستقام ملكه. وهلك خلال ذلك فعقد يوسف بن بن يعقوب مكانه لمحمد بن عطية الأصمّ، واستقام على طاعته وقتا، ثم انتقض بين يدي مهلكه سنة ست وسبعمائة وحمل قومه على الخلاف. ولما هلك يوسف بن يعقوب وتجافى بنو مرين من بعدها لبني يغمراسن عن جميع الأمصار التي تملّكوها بالمغرب الأوسط، استمكن بنو يغمراسن منها ودفعوا المتغلّبين عنها. ولحق الفلّ من أولاد عبد القوي ببلاد الموحدين، فحلّوا من دولتهم محل الإيثار والتكرمة. وكان للعبّاس بن محمد بن عبد القوي مع الملوك من آل أبي حفص مقام الخلّة والمصافاة إلى أن هلك، وبقي عقبه في جند السلطان. ولما خلا الجوّ من هؤلاء المرشحين تغلّب على جبل وانشريس من بعدهم كبير بني تيغرين أحمد بن محمد من أعقاب يعلى بن محمد سلطان بني يفرن.
فأقام يحيى بن عطية هذا في رياستهم أياما، ثم هلك، وقام بأمره من بعده أخوه عثمان بن عطية. ثم هلك وولي من بعده ابنه عمر بن عثمان، واستقل مع قومه بجبل وانشريس، واستقلّ أولاد عزيز بالمدية ونواحيها ورياستهم ليوسف وعليّ ابني حسن ابن يعقوب، والكل في طاعة أبي حمو سلطان بني عبد الواد لما غلبهم على أمرهم،
وانتزع الرئاسة من بني عبد القوي [1] أمرائهم إلى أن خرج على السلطان أبي حمو ابن عمه يوسف بن يغمراسن، ولحق بأولاد عزيز فبايعوه وداخلوا في كشانة عمر بن عثمان كبير بني تيغرين وصاحب جبل وانشريس، فأجابهم وأصفق معهم سائر الأعشار ويكوشة [2] وبنو يرناتن. وزحفوا مع محمد بن يوسف إلى السلطان أبي حمو في عسكره بتهل ففضّوه، وكان من شأن فتنته معهم ما ذكرناه في أخبار بني عبد الواد إلى أن هلك السلطان أبو حمو وولي ابنه أبو تاشفين، فنهض إليهم في العساكر، وكان عمر بن عثمان قد لحقته الغيرة من مخالصة محمد بن يوسف لأولاد عزيز دون قومه، فداخل السلطان أبا تاشفين في الانحراف عنه، فلما نزل بالجبل، ولحق محمد بن يوسف بحصن توكال ليمتنع له، نزع عنه عمر بن عثمان ولحق بأبي تاشفين ودلّه على مكامن الحصن، فدلف إليه أبو تاشفين وأخذ بمخنقه. وافترق عن محمد بن يوسف أولياؤه وأشياعه فتقبّض عليه، وقيد أسيرا إلى السلطان أبي تاشفين فقتل بين يديه قعصا بالرماح سنة تسع عشرة وسبعمائة وبعث برأسه إلى تلمسان، وصلب شلوه بالحصن الّذي امتنع فيه أيام انتزائه. ورجع أمر وانشريس إلى عمر بن عثمان هذا، وحصلت ولايته لأبي تاشفين إلى أن هلك بتلمسان في بعض أيامهم مع بني مرين، أعوام نازلها السلطان أبو الحسن كما ذكرنا في أخبار الحصار.
ثم لما تغلّب بنو مرين على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن ابنه نصر بن عمر على الجبل، وكان خير وال وفاء بالذمّة والطاعة [3] وخلوصا في الولاية، وصدقا في الانحياش، وإحسانا للمملكة، وتوفيرا للجباية. ولما كانت نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان، وتطاول الأعياص من زناتة إلى استرجاع ملكهم، انتزى بضواحي المدية من آل عبد القوي عديّ بن يوسف بن زيان بن محمد بن عبد القوي، وناغى الخوارج في دعوتهم، واشتمل عليه بنو عزيز هؤلاء وبنو يرناتن جيرانهم، وزحف إلى جبل وانشريس لينال مع الحشم من يلي أمرهم والمداخلين لعدوّهم في قطع دابرهم، وكبيرهم يومئذ نصر بن عمر بن عثمان. وبايع نصر المسعود ابن أبي زبد بن خالد بن محمد بن عبد القوي من أعقابهم، ثم خلص إليهم من
[1] وفي نسخة ثانية: من بني عبد الواد.
[2]
وفي نسخة ثانية: منكوشة.
[3]
وفي نسخة ثانية: وفاء بأزمّة الطاعة.
جملة عدي بن يوسف حذرا على نفسه من أصحابه. وقاتلهم عدي وقومه فامتنعوا عليه، ودارت بينهم حروب كانت العاقبة فيها والظهور لنصر بن عمر وقومه. ثم دخل عدي في جملة السلطان أبي الحسن لما خلص من تونس إلى الجزائر، وبقي مسعود بينهم وملّكه أبو سعيد بن عبد الرحمن لما ملك تلمسان هو وقومه. فلم يزل هنالك الى أن غلبهم السلطان أبو عنان، فسار في جملته بعد أن فرّ إلى زواوة. واستنزله منها ونقله إلى فاس، وانقضى ملكهم ودولتهم، وانقطع أثر بني محمد بن عبد القوي. وأقام نصر بن عمر في ولاية جبل وانشريس وعقد له السلطان أبو عنان عليه سائر دولته. ولم يزل قائما بدعوة بني مرين من بعده إلى أن غلبهم السلطان أبو حمو الأخير، وهو ابن موسى بن يوسف على الأمر، فأعطاه نصر الطاعة. ثم اضطرمت نار الفتنة بين العرب وبين بني عبد الواد أعوام سبعين وسبعمائة، وقاموا بدعوة أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عمّ أبي حمو، فانحاش نصر بن عمر إليهم، وأخذ بدعوة الأمير أبي زيان حينا. ثم هلك أيام تلك الفتنة وقام بأمرهم من بعده أخوه يوسف بن عمر متقبّلا مذاهبه. وهو لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة صاحب جبل وانشريس، وحاله مع أبي حمّو مختلف في الطاعة والخلاف، والله مالك الأمور، لا رب غيره ولا معبود سواه
.