الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بني عامر وأولاد يغمور من المعقل، وعقد عليهم لمحمد بن عثمان من قرابة أبي بكر بن غازي وتعرّضوا للقائهم، ففضّ جمعهم ومنحوا أكتافهم وأحيط بمعسكر أبي حمو وحلل العرب فاكتسح ما فيها واستولى بنو مرين على أمواله وحرمه وولده، فاستاقوهم إلى السلطان وأشخصهم إلى فاس فأنزلهم بقصوره. وتقبّض على مولاه عطيّة بن موسى صاحب شلف، فامتنّ عليه وألحقه بجملته. ونجا ابو حمّو وألقى بنفسه إلى عبد الله بن صغير مستميتا، فامتنّ عليه وبعث معه الأدلّاء إلى تيكورارين من بلاد القبلة، فنزلها وكان ذلك بين يدي فتح تيطرا بليال. واستوت قدم السلطان في ملكه واستولى على المغرب الأوسط، ودفع الثوّار والخوارج عنه. واستمال كافة العرب إلى طاعته فأتوها راغبين راهبين. ووفد عليه للوزير أبو بكر بن غازي من قاصية الشرق ومعه مشيخة العرب من كل حيّ من أحيائهم فوصلهم واحتفى بقدومهم، وركب للقاء الوزير وطلب المشيخة في الرهن على الطاعة والاستحثاث لتشريد أبي حمّو من تيكورارين، وأوسع حفايتهم وبرّهم وانصرفوا إلى مشاتيهم معتملين في أسباب الحركة إلى تيكورارين إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن قدوم ابن الخطيب على السلطان بتلمسان نازعا اليه عن سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس)
أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الّذي فيه ساحتها المسمّى بالمرج على وادي سنجيل، ويقال شنبيل المنحرف في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال، كان له بها سلف معروفون في وزارتها. وانتقل أبو عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام، ونشأ ابنه محمد هذا بغرناطة وقرأ وتأدّب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب. وأخذ عن أشياخه وامتلأ حوض السلطان من نظمه ونثره مع انتقاء الجيّد منه. وبلغ في الشعر والترسيل حيث لا يجاري فيهما. وامتدح السلطان أبا الحجّاج من ملوك بني الأحمر وملأ الدولة بمدايحه وانتشرت في الآفاق قدماه، فرقّاه السلطان إلى خدمته وأثبته في
ديوان الكتّاب ببابه مرءوسا بأبي الحسن بن الحباب [1] شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية. وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه، عند ما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبدّ عليه كما مرّ في أخبارهم. فاستبدّ ابن الحباب برياسة الكتّاب من يومئذ إلى أن هلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فولّى السلطان أبو الحجّاج يومئذ محمد بن الخطيب هذا رياسة الكتاب ببابه مثنّاة بالوزارة. ولقبه بها فاستقلّ بذلك. وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة. ثم داخله السلطان في تولية العمّال على يديه بالمشارطات، فجمع له بها أموالا. وبلغ به المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد من قبله. وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة مغريا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلّى في أغراض سفارته.
ثم هلك السلطان أبو الحجّاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة عدا عليه بعض الزعانف يوم الفطر بالمسجد في سجوده للصلاة، وطعنه فأشواه وفاض لوقته، وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء. وبويع ابنه محمد بالأمر لوقته، وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم. واستبدّ بالدولة، وأفراد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه، واتخذ لكتابته غيره، وجعل ابن الخطيب رديفا له في أمره وتشاركا في الاستبداد معا، فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة. ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان مستمدّين له على عدوّهم الطاغية على عادتهم مع سلفه. فلمّا قدم على السلطان ومثل بين يديه، تقدّم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها استأذنه في إنشاد شيء من الشعر يقدّمه بين يدي نجواه، فأذن له، وأنشد وهو قائم:
خليفة الله ساعد القدر
…
علاك ما لاح في الدجى قمر
ودافعت عنك كفّ قدرته
…
ما ليس يستطيع دفعه البشر
وجهك في النائبات بدر دجى
…
لنا وفي المحل كفّك المطر
والناس طرّا بأرض أندلس
…
لولاك ما أوطنوا ولا عمروا
[1] وفي نسخة ثانية: الجياب.
وجملة الأمر أنّه وطن
…
في غير علياك ما له وطر
ومن به مذ وصلت حبلهم
…
ما جحدوا نعمة ولا كفروا
وقد أهمّتهم نفوسهم
…
فوجّهوني إليك وانتظروا.
فاهتزّ السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس. وقال له قبل أن يجلس: ما ترجع إليهم إلّا بجميع عطائهم [1] . ثم أثقل كاهلهم بالإحسان، وردّهم بجميع ما طلبوه.
وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد: لم يسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلّم على السلطان إلّا هذا. ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين. ثم نازلهم [2] محمد الرئيس ابن عمّ السلطان يشاركه في جدّه الرئيس أبي سعيد. وتحيّن خروج السلطان إلى منتزهه خارج الحمراء. وتسوّر دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوانا في بيته، فقتله. وذهب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجّاج، لما كان صهره على شقيقته. وكان معتقلا بالحمراء، فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبدّا عليه. وأحسّ السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان، فركب باديا إلى وادي آش وضبطها. وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب. وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس. واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيّق عليه في محبسه. وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودّة استحكمت أيام مقامه بالأندلس كما مرّ. وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم، فزيّن له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس، ويكفّ به عادية القرابة المرشّحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب، فقبل ذلك منه. وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي آش إليه. وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني، وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب. وحل معتقله. فأطلق، وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش، وسار في ركاب السلطان. وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتزّ لقدوم ابن الأحمر، وركب في المواكب لتلقّيه، وأجلسه إزاء كرسيّه، وأنشد ابن الخطيب قصيدته كما مرّ يستصرخ السلطان لنصره، فوعده وقد
[1] وفي نسخة ثانية: طلباتهم.
[2]
وفي نسخة ثانية: ثم ثار بهم.
كان يوما مشهودا وقد مرّ ذكره. ثم أكرم مثواه وأرغد نزله، ووفّر أرزاق القادمين في ركابه وانتصر به. وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والأقطاع. ثم استأنس واستأذن السلطان في التحوّل إلى جهات مراكش والوقوف على آثار الملك بها، فأذن له وكتب إلى العمّال باتحافه، فتبادروا في ذلك وحصل منه على حظّ وعند ما مرّ بسلا في قفوله من سفره، دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدته على رويّ الراء الموصولة يريثه ويستثير به استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها:
إن بان منزله وشطّت داره
…
قامت مقام عيانه أخباره
قسّم زمانك عبرة أو غيرة [1]
…
هذا ثراه وهذه آثاره
فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة، فشفعوه. واستقرّ هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة. ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة كما مرّ في أخباره. وبعث عن مخلّفه بفاس من الأهل والولد والقائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره. فسرّ السلطان بمقدمه وردّه إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله.
وكان عثمان بن يحيى عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية في ركاب أبيه عند ما أحسّ بالشرّ من الرئيس صاحب غرناطة. وأجاز يحيى من هنالك إلى العدوة وأقام عثمان بدار الحرب، فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك، وتغلب في مذاهب خدمته. وانحرفوا عن الطاغية بعد ما يئسوا من الفتح على يديه، فتحوّلوا عنه إلى ثغور بلاده. وخاطبوا عمر بن عبد الله في أن يمكّنهم من بعض الثغور الغربية التي أطاعتهم بالأندلس، يرتقبون منها الفتح. وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك، وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمّة مرعيّة ومخالصة متأكدة، فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله. وحملته على أن يردّ عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه، فقبل إشارتي في ذلك. وتسوّرها السلطان المخلوع، ونزل بها وعثمان بن يحيى في جملته. وهو مقدّم في بطانته.
ثم غزوا منها مالقة، فكانت ركابا للفتح. وملكها السلطان واستولى بعدها على دار
[1] وفي نسخة ثانية: غيرة أو عبرة.
ملكها بغرناطة، وعثمان بن يحيى مقدّم القوم في الدولة عريق في المخالصة، وله على السلطان دالة واستبداد على هواه. فلما فصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده، وأعاده السلطان إلى مكانه من الدولة من علوّ يده وقبول إشارته، فأدركته الغيرة من عثمان، ونكر على السلطان الاستكفاء به، والتخوّف من هؤلاء الأعياص على ملكه، فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق. ثم غرّبهم بعد ذلك، وخلا لابن الخطيب الجوّ وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير المملكة، وخلط بينه بندمائه وأهل خلوته، وانفرد ابن الخطيب بالحلّ والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت عليه الآمال، وغشي بابه الخاصّة والكافّة. وغصّت به بطانة السلطان وحاشيته، فتوافقوا على السعاية فيه [1] وقد صمّ السلطان عن قبولها. ونمي الخبر بذلك الى ابن الخطيب، فشمّر عن ساعده في التقويض عنهم. واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يومئذ في التقبّض على ابن عمّه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي. كانوا قد نصّبوه شيخا على الغزاة في الأندلس لما أجاز من العدوة بعد ما جاس خلالها لطلب الملك، وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني مرين، فاضطرّ إلى الإجازة إلى الأندلس، فأجاز هو ووزيره مسعود بن ماسي ونزلوا على السلطان على المخلوع أعوام سبع وستين وسبعمائة فأكرم نزلهم، وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة، فقدم عبد الرحمن مكانه. وكان السلطان عبد العزيز قد استبدّ بملكه بعد قتله الوزير عمر بن عبد الله، فغصّ بما فعله السلطان المخلوع من ذلك. وتوقّع انتقاض أمره منهم. ووقف على مخاطبات ابن عبد الرحمن يسرّ بها في بني مرين، فجزع لذلك. وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي واراحة نفسه من شغبهم، على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه، فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطه، على يد سفيره إلى الأندلس، وكاتبه أبي يحيى بن أبي مدين. بني مرين وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماسي فتقبّض عليهما. واعتقلهما وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية. وربّما خيّل أنّ السلطان مال إلى قبولها وأنّهم قد
[1] وفي نسخة ثانية: فتفننوا في السعايات فيه.
أحفظوه عليه، فأجمع التحوّل عن الأندلس إلى المغرب. واستأذن السلطان في تفقّد الثغور الغربيّة. وسار إليها في لمّة من فرسانه، ومعه ابنه عليّ الّذي كان خالصة السلطان وذهب لطبنه. فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة، مال إليه وسرّح إذنه بين يديه، فخرج قائد الخيل لتلقّيه. وقد كان السلطان عبد العزيز قد أوعز إليه بذلك، وجهّز إليه الأسطول من حينه، فأجاز إلى سبتة وتلقّاه بها بأنواع التكرمة وامتثال الأوامر [1] . ثم سار لقصد السلطان، فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامته من تلمسان، فاهتزّت له الدولة. وأركب السلطان خاصّته لتلقّيه، وأحلّه بمجلسه بمحل الأمن والغبطة، ومن دولته بمكان الشرف [2] والعزّة. وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن أبي مدين سفيرا إلى الأندلس في طلب أهله وولده، فجاء بهم على أكمل الحالات من الأمن والتكرمة. ثم لغط المنافسون له في شأنه وأغروا سلطانه بتتبع عثراته، وأبدى ما كان كامنا في نفسه من سقطات دالته وإحصاء عصابته [3] . وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها إليه. ورفعت إلى قاضي الحضرة الحسن بن الحسن، فاسترعاها [4] وسجّل عليه بالزندقة. وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه. وبعث القاضي أبو الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات، وإمضاء حكم الله فيه، فصمّ لذلك وأنف لذمّته أن تخفر ولجواره أن يردى [5] وقال لهم: هلا انتقمتم وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه؟ وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري. ثم وفرّ الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن جاء من فرسان الأندلس في جملته. فلمّا هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان، سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن غازي القائم بالدولة، فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنّق في بناء المساكن واغتراس الجنات، وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى. واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
[1] وفي نسخة ثانية: المراسيم.
[2]
وفي نسخة ثانية: النبوّة.
[3]
وفي نسخة ثانية: مغائبه.
[4]
وفي نسخة ثانية: فاسترداها.
[5]
وفي نسخة ثانية: أن يرد.