الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكره قبل هذا، فكان يظهر لي رعاية ذلك، ويكثر من المواعيد، وكان الأمير عبد الرحمن يميل إليّ ويستدعيني أكثر أوقاته، ويشاورني في أحواله، فغصّ بذلك الوزير محمد بن عثمان وأغرى سلطانه فتقبّض عليّ. وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك، وعلم أنّي إنّما أتيت من جرّاه، فحلف ليقوّضن خيامه، وبعث وزيره مسعود بن ماسي لذلك، فأطلقني من الغد، ثم كان افتراقهما لثالثة. ودخل الأمير أبو العبّاس دار الملك، وسار الأمير عبد الرحمن إلى مراكش، وكنت أنا يومئذ مستوحشا، فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزما على الإجازة إلى الأندلس من ساحل آسفي، معوّلا في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماسي لهواي فيه، فلمّا رجع مسعود ثني عزمي في ذلك، ولحقنا بونزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف، لتقدّمه وسيلة إلى السلطان أبي العبّاس صاحب فاس في الجواز إلى الأندلس، ووافينا عنده داعي السلطان فصحبناه إلى فاس، واستأذنه في شأني، فأذن لي بعد مطاولة وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان بن داود بن أعراب، ورجال الدولة.
وكان الأخ يحيى لمّا رحل السلطان أبو حمّو من تلمسان، رجع عنه من بلاد زغبة إلى السلطان عبد العزيز، فاستقرّ في خدمته، وبعده في خدمة ابنه السعيد المنصوب مكانه. ولمّا استولى السلطان أبو العبّاس على البلد الجديد استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان، فأذن له وقدم على السلطان أبي حمّو، فأعاده لكتابة سرّه كما كان أوّل أمره، وأذن لي أنا بعده فانطلقت إلى الأندلس بقصد القرار والدّعة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الاجازة الثانية إلى الأندلس ثم إلى تلمسان واللحاق بأحياء العرب والمقامة عند أولاد عريف
ولما كان ما قصصته من تنكّر السلطان أبي العبّاس صاحب فاس والذهاب مع الأمير عبد الرحمن، ثم الرجوع عنه إلى ونزمار بن عريف طلبا للوسيلة في انصرافي إلى الأندلس بقصد الفرار والانقياض، والعكوف على قراءة العلم، فتمّ ذلك ووقع الإسعاف به بعد الامتناع، وأجزت إلى الأندلس في ربيع سنة ست وسبعين وسبعمائة ولقيني السلطان بالكرامة وأحسن النزل على عادته، وكنت لقيت بجبل الفتح كاتب
السلطان ابن الأحمر من بعد ابن الخطيب الفقيه أبا عبد الله بن زمرك، ذاهبا إلى فاس في غرض التهنئة، وأجاز إلى سبتة في أسطوله، وأوصيته بإجازة أهلي وولدي إلى غرناطة، فلمّا وصل إلى فاس، وتحدّث مع أهلي في إجازتهم، تنكّروا لذلك، وساءهم استقراري بالأندلس، واتّهموا أنّي ربّما أحمل السلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبد الرحمن الّذي اتّهموني بملابسته، ومنعوا أهلي من اللحاق بي.
وخاطبوا ابن الأحمر في أن يرجّعني إليهم، فأبى من ذلك، فطلبوا منه أن يجيزني إلى عدوة تلمسان، وكان مسعود بن ماسي قد أذنوا له في اللحاق بالأندلس، فحملوه مشافهة السلطان بذلك، وأبدوا له انّي كنت ساعيا في خلاص ابن الخطيب، وكانوا قد اعتقلوه لأوّل استيلائهم على البلد الجديد وظفرهم به. وبعث إليه [1] ابن الخطيب مستصرخا به، ومتوسّلا، فخاطبت في شأنه أهل الدولة، وعوّلت فيه منهم على ونزمار وابن ماسي، فلم تنجح تلك السعاية، وقتل ابن الخطيب بمحبسه، فلمّا قدم ابن ماسي على السلطان ابن الأحمر وقد أغروه بي فألقى إلى السلطان ما كان منّي في شأن ابن الخطيب، فاستوحش من ذلك، وأسعفهم بإجازتي إلى العدوة، ونزلت بهنين والجوّ بيني وبين السلطان أبي حمّو مظلم بما كان مني في إجلاب العرب عليه بالزاب كما مرّ. فأوعز بمقامي بهنين، ثم وفد عليه محمد بن عريف فعذله في شأني فبعث عني إلى تلمسان، واستقررت بها بالعبّاد، ولحق بي أهلي وولدي من فاس، وأقاموا معي وذلك في عيد الفطر سنة ست وسبعين وسبعمائة وأخذت في بثّ العلم، وعرض للسلطان أبي حمّو رأي في الزواودة، وحاجة إلى استئلافهم، فاستدعاني وكلّفني السفارة إليهم في هذا الغرض، فاستوحشت منه ونكرته على نفسي لما آثرته من التخلّي والانقطاع، وأجبته إلى ذلك ظاهرا، وخرجت مسافرا من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء، فعدلت ذات اليمين إلى منداس ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول [2] فلقوني بالتحف والكرامة، وأقمت بينهم أياما حتى بعثوا عن أهلي وولدي بتلمسان، وأحسنوا العذر إلى السلطان عنّي في العجز عن قضاء خدمته، وأنزلوني بأهلي في قلعة أولاد سلامة [3] من بلاد بني توجين التي صارت لهم بأقطاع السلطان، فأقمت بها أربعة
[1] الضمير يعود الى ابن خلدون.
[2]
جبل كزول: يقع في الجنوب الغربي لمدينة تيارت على بعد 10 كلم.
[3]
تسمى هذه القلعة قلعة تاوغزوت في مقاطعة وهران من بلاد الجزائر.