الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرات، فخام [1] تمر عن لقائه. وسار إلى محاربة طقطمش، فاستولى على أعماله كلّها، ورجعت قبائل المغل إلى تمر، وساروا تحت رايته. وذهب طقطمش في ناحية الشمال، وراء بلغار، متذمما بقبائل اروس من شعوب التّرك في الجبال.
وسارت عصائب الترك كلها تحت رايات تمر، ثم اضطرب ملوك الهند، واستصرخ خارج منهم بالأمير تمر، فسار إليهم في عساكر المغل، وملك دلّي [2] ، وفرّ صاحبها الى كنباية [3] مرسى بحر الهند، وعاثوا في نواحي بلاد الهند. ثمّ بلغه هنالك مهلك الظاهر برقوق بمصر، فرجع إلى البلاد، ومرّ على العراق، ثم على أرمينية [4] وأرزنكان [5] ، حتى وصل سيواس [6] فخرّبها، وعاث في نواحيها، ورجع عنها أول سنة ثلاث من المائة التّاسعة. ونازل قلعة الروم [7] ، فامتنعت، وتجاوزها الى حلب، فقابله نائب الشام وعساكره في ساحتها، ففضّهم، واقتحم المغل المدينة من كل ناحية. ووقع فيها من العيث والنّهب والمصادرة واستباحة الحرم، ما لم يعهد الناس مثله، ووصل الخبر الى مصر، فتجهز السّلطان فرج ابن الملك الظّاهر [8] الى المدافعة عن الشّام، وخرج في عساكره من التّرك مسابقا المغل وملكهم تمر أن يصدّهم عنها.
(لقاء الأمير تمر سلطان المغل والططر)
لما وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تمر [9] ملك بلاد الروم، وخرّب سيواس، ورجع
[1] خام عنه: نكص، وجبن.
[2]
هي دلهي اليوم. صبح الأعشى 5/ 68- 69.
[3]
كباية، أو كبايت، ضبطها ابن خلدون بالحركات بفتح الكاف وسكون النون، وباء مفتوحة بعدها ألف ثم ياء مفتوحة بعدها هاء للتأنيث. وفي صبح الأعشى 5/ 71: أنه ينسب إليها فيقال أنباتي وعلى ذلك فاسمها «أنبايت» بابدال الكاف همزة. وهي مدينة على ساحل بحر الهند.
[4]
أرمينية: إقليم واقع في غرب آذربيجان، وفي شماله الغربي يقع إقليم جورجيا. صبح الأعشى 4/ 353، (معجم البلدان) .
[5]
أرزنكان، ويقال أرزنجان: بلدة كانت تعد قديما من بلاد ارمينية، وهي الآن من بلاد الجمهورية التركية. صبح الأعشى 4/ 354.
[6]
سيواس: مدينة في تركية، تبعد ستين ميلا نحو الشرق من «قيسارية» السلوك ص 313.
[7]
هي قلعة حصينة واقعة في غربي الفرات مقابل «البيرة» . (معجم البلدان) .
[8]
هو الملك الناصر زين الدين أبو السادات فرج بن الملك الظاهر. المقريزي 3/ 392- 393 طبع مصر.
[9]
في عجائب المقدور ص 5، 6: «
…
اسمه تيمور بتاء مثناة مكسورة ساكنة، فمثناة تحت، وواو ساكنة
إلى الشّام، جمع السلطان عساكره، وفتح ديوان العطاء، ونادى في الجند بالرحيل الى الشام، وكنت أنا يومئذ معزولا عن الوظيفة [1] ، فاستدعاني دواداره يشبك [2] وأرادني على السّفر معه في ركاب السلطان، فتجافيت عن ذلك. ثم أظهر العزم عليّ بليّن القول، وجزيل الانعام فأصخيت، وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث وثمانمائة، فوصلنا إلى غزّة، فأرحنا بها أياما نترقّب الأخبار، ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الططر إلى أن نزلنا شقحب [3] ، وأسرينا فصبّحنا دمشق، والأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبكّ [4] قاصدا دمشق، فضرب السلطان خيامه وأبنيته بساحة قبّة يلبغا. ويئس الأمير تمر من مهاجمة البلد، فأقام بمرقب على قبّة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثا أو أربعا، فكانت حربهم سجالا، ثم نمي الخبر إلى السلطان وأكابر أمرائه، أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها، فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم، واختلال الدّولة
[ () ] بين ميم مضمومة وراء مهملة، هذه طريقة إملائه
…
لكن كرة الألفاظ الأعجمية إذا تداولها صولجان اللغة العربية خرطها في الدوران على بناء أوزانها
…
فقالوا تارة تمور، وأخرى تمرلنك» . وضبطه البدر العيني في «عقد الجمان» بخطه بالحركات بفتح التاء وضم الميم بعد راء ساكنة، ثم لام مفتوحة، فنون ساكنة، فكاف.
[1]
في عقد الجمان، في حوادث سنة 803، وتاريخ ابن قاضي شهبة كذلك: «
…
خرج السلطان الملك الناصر فرج، ومعه الخليفة المتوكل على الله، والقضاة الثلاثة، وهم صدر الدين المناوي الشافعيّ، والقاضي نور الدين علي بن الحلال المالكي، والقاضي موفق الدين بن الحنبلي، وأما القاضي جمال الدين الملطي الحنفي فإنه سار لكونه ضعيفا، وشار معهم القاضي ولي الدين ابن خلدون المالكي، وهو معزول» .
[2]
هو الأمير يشبك الشعبانيّ كان من أمراء الملك الظاهر، تقلب في مناصب مختلفة، وجعل له الملك الظاهر الوصية على أولاده، وفي أيام الملك فرج، تولى وظيفة دوادار كبير، ومشير المملكة تاريخ ابن اياس 2/ 308، 314، 337. وقد ضبطه البدر العيني بخطه في «عقد الجمان» بكسر الياء، وسكون الشين، وفتح الباء.
[3]
بفتح الشين والحاء المهملة، وسكون القاف بينهما (كجعفر)، ويقول المقريزي في الخطط 3/ 399 (طبع مصر) : «
…
انها بظاهر دمشق» ، وزاد في السلوك ص 932:«تحت جبل غباغب» ، فهي- باء على هذا- في جنوب دمشق. وانظر تاج العروس (شقب) .
[4]
بعلبكّ: احدى مدن لبنان المشهورة، وهي واقعة في الشمال الشرقي لمدينة زحلة. (معجم البلدان) .
بذلك، فأسروا ليلة الجمعة من شهر [....][1] وركبوا جبل الصّالحية، ثم انحطّوا في شعابه، وساروا على شافة البحر إلى غزّة، وركب الناس ليلا يعتقدون أن السلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر، فساروا عصبا وجماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر، وأصبح أهل دمشق متحيّرين قد عميت عليهم الأنباء.
وجاءني القضاة والفقهاء، واجتمعت بمدرسة العادليّة، واتّفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تمر على بيوتهم وحرمهم، وشاوروا في ذلك نائب القلعة، فأبى عليهم ذلك ونكره، فلم يوافقوه. وخرج القاضي برهان الدّين بن مفلح الحنبلي [2] ومعه شيخ الفقراء بزاوية [....][3] فأجابهم إلى التأمين، وردهم باستدعاء الوجوه والقضاة، فخرجوا إليه متدلّين من السور بما صبّحهم من التقدمة، فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان، وردّهم على أحسن الآمال، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد، وتصرّف الناس في المعاملات، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها، ويملك أمرهم بعزّ ولايته.
وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عنّي، وهل سافرت مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول. وبلغني الخبر من جوف اللّيل، فخشيت البادرة على نفسي، وبكرت سحرا إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج أو التدلّي من السّور، لما حدث عندي من توهّمات ذلك الخبر، فأبوا عليّ أولا، ثم أصخوا لي، ودلّوني من السور، فوجدت بطانته عند الباب، ونائبة الّذي عيّنه للولاية على دمشق، واسمه شاه ملك، من بني جقطاي أهل عصابته، فحيّيتهم وحيّوني، وفدّيت وفدّوني، وقدّم لي شاه ملك، مركوبا، وبعث معي من بطانة السّلطان من أوصلني إليه. فلما وقفت بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التعريف باسمي أنّي القاضي المالكي المغربي، فاستدعاني،
[1] بياض بالأصل، ولعله يريد (شهر جمادى الآخرة) . وانظر تاريخ ابن اياس 1/ 329.
[2]
هو برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (749- 803)، وكان يحسن اللغتين: التركية، والفارسية، ولعلهم. لذلك- اختاروه للسفارة. وانظر ابن اياس 1/ 336.
[3]
بياض في الأصل ولم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على اسم هذه الزاوية.
ودخلت عليه بخيمة جلوسه، متكئا على مرفقه، وصحاف الطّعام تمرّ بين يديه، يشير بها إلى عصب المغل جلوسا أمام خيمته، حلقا حلقا. فلما دخلت عليه فاتحت بالسّلام، وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومدّ يده إليّ فقبّلتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيت. ثم استدعى من بطانته الفقيه عبد الجبّار بن النّعمان من فقهاء الحنفيّة بخوارزم [1] ، فأقعده يترجم ما بيننا، وسألني من أين جئت من المغرب؟ ولما [2] جئت؟ فقلت: جئت من بلادي لقضاء الفرض ركبت إليها [3] البحر، ووافيت مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة أربع وثمانين من هذه المائة الثامنة، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظّاهر على تخت الملك لتلك العشرة الأيام بعددها. فقال لي: وما فعل معك؟ قلت كل خير، برّ مقدمي، وأرغد قراي، وزوّدني للحجّ، ولما رجعت وفّر جرايتي، وأقمت في ظلّه ونعمته، رحمه الله وجزاه.
فقال: وكيف كانت توليته إياك القضاء؟ فقلت: مات قاضي المالكيّة قبل موته بشهر، وكان يظنّ بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة، وتحرّي المعدلة والحق، والإعراض عن الجاه، فولّاني مكانه، ومات لشهر بعدها، فلم يرض أهل الدّولة بمكاني، فأدالوني منها بغيري جزاهم الله. فقال لي: وأين ولدك؟ فقلت: بالمغرب الجوّاني كاتب [4] للملك الأعظم هنالك. فقال وما معنى الجوّاني في وصف المغرب؟ فقلت هو عرف خطابهم معناه الدّاخلي، أي الأبعد، لأن المغرب كلّه على ساحل البحر الشامي من جنوبه، فالأقرب الى هنا برقة، وإفريقية [5]، والمغرب الأوسط [6] : تلمسان وبلاد زناتة، والأقصى: فاس ومراكش، وهو معنى
[1] هو: (عبد الجبار بن النعمان المعتزلي، أحد خواص تيمور الذين طافوا معه البلاد، وأهلكوا العباد، وأظهروا الظلم والفساد) . ذكره علاء الدين في (تاريخ حلب) وقال: اجتمعت به، فوجدته ذكيا فاضلا، وسألته عن مولده، فقال: يكون لي نحو الأربعين. ورأيت شرح الهداية لأكمل الدين، وقد طالعة عبد الجبار المذكور، وعلّم على مواضع منه، ذكر أنها غلط. وذكره ابن المبرد في (الرياض) وقال:(كان له معرفة بالفقه، والعلوم العقلية، وكان يمتحن العلماء ويناظرهم بين يدي اللنك. وهو من قلة الدين على جانب كبير. توفي سنة 808 هـ) .
[2]
كذا في الأصل بإثبات ألف (ما) المجرورة عند الاستفهام، ومن لغة حكوها عن الأخفش.
[3]
كذا بالأصل.
[4]
كذا في الأصل.
[5]
هي المملكة التونسية اليوم.
[6]
مكانه اليوم بلاد (الجزائر) .
الجوّاني. فقال لي: وأين مكان طنجة من ذلك المغرب؟ فقلت: في الزّاوية التي بين البحر المحيط، والخليج المسمّى بالزّقاق، وهو خليج البحر الشّامي؟ فقال:
وسبتة؟ فقلت: على مسافة من طنجة على ساحل الزّقاق، ومنها التّعدية إلى الأندلس، لقرب مسافته، لأنها هناك نحو العشرين ميلا. فقال: وفاس؟ فقلت:
ليست على البحر، وهي في وسط التّلول، وكرسيّ ملوك المغرب من بني مرين.
فقال: وسجلماسة؟ قلت: في الحدّ ما بين الأرياف والرّمال من جهة الجنوب.
فقال: لا يقنعني هذا، وأحبّ أن تكتب لي بلاد المغرب كلّها، أقاصيها وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره، حتى كأني أشاهده. فقلت: يحصل ذلك بسعادتك، وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك، وأوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنضّفة القطع. ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمونه الرشتة، ويحكمونه على أبلغ ما يمكن، فأحضرت الأواني منه، وأشار بعرضها عليّ، فمثلت قائما وتناولتها وشربت واستطبت، ووقع ذلك منه أحسن المواقع، ثم جلست وسكتنا، وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعيّة، صدر الدين المناوي، أسره التّابعون لعسكر مصر. بشقحب، وردّوه، فحبس عندهم في طلب الفدية منه، فأصابنا من ذلك وجل، فزوّرت في نفسي كلاما أخاطبه به، وأتلطّفه بتعظيم أحواله، وملكه. وكنت قبل ذلك بالمغرب قد سمعت كثيرا من الحدثان في ظهوره، وكان المنجّمون المتكلّمون في قرانات العلويّين [1] يترقّبون القران العاشر في المثلّثة الهوائية [2] ، وكان يترقّب عام ستة وستين من المائة السّابعة. فلقيت ذات يوم من عام أحد وستين وسبعمائة بجامع القرويين من فاس، الخطيب أبا عليّ بن باديس خطيب قسنطينة، وكان ماهرا في ذلك الفن، فسألته عن هذا القران المتوقّع، وما هي آثاره؟ فقال لي: يدلّ على ثائر عظيم في الجانب الشّمالي الشرقي، من أمة بادية
[1] الكوكبان العلويان: زحل، والمشتري، والمراد بالقران- عند الإطلاق- اجتماع المشتري، وزحل خاصة (مفاتيح العلوم ص 232) .
[2]
المثلثة: كل ثلاثة بروج تكون متفقة في طبيعة واحدة من الطبائع الأربع. (مفاتيح العلوم ص 226) .
ولعل ابن خلدون كان يعرف أن تيمور لنك (كان يعتمد على أقوال الأطباء والمنجمين، ويقربهم ويدنيهم، حتى انه كان لا يتحرك الا باختيار فلكي) ، فحدثه بهذا الحديث.
أهل خيام، تتغلّب على الممالك، وتقلب الدّول، وتستولي على أكثر المعمور.
فقلت: ومتى زمنه؟ فقال: عام أربعة وثمانين تنتشر أخباره. وكتب لي بمثل ذلك الطبيب ابن زرزر اليهودي، طبيب ملك الأفرنج ابن أذفونش ومنجّمه. وكان شيخي رحمه الله إمام المعقولات محمد بن إبراهيم الآبلي متى فاوضته في ذلك، أو سايلته عنه يقول: أمره قريب، ولا بدّ لك إن عشت أن تراه.
وأما المتصوّفة فكنّا نسمع عنهم بالمغرب ترقّبهم لهذا الكائن، ويرون أن القائم به هو الفاطميّ المشار إليه في الأحاديث النّبوية [1] من الشيعة وغيرهم، فأخبرني يحيى بن عبد الله حافد الشيخ أبي يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب، أن الشيخ قال لهم ذات يوم، وقد انفتل من صلاة الغداة: إن هذا اليوم ولد فيه القائم الفاطمي، وكان ذلك في عشر الأربعين من المائة الثامنة، فكان في نفسي من ذلك كله ترقّب له.
فوقع في نفسي لأجل الوجل الّذي كنت فيه أن أفاوضه في في شيء من ذلك يستريح إليه، ويأنس به مني، ففاتحته وقلت: أيّدك الله! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنّى لقاءك. فقال لي التّرجمان عبد الجبّار: وما سبب ذلك؟ فقلت: أمران، الأول أنك سلطان العالم، وملك الدّنيا، وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف، فإنّي من أهل العلم، وأبيّن ذلك فأقول:
إن الملك إنما يكون بالعصبيّة، وعلى كثرتها يكون قدر الملك، واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد، أن أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والترك، وأنتم تعلمون ملك العرب كيف كان لمّا اجتمعوا في دينهم على نبيّهم، وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس، وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من أيديهم شاهد بنصابهم من الملك.
ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى، أو قيصر، أو الإسكندر، أو بخت نصّر، أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم، وأين الفرس من الترك؟ وأما قيصر والإسكندر فملوك الروم، وأين الروم من الترك؟ وأما بخت نصّر فكبير أهل بابل، والنّبط. وأين هؤلاء من التّرك؟ وهذا برهان ظاهر على ما ادّعيته في هذا
[1] ذكر هذه الأحاديث في المقدمة.
الملك.
وأما الأمر الثاني مما يحملني على تمنّي لقائه، فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب، والأولياء، وذكرت ما قصصته من ذلك قبل. فقال لي: وأراك قد ذكرت بخت نصّر مع كسرى، وقيصر، والإسكندر، ولم يكن في عدادهم، لأنهم ملوك أكابر. وبخت نصّر قائد من قوّاد الفرس، كما أنا نائب من نواب صاحب التّخت، وهو هذا، وأشار إلى الصفّ القائمين وراءه، وكان واقفا معهم، وهو ربيبه الّذي تقدّم لنا أنّه تزوج أمّه بعد أبيه ساطلمش، فلم يلفه هناك، وذكر له القائمون في ذلك الصفّ أنه خرج عنهم.
فرجع إليّ فقال: ومن أي الطوائف هو بخت نصّر؟ فقلت: بين الناس فيه خلاف، فقيل من النّبط بقية ملوك بابل، وقيل من الفرس الأولى، فقال: يعني من ولد منوشهر [1] . قلت نعم هكذا ذكروا، فقال: ومنوشهر له علينا ولادة من قبل الأمهات. ثم أفضت مع الترجمان في تعظيم هذا القول منه، وقلت له: وهذا ممّا يجعلني على بني لقائه.
فقال الملك: وأيّ القولين أرجح عندك فيه؟ فقلت إنّه من عقبة ملوك بابل، فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر. فقلت: يعكّر تملينا رأي الطبري، فإنه مؤرّخ الأمة ومحدّثهم، ولا يرجحه غيره، فقال: وما علينا من الطبري؟ نحضر كتب التاريخ للعرب والعجم، ونناظرك. فقلت: وأنا أيضا أناظر على رأي الطبري، وانتهى بنا القول، فسكتّ، وجاءه الخبر بفتح باب المدينة، وخروج القضاة وفاء بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان، فرفع من بين أيدينا، لما في ركبته من الداء، وحمل على فرسه فقبض شكائمه، واستوى في مركبه. وضربت الآلات حفافيه حتى ارتجّ لها الجوّ. وسار نحو دمشق، ونزل في تربة منجك عند باب الجابية، فجلس هناك، ودخل إليه القضاة وأعيان البلد، ودخلت في جملتهم، فأشار إليهم بالانصراف، وإلى شاه ملك نائبة أن يخلع عليهم في وظائفهم، وأشار إليّ بالجلوس، فجلست بين يديه. ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء،
[1] كذا بالأصل وهو: منوجهر بالجيم المتوسطة بينها وبين الشين اسم ملك من الفرس، الأول ومعناه فضيّ الطلعة، وذلك لبهائه، فان مينو بالفارسية: الضضة، فاقتصروا على حذف الياء وقالوا منو. وجهر.
الطلعة.
فأحضروا عرفاء البنيان المهندسين، وتناظروا في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة، لعلّهم يعثرون بالصّناعة على منفذه، فتناظروا في مجلسه طويلا، ثم انصرفوا، وانصرفت الى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنته في ذلك، فأذن فيه. وأقمت في كسر البيت، واشتغلت بما طلب مني في وصف بلاد المغرب، فكتبته في أيام قليلة، ورفعته إليه فأخذه من يدي، وأمر موقّعه بترجمته إلى اللسان المغلي. ثم اشتدّ في حصار القلعة، ونصب عليها الآلات من المجانيق، والنّفوط، والعرّادات، والنقب، فنصبوا لأيام قليلة ستّين منجنيقا إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى، وضاق الحصار بأهل القلعة، وتهدّم بناؤها من كل جهة، فطلبوا الأمان.
وكان بها جماعة من خدّام السلطان ومخلّفه، فأمّنهم السلطان تمر، وحضروا عنده.
وخرّب القلعة وطمس معالمها، وصادر أهل البلد على قناطير من الأموال استولى عليها بعد أن أخذ جميع ما خلّفه صاحب مصر هنالك، من الأموال والظّهر والخيام. ثم أطلق أيدي النّهّابة على بيوت أهل المدينة، فاستوعبوا أناسيها، وأمتعتها، وأضرموا النّار فيما بقي من سقط الأقمشة والخرثيّ، فاتصلت النار بحيطان الدّور المدعمة بالخشب، فلم تزل تتوقّد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه، فسال رصاصه، وتهدّمت سقفه وحوائطه، وكان أمرا بلغ مبالغه في الشّناعة والقبح. وتصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد، ويحكم في ملكه ما يشاء.
وكان أيام مقامي عند السلطان تمر، خرج إليه من القلعة يوم أمّن أهلها رجل من أعقاب الخلفاء بمصر، من ذرّية الحاكم العبّاسي [1] الّذي نصبه الظاهر بيبرس، فوقف إلى السلطان تمر يسأله النّصفة في أمره، ويطلب منه منصب الخلافة كما كان لسلفه، فقال له السلطان تمر: أنا أحضر لك الفقهاء والقضاة، فإن حكموا لك بشيء أنصفتك فيه. واستدعى الفقهاء والقضاة، واستدعاني فيهم، فحضرنا عنده وحضر هذا الرجل الّذي يسأل منصب الخلافة، فقال له عبد الجبّار: هذا مجلس النصفة فتكلّم. فقال: إن هذه الخلافة لنا ولسلفنا، وإن الحديث [2] صحّ بأن
[1] هو أبو العباس أحمد بن أبي علي الحسن القطبي المتوفى سنة 701.
[2]
في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 100، 101 بعض الآثار التي تمسك بها العباسيون في خلافتهم.
الأمر لبني العبّاس ما بقيت الدّنيا، يعني أمر الخلافة. وإني أحقّ من صاحب المنصب الآن بمصر، لأن آبائي الذين ورثتهم كانوا قد استحقّوه، وصار إلى هذا بغير مستند، فاستدعى عبد الجبّار كلّا منّا في أمره، فسكتنا برهة، ثم قال: ما تقولون في هذا الحديث؟ فقال برهان الدّين بن مفلح: الحديث ليس بصحيح.
واستدعى ما عندي في ذلك فقلت: الأمر كما قلتم من أنّه غير صحيح، فقال السلطان تمر: فما الّذي أصار الخلافة لبني العبّاس إلى هذا العهد في الإسلام؟
وشافهني بالقول، فقلت: أيّدك الله! اختلف المسلمون من لدن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، هل يجب على المسلمين ولاية رجل منهم يقوم بأمورهم في دينهم ودنياهم، أم لا يجب ذلك؟ فذهبت طائفة إلى أنه لا يجب، ومنهم الخوارج، وذهب الجماعة إلى وجوبه، واختلفوا في مستند ذلك الوجوب، فذهب الشيعة كلّهم إلى حديث الوصية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك لعلّي، واختلفوا في تنقّلها عنه إلى عقبه إلى مذاهب كثيرة تشذّ عن الحصر. وأجمع أهل السّنّة على إنكار هذه الوصيّة، وأن مستند الوجوب في ذلك إنما هو الاجتهاد، يعنون أن المسلمين يجتهدون في اختيار رجل من أهل الحقّ والفقه والعدل، بفوّضون إليه النظر في أمورهم.
ولما تعدّدت فرق العلويّة وانتقلت الوصيّة بزعمهم من بني الحنفيّة إلى بني العبّاس، أوصى بها أبو هاشم بن محمد بن الحنفيّة إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس، وبثّ دعاته بخراسان. وقام أبو مسلم [1] بهذه الدعوة، فملك خراسان والعراق، ونزل شيعتهم الكوفة، واختاروا للأمر أبا العبّاس السفّاح [2] ابن صاحب هذه الدّعوة، ثم أرادوا أن تكون بيعته على إجماع من أهل السنّة والشيعة، فكاتبوا كبار الأمة يومئذ، وأهل الحلّ والعقد، بالحجاز والعراق، يشاورونهم في أمره، فوقع اختيارهم كلّهم على الرضى به، فبايع له شيعته بالكوفة بيعة إجماع وإصفاق. ثم عهد بها إلى أخيه المنصور [3] ، وعهد بها المنصور إلى بنيه، فلم تزل متناقلة فيهم، إما
[1] أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني. له ترجمة واسعة في وفيات ابن خلكان 1/ 352- 356.
[2]
أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (104- 136) وانظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 99 وما بعدها.
[3]
أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (95- 158) . تاريخ الخلفاء 101- 106.