الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دام الوداد على البعاد موصّلا
…
بين القلوب وحبله موصول
وبقيت في نعم لديك مزيدها
…
وعليك يضفو ظلّها المسدول
ثم مرّوا بعدها بتونس، فبعث سلطان تونس أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي العبّاس من ملوك الموحّدين، هدية ثالثة انتقى لها جياد الخيل، وعزّز بها هدية السلطانين وراءه، مع رسوله من كبار الموحّدين أبي عبد الله بن تافراكين، ووصلت الهدايا الثلاث إلى باب الملك الظّاهر في آخر السّنة، وعرضت بين يدي السلطان، وانتهب الخاسكية ما كان فيها من الأقمشة والسّيوف والبسط ومراكب الخيل، وحمل كثيرا منهم على كثير من تلك الجياد وارتبط الباقيات.
وكانت هديّة صاحب المغرب تشتمل على خمسة وثلاثين من عتاق الخيل بالسروج واللّجم الذهبية، والسيوف المحلّاة، وخمسة وثلاثين حملا من أقمشة الحرير والكتّان والصوف والجلد، منتقاة من أحسن هذه الأصناف.
وهديّة صاحب تلمسان تشتمل على ثلاثين من الجياد بمراكبها المموّهة، وأحمالا من الأقمشة.
وهديّة صاحب تونس تشتمل على ثلاثين من الجياد مغشّاة ببراقع الثياب من غير مراكب، وكلها أنيق في صنعه مستطرف في نوعه، وجلس السّلطان يوم عرضها جلوسا فخما في إيوانه، وحضر الرّسل، وأدّوا ما يجب عن ملوكهم. وعاملهم السلطان بالبرّ والقبول، وانصرفوا إلى منازلهم للجرايات الواسعة، والأحوال الضّخمة. ثم حضر وقت خروج الحاجّ، فأستأذنوا في الحجّ مع محمل السلطان، فأذن لهم، وأرغد أزودتهم. وقضوا حجّهم، ورجعوا إلى حضرة السلطان ومعهود مبرّته. ثم انصرفوا إلى مواطنهم، وشيّعهم من برّ السلطان وإحسانه، ما ملأ حقائبهم، وأسنى ذخيرتهم، وحصل لي أنا من بين ذلك في الفخر ذكر جميل بما تناولت بين هؤلاء الملوك من السّعي في الوصلة الباقية على الأبد، فحمدت الله على ذلك.
(ولاية القضاء الثانية بمصر)
ما زلت، منذ العزل عن القضاء الأوّل سنة سبع وثمانين وسبعمائة، مكبا على
الاشتغال بالعلم، تأليفا وتدريسا، والسلطان يولّي في الوظيفة من يراه أهلا متى دعاه إلى ذلك داع، من موت القائم بالوظيفة، أو عزله، وكان يراني الأولى بذلك، لولا وجود الذين شغّبوا من قبل في شأني، من أمراء دولته، وكبار حاشيته، حتى انقرضوا. واتفقت وفاة قاضي المالكيّة إذ ذاك ناصر الدين بن التّنسي [1] ، وكنت مقيما بالفيّوم لضمّ زرعي هنالك، فبعث عنّي، وقلّدني وظيفة القضاء في منتصف رمضان من سنة إحدى وثمانمائة، فجريت على السّنن المعروف مني، من القيام بما يجب للوظيفة شرعا وعادة، وكان رحمه الله يرضى بما يسمع عنّي في ذلك. ثم أدركته الوفاة في منتصف شوال بعدها، وأحضر الخليفة والقضاة والأمراء، وعهد إلى كبير أبنائه فرج، ولإخوته من بعده واحدا واحدا، وأشهدهم على وصيّته بما أراد. وجعل القائم [2] بأمر ابنه في سلطانه إلى أتابكه ايتمش [3] ، وقضى رحمة الله عليه، وترتّبت الأمور من بعده كما عهد لهم، وكان النائب بالشام يومئذ أمير من خاسكية السلطان يعرف بتنم [4] ، وسمع بالواقعات بعد السلطان فغصّ أن لم يكن هو كافل ابن الظّاهر بعده، ويكون زمام الدّولة بيده. وطفق سماسرة الفتن يغرونه بذلك، وبينما هم في ذلك إذ وقعت فتنة الأتابك [5] أيتمش، وذلك أنّه كان للأتابك دوادار غرّ يتطاول إلى الرئاسة، ويترفّع على أكابر الدّولة بحظّه من أستاذه، وما له من الكفالة على السلطان، فنقموا حالهم مع هذا الدّوادار، وما يسومهم به من التّرفّع عليهم، والتّعرض لإهمال نصائحهم، فأغروا السلطان
[1] هو أحمد بن محمد بن عطاء الله بن عوض الزبيري الاسكندري المالكي المشهور بابن التنسي (بفتح التاء والنون وكسر السين المهملة) ، ولد سنة 740، وتوفي سنة 801.
[2]
كذا بالأصل، ولعلها «القيام بأمر» .
[3]
هو أيتمش بن عبد الله الأسندمري البجاسي الجرجاني الأمير سيف الدين، أتابك العساكر بالديار المصرية، أصله من مماليك اسندمر البجاسي الجرجاني (نسبة إلى جرجي نائب حلب) وكان ملك ايتمش قبل أن يحرره الظاهر برقوق.
[4]
الأمير سيف الدين تنم بن عبد الله الحسني الظاهري، اسمه الأصلي تنبك، وغلب عليه «تنم» ، كان نائب دمشق، وهو من مماليك الظاهر برقوق، قتل سنة 802 بقلعة دمشق.
[5]
يطلق «أتابك» في أيام المماليك، على مقدم العساكر أو القائد العام، على انه أبو العساكر والأمراء جميعا. وهو مركب من كلمتين:«أتا» بمعنى «أب» ، و «بك» ومعناها أمير. صبح الأعشى 4/ 18، 6/ 1.
بالخروج من ربقة الحجر، وأطاعهم في ذلك، وأحضر القضاة بمجلسه للدّعوى على الأتابك باستغنائه عن الكافل، بما علم من قيامه بأمره وحسن تصرفاته. وشهد بذلك في المجلس أمراء أبيه كافّة، وأهل المراتب والوظائف منهم، شهادة قبلها القضاة. وأعذروا إلى الأتابك فيهم فلم يدفع في شيء من شهادتهم، ونفذ الحكم يومئذ برفع الحجر عن السلطان في تصرفاته وسياسة ملكه، وانفضّ الجمع، ونزل الأتابك من الإسطبل إلى بيت سكناه. ثم عاود الكثير من الأمراء نظرهم فيما أتوه من ذلك، فلم يروه صوابا، وحملوا الأتابك على نقضه، والقيام بما جعل له السلطان من كفالة ابنه في سلطانه. وركب، وركبوا معه في آخر شهر المولد النّبوي، وقاتلهم أولياء السلطان فرج عشيّ يومهم وليلتها، فهزموهم، وساروا إلى الشّام مستصرخين بالنائب تنم، وقد وقر في نفسه ما وقر من قبل، فبرّ وفادتهم، وأجاب صريخهم. واعتزموا على المضيّ إلى مصر. وكان السّلطان لما انفضّت جموع الأتابك، وسار إلى الشام، اعتمله في الحركة والسّفر لخضد شوكتهم، وتفريق جماعتهم، وخرج في جمادى حتى انتهى إلى غزّة، فجاءه الخبر بأنّ نائب الشام تنم، والأتابك، والأمراء الذين معه، خرجوا من الشّام زاحفين للقاء السلطان، وقد احتشدوا وأوعبوا، وانتهوا قريبا من الرّملة [1] ، فراسلهم السّلطان مع قاضي القضاة الشافعيّ صدر الدين المناوي [2] ، وناصر الدين الرّمّاح، أحد المعلّمين لثقافة الرماح، يعذر إليهم، ويحملهم على اجتماع الكلمة، وترك الفتنة، وإجابتهم إلى ما يطلبون من مصالحهم، فاشتطّوا في المطالب، وصمّموا على ما هم فيه. ووصل الرّسولان بخبرهم، فركب السلطان من الغد، وعبّى عساكره، وصمّم لمعاجلتهم، فلقيهم أثناء طريقه، وهاجمهم فهاجموه، ثم ولّوا الأدبار منهزمين.
وصرع الكثير من أعيانهم وأمرائهم في صدر موكبه، فما غشيهم الليل إلّا وهم مصفّدون في الحديد، يقدمهم الأمير تنم نائب الشام وأكابرهم كلّهم. ونجا الأتابك أيتمش إلى القلعة بدمشق، فآوى إليها، واعتقله نائب القلعة. وسار السلطان إلى دمشق، فدخلها على التعبئة في يوم أغرّ، وأقام بها أياما، وقتل هؤلاء
[1] الرملة: مدينة بفلسطين بينها وبين القدس نحو 18 ميلا، كانت ذا شأن عظيم في الحروب الصليبية (معجم البلدان) .
[2]
صدر الدين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الشافعيّ.