الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الخبر عن تملك السلطان أبي عنان بجاية وانتقال صاحبها الى المغرب)
لما وصل السلطان أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكريا يحيى صاحب بجاية إلى السلطان بمكانه من المدية في شعبان من سنته، وأقبل السلطان عليه، وبوّأه كنف ترحيبه وكرامته، خلص الأمير به نجيّا، وشكا إليه ما يلقاه من أهل عمله من الامتناع من الجباية والسعي في الفساد، وما يتبع ذلك من زبون الحامية واستبداد البطانة. وكان السلطان متشوّقا لمثلها، فأشار عليه بالنزول عنها، وأن يديله عنها بما شاء من بلاده، فسارع إلى قبول إشارته، ودسّ إليه مع حاجبه محمد بن أبي عمرو أن يشهد بذلك على رءوس الملاء، ففعل، ونقم عليه بطانته ذلك، وفرّ بعضهم من معسكره، فلحق بإفريقية، ومنهم علي ابن القائد محمد بن الحكيم. وأمره السلطان أن يكتب بخطّه إلى عامله على البلد بالنزول عنها وتمكين عمّال السلطان منها ففعل وعقد السلطان عليها لعمر بن علي الوطاسي من أولاد الوزير الّذي ذكرنا خبر انتزائهم بتازوطا من قبل، ولما قضى السلطان حاجته من المغرب الأوسط واستولى على بجاية، انكفأ راجعا إلى تلمسان لشهود الفطر بها، ودخلها في يوم مشهود، وحمل أبا ثابت ووزيره يحيى بن داود على جملين يخطوان بهما في ذلك المحفل بين السماطين، فكانا عبرة لمن حضر وسيقا من الغد إلى مصارعهما، فقتلا قعصا بالرماح، وأنزل السلطان المولى الأمير أبا عبد الله صاحب بجاية خير نزل، وفرش له في مجلسه تكرمة له إلى أن كان من توثّب صنهاجة وأهل بجاية بعمر بن علي ما نحن ذاكروه إن شاء الله تعالى.
(الخبر عن ثورة أهل بجاية ونهوض الحاجب اليها في العساكر)
كان صنهاجة هؤلاء من أعقاب ملكانة [1] ملوك القلعة وبجاية، نزل أولوهم بوادي
[1] وفي نسخة ثانية: تكلاته.
بجاية بين القبائل من برابرتها الكتاميين في مواطن بني ورياكل منذ أوّل دولة الموحدين، وأقطعوهم على العسكرة معهم، ولما ضعفت جنود الموحّدين وقلّ عددهم انفردوا بالعسكرة مع السلطان، وصار لهم بذلك اعتزاز وزبون على الدولة.
وكان الأمير أبو عبد الله هذا قد أصاب منهم لأوّل أمره، وقتل محمد بن تميم من أكابر مشيختهم، وكان صاحبه فارح مولى ابن سيّد الناس عريفا عليه من عهد أبيه الأمير أبي زكريا، وكان مستبدّا على المولى أبي عبد الله، فلما نزل عن إمارته للسلطان أبي عنان سخط ذلك ونقمه عليه، وأسرّها في نفسه ولم يبدها لكماله، وسرّحه أميره مع عمر بن علي الوطاسي لينقل حرمه ومتاعه وماعون داره، فوصل إليها وشكا إليه الصنهاجيون مغبّة أمرهم في ثقل الوطأة وسوء الملكة فأشكاهم ودعاهم إلى الثّورة ببني مرين، والقيام بدعوة الموحّدين للمولى أبي زيّان صاحب قسنطينة، فأجابوه وتواعدوا بالفتك بعمر بن علي بمجلسه من القصبة. وتولى كبرها منصور بن الحاج من مشيختهم، وباكره بداره على عادة الأمراء، ولما أكبّ عليه ليلثم أطرافه طعنه بخنجره، وفرّ إلى بيته جريحا فولجوا عليه واستلحموه. وثارت الغوغاء من أهل البلد في ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
وركب الحاجب فارح وهتف الهاتف بدعوة المولى أبي زيد صاحب قسنطينة، وطيروا بالخبر واستدعوه، فتثاقل عن إجابتهم، وبعث مولى ابن المعلوجي للقيام بأمرهم.
وبلغ الخبر إلى السلطان فاتّهم المولى أبا عبد الله بمداخلة حاجبة، فاعتقله بداره.
واعتقل وفدا من ملاء بجاية كان ببابه، وثبتت آراء المشيخة من أهل بجاية، وتمشّت رجالاتهم وأولو الرأي والشورى منهم في الفتك بصنهاجة والعلج، وداخلهم القائد هلال مولى ابن سيّد الناس من المعلوجي، وعلي بن محمد بن ألميت حاجب الأمير أبي زكريا يحيى، ومحمد ابن الحاجب أبي عبد الله بن سيّد الناس وتواعدوا للفتك بفارح يوم وصول النائب من قبل صاحب قسنطينة، فجهروا بالنكير على الحاجب، ودعوه إلى المسجد ليؤامروه. ونذر بأمرهم فاعتدّ دار شيخ الفتيا أحمد بن إدريس فاقتحموا عليه الدار، وباشره مولاه محمد بن سيّد الناس، فطعنه وأشواه، ورمي بشلوه من سقف الدار، وقطع رأسه، فبعثوا به إلى السلطان، وفرّ منصور بن الحاج وقومه صنهاجة من البلد، وكان بالمرسي أحمد بن سعيد القرموني من خاصّة السلطان، جاء في السفن لبعض حاجاته من تونس، ووافى مرسي بجاية يومئذ فأنزلوه
واعصوصبوا عليه، وتنادوا بدعوة السلطان وطاعته، فأشار عليهم أحمد القرموني أن يبعثوا إلى قائد تدلس من مشيخة بني مرين يحياتن [1] بن عمر بن عبد المؤمن الونكاسي، فاستدعوه ووصل إليهم في جملة [2] من العسكر، وبعثوا بأخبارهم إلى السلطان وانتظروا. فلمّا بلغ الخبر إلى السلطان أمر حاجبه محمد بن أبي عمر بالنهوض إلى بجاية، فعسكر بساحة تلمسان. وانتقى له السلطان من قومه وجنوده خمسة آلاف فارس أزاح عللهم، واستوفى أعطياتهم وسرّحه فنهض من تلمسان بعد قضاء منسك الأضحى، وأغذ السير إلى بجاية، ولما نزل ببني حسن جمع له بمعسكرهم من تيكلات، وخرج إليه المشيخة والوزراء، فتقبّض على القائد هلال وأشخصه إلى السلطان ودخل البلد على التعبية، واحتلّ بقصبتها لمحرّم فاتح أربع وخمسين وسبعمائة وسكن الناس وخلع على المشيخة، واختص علي بن ألميت [3] ومحمد بن سيّد الناس، واستظهر بهم على أمره، وتقبّض على جماعة من الغوغاء وعلى من تحت أيديهم ممن يتهم بالمداخلة في الثورة [4] يناهزون مائتين، واعتقلهم وأركبهم السفن إلى المغرب، فودّع الناس وسكنوا وتوافت وفود الزواودة من كل جهة، فأجزل صلاتهم واقتضى الطاعة منهم [5] . ووصل عامل الزاب يوسف، وسدّ فروجه وارتحل إلى تلمسان أوّل جمادى لشهرين من مدخله، وأغذّ السير بمن معه من العرب والوفود، وكنت يومئذ في جملتهم، وقد خلع عليّ وحملني وأجزل صلتي، وضرب لي الفساطيط، فوفدت في ركابه، وقدم تلمسان لأوّل جمادى الأخيرة، فجلس السلطان للوفد واعترض ما جنب له من الجياد والهديّة، وكان يوما مشهودا.
ثم أسنى السلطان جوائز الوفد، واختصّ يوسف بن مزني ويعقوب بن علي بمزيد من البرّ والصلة، وخصوا بجاه من الكرامة، وآمرهم في شأن إفريقية ومنازلة قسنطينة.
ورجع معهم الحاجب ابن أبي عمر على كره منه لما نذكره من أخباره، وانصرفوا إلى مواطنهم لأوّل شعبان من سنة أربع وخمسين وسبعمائة وانقلبت معه بعد
[1] وفي نسخة ثانية: يحيى.
[2]
وفي نسخة ثانية: في لمّة.
[3]
وفي نسخة ثانية: المنت.
[4]
وفي نسخة ثانية: التوثب.
[5]
وفي نسخة ثانية: واقتضى على الطاعة رهنهم. ابن خلدون م 25 ج 7