الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فارح من موالي السلطان أن يتفادى من مقامي معه خشية على أمره مني بزعمه، وتواطئوا على أن يشهد ابن عرفة بذلك للسلطان حتى شهد به في غيلة مني ونكر السلطان عليهم ذلك، ثم بعث إليّ وأمرني بالسفر معه، فسارعت إلى الامتثال، وقد شق ذلك عليّ، إلّا أني لم أجد محيصا، فخرجت معه وانتهيت إلى تبسة، وسط وطن تلول إفريقية، وكان منحدرا في عسكره وتوابعه من العرب إلى توزر لأنّ ابن يملول أجلب عليها سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة واستنقذها من يد ابنه، فسار السلطان إليه، وشرّده عنها، وأعاد إليها ابنه وأولياءه. ولما نهض من تبسة رجّعني إلى تونس فأقمت بضيعة الرياحين من نواحيها لضمّ زراعتي [1] بها الى أن قفل السلطان ظافرا منصورا فصحبته إلى تونس.
ولما كان شهر شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة أجمع السلطان الحركة إلى الزاب بما كان صاحبه ابن مزني قد آوى ابن يملول إليه ومهّد له في جواره، فخشيت أن يعود في شأني ما كان في السنة قبلها، وكان بالمرسى سفينة لتجّار الإسكندرية قد شحنها التجّار بأمتعتهم وعروضهم، وهي مقلعة إلى الإسكندرية فتطارحت على السلطان، وتوسّلت إليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي، فأذن لي في ذلك، وخرجت إلى المرسي والناس متسايلون على أثري من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم. فودّعتهم وركبت البحر منتصف شعبان من السنة، وقوّضت عنهم بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه، وتفرّعت لتجديد ما كان عندي من آثار العلم، والله وليّ الأمور سبحانه.
(الرحلة الى المشرق وولاية القضاء بمصر)
ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة أقمنا في البحر نحوا من أربعين ليلة، ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر، ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت، واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون، وكنا على ترقّب ذلك، لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سمّوه لذلك، وتمهيده له. وأقمت بالإسكندرية شهرا لتهيئة أسباب الحج ولم يقدّر عامئذ، فانتقلت إلى القاهرة أوّل ذي
[1] وفي نسخة ثانية: لضم زروعي.
العقدة فرأيت حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوّه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ النيل نهر الجنّة ومدفع مياه السماء، يسقيهم العلل والنّهل سيحه، ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجّه [1] ومررت في سكك المدينة تغصّ بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نتحدّث بهذا البلد وبعد مداه في العمران، واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجّهم وتاجرهم في الحديث عنه، سألت صاحبنا كبير الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت له: كيف هذه القاهرة؟
فقال: من لم يرها لم يعرف عزّ الإسلام.
وسألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال: كأنما انطلق أهله من السحاب [2] يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب.
وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان، منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر وتأدية رسالته النبويّة [3] إلى الضريح الكريم سنة ست وخمسين وسبعمائة فسألته عن القاهرة فقال.
أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار: إنّ الّذي يتخيّله الإنسان فإنّما يراه دون الصورة التي تخيّلها الاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة، فإنّها أوسع من كل ما يتخيّل فيها. فأعجب السلطان والحاضرون لذلك.
ولما دخلتها أقمت أياما وانثال عليّ طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلّة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها.
ثم كان الاتصال بالسلطان فأبرّ مقامي وآنس الغربة، ووفّر الجراية من صدقاته شأنه
[1] الثج: الصب الكثير.
[2]
وفي نسخة ثانية الحساب وهي الأصح وبذلك يقول المقريزي في خططته: «قال شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله تعالى: أهل مصر كأنما فرقوا من الحساب» الخطط 1/ 79 طبع مصر 1324 هـ.
[3]
الرسالة النبويّة اعتادوا كتابتها في مناسبات عديدة، كان يبعثون بها الى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة رسول خاص الى الروضة الشريفة حيث تقرأ قرب القبر النبوي الكريم وفي نفح الطيب أمثلة عديدة لهذه الرسائل.
مع أهل العلم، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس، وقد صدّهم السلطان هنالك عن السفر اغتباطا بعودي إليه فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه لتخلية سبيلهم، فخاطبه في ذلك بما نصّه [1] .
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [2] . 1: 1 عبد الله ووليّه أخوه برقوق [3][......][4] .
السلطان الأعظم، المالك الملك الظاهر، السّيد الأجلّ، العالم العادل، المؤيّد المجاهد، المرابط المثاغر، المظفّر، الشّاهنشاه، سيف الدّنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، إسكندر الزّمان، مولى الإحسان، مملّك أصحاب التخوت والأسرّة والتّيجان، واهب الأقاليم والأقطار، مبيد الطّغاة والبغاة والكفّار، ملك البحرين، مسلك سبيل القبلتين، خادم الحرمين الشّريفين، ظلّ الله في أرضه، القائم بسنّته وفرضه، سلطان البسيطة مؤمّن الأرض المحيطة، سيّد الملوك والسلاطين، قسيم [5] أمير المؤمنين [6] ، أبو سعيد برقوق ابن الشّهيد شرف الدنيا والدين أبي المعالي أنس [7] . خلّد الله سلطانه، ونصر
[1] سقط نص هذه الرسالة في أكثر النسخ. وقد أضفنا من نسخة بولاق المصرية طبعة دار الكتاب اللبناني حتى لا يفوتنا شيء من هذا الكتاب.
[2]
حافظت في هذه الرسالة على الطريقة الرسمية التي كانت متبعة في ذلك العهد، والتي يقول عنها القلقشندي في صبح الأعشى (7/ 378) ، في رسم المكاتبة الى صاحب فاس، وغيره من ملوك المغرب:
«
…
وهو أن يكتب بعد البسملة، بحيث يكون تحتها سواء، في الجانب الأيمن من غير أول السطر مسامتا للبسملة، وهي: السلطان الأعظم إلخ» .
[3]
في خطط المقريزي 2/ 211 بولاق: «واما البريد، وخلاص الحقوق والظلامات، فإنه (السلطان) يكتب أيضا اسمه، وربما كرم المكتوب اليه، فكتب اليه: «أخوه فلان، أو والده فلان، وأخوه» .
[4]
هذا البياض هو بيت العلامة، وكانت علامة الناصر محمد بن قلاوون:«الله أملي» ، وعمل ذلك الملوك بعده. خطط المقريزي 2/ 211 بولاق، والاستقصاء 2/ 72، صبح الأعشى 7/ 378.
[5]
القسيم بمعنى القاسم، والمراد أنه قاسم أمير المؤمنين الملك، وساهمه في الأمر، فصارا فيه مشتركين.
صبح الأعشى 7/ 65، 113.
[6]
هو المتوكل على الله، ابو عبد الله محمد بن المعصد الخليفة العباسي. ولي سنة 763 هـ وامتدت أيامه 45 سنة، حبس فيها وخلع، ومات سنة 808 هـ. «تاريخ الخلفاء» ص 202، 203.
[7]
كذا، وهو سيف الدين انز الجركسي العثماني سنة 783 هـ.
جيوشه وأعوانه- يخص الحضرة السّنية السّرية، المظفّرة الميمونة، المنصورة المصونة، حضرة السلطان العالم، العادل المؤيّد، المجاهد الأوحد، أبي العبّاس، ذخر الإسلام والمسلمين، عدّة الدنيا والدين، قدوة الموحّدين، ناصر الغزاة والمجاهدين، سيف جماعة الشاكرين، صلاح الدّول. لا زالت مملكته بقوّته عامرة، ومهابته لنفوس الجبابرة قاهرة، ومعدلته تبوّئه غرفات العز في الدنيا والاخرة. سلام صفا ورده وضفا برده، وثناء فاح ندّه، ولاح سعده، ووداد زاد وجده، وجاد جدّه.
امّا بعد حمد الله الّذي جعل القلوب أجنادا مجنّدة، وأسباب الوداد على البعاد مؤكّدة، ووسائل المحبّة بين الملوك في كلّ يوم مجدّدة، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، الّذي نصره الله بالرّعب مسيرة شهر وأيّده [1] وأعلى به منار الدين وشيّده، وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا طريقه وسؤدده، صلاة دائمة مؤبّدة. فإننا نوضّح لعلمه الكريم، أن الله- وله الحمد- جعل جبلّتنا الشريفة مجبولة على تعظيم العلم الشريف وأهله، ورفعة شأنه، ونشر إعلامه، ومحبّة أهله وخدّامه، وتيسير مقاصدهم، وتحقيق أملهم، والإحسان إليهم، والتقرّب إلى الله بذلك في السّر والعلانية، فإن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء وقرّة عين الأولياء، وهداة خلق الله في أرضه، لا سيمّا من رزقه الله الدّراية فيما علمه من ذلك، وهداه للدخول إليه من أحسن المسالك، مثل من سطّرنا هذه المكاتبة بسببه: المجلس [2] .
السامي، الشّيخي، الأجلّي، الكبيري، العالمي، الفاضلي، الأثيلي، الأثيري، الإمامي، العلّامي القدوة، المقتدي، الفريدي، المحقّقي، الأصيلي، الأوحدي، الماجدي، الولوي [3] ، جمال الإسلام والمسلمين، جمال العلماء في العالمين، أوحد الفضلاء، قدوة البلغاء، علامة الأمّة، إمام الأئمّة، مفيد
[1] يشير الى حديث الصحيحين: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» . (كنوز الحقائق) للمناوي.
[2]
هذا النوع من الحلي والألقاب الخاصة بأرباب الوظائف الدينية، يأتي في المرتبة الثالثة، فالأولى: درجة «المقر» ، والثانية: درجة «الجناب» ، والثالثة: درجة «المجلس» ، ولكل من الدرجات فروع، و «المجلس السامي» أحد فروع درجة «المجلس» . وانظر تفصيل القول عن هذه الاستعمالات في صبح الأعشى 7/ 15، 154- 159.
[3]
هذه النسبة الى «ولي الدين» .
الطالبين، خالصة الملوك والسلاطين [1] عبد الرحمن بن خلدون المالكي. أدام الله نعمته، فإنه أولى بالإكرام، وأحرى، وأحقّ بالرعاية وأجلّ قدرا، وقد هاجر إلى ممالكنا الشريفة، وآثر الإقامة عندنا بالديار المصرية، لا رغبة عن بلاده، بل تحبّبا إلينا، وتقرّبا إلى خواطرنا، بالجواهر النفيسة، من ذاته الحسنة، وصفاته الجميلة، ووجدنا منه فوق ما في النفوس، مما يجلّ عن الوصف ويربي على التعداد. يا له من غريب وصف ودار، قد أتى عنكم بكل غريب، وما برح- من حين ورد علينا- يبالغ في شكر الحضرة العليّة، ومدح صفاتها الجميلة، إلى أن استمال خواطرنا الشريفة إلى حبّها، وآثرنا المكاتبة إليها.
«والعين تعشق قبل الأذن أحيانا» [2]
وذكر لنا في أثناء ذلك، أهله وأولاده، في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العليّة، وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده، ويجتمع شمله بهم مدة إقامته عندنا، فاقتضت آراؤنا الشريفة، الكتابة إلى الحضرة العليّة لهذين السببين الجميلين، وقد آثرنا إعلام الحضرة العليّة بذلك، ليكون على خاطره الكريم، والقصد من محبته، يقدّم أمره العالي بطلب أهل الشيخ وليّ الدين المشار إليه، وإزاحة أعذارهم، وإزالة عوائقهم، والوصيّة بهم، وتجهيزهم إليه مكرّمين، محترمين، على أجمل الوجوه صحبة قاصده الشيخ الصالح، العارف السالك الأوحد، سعد الدين مسعود المكناسي، الواصل بهذه المكاتبة أعزه الله، ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة للعلية، مع توصية من بها من البحرية بمضاعفة إكرام المشار إليهم ورعايتهم، والتّأكيد عليهم في هذا المعنى، وإذا وصل من بها من البحرية، كان لهم الأمن والإحسان فوق ما في أنفسهم، ويربي على أملهم، بحيث يهتمّ بذلك على ما عهد من محبّته، وجميل اعتماده، مع ما يتحف به من مراسلاته، ومقاصده ومكاتباته. والله تعالى يحرسه بملائكته وآياته، بمنّه ويمنه إن شاء الله.
[1] اصطلحوا على أن يلحقوا ياء النسب بآخر الألقاب المفردة للمبالغة في التعظيم، ثم جعلوا النسبة الى نفس صاحب اللقب أرفع رتبة من النسبة الى شيء خارج عنه. ومن هنا كان «الاجلي» و «القاضوي» ارفع رتبة من «الجلالي» ، و «القضائي» . صبح الأعشى 6/ 78، 100. ثم ان لهذه الألقاب دلالات متعارفة خاصة. تولى تحديدها القلقشندي في صبح الأعشى 7/ 20، 73.
[2]
عجز بيت لبشار بن برد، وصدره- كما في الأغاني 3/ 19 بولاق:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والاذن......
»
كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ستّ وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف. الحمد للَّه وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم.
ثم هلك بعض المدرّسين بمدرسة القمحية [1] بمصر، من وقف صلاح الدّين بن أيّوب، فولّاني تدريسها مكانه [2] ، وبينا أنا في ذلك، إذ سخط السلطان قاضي المالكية [3] في دولته، لبعض النّزعات فعزله، وهو رابع أربعة بعدد المذاهب، يدعى كلّ منهم قاضي القضاة، تمييزا عن الحكّام بالنّيابة عنهم، لاتّساع خطّة هذا المعمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفع من الخصومات في جوانبه، وكبير جماعتهم قاضي الشّافعية، لعموم ولايته في الأعمال شرقا وغربا، وبالصّعيد [4] والفيوم [5] ، واستقلاله بالنّظر في أموال اليتامى والوصايا، ولقد يقال بأنّ مباشرة السلطان قديما بالولاية إنّما كانت تكون له.
فلما عزل هذا القاضي المالكيّ سنة ست وثمانين وسبعمائة اختصّني السلطان بهذه الولاية تأهيلا لمكاني وتنويها بذكري وشافهته بالتفادي من ذلك، فأبى إلّا إمضاءه وخلع عليّ بإيوانه وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقمت بما دفع إليّ من ذلك المقام المحمود ووفّيت جهدي بما آمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الله لومة، ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة مسوّيا بين الخصمين، آخذا بحقّ الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين جانحا إلى التثبّت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل
[1] كان موقع القمحية بجوار العتيق (جامع عمرو) بمصر، وكان موضعها يعرف بدار الغزل، وهو قيسارية كان يباع فيها الغزل، فهدمها صلاح الدين، وأنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالكية، ورتب فيها مدرسين، وجعل لها أوقافا كانت ضيعة بالفيوم تغل قمحا كان مدرسوها يتقاسمونه، ولذلك صارت لا تعرف الا بالمدرسة القمحية. خطط المقريزي 2/ 364 بولاق.
[2]
في السلوك في حوادث سنة 786:
[3]
هو جمال الدين عبد الرحمن بن سليمان بن خير المالكي (721- 791) .
[4]
كان القدماء يعتبرون مبدأ الصعيد الشمالي من قرب القاهرة، ويمتد على ضفتي الوادي جنوبا حتى يصل الى أسوان الّذي كان عندهم نهاية الصعيد الجنوبية، وفيما بين أسوان، واخميم، كان الصعيد الأعلى، ومن اخميم الى مدينة البهنسا الواقعة على الضفة الغربية لوادي النيل، كان يسمى الصعيد الأوسط، أما الصعيد الأدنى فكانت بدايته البهنسا، ونهايته في الشمال، قرب الفسطاط. ياقوت معجم البلدان.
[5]
تقع الفيوم المدينة المعروفة، في الجنوب الشرقي لبحيرة قارون، في الغرب من وادي النيل.
الشهادات، فقد كان البرّ منهم مختلطا بالفاجر، والطّيب ملتبسا بالخبيث، والحكّام ممسكون عن انتقادهم، متجاوزون عما يظهر عليهم من هناتهم، لما يموّهون به من الاعتصام بأهل الشوكة فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة، فيظنّون بهم الخير ويقسمون الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء، والتوسّل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بمرجع العقاب، ومؤلم النكال وتأدّى لعلمي الجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمّل الشهادة، وكان منهم كتاب الدواوين للقضاة والتوقيع في مجالسهم، وتدرّبوا على إملاء الدعاوي وتسجيل الحكومات [1] ، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود بإحكام كتابتها، وتوثيق شروطها، فصار لهم بذلك شفوف [2] على أهل طبقتهم، وتمويه على القضاة بجاههم يدّرعون [3] به مما يتوقعونه من مغبتهم، لتعرّضهم لذلك بفعلاتهم، وقد يسلّط بعض قلمه، على العقود المحكمة فيوجد السبيل إلى حلّها بوجه فقهيّ أو كتابيّ، ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة، وخصوصا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر لكثرة عوالمه، فأصبحت خافية الشهرة مجهولة الأعيان، عرضة للبطلان، باختلاف المذاهب المنصوبة للأحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا، شارطوه وأجابوه مفتاتين فيه على الحكّام الذين ضربوا فيه سدّ الحظر والمنع حماية عن التّلاعب، وفشا من ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الغرر [4] في العقود والأملاك.
فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم عليّ وأحقدهم، ثم التفت إلى أهل الفتيا بالمذهب، وكان الحكّام منهم على جانب الحيرة لكثرة معارضتهم، وتلقينهم الخصوم وفتياهم بعد نفوذ الحكم، وإذا فيهم أصاغر، فبينما هم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة، ولا يكادون إذا بهم ظهروا إلى مراتب الفتيا والتدريس، فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف، وأجازوها من غير مرتّب [5] ولا مستند للأهلية، ولا مرشح، إذ
[1] اي الأحكام.
[2]
الشفوف: الفضل.
[3]
أي يحتمون به.
[4]
هنا بمعني الخداع.
[5]
وفي نسخة ثانية: فاحتازوها من غير مثرّب. والمثرّب: اللائم.
الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقّة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مرسل، يتجاذب كل الخصوم منها رسنا، ويتناول من حافته شقّا، يروم به الفتح [1] على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه، وكفاء أمنيته متتبعا إيّاه في شغب الخلاف، فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم، والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذّر وأهلية المفتي وشهرة الإفتاء عندنا [2] ، فلا يكاد هذا المدى ينحسم [3] ولا الشغب ينقطع.
فصدعت في ذلك بالحق وكبحت أعنّة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم. وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك، ولا ينتمون إلى شيخ معروف مشهود، ولا يعرف لهم كتاب في فنّ اتخذوا الناس هزوا وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض ومثابة [4] للحرم، فأرغمهم ذلك مني وملأهم حسدا، وحقدوا عليّ، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، ليشترون بها الجاه، ويجترءوا به على الله، وربّما اضطرّ أهل الحقوق إلى تحكيمهم، فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم، يترخّصون به الإصلاح، لا يزعهم الدين عن التعرّض لأحكام الله بالجهل، فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت حكم الله فيمن أجازوه، فلم يغنوا عن الله شيئا وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطّلة، وانطلقوا يواطئون السفهاء من النيل في عرضي، وسوء الاحدوثة عني بمختلق الافك وقول الزور، ويبثّونه في الناس ويدسّون إلى السلطان التظلّم مني، فلا يصغي إليهم، وأنا في ذلك محتسب على الله، ما منيت به في هذا الأمر، ومعرض فيه عن الجاهلين، وماض على سبيل سويّ من الصرامة وقوّة الشكيمة، وتحرّي العدالة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والإعراض متى غمزني لامسها ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة فنكروه مني ودعوني إلى متابعتهم فيما
[1] وفي نسخة ثانية: الفلج ومعناه الظفر والفوز.
[2]
بياض بالأصل وفي طبعة بولاق: وشهرة الفتيا ليس تمييزها للعاميّ.
[3]
وفي نسخة ثانية: فلا يكاد هذا المدد ينحسر.
[4]
وفي نسخة ثانية: مأبنه: وهو مكان الاتهام بالشر.
يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر ومراعاة الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذّرت، بناء على أن الحاكم لا يتعيّن عليه الحكم مع وجود غيره، وهم يعلمون أن قد تمالئوا عليه.
وليت شعري ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:«من قضيت له من حقّ أخيه شيئا فإنّما أقضي له من النار» .
فأبيت من ذلك كلّه إلا إعطاء العهدة حقّها، والوفاء لها، ولمن قلّدنيها، فأصبح الجميع عليّ البا [1] ولمن ينادي بالتأفّف مني عونا، وفي النكير عليّ أمّة، وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير وجه الحق، لاعتمادي على علمي في الجرح، وهي قضية إجماع. وانطلقت الألسن، وارتفع الصخب وأرادني بعض على الحكم بغرضهم، فتوقفت وأغروا بي الخصوم، فتنادوا بالتظلّم عند السلطان، فجمع القضاة وأهل الفتياء في مجلس جعل للنظر في ذلك، فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز، وتبيّن أمرهم للسلطان، وأمضيت فيها حكم الله تعالى إرغاما لهم، فغدوا على حرد قادرين، ودسّوا الأولياء السلطان وعظماء الدولة، يقبحون لهم إهمال جاههم وردّ شفاعاتهم، مموّهين بأنّ الحامل على ذلك جهل المصطلح، وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إليّ، تبعث الحليم وتغري الرشيد، يستثيرون حفائظهم عليّ ويشربونهم البغضاء إليّ، والله يجازيهم وسائلهم.
فكثر الشغب عليّ من كل جانب، وأظلم الجوّ بيني وبين أهل الدولة، ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد، وصلوا من المغرب في السفين فأصابها قاصف من الريح فغرقت، وذهب الموجود والسكن والمولود، فعظم المصاب والجزع، ورجح الزهد، واعتزمت على الخروج عن المنصب، فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته خشية من نكير السلطان وسخطه، فتوقّفت بين الورد والصدر على صراط الرجاء واليأس، وعن قريب تداركني اللطف الربّاني وشملتني نعمة السلطان أيّده الله في النظر بعين الرحمة، وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها، ولا عرفت كما زعموا مصطلحها، فردّها إلى صاحبها الأوّل، وأنشطني من عقالها، فانطلقت حميد
[1] اي يحيكون المكائد له دون علمه.