الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الخبر عن رجال دولته وهم موسى بن علي ويحيى بن موسى ومولاه هلال وأوليتهم ومصاير أمورهم واختصاصهم بالذكر لما صار من شهرتهم وارتفاع صيتهم)
فأمّا موسى بن علي الحاجب الهالك مع السلطان، فأصله من قبيلة الكرد من أعاجم المشرق، وقد أشرنا الى الخلاف في نسبهم بين الأمم. وذكر المسعودي منهم أصنافا سمّاهم في كتابه من الشاهجان والبرسان والكيكان إلى آخرين منهم، وأنّ مواطنهم ببلاد أذربيجان والشام والموصل، وأنّ منهم نصارى على رأي اليعقوبية وخوارج على رأي البراءة من عثمان وعلي انتهى كلامه.
(وكان) منهم طوائف بجبل شهرزور من عراق العجم وعامّتهم يتقلّبون في الرحلة.
وينتجعون لسائمتهم مواقع الغيث، ويتّخذون الخيام لسكناهم من اللبود، وجل مكاسبهم الشاء والبقر من الأنعام، وكانت لهم عزة وامتناع بالكثرة ورياسات ببغداد أيام تغلّب الأعاجم على الدولة واستبدادهم بالرياسة. ولما طمس ملك بني العباس وغلب التتر على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، وقتل ملكهم هلاون آخر خلفاء العباسيّين، وهو المستعصم. ثم ساروا في ممالك العراق وأعماله، فاستولوا عليها وعبر الكثير من الكرد نهر الفرات فرارا أمام التتر لما كانوا يدينون بدين المجوسيّة وصاروا في إيالة الترك، فاستنكف أشرافهم وبيوتاتهم من المقام تحت سلطانهم. وجاز منهم إلى المغرب عشيرتان تعرفان ببني لوين وبني بابير [1] فيمن إليهم من الأتباع ودخلوا المغرب لآخر دولة الموحّدين ونزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن تلقيهم وأكرم مثواهم، وأسنى لهم الجراية والأقطاع وأحلّهم بالمحل الرفيع من الدولة.
(ولما انتقض) أمر الموحدين بحدثان وصولهم صاروا إلى ملكة بني مرين، ولحق بعضهم بيغمراسن بن زيّان، ونزع المستنصر إلى إفريقية يومئذ بيت من بني بابير لا أعرفهم، كان منهم محمد بن عبد العزيز المعروف بالمزوار، صاحب مولانا السلطان أبي يحيى وآخرون غيره منهم ركان [2] من أشهر من بقي في إيالة بني مرين منهم. ثم
[1] وفي نسخة ثانية: بني تابير.
[2]
وفي نسخة ثانية: وكان.
من بني بابير علي بن حسن بن صاف وأخوه سلمان، ومن بني لوين الخضر بن محمد، ثم بنو حمّور، ثم بنو بوصة. وكانت رياسة بني بابير لسلمان وعليّ، ورياسة لوين لخضر بن محمد. وكادت تكوّن الفتنة بينهم كما كانت في مواطنهم الاولى، فإذا اتعدوا للحرب توافت إليهم أشياعهم من تلمسان، وكان نضالهم بالسهام وكانت القسيّ سلاحهم. وكان من أشهر الوقائع بينهم وقيعه بفاس سنة أربع وسبعين وستمائة، جمع لها خضر رئيس بني لوين وسلمان وعليّ رئيسا بني بابير، واقتتلوا خارج باب الفتوح. وتركهم يعقوب بن عبد الحق لشأنهم من الفتنة حياء منهم، فلم يعرض لهم. وكان مهلك سلمان منهم بعد ذلك مرابطا بثغر طريف عام تسعين وستمائة، وكان لعليّ بن حسن ابنه موسى اصطفاه السلطان يوسف بن يعقوب، وكشف له الحجاب عن داره، وربى بين حرمه فتمكّنت له دالة سخط بسببها بعض الأحوال مما لم يرضه، فذهب مغاضبا ودخل إلى تلمسان أيام كان يوسف بن يعقوب محاصرا لها، فتلقّاه عثمان بن يغمراسن من التكرمة والترحيب بما يناسب محلّه من قومه ومنزلته من اصطناع السلطان. وأشار يوسف بن يعقوب على أبيه باستمالته فلقيه في حومة القتال وحادثة واعتذر له بكرامة القوم إياه، فحضّه على الوفاء لهم، ورجع إلى السلطان فخبّره الخبر فلم ينكر عليه. وأقام هو بتلمسان وهلك أبوه عليّ بالمغرب سنة سبع وسبعمائة.
ولما هلك عثمان بن يغمراسن بن زيّان زاده بنوه اصطناعا ومداخلة، وخلطوه بأنفسهم وعقدوا له على العساكر لمحاربة أعدائهم. وولّوه الأعمال الجليلة والرتب الرفيعة من الوزارة والحجابة. ولما هلك السلطان أبو حمو وقام بأمره ابنه أبو تاشفين، وكان هو الّذي تولّى له أخذ البيعة على الناس، وغصّ بمكانه مولاه هلال فلما استبدّ عليه وكان كثيرا ما ينافس موسى بن علي ويناقشه، فخشيه على نفسه، وأجمع على إجازة البحر للمرابطة بالأندلس، فبادره هلال وتقبّض عليه وغرّبه إلى العدوة ونزل بغرناطة، وانتظم في الغزاة المجاهدين وأمسك عن جراية السلطان فلم يمدّ إليها يدا أيام مقامه، وكانت من أنزه ما جاء به وتحدّث به الناس فأغربوا، واتقدت لها جوانح هلال حسدا وعداوة، فأغرى سلطانه فخاطب ابن الأحمر في استقدامه، فأسلمه إليه. واستعمله السلطان في حروبه على قاصيته حتى كان من نهوضه بالعساكر إلى إفريقية للقاء مولانا السلطان أبي يحيى سنة سبع وعشرين وسبعمائة. وكانت الدبرة
عليه واستلحمت زناتة، ورجع في الفلّ فأغرى هلال السلطان وألقى في نفسه التهمة به. ونمي ذلك إليه فلحق بالعرب الزواودة، وعقد مكانه على محاصرة بجاية ليحيى ابن موسى صاحب شلف، ونزل هو على سليمان ويحيى بن علي بن سبّاع بن يحيى من أمراء الزواودة في أحيائهم [1] فلقوه مبرة وتعظيما، وأقام بين أحيائهم مدّة، ثم استقدمه السلطان ورجع إلى محلّه من مجلسه. ثم تقبّض عليه لأشهر، وأشخصه إلى الجزائر فاعتقله بها وضيّق عليه محبسه ذهابا مع أغراض منافسة هلال، حتى إذا أسخط هلالا استدعاه من محبسه أضيق ما كان، فانطلق إليه. فلما تقبّض على هلال قلّد موسى بن عليّ حجابته، فلم يزل مقيما لرسمها إلى يوم اقتحم السلطان أبو الحسن تلمسان، فهلك مع أبي تاشفين وبنيه في ساحة قصرهم كما قلناه. وانقضى أمره والبقاء للَّه.
وانتظم بنوه بعد مهلكه في جملة السلطان أبي الحسن وكان كبيرهم سعيد قد خلص من بين القتلى في تلك الملحمة بباب القصر بعد هدوّ من الليل مثخنا بالجراح، وكانت حياته بعدها تعدّ من الغرائب، ودخل في عفو السلطان إلى أن عادت دولة بني عبد الواد، فكان له في سوقها نفاق حسبما نذكره والله غالب على أمره.
(وأمّا يحيى بن موسى) فأصله من بني سنوس إحدى بطون كومية، ولهم ولاء في بني كمين [2] بالاصطناع والتربية. ولمّا فصل بنو كمين إلى المغرب قعدوا عنهم واتصلوا ببني يغمراسن واصطنعوهم، ونشأ يحيى بن موسى في خدمة عثمان وبنيه واصطناعهم. (ولما كان) الحصار ولّاه أبو حمو مهمة من التطواف بالليل على الحرس بمقاعدهم من الأسوار، وقسم القوت على المقاتلة بالمقدار، وضبط الأبواب والتقدّم في حومة الميدان [3] ، وكان له أعوان على ذلك من خدّامه قد لزموا الكون معه في البكر والآصال. والليل والنهار، وكان يحيى هذا منهم فعرفوا له خدمته وذهبوا إلى اصطناعه وكان من أوّل ترشيحه ترديد أبي يوسف بن يعقوب بمكانه من حصارهم: فيما يدور بينهم من المضاربة، فكان يجلّي في ذلك ويوفي من عرض مرسلة [4] ، ولما خرجوا من الحصار أربوا به على رتب الاصطناع والتنويه.
[1] وفي نسخة ثانية: المذكورين في أخبارهم.
[2]
وفي نسخة ثانية: بني كمي.
[3]
وفي نسخة ثانية: في حومة القتال.
[4]
وفي نسخة ثانية: ويؤتي غرض مرسلة.
(ولما ملك أبو تاشفين) استعمله بشلف مستبدّا بها وأذن له في اتخاذ الآلة. ثم لما عزل موسى بن علي عن حرب الموحدين وقاصية الشرق عزله به، وكانت المرية وتنس من عمله. فلما نازل السلطان أبو الحسن تلمسان راسله بالطاعة والكون معه، فتقبّله وجاء به [1] من مكان عمله، فقدم عليه بمخيّمه على تلمسان، فاختصه بإقباله ورفع مجلسه من بساط، ولم يزل عنده بتلك الحال إلى أن هلك بعد افتتاح تلمسان والله مصرّف الأقدار.
(وأمّا هلال) فأصله من سبي النصارى القطلونيّين أهداه السلطان ابن الأحمر الى عثمان بن يغمراسن، وصار إلى السلطان أبي حمو فأعطاه إلى ولده أبي تاشفين فيما أعطاه من الموالي المعلوجين، ونشأ عنده وتربّى، وكان مختصّا عنده بالراحلة والدالة، وتولى كبر تلك الفعلة التي فعلوا بالسلطان أبي حمو. ولمّا ولي بعده ابنه أبو تاشفين ولّاه على حجابته، وكان مهيبا فظّا غليظا، فقعد مقعد الفصل ببابه وأرف للناس سطوه [2] ، وزحزح المرشّحين عن رتب المماثلة إلى التعلّق بأهدابه، فاستولى على الأمر واستبدّ على السلطان. ثم حذر مغبة الملك وسوء العواقب، فاستأذن السلطان في الحج وركب إليه من هنين بعض السفن اشتراها بماله وشحنها بالعديد والعدّة والأقوات والمقاتلة، وأقام كاتبه الحاج محمد بن حواتة [3] بباب السلطان على رسم النيابة عنه، وأقلع سنة أربع وعشرين وسبعمائة فنزل بالإسكندرية وصحب الحاج من مصرفي جملة الأمير عليهم، ولقي في طريقه سلطان السودان من آل منسي موسى، واستحكمت بينهما المودّة. ثم رجع بعد قضاء فرضه إلى تلمسان. فلم يجد مكانه من السلطان ولم يزل من بعد ذلك يتنكر له وهو يسايسه بالمداراة والاستجداء إلى أن سخطه، فتقبّض عليه سنة تسع وعشرين وسبعمائة وأودعه سجنه، فلم يزل معتقلا إلى أن هلك من وجع أصابه قبيل فتح تلمسان، ومهلك السلطان بأيام، فكانت آية عجبا في تقارب مهلكهما واقتران سعادتهما ونحوسهما. وقد كان السلطان أبو الحسن يتبع الموالي الذين شهدوا مقتل السلطان أبي حمو، وأفلت هلال هذا من عقابه بموته. والله بالغ حكمه.
[1] وفي نسخة ثانية: وجأجأ.
[2]
وفي نسخة ثانية: وأرهب الناس سطوته.
[3]
كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة أخرى: حونته.