الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسلار سنة ثمان وسبعمائة [1] . وشيّد بيبرس هذا أيام سلطانه داخل باب النصر [2] من أعظم المصانع وأحفلها، وأوفرها ريعا، وأكثرها أوقافا، وعين مشيختها، ونظرها لمن يستعدّ له بشرطه في وقفه، فكان رزق النّظر فيها والمشيخة واسعا لمن يتولّاه، وكان ناظرها يومئذ شرف الدّين الأشقر إمام السلطان الظاهر. فتوفي عند منصرفي من قضاء الفرض، فولّاني السلطان مكانه توسعة عليّ، وإحسانا إليّ، وأقمت على ذلك إلى أن وقعت فتنة الناصري.
فتنة الناصري (وسياقه الخبر عنها بعد تقديم كلام في أحوال الدول يليق بهذا الموضع، ويطلعك على أسرار في تنقل أحوال الدول بالتدريج الى الضخامة والاستيلاء، ثم الى الضعف والاضمحلال، والله بالغ أمره)
وذلك أن الدّول الكلّية، وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحدا بعد واحد، في مدة طويلة، قائمين على ذلك بعصبيّة النّسب أو الولاء، وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلّبهم، فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم، وغلب مستحقّين آخرين ينزعونه من أيديهم بالعصبيّة التي يقتدرون بها على ذلك، ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى، يفضون جبايتها بينهم على تفاضل البأس والرّجولة والكثرة في العصابة أو القلّة، وهم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس، والإقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة، وعدم الثّروة من قبل. ثم تنمو الثّروة فيهم بنموّ الجباية التي ملكوها، ويزيّن حبّ الشّهوات للاقتدار عليها، فيعظم التّرف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك، وسائر الأحوال، ويتزايد شيئا فشيئا
[1] في المجلد الخامس من هذا الكتاب: ان ذلك كان في سنة. 71 وهو الأشبه بالصواب، لأن الناصر عاد الى الملك في سنة 709.
[2]
كذا بالأصل. ويظهر ان هنا كلمة سقطت أثناء النسخ. ومقتضى السياق:
«وشيد بيبرس هذا أيام سلطانه داخل باب النصر خانقاه، وهي من أعظم المصانع واحفلها
…
إلخ» .
بتزايد النّعم وتتّسع الأحوال أوسع ما تكون، ويقصر الدّخل عن الخرج، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم، ويحصل ذلك لكلّ أحد ممن تحت أيديهم، لأن النّاس تبع لملوكهم ودولتهم، ويراجع كلّ أحد نظره فيما هو فيه من ذلك، فيرجع وراءه، ويطلب كفاء خرجه بدخله.
ثم إن البأس يقلّ من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا إليه من رقّة الحاشية والتنعّم، فيتطاول من بقي من رؤساء الدّولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعدّ لذلك بما بقي عنده من الخشونة، ويحملهم على الإقلاع عن التّرف، ويستأنف لذلك العصابة بعشيرة أو بمن يدعوه لذلك، فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع، وهو أحقّ الناس به، وأقربهم إليه، فيصير الملك له، وفي عشيرة، وتصير كأنها دولة أخرى، تمرّ عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى، فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها، وتخرج عن القوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النّسب، أو الولاء. سنّة الله في عباده.
وكان مبدأ هذه الدولة التركية، أنّ بني أيّوب لمّا ملكوا مصر والشام، كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقلّ بها كبيرهم صلاح الدين، وشغل بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسّواحل، وكان قليل العصابة، إنما كان عشيرة من الكرد يعرفون ببني هذان [1] ، وهم قليلون، وإنما كثّر منهم جماعة المسلمين، بهمّة الجهاد الّذي كان صلاح الدين يدعو إليه، فعظمت عصابته بالمسلمين، وأسمع داعيه، ونصر الله الدّين على يده. وانتزع السّواحل كلّها من أيدي نصارى الفرنج، حتى مسجد بيت المقدّس، فإنّهم كانوا ملكوه وأفحشوا فيه بالقتل والسّبي،، فأذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين، وانقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم، واقتسموا مدن الشّام، ومصر بينهم، إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر أخي صلاح الدّين، وأراد الاستكثار من العصابة لحماية الدّولة، وإقامة رسوم الملك، وأن ذلك يحصل باتخاذ المماليك، والإكثار منهم، كما كان
[1] بفتح الهاء، والذال المعجمة، وبعدها ألف، ثم نون، وهي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد وفيات 2/ 495.
آخرا في الدولة العباسيّة ببغداد، وأخذ التّجار في جلبهم إليه، فاشترى منهم أعدادا، وأقام لتربيتهم أساتيذ [1] معلمين لحرفة الجندية، من الثقافة والرّمي، بعد تعليم الآداب الدينية والخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جم يناهز الألف، وكان مقيما بأحواز دمياط [2] في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلّبين على حصنها دمياط. وكان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سمّاها المنصورة [3] ، وبها توفي رحمه الله، فكان نجم الدين نازلا في مدافعة ساكني دمياط من الفرنج، فأصابه هنالك حدث الموت، وكان ابنه المعظّم توران شاه نائبا في حصن كيفا [4] من ديار بكر وراء الفرات، فاجتمع الجند على بيعته، وبعثوا عنه، وانتظروا. وتقطّن الفرنج لشأنهم، فهجموا عليهم، واقتتلوا فنصر الله المسلمين، وأسر ملك الفرنج ريد إفرنس، فبعثوا به إلى مصر. وحبس بدار لقمان، إلى أن فادوه بدمياط، كما هو مذكور في أخبار بني أيوب. ونصّبوا- للملك، ولهذا اللقاء- زوجة الصالح أيّوب واسمها شجر الدرّ [5] ، فكانت تحكم بين الجند، وتكتب على المراسيم [6] ، وركبت يوم لقاء الفرنج، تحت الصّناجق [7] ، والجند محدقون بها، حتى أعزّ الله دينه، وأتمّ نصره. ثم وصل توران شاه المعظّم، فأقاموه في خطّة الملك مكان أبيه الصالح
[1] اساتيذ وأساتذة ج استاذ: معلم.
[2]
وقد ضبطها ابن خلدون بخطه بالحركات، بكسر الذال المعجمة، وقد حكى الإعجام الزبيدي في «تاج العروس» ، والسمعاني في «الأنساب» عن أبي محمد بن أبي حبيب الاندلسي قال السمعاني معقبا:«وما عرفناه الا بالدال المهملة» . (معجم البلدان) ، تاج العروس (دمط، ذمط) .
[3]
بلدة أنشأها الملك الكامل بن العادل بن أيوب بين دمياط والقاهرة، ورابط فيها في وجه الافرنج لما ملكوا دمياط وذلك في سنة 616، ولم يزل بها حتى استنفذ دمياط في رجب سنة 618. (معجم البلدان) .
[4]
حصن كيفا: قلعة عظيمة مشرفة على دجلة، بين آمد وجيزة ابن عمر من ديار بكر. (معجم البلدان) .
[5]
بعضهم يكتبها: «شجرة الدر» ، وكان يخطب باسمها على المنابر، ونقشت على «السكة» ، وكان نقشها:«السكة المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة المنصور خليل» ، وخليل هذا ابنها من الملك الصالح توفي في حياة أبيه، وكانت تكنى به. العبر 5، الخطط 2/ 237 بولاق.
[6]
يعني اتخذت لها «علامة» تختم بها على المراسيم، وكانت علامتها- فيما يرى ابن خلدون:«أم خليل» ، أما ابن الوردي فيقول:«والدة خليل» . العبرم 5، ابن الوردي 2/ 183.
[7]
جمع سنجق وهو الأصل الرمح، وكانت تجعل في رأسه الراية، ومن ثم أصبح معناه: الراية مباشرة.
صح الأعشى 5/ 458.
أيوب، ووصل معه مماليك يدلّون بمكانهم منه، ولهم به اختصاص، ومنه مكان، وكان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة من عهد أبيه وجدّه. أقطاي الجمدار [1] وأيبك التّركماني، وقلاون الصالحي، فأنفوا من تصرفات مماليك توران شاه، واستعلائهم بالحظّ من السلطان، وسخطوهم وسخطوه، وأجمعوا قتله. فلما رحل إلى القاهرة اغتالوه في طريقه بفارسكور، وقتلوه، ونصبوا للأمر أيبك التركماني منهم، واستحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها، وهلك بعد أيبك ابنه عليّ المنصور، ثم مولاه قطز، ثم الظاهر بيبرس البندقداري [2] . ثم ظهر أمر الطّطر [3] ، واستفحل ملكهم. وزحف هولاكو بن طولي بن جنكيزخان من خراسان إلى بغداد، فملكها، وقتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس. ثم زحف إلى الشام، فملك مدنه وحواضره من أيدي بني أيوب، إلى أن استوعبها. وجاء الخبر بأن بركة صاحب صراي شريكه في نسب جنكزخان، زحف إلى خراسان، فامتعض لذلك، وكرّ راجعا، وشغل بالفتنة معه إلى إن هلك. وخرج قطز من مصر عند ما شغل هولاكو بفتنة بركة، فملك الشام كله، أمصاره ومدنه، وأصاره للترك موالي بني أيوب. واستفحلت دولة هؤلاء المماليك، واتّصلت أيامها واحدا بعد واحد، كما ذكرنا في أخبارهم. ثم جاء قلاون عند ما ملك بيبرس الظاهر منهم، فتظاهر به، وأصهر إليه، والترف يومئذ لم يأخذ منهم، والشّدة والشكيمة موجودة فيهم، والبأس والرجولة شعار لهم، وهلك الظاهر بيبرس، وابناه من بعده، كما في أخبارهم. وقام قلاوون بالأمر، فاتّسع نطاق ملكه، وطال ذرع سلطانه، وقصرت أيدي الطّطر عن الشام بمهلك هولاكو، وولاية الأصاغر من ولده، فعظم ملك قلاون، وحسنت آثار سياسته، وأصبح حجة على من بعده، ثم ملك بعده ابناه:
خليل الأشرف، ثم محمد الناصر. وطالت أيامه، وكثرت عصابته من مماليكه،
[1] أخبار أقطاي مفصلة في العبر 5 م. والجمدار: هو الّذي يتولى الباس السلطان، أو الأمير ثيابه، وأصله جاما دار فحذف المد منه فقيل: جمدار، وهو مركب من كلمتين فارسيتين:«جاما» . ومعناها ثوب، و «دار» ، ومعناها: ممسك. صبح الأعشى 5/ 459.
[2]
انظر ترجمته في الخطط 2/ 300، 238 بولاق. وخير توليه السلطنة في العبر 5. والبندقداري: هو الّذي يحمل غرارة البندق خلف السلطان. والبندق: الّذي يرمي به وأصله البندق الّذي يؤكل، وهو في العربية الجلوز، صبح الأعشى 5/ 457.
[3]
كذا بالأصل، وهي: التتر.
حتى كمل منهم عدد لم يقع لغيره. ورتّب للدّولة المراتب، وقدّم منهم في كل رتبة الأمراء، وأوسع لهم الأقطاع والولايات، حتى توفرت أرزاقهم واتسعت بالتّرف أحوالهم. ورحل أرباب البضائع من العلماء والتّجّار إلى مصر، فأوسعهم حباء وبرّا.
وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والرّبط والخوانق، وأصبحت دولتهم غرّة في الزمان، وواسطة في الدّول. ثم هلك الناصر بعد أربعين وسبعمائة، فطفق أمراء دولته ينصبون بنيه للملك، واحدا بعد آخر، مستبدّين عليهم، متنافسين في الملك، حتى يغلب واحد منهم الآخر، فيقتله، ويقتل سلطانه من أولاد الناصر، وينصب آخر منهم مكانه، إلى أن انساق الأمر لولده حسن النّصر، فقتل مستبدّه شيخون، وملك أمره. وألقى زمام الدولة بيد مملوكه يلبغا، فقام بها، ونافسه أقرانه، وأغروا به سلطانه، فأجمع قتله. ونمي إليه الخبر وهو في علوفة البرسيم عند خيله المرتبطة لذلك، فاعتزم على الامتناع، واستعدّ للّقاء. واستدعاه سلطانه، فتثاقل عن القدوم. واستشاط السلطان، وركب في خاصته إليه، فركب هو لمصادمته. وهاجم السلطان ففلّه، ورجع إلى القلعة، وهو في اتّباعه، فلم يلفه بقصره، وأغرى به البحث فتقبّض عليه، واستصفاه، وقتله، ونصب للملك محمد المنصور بن المظفّر حاجي بن الناصر. وقام بالدولة أحسن قيام، وأغرى نفسه بالاستكثار من المماليك، وتهذيبهم بالتّربية، وتوفير النّعم عندهم بالإقطاع، والولايات، حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة. ثم خلع المنصور بن المظفّر لسنتين، ونصب مكانه للملك شعبان الأشرف بن حسين بن النّاصر، فأقام على التّخت وهو في كفالته، وهو على أوّله في إعزاز الدولة، وإظهار التّرف والثروة، حتى ظهرت مخايل العزّ والنّعم، في المساكن والجياد والمماليك والزينة، ثم بطروا النّعمة، وكفروا الحقوق، فحنقوا عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم في الآداب، فهمّوا بقتله وخلصوا نجيا لذلك في متصيّدهم الشّتوي، وقد برزوا له بخيامهم وسلطانهم على عادتهم.
ولما أحسّ بذلك ركب ناجيا بنفسه إلى القاهرة، فدخلوا على السلطان الأشرف، وجاءوا به على إثره، وأجازوا البحر، فقبضوا عليه عشيّ يومهم، ثم قتلوه في محبسه عشاء. وانطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرّات لم يعهدوها من أول دولتهم، من النّهب والتّخطّف وطروق المنازل والحمّامات للعبث بالحرم، وإطلاق أعنّة الشّهوات والبغي في كل ناحية، فمرج أمر النّاس، ورفع الأمر إلى السّلطان،
وكثر الدعاء واللّجأ إلى الله. واجتمع أكابر الأمر إلى السلطان، وفاوضوه في كفّ عاديتهم، فأمرهم بالركوب، ونادى في جنده ورعيته بانطلاق الأيدي عليهم، والاحتياط بهم في قبضة القهر، فلم يكن إلا كلمح البصر، وإذا بهم في قبضة الأسر. ثم عمّرت بهم السّجون، وصفّدوا وطيف بهم على الجمال ينادي بهم، إبلاغا في الشهرة، ثم وسّط [1] أكثرهم، وتتبّع البقيّة بالنّفي والحبس بالثغور القصيّة، ثم أطلقوا بعد ذلك. وكان فيمن أطلق جماعة منهم بحبس الكرك: فيهم برقوق الّذي ملك أمرهم بعد ذلك، وبركة الجوباني [2] ، وألطنبغا الجوباني [3] وجهركس الخليلي.
وكان طشتمر [4] ، دوادار يلبغا [5] ، قد لطف محلّه عند السلطان الأشرف، وولي الدّوادارية له، وكان يؤمّل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا، فكان يحتال في ذلك يجمع هؤلاء المماليك اليلبغاويّة من حيث سقطوا، يريد بذلك اجتماعهم عصبة له على هواه، ويغري السلطان بها شفاها ورسالة، إلى أن اجتمع أكثرهم بباب السّلطان الأشرف، وجعلهم في خدمة ابنه عليّ وليّ عهده. فلما كثروا، وأخذتهم أريحيّة العزّ بعصبيّتهم، صاروا يشتطّون على السّلطان في المطالب، ويعتزّون بعصبية اليلبغاوية.
واعتزم السلطان الأشرف عام سبعة وسبعين وسبعمائة على قضاء الفرض، فخرج لذلك خروجا فخما، واستناب ابنه عليّا على قلعته وملكه في كفالة قرطاي [6] من أكابر اليلبغاوية، وأخرج معه الخليفة والقضاة، فلما بلغ العقبة [7] اشتطّ المماليك في
[1] وسطه توسيطا: قطعه نصفين، ويقال قتل فلان موسّطا.
[2]
هو بركة بن عبد الله الجوباني اليلبغاوي الأمير زين الدين. كان أميرا شجاعا يحب العلماء، له مآثر خيرية بمكة، والحرم، وبطريق المدينة. قتل سنة 872.
[3]
علاء الدين الطنبغا بن عبد الله الجوباني اليلبغاوي الأمير، كان من خيار الأمراء دينا، وعقلا وشجاعة.
مات في الواقعة بين منطاش والناصري خارج دمشق سنة 792 هـ، وكان صديقا لابن خلدون، وقد عرف به وأثنى عليه في العبر م 5.
[4]
طشتمر بن عبد الله العلائي الدوادار الأمير سيف الدين، توفي في دمياط منفيا سنة 786. أثنى عليه ابن تغري بردي كثيرا بمقدار ما قدح في بركة، والظاهر برقوق.
[5]
لقب للذي يمسك دواة السلطان أو الأمير، ويتولى من الأمور ما يلزم هذا المعنى، من حكم، أو تنفيذ أمور، أو غير ذلك. صبح الأعشى 5/ 462.
[6]
قرطاي (أو قراطاي) بن عبد الله المعزي الأشرفي سيف الدين، رفيق أينبك، وصهره، وكان من أصاغر الأمراء في دولة الأشرف شعبان بن حسين، ولكنه أصبح في أيام ولده عليّ أمير مائة، ثم مقدم ألف.
واختلف مع صديقه أينبك، فحبسه إلى أن مات سنة 779.
[7]
موقعها في النهاية الشرقية الشمالية لخليج العقبة.
طلب جرايتهم من العلوفة والزّاد، واشتطّ الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولّين للجباية. وصار الذين مع السلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال والأفعال، وطشتمر الدّوادار يغضي عنهم يحسب وقت استبداده قد أزف، إلى أن راغمهم السّلطان بالزّجر، فركبوا عليه هنالك، وركب من خيامه مع لفيف من خاصّته، فنضحوه بالنّبل، ورجع إلى خيامه، ثم ركب الهجن مساء، وسار فصبّح القاهرة، وعرّس هو ولفيفه بقبّة النّصر.
وكان قرطاي كافل ابنه عليّ المنصور، حدث بينه وبين ناظر الخاص المقسي مكالمة عند مغيب السّلطان أحقدته. وجاشت بما كان في نفسه، فأغرى عليّا المنصور بن السلطان بالتّوثّب على الملك، فارتاح لذلك وأجابه، وأصبح يوم ثورة المماليك بالعقبة، وقد أجلس عليّا مكفوله بباب الإسطبل، وعقد له الراية بالنداء على جلوسه بالتخت، وبينما هم في ذلك، صبّحهم الخبر بوصول السلطان الأشرف إلى قبة النصر ليلتئذ، فطاروا إليه زرافات ووحدانا، فوجدوا أصحابه نياما هنالك، وقد تسلّل من بينهم هو وبلبغا الناصري [1] من أكابر اليلبغاويّة، فقطوا رءوسهم جميعا، ورجعوا بها تسيل دما. ووجموا لفقدان الأشرف، وتابعوا النّداء عليه، وإذا بامرأة قد دلّتهم عليه في مكان عرفته، فتسابقوا إليه، وجاءوا به فقتلوه لوقته بخلع أكتافه، وانعقدت بيعة ابنه المنصور. وجاء طشتمر الدّوادار من الغد بمن بقي بالعقبة من الحرم، ومخلّف السلطان، واعتزم على قتالهم طمعا في الاستبداد الّذي في نفسه، فدافعوه وغلبوه وحصل في قبضتهم، فخلعوا عليه بنيابة الشام، وصرفوه لذلك، وأقاموا في سلطانهم. وكان أينبك أميرا آخر من اليلبغاوية [2] قد ساهم قرطاي في هذا الحادث، وأصهر إليه في بعض حرمه، فاستنام له قرطاي، وطمع هو في الاستيلاء. وكان قرطاي مواصلا صبوحه بغبوقه، ويستغرق في ذلك، فركب في بعض أيامه، وأركب معه السلطان عليا، واحتاز الأمر من يد قرطاي،
[1] يلبغا بن عبد الله الناصري الاتابكي الأمير سيف الدين، وهو صاحب الوقعة مع الملك الظاهر بظاهر دمشق. الدرر الكامنة 4/ 440- 442.
[2]
أينبك بن عبد الله البدري الأمير سيف الدين، كان هو وقرطاي صاحبي الحل والعقد في الدولة. استبد بالمنصور بن الأشرف، ثم تغلب عليه يلبغا الناصري وأودعه سجن الاسكندرية.
وصيّره إلى صفد [1] ، واستقلّ بالدولة، ثم انتقض طشتمر بالشّام مع سائر أمرائه، فخرج أينبك في العساكر، وسرّح المقدّمة مع جماعة من الأمراء، وكان منهم برقوق وبركة المستوليان عقب ذلك، وخرج هو والسلطان في السّاقة [2] ، فلما انتهوا إلى بلبيس، ثار الأمراء الذين في المقدمة عليه، ورجع إليه أخوه منهزما، فرجع إلى القلعة. ثم اختلف عليه الأمراء، وطالبوه بالحرب في قبّة النّصر، فسرّح العساكر لذلك، فلمّا فصلوا فرّ هو هاربا، وقبض عليه وثقف بالإسكندرية. واجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي، ويلبغا النّاصري ودمرداش اليوسفي وبركة وبرقوق، فتصدى دمرداش ويلبغا وبركة وبرقوق، إلى الاستقلال بالأمر وتغلّبوا على سائر الأمراء، واعتقلوهم بالإسكندرية. وفوّضوا الأمر إلى يلبغا النّاصري، وهم يرونه غير خبير، فأشاروا باستدعاء طشتمر، وبعثوا إليه، وانتظروا. فلما جاءه الخبر بذلك ظنّها منية نفسه، وسار إلى مصر، فدفعوا الأمر إليه، وجعلوا له التولية والعزل وأخذ برقوق، وبركة يستكثران من المماليك، بالاستخدام والجاه، وتوفير الاقطاع، إكثافا لعصبيتهما، فانصرفت الوجوه عن سواهما، وارتاب طشتمر بنفسه، وأغراه أصحابه بالتوثّب، ولما كان الأضحى في سنة تسع وسبعين وسبعمائة استعجل أصحابه على غير رويّة، وركبوا وبعثوا إليه فأحجم، وقاتلوا فانهزموا. وتقبّض على طشتمر، وحبس بالإسكندرية، وبعث معه يلبغا الناصري، وخلت الدّولة للأميرين برقوق وبركة من المنازعين، وعمروا المراتب بأصحابهما. ثم كثر شغب التّركمان والعرب بنواحي الشام، فدفعوا يلبغا النّاصري إلى النّيابة بحلب ليستكفوا به في تلك النّاحية.
ثم تنافس برقوق وبركة في الاستقلال، وأضمر كلّ واحد منهما لصاحبه، وخشي منه، فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليخصّ بذلك جناحه، فارتاع لذلك بركة، وخرج بعصابته إلى قبّة النّصر ليواضع برقوقا وأصحابه الحرب هنالك، ورجا أن تكون الدائرة له. وأقام برقوق بمكانه من الاسطبل، وسرّب أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك. وأقاموا كذلك أياما يغادونهم ويراوحونهم ثلاثا، إلى أن عضّت بركة وأصحابه الحرب، فانفضّوا عنه، وجيء ببركة، وبعث به إلى
[1] صفد: مدينة في شمالي فلسطين، واقعة في الشمال الغربي لبحيرة طبرية، قريبة من حدود سوريا في الجنوب الغربي، ومن حدود لبنان في الجنوب.
[2]
ساقة الجيش: مؤخره.
الإسكندرية، فحبس هنالك إلى أن قتله ابن عرّام نائب الإسكندرية. وارتفع أصحابه إلى برقوق شاكين، فثأرهم منه بإطلاق أيديهم في النّصفة، فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة، بعد أن سمّر، وحمل على جمل عقابا له، ولم يقنعهم ذلك، فأطلق أيديهم فيما شاءوا منه، ففعلوا ما فعلوا. وانفرد برقوق- بعد ذلك- بحمل الدّولة ينظر في أعطافها [1] بالتّهديد، والتّسديد، والمقاربة [2] ، والحرص على مكافأة الدّخل بالخرج. ونقّص ما أفاض فيه بنو قلاون من الإمعان في التّرف، والسّرف في العوائد والنّفقات، حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال الرّاجح، وعجزت الدولة عن تمشية أحوالها، وراقب ذلك كلّه برقوق، ونظر في سدّ خلل الدّولة منه، وإصلاحها من مفاسده، يعتدّ ذلك ذريعة للجلوس على التّخت، وحيازة اسم السلطان من أولاد قلاون، بما أفسد الترف منهم، وأحال الدولة بسببهم، إلى أن حصل من ذلك على البغية، ورضي به أصحابه وعصابته، فجلس على التّخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وتلقّب بالظاهر. ورتّب أهل عصابته في مراتب الدولة، فقام وقاموا بها أحسن قيام، وانقلبت الدولة من آل قلاون إلى برقوق الظاهر وبنيه. واستمرّ الحال على ذلك، ونافسه اليلبغاوية- رفقاؤه في ولاء يلبغا- فيما صار إليه من الأمر، وخصوصا يلبغا نائب حلب، فاعتزم على الانتقاض. وشعر به الظاهر فبعث باستدعائه، فجاء وحبسه مدّة، ثم رجّعه إلى نيابة حلب، وقد وغر صدره من هذه المعاملة. وارتاب به الظاهر، فبعث سنة تسعين وسبعمائة دواداره للقبض عليه، ويستعين في ذلك بالحاجب. وانتقض، واستدعى نائب ملطية [3] ، وهو منطاش من أمراء اليلبغاوية، وكان قد انتقض قبله، ودعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلبا على الظاهر، فأجابوه، وساروا في جملته، وتحت لوائه، وبلغ الخبر إلى الظاهر برقوق، فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من أصحابه: وهم الدوادار الأكبر يونس [4] ،
[1] الأعطاف: الجوانب.
[2]
المقاربة: ترك الغلو في الأمور، وقصد السداد فيها.
[3]
بفتح الميم واللام، وسكون الطاء، ثم ياء مفتوحة، والعامة تكسر الطاء، وتشدد الياء. تقع في الشمال الغربي لديار بكر من الجمهورية التركية. (معجم البلدان) ، تاج العروس (ملط) .
[4]
يونس بن عبد الله الأمير سيف الدين الدوادار الأكبر لفك الظاهر، ويعرف بالنوروري (نسبة الى معتقله الأمير جرجي النوروري) . كان من أعاظم دولة الظاهر برقوق، حارب منطاش، والناصري، وعاد في
وجهركس الخليلي أمير الاسطبل، والأتابكي أيتمش، وأيدكار حاجب الحجاب [1] وأحمد بن يلبغا أستاذهم [2] . وخرج النّاصري من حلب في عسكره، واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام، ولما تراءى الجمعان بناحية دمشق، نزع كثير من عسكر السلطان إليهم، وصدقوا الحملة على من بقي فانفضّوا. ونجا ايتمش إلى قلعة دمشق، فدخلها، وقتل جهركس، ويونس، ودخل الناصري دمشق، ثم أجمع المسير إلى مصر، وعميت أنباؤهم حتى أطلّوا على مصر.
وفي خلال ذلك أطلق السلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة أنمى عنه، أنه داخله شيطان من شياطين الجند، يعرف بقرط [3] في قتل السلطان يوم ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين، فلما صحّ الخبر أمر بقتله، وحبس الخليفة سبعا إلى تلك السنة، فأطلقه عند هذا الواقع، ولما وصل إلى قيطا اجتمعت العساكر، ووقف السلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل، ثم دخل إلى بيته وخرج متنكرا، وتسرّب في غيابات المدينة، وباكر الناصري وأصحابه القلعة، وأمير حاج ابن الأشرف، فأعادوه إلى التخت ولقّبوه المنصور. وبعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وكان فيهم ألطنبغا الجوباني الّذي كان أمير مجلس [4] ، وقبض السلطان الظاهر عليه، وحبسه أياما، ثم أطلقه وبعثه نائبا على دمشق، ثم ارتفعت عنه الأقوال بأنه يروم الانتقاض، وداخل الناصريّ نائب حلب في ذلك، وأكّد ذلك عند السلطان ما كان بينه وبين النّاصري من المصافاة والمخالصة، فبعث عنه.
ولما جاء حبسه بالإسكندرية، فلما ملك الناصري مصر، وأجلس أمير حاج بن
[ () ] جيش منهزم الى القاهرة، وفي طريقه قتل سنة 791 عن نيف وستين سنة. خطط المقريزي 2/ 426 بولاق.
[1]
أيدكار بن عبد الله العمري سيف الدين، كان أحد أعيان الملك الظاهر، وولاه حجابة الحجاب. ثم انحاز إلى حزب منطاش، ولما عاد برقوق إلى الملك قبض عليه في سنة 794، وقتله.
[2]
الأمير شهاب الدين أحمد بن يلبغا العمري الخاصكي، كان برقوق مملوكا لوالده، ولذلك عفا عنه حين انحاز إلى الناصري ومنطاش. ولما مات الظاهر، ثار ايتمش وآخرون بالشام، فانضم اليهم أحمد بن يلبغا هذا، وحاربهم فرج بن الظاهر، فانتصر عليهم، وقبض على أحمد بن يلبغا، فقتله في سنة 802.
[3]
قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة، وكان له أقدام وشجاعة وصل بهما إلى مرادفة الأمراء في مذاهبهم. قتل سنة 785.
[4]
معناه صاحب الشورى في الدولة، وهو ثاني الأتابك، وتلو رتبته. العبر م 5 صبح الأعشى 5/ 455.
الأشرف [1] على التخت، بعث عنه ليستعين به على أمره، وارتابوا لغيبة الظاهر، وبالغوا في البحث عنه، فاستدعى الجوبانيّ واستنام له، واستحلفه على الأمان، فحلف له، وجاء به إلى القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصريّ في المضيّ إليه وتأمينه. وحبسوه في بعض قصور الملك، وتشاوروا في أمره، فأشار أمراء اليلبغاوية كلّهم بقتله، وبالغ في ذلك منطاش، ووصل نعير أمير بني مهنّا [2] بالشام للصحابة بينه وبين الناصري، فحضّهم على قتله، ومنع الجوبانيّ من ذلك وفاء بيمينه، فغلت صدورهم منه. واعتزموا على بعثه إلى الكرك [3] ، ودافعوا منطاشا بأنهم يبعثونه إلى الإسكندرية، فيعترضه عند البحر بما شاء من رأيه. ووثق بذلك، فقعد له عند المرساة، وخالفوا به الطريق إلى الكرك، وولّوا عليها نائبا وأوصوه به، فأخفق مسعى منطاش، ودبّر في اغتيال الدولة، وتمارض في بيته. وجاءه الجوباني عائذا فقبض عليه، وحبسه بالإسكندرية، وركب منتقضا، ووقف عند مدرسة الناصر حسن يحاصر الناصري بالقلعة. واستجاش هو بأمراء اليلبغاوية، فداهنوا في إجابته، ووقفوا بالرّميلة أمام القلعة. ولم يزل ذلك بينهم أياما حتى انفضّ جمع النّاصري، وخرج هاربا، فاعترضه أصحاب الطريق بفارسكور، وردّوه، فحبسه منطاش بالإسكندرية مع صاحبه، واستقلّ بأمر الملك. وبعث إلى الكرك بقتل الظاهر، فامتنع النّائب، واعتذر بوقوفه على خطّ السلطان والخليفة والقضاة. وبثّ الظاهر عطاءه في عامّة أهل الكرك، فانتدبت طائفة منهم لقتل البريدي الّذي جاء في ذلك، فقتلوه، وأخرجوا الظاهر من محبسه فأصحروا. واستألف أفاريق من العرب، واتصل به بعض مماليكه، وسار إلى الشام. واعترضه ابن باكيش [4] نائب
[1] الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون، يلقب بالمنصور (غير لقبه الصالح الى المنصور) ، وخلع نفسه يوم أن عاد برقوق الى الملك.
[2]
نعير بن محمد بن حيار بن مهنا بن مانع، لبثه القدم الراسخة في الإمارة.
وفي ظفر برقوق به، وبمنطاش، يقول الشيخ زين الدين بن ظاهر:
الملك الظاهر في عزه
…
أذل من ضل ومن طاشا
ورد في قبضته طائعا
…
نعيرا العاصي ومنطاشا
[3]
مدينة في الأردن على بعد 145 كلم من القدس عرفت قديما باسم (كير مؤاب) كانت حصنا للمؤابيين، احتلها الصليبيون واستردها صلاح الدين سنة 1188، كانت مقر مطرانية منذ أوائل العهد المسيحي كما كانت قاعدة لدولة المماليك سنة 1309
[4]
الحسن بن باكيش الأمير بدر الدين التركماني، نائب غزة من قبل منطاش. قتله الظاهر بالقاهرة سنة 793، وكان مشهورا بالشجاعة.
غزّة [1] ، فأوقع به الظاهر، وسار إلى دمشق، وأخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج، وسار على التعبئة ليمانع الظّاهر عن دمشق. وسبقه الظاهر فمنعه جنتمر نائب دمشق [2] ، فواقعه، وأقام محاصرا له. ووصل إليه كمشبغا [3] الحموي نائب حلب، وكان قد أظهر دعوته في عمله، وتجهّز للقائه بعسكره، فلقيه وأزال علله، فأقام له أبّهة الملك. وبيناهم في الحصار إذ جاء الخبر بوصول منطاش بسلطانه وعساكره لقتالهم، فلقيهم الظاهر بشقحب [4] ، فلمّا تراءى الجمعان، حمل الظاهر على السّلطان أمير حاج وعساكره ففضّهم، وانهزم كمشبغا إلى حلب. وسار منطاش في إتباعه، فهجم الظاهر على تعبئة أمير حاج، ففضّها، واحتاز السلطان، والخليفة والقضاة، ووكل بهم. واختلط الفريقان، وصاروا في عمياء من أمرهم، وفرّ منطاش إلى دمشق. واضطرب الظاهر أخبيته [5] ، ونزل على دمشق محاصرا لها. وخرج إليه منطاش من الغد فهزمه، وجمع القضاة والخليفة، فشهدوا على أمير حاج بالخلع، وعلى الخليفة بإعادة الظّاهر إلى ملكه. ورحل إلى مصر فلقيه بالطريق خبر القلعة بمصر، وتغلّب مماليكه عليها، وذلك أن القلعة لما خلت من السلطان ومنطاش والحامية، وكان مماليك السلطان محبوسين هنالك في مطبق أعدّ لهم، فتناجوا في التّسوّر منه إلى ظاهره، والتوثّب على القلعة والملك، فخرجوا، وهرب دوادار منطاش الّذي كان هنالك بمن كان معه من الحاشية. وملك مماليك الظاهر القلعة، ورأسهم مملوكه بطا [6] وساس أمرهم، وانتظر خبر سلطانه، فلما وصل الخبر بذلك الى الظاهر، أغذّ السّير إلى مصر. وتلقّاه الناس فرحين مسرورين بعوده وجبره. ودخل منتصف صفر من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وولّى بطا دوادارا، وبعث عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية، وأعتبهم، وأعادهم إلى
[1] مدينة بفلسطين قرب الساحل، بها ولد الإمام الشافعيّ، ويروى له فيها شعر. (معجم البلدان) .
[2]
الأمير جنتمر التركماني.
[3]
كمشبغا بن عبد الله الحموي اليلبغاوي الأمير سيف الدين. توفي سنة 801.
[4]
شقحب (كجعفر) : موضع قرب دمشق، نسب إليه جماعة من المحدثين. (تاج العروس) .
[5]
كذا في الأصول، وهي مكررة في أماكن متعددة من تاريخ العبر. وأظنها محرفة أثناء النسخ عن كلمة (ضرب) . فتصبح العبارة:«وضرب الظاهر أخبيته» .
[6]
الأمير بطا الطولوتمري، خلع عليه الظاهر برقوق سنة 792 دوادارا، ثم نائب دمشق، وليها من قبل استاذه في ذي القعدة سنة 793 الى ان توفي بها سنة 794. وانظر تفصيل ثورة بطا ومن كان معه من المسجونين، في «العبر» المجلد الخامس.
مراتبهم. وبعث الجوباني إلى دمشق، والناصري إلى حلب كما كانا، وعادت الدولة إلى ما كانت عليه. وولّى سودون على نيابته، وكان ناظرا بالخانقاه التي كنت فيها، وكان ينقم عليّ أحوالا من معاصاته فيما يريد من الأحكام في القضاء أزمان كنت عليه، ومن تصرّفات دواداره بالخانقاه، وكان يستنيبه عليها، فوغر صدره من ذلك، وكان الظاهر ينقم علينا معشر الفقهاء فتاوى [1] استدعاها منّا منطاش، وأكرهنا على كتابها، فكتبناها، وورّينا فيها بما قدرنا عليه. ولم يقبل السلطان ذلك، وعتب عليه، وخصوصا عليّ، فصادف سودون منه إجابة في إخراج الخانقاه عنّي، فولّى فيها غيري وعزلني عنها. وكتبت إلى الجوباني بأبيات اعتذر عن ذلك ليطالعه بها، فتغافل عنها، وأعرض عني مدّة، ثم عاد إلى ما أعرف من رضاه وإحسانه، ونصّ الأبيات:
سيّدي والظنون فيك جميلة
…
وأياديك بالأماني كفيلة
لا تحل عن جميل رأيك إنّي
…
ما لي اليوم غير رأيك حيلة
واصطنعني كما اصطنعت بإسداء
…
يد من شفاعة أو وسيلة
لا تضعني فلست منك مضيعا
…
ذمّة الحبّ، والأيادي الجميلة
وأجرني فالخطب عضّ بنابيه
…
وأجرى الى حماي خيوله
[1] في السلوك: «في 25 قعدة، أحضرت نسخ الفتوى في الملك الظاهر، وزيد فيها: «واستعان على قتل المسلمين بالكفار، وحضر الخليفة المتوكل، وقضاة القضاة: بدر الدين محمد بن أبي البقاء الشافعيّ.
وابن خلدون، وسراج الدين عمر بن الملقن الشافعيّ، وعدة دون هؤلاء، في القصر الأبلق، بحضرة الملك المنصور، ومنطاش، وقدمت اليهم الفتوى، فكتبوا عليها بأجمعهم، وانصرفوا» .
وفي تاريخ ابن الفرات:
ولو أنّي دعا بنصري داع
…
كنت لي خير معشر وفصيلة
أنه أمري الى الّذي جعل الله
…
أمور الدّنيا له مكفولة
وأراه في ملكه الآية
…
الكبرى فولّاه ثم كان مديله
أشهدته عناية الله في التمحيص
…
أن كان عونه ومنيله
العزيز السلطان والملك الظّاهر
…
فخر الدنيا وعزّ القبيلة
ومجير الإسلام من كل خطب
…
كاد زلزال بأسه أن يزيله
ومديل العدو بالطّعنة النّجلا
…
وتفرّي ماذيّه ونصوله [1]
وشكور لأنعم الله يفني
…
في رضاه غدوّه وأصيله
وتلطّف في وصف حالي وشكوى
…
خلّتي [2] يا صفيّة وخليله
قل له والمقال يكرم من مثلك
…
في محفل العلا أن يقوله
يا خوند الملوك يا معد الدّهر
…
إذا عدّل [3] الزمان فصوله
لا تقصّر في جبر كسرى فما
…
زلت أرجيك للأياد الطّويلة
أنا جار لكم منعتم حماه
…
ونهجتم الى المعالي سبيله
وغريب أنّستموه على الوحشة
…
والحزن بالرضى والسّهولة
وجمعتم من شمله فقضى الله
…
فراقا وما قضى مأموله
غاله الدّهر في البنين وفي الأهل
…
وما كان ظنّه أن يغوله [4]
ورمته النّوى [5] فقيدا قد
…
اجتاحت عليه فروعه وأصوله
فجذبتم بضبعه [6] وأنلتم
…
كل ما شاءت العلا أن تنيله
ورفعتم من قدره قبل أن
…
إليكم عياءه وخموله
وفرضتم له حقيقة ودّ
…
حاش للَّه أن ترى مستحيلة
همة ما عرفتها لسواكم
…
وأنا من خبرت دهري وجيله
[1] الطعنة النجلاء: الواسعة العريضة. وتفري: تشق. والماذي (بالمعجمة) : كل سلاح من الحديد.
والنصول جمع نصل، وهو حديدة السهم.
[2]
الحلة (بالفتح) : الحاجة، والفقر.
[3]
عدل الحكم: اقامه، والميزان سواه.
[4]
يشير الى غرق اهله في المركب الّذي أقلهم من المغرب، وقد تقدم له ذكر هذا.
[5]
النوى: الوجه الّذي ينويه المسافر من قرب أو بعد. وهي مؤنثة لا غير.
[6]
الضبع: العضد.
والعدا نمّقوا أحاديث إفك
…
كلها في طرائق معلولة
روّجوا في شأني غرائب زور
…
نصبوها لأمرهم أحبولة
ورموا بالذي أرادوا من
…
البهتان ظنا بأنها مقبولة
زعموا انني أتيت من الأقوال
…
ما لا يظنّ بي أن أقوله
كيف لي أغمط الحقوق وأنّي
…
شكر نعماكم عليّ الجزيلة؟
كيف لي أنكر الأيادي التي
…
تعرفها الشّمس والظّلال الظليلة؟
إن يكن ذا فقد برئت من
…
الله تعالى وخنت جهرا رسوله
طوقونا أمر الكتاب فكانت
…
لقداح الظنون فينا مجيلة [1]
لا وربّ الكتاب أنزله الله
…
على قلب من وعى تنزيله
ما رضينا بذاك فعلا ولا جئناه
…
طوعا ولا اقتفينا دليله
إنما سامنا الكتاب ظلوم
…
لا يرجّى دفاعه بالحيلة
سخط ناجز وحلم بطيء
…
وسلاح [2] للوخز فينا صقلّيّة
ودعوني ولست من منصب الحكم
…
ولا ساحبا لديهم ذيوله
غير أنّي وشى بذكري واش
…
يتقصّى أوتاره وذحوله [3]
فكتبنا معوّلين على حلمك
…
تمحو الإصار عنّا الثّقيلة
ما أشرنا به لزيد ولا عمرو
…
ولا عيّنوا لنا تفصيله
إنما يذكرون عمّن وفيمن
…
مبهمات أحكامها منقولة
ويظنّن أنّ ذاك على ما
…
أضمروا من شناعة أو رذيلة
وهو ظنّ عن الصّواب بعيد
…
وظلام لم يحسنوا تأويله
وجناب السّلطان نزّهه الله
…
عن العاب [4] بالهدى والفضيلة
وأجلّ الملوك قدرا صفوح
…
يرتجي ذنب دهره ليقيله
فاقبلوا العذر إنّنا اليوم نرجو
…
بحياة السّلطان منكم قبوله
وأعينوا على الزّمان غريبا
…
يشتكي جدب عيشه ومحوله
[1] يشير الى الفتوى السالفة الذكر عن المقريزي وابن الفرات.
[2]
السلاح: آلة الحرب، أو حديدته، ويؤنث.
[3]
أوتار جمع وتر، بمعنى الذحل. والذحل: العداوة. والجمع ذحول.
[4]
العاب: العيب.
ابن خلدون م 45 ج 7