الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يومهم. واستضاءوا بإضرام النيران مخافة البيات، وأصبحوا على التعبية. وتمشت الرجالات في مواضعة الحرب، فأعجبهم مناشبة القوم، وتزاحفت الصفوف، وأعلم الكماة، وكشفت الحرب عن ساقها، وحمي الوطيس، وهبت الريح المبشرة، فخفقت لها رايات الأمير وهدرت طبوله، ودارت رحى الحرب وصمدت إليها كتائب العرب، فبرئ [1] فيها الأبطال منهم وانكشفوا، وأجلت المعركة عن عبد الله ابن صغير صريعا، فأمر أبو تاشفين فاحتزّ رأسه وطيّر به البريد إلى أبيه. ثم عثرت المواكب بأخيه ملّوك بن صغير مع العبّاس ابن عمه موسى بن عامر، ومحمد بن زيّان من وجوه عشيرتهم متواقعين بجنودهم متضاجعين في مراقدهم كأنما أقعدوا للردي، فوطأتهم سنابك الخيل وغشيهم قتام المراكب. وأطلقت العساكر أعنّتها في اتباع القوم فاستاقوا نعمهم وأموالهم. وكثرت يومئذ الأنفال، وغشيهم الليل فتستّروا بجناحه. ولحقهم فلّهم بجبل راشد، وأطرب أبو تاشفين أباه بمشتهى ظهوره وأملاه السرور بما صنع الله على يده، وما كان له ولقومه من الأثر في مظاهرة أوليائه. وطار له بها ذكر على الأيام، ورجع إلى أبيه بالحضرة مملوء الحقائب بالأنفال والجوانح بالسرور والأيام بالذكر عنه وعن قومه، ومضى خالد لوجهه في فلّ من قومه. ولحق بجبل راشد إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
(الخبر عن انتقاض سالم بن إبراهيم ومظاهرته خالد بن عامر على الخلاف وبيعتهما للأمير أبي زيان ثم مهلك خالد ومراجعة سالم الطاعة وخروج أبي زيان الى بلاد الجريد)
كان سالم بن إبراهيم هذا كبير الثعالبة المتغلّبين على حصن متيجة منذ انقراض مليكش، وكانت الرئاسة فيهم لأهل بيته حسبما ذكرناه في أخبارهم عند ذكر المعقل. ولما كانت فتنة أبي زيّان بعد نكبة أبي حمّو على بجاية، وهبّت ريح العرب واستغلظ أمرهم، وكان سالم هذا أوّل من غمس يده في تلك الفتنة، ومكر بعليّ بن غالب من بيوتات الجزائر، كان مغربا عنها منذ تغلّب بني مرين على المغرب الأوسط
[1] وفي نسخة ثانية: فتردى.
أيام بني عثمان [1] ولحق بها عند ما أظلم الجوّ بالفتنة، واستحكمت نفرة أهل الجزائر عن أبي حمو، فأظهر بها الاستبداد واجتمع بها إليه الأوشاب والطغام. ونكره سالم أمير الضاحية أطمعه في الاستيلاء على الجزائر، فداخل في شأنه الملأ من أهل المدينة، وحذّرهم منه أنه يروم الدعوة للسلطان أبي حمّو، فاستشاطوا نفرة وثاروا به، حتى إذا رأى سالم أنه قد أحيط به خلّصه من أيديهم وأخرجه إلى حيّه. وأبلغه [2] هنالك. وحوّل دعوة الجزائر إلى الأمير أبي زيّان تحت استبداده، حتى إذا كان من أمر بني مرين وحلول السلطان عبد العزيز بتلمسان كما قدّمناه، أقام دعوتهم في الجزائر إلى حين مهلكه ورجوع أبي حمّو إلى تلمسان. وأقبل جيش أبي زيّان إلى تيطري، فأقام سالم هذا دعوته في أحيائه وفي بلد الجزائر، خشية على نفسه من السلطان أبي حمو، لما كان يعتمد عليه في الادالة من أمره بالجزائر بأمر ابن عمّه. ولما كان من خروج أبي زيّان إلى أحياء رياح على يد محمد بن عريف ما قدّمناه. واقتضى سالم عهده من السلطان، وولي سالم على الجزائر، أقام سالم على أمره من الاستبداد بتلك الأعمال واستضافة جبايتها لنفسه، وأوعز السلطان إلى سائر عمّاله باستيفاء جبايتها، فاستراب وبقي في أمره على المداهنة.
وحدثت إثر ذلك فتنة خالد بن عامر، فتربّص دوائرها رجاء أن يكون الغلب له، فيشغل السلطان عنه. ثم بدا له ما لم يحتسب، وكان الغلب للسلطان ولأوليائه. وكان قد حدثت بينه وبين بني عريف عداوة خشي أن يحمل السلطان على النهوض إليه، فبادر إلى الانتقاض على أبي حمو، واستقدم الأمير أبو زيان فقدم عليه وجأجأ بخالد بن عامر من المخالفين معه من العرب، فوصلوا إليه أوّل سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وعقد بينهم حلفا مؤكّدا، وأقام الدعوة للأمير أبي زيّان بالجزائر. ثم زحفوا إلى حصار مليانة وبها حامية السلطان فامتنعت عليهم، ورجعوا إلى الجزائر فهلك خالد بن عامر على فراشه ودفن بها، وولي أمر قومه من بعده المسعود ابن أخيه صغير، ونهض إليهم السلطان أبو حمّو من تلمسان في قومه وأوليائه من العرب، فامتنعوا بجبال حصين وناوشتهم جيوش السلطان القتال بأسافل الجبل فغلبوهم عليها، وانفضّت الناجعة عنهم من الديالم والعطاف وبني عامر، فلحقوا بالقفر.
[1] وفي نسخة ثانية: أيام أبي عنّان.
[2]
وفي نسخة ثانية: واتلفه هنالك.
ورأى سالم أصحابه أن قد أحيط بهم فلاذ بالطاعة، وحمل عليها أصحابه. وعقد لهم السلطان من ذلك ما أرادوه على أن يفارقوا الأمير أبا زيان ففعلوا. وارتحل عنهم فلحق ببلاد المغرب ريغ، ثم أجازها إلى نفطة من بلاد الجريد، ثم إلى توزر، فنزل على مقدّمها يحيى بن يملول، فأكرم نزله وأوسع قراره إلى أن كان من أمره ما نذكر.
ورجع السلطان أبو حمو إلى تلمسان وفي نفسه من سالم حرارة لكثرة اضطرابه ومراجعته الفتن، حتى توسّط فصل الشتاء، وأبعدت العرب في مشاتيها، فنهض من تلمسان في جيوش زناتة، وأغذّ السير فصبح بحصن متيجة بالغارة الشعواء. وأجفلت الثعالبة فلحقوا برءوس الجبال وامتنع سالم بجبل بني خليل. وبعثوا ابنه وأولياءه إلى الجزائر فامتنعوا بها وحاصروه أياما. ثم غلبوه على مكامنه. فانتقل إلى بني ميسرة من جبال صنهاجة. وخلّف أهله ومتاعه، وصار الكثير من الثعالبة إلى الطاعة، وابتهلوا بأمان السلطان وعهده إلى فحص متيجة، وبعث هو أخاه ثانيا إلى السلطان بانتقاضه العهد [1] ، ونزل من رأس ذلك الشاهق إلى ابنه أبي تاشفين فأوصله إلى السلطان إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان، فأخفر عهده وذمّة ابنه، وتقبّض عليه صبيحة ليلته. وبعث قائده إلى الجزائر فاستولى عليها وأقام دعوته بها، وأوفد عليه مشيختها فتقبّض عليهم، وعقد على الجزائر لوزيره موسى بن مرعوت [2] ، ورجع إلى تلمسان فقضى بها عيد النحر، ثم أخرج سالم بن إبراهيم من محبسه إلى خارج البلد، وقتل قعصا بالرماح، ونصب شلوه وأصبح مثلا للآخرين، وللَّه البقاء.
وعهد السلطان لابنه المنتصر على مليانة وأعمالها، ولابنه أبي زيان على وهران.
وراسله ابن يملول صاحب توزر، وصهره ابن قرى صاحب بسكرة وأولياؤهما من الكعوب والزواودة لما أهمهم أمر السلطان أبي العبّاس، وخافوه على أمصارهم فراسلوا أبا حمّو يضمنون له مسالمة أبي زيّان على أن يوفي لهم بما اشترط له من المال، وعلى أن يشبّ نار الفتنة من قبله على بلاد الموحّدين ليشغل السلطان أبا العباس عنهم على حين عجزه [3] وضعف الدولة عنه. فأوهمهم من نفسه القدرة وأطمعهم في ذلك.
[1] وفي نسخة ثانية العبارة مختلفة تماما: وبعث هو أخاه ثابتا الى السلطان، فاقتضى له العهد.
[2]
وفي نسخة ثانية: موسى بن برغوث وقد مرّ معنا من قبل في غير هذا المكان.
[3]
الضمير هنا يعود الى أبي حمّو.