الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الخبر عن معاودة الفتنة بين بني مرين وحصارهم تلمسان ومقتل السلطان أبي تاشفين ومصائر ذلك)
كان السلطان أبو تاشفين قد عقد السلم لأوّل دولته مع السلطان أبي سعيد ملك المغرب، فلما انتقض عليه ابنه أبو عليّ سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة بعد المهادنة الطويلة من لدن استبداده بسجلماسة، بعث ابنه القعقاع إلى أبي تاشفين في الأخذ بحجزة أبيه عنه، ونهض هو إلى مراكش فدخلها. وزحف إليه السلطان أبو سعيد فبعث أبو تاشفين قائده موسى بن عليّ في العساكر إلى نواحي تازى، فاستباح عمل كارث، واكتسح زروعه وقفل. واعتدّها عليه السلطان أبو سعيد، وبعث أبو تاشفين وزيره داود بن علي بن مكن رسولا إلى السلطان أبي عليّ بسجلماسة، فرجع عنه مغاضبا وجنح أبو تاشفين بعدها إلى التمسّك بسلم السلطان أبي سعيد، فعقد لهم ذلك وأقاموا عليها مدّة. فلما نفر ابن مولانا السلطان أبي يحيى على السلطان أبي سعيد ملك المغرب، وانعقد الصهر بينهم كما ذكرناه في أخبارهم، وهلك السلطان أبو سعيد، نهض السلطان أبو الحسن إلى تلمسان بعد أن قدّم رسله إلى السلطان أبي تاشفين في أن يقلع بجيوشه عن حصار بجاية، ويتجافى للموحدين عن عمل تنس [1] فأبى وأساء الردّ، وأسمع الرسل بمجلسه هجر القول. وأفزع لهم الموالي في الشتم لمرسلهم بمسمع من أبي تاشفين، فأحفظ ذلك السلطان أبو الحسن ونهض في جيوشه سنة اثنتين وثلاثين إلى تلمسان فتخطّاها إلى تاسالت وضرب بها معسكره، وأطال المقام وبعث المدد إلى بجاية مع الحسن البطوي من صنائعه، وركبوا في أساطيله من سواحل وهران ووافاهم مولانا السلطان أبو يحيى ببجاية وقد جمع لحرب بني عبد الواد وهدم تامزيزدكت وجاء لموعد السلطان أبي الحسن معه أن يجتمعا بعساكرهما لحصار تلمسان، فنهض من بجاية إلى تامزيزدكت وقد أجفل منها عساكر بني عبد الواد وتركوها قفرا [2] . ولحقت بها عساكر الموحدين، فعاثوا فيها تخريبا ونهبا.
وألصقت جدرانها بالأرض وتنفّس مخنق بجاية من الحصار، وانكمش بنو عبد الواد
[1] وفي نسخة ثانية: تدلس.
[2]
وفي نسخة ثانية: قواء.
إلى ما وراء تخومهم.
وفي خلال ذلك انتقض أبو عليّ ابن السلطان أبي سعيد على أخيه، وصمد من مقرّه بسجلماسة إلى درعة، وفتك بالعامل وأقام فيها دعوته كما نذكر ذلك بعد. وطار الخبر إلى السلطان أبي الحسن بمحلّته بتاسالت، فنهض [1] راجعا إلى المغرب لحسم دائه، وراجع السلطان أبو تاشفين عزّه وانبسطت عساكره في ضواحي عمله، وكتب الكتائب وبعث بها مددا للسلطان أبي عليّ. ثم استنفر قبائل زناتة وزحف إلى تخوم المغرب سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ليأخذ بحجزة السلطان أبي الحسن عن أخيه، وانتهى إلى الثغر من تاوريرت ولقيه هناك تاشفين ابن السلطان أبي الحسن في كتيبة جهّزها أبوه معه هنالك لسدّ الثغور، ومعه منديل بن حمامة شيخ بني تيريفين من بني مرين في قومه. فلما برزوا إليه انكشف ورجع إلى تلمسان. ولمّا تغلّب السلطان أبو الحسن على أخيه وقتله سنة أربع وثلاثين وسبعمائة جمع لغزو تلمسان وحصارها ونهض إليها سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وقد استنفذ وسعه في الاحتفال لذلك واضطربت بها عساكره وضرب عليها سياج الأسوار وسرادقات الحفائر أطيفت [2] عليهم، حتى لا يكاد الطيف يخلص منهم ولا إليهم. وسرّح كتائبه إلى القاصية من كل جهة، فتغلّب على الضواحي وافتتح الأمصار جميعا، وخرّب وجدة كما يأتي ذكر ذلك كله. وألحّ عليها بالقتال يغاديها ويراوحها، ونصب المجانيق وانحجز بها مع السلطان أبي تاشفين زعماء زناتة من بني توجين وبني عبد الواد وكان عليهم في بعض أيامها اليوم المشهور الّذي استلحمت فيه أبطالهم وهلك أمراؤهم. وذلك أنّ السلطان أبا الحسن كان يباكرهم في الأسحار فيطوف من وراء أسواره التي ضربها عليهم شوطا يرتّب المقاتلة ويثقف الأطراف ويسدّ الفروج ويصلح الخلل، وأبو تاشفين يبعث العيون في ارتصاد فرصه فيه، وأطاف في بعض الأيام منتبذا عن الجملة فكمنوا له حتى إذا سلك ما بين الجبل والبلد انقضوا عليه يحسبونها فرصة قد وجدوها، وضايقوه حتى كاد السرعان من الناس أن يصلوا إليه، وأحس أهل المعسكر بذلك فركبوا زرافات ووحدانا، وركب ابناه الأميران أبو عبد الرحمن وأبو مالك جناحا عسكره، وعقابا جحافله وتهاوت إليهم صقور بني مرين من كل جوّ، فانكشفت عساكر البلد ورجعوا
[1] وفي نسخة ثانية: فنكص.
[2]
وفي نسخة ثانية: أطبقت.
القهقرى، ثم ولّوا الأدبار منهزمين لا يلوي أحد منهم على أحد، واعترضهم مهوى الخندق فتطارحوا فيه وتهافتوا على ردمه، فكان الهالك يومئذ بالردم أكثر من الهالك بالقتل. وهلك من بني توجين يومئذ كبير الحشم وعامل جبل وانشريس، ومحمد بن سلامة بن علي أمير بني يدللتن وصاحب قلعة تاوغزوت [1] وما إليها من عملهم، وهما ما هما في زناتة إلى أشباه لهما وأمثال استلحموا في هذه الوقعة فحط [2] هذا اليوم جناح الدولة وحطّم منها، واستمرّت منازلة السلطان أبي الحسن إياها إلى آخر رمضان من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة فاقتحمها يوم السابع والعشرين منه غلابا. ولجأ السلطان أبو تاشفين إلى باب قصره في لمة من أصحابه، ومعه ولداه عثمان ومسعود ووزيره موسى بن عليّ وعبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من أعياص بني مرين، وهو الّذي لحق بهم من تونس كما ذكرناه، وسيأتي ذكره وخبره. ومعه يومئذ ابنا أخيه أبو زيّان وأبو ثابت فمانعوا دون القصر مستميتين إلى أن استلحموا ورفعت رءوسهم على عصيّ الرماح، فطيف بها، وغصت سكك البلد من خارجها وداخلها بالعساكر، وكظّت أبوابها بالزحام، حتى لقد كبّ الناس على أذقانهم وتواقعوا فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم ما بين البابين حتى ضاق المذهب ما بين السقف ومسلك الباب وانطلقت الأيدي على المنازل نهبا واكتساحا، وخلص السلطان إلى المسجد الجامع، واستدعى رؤساء الفتيا والشورى أبا زيد عبد الرحمن وأبا موسى عيسى ابني الإمام، قدمهما من أعماله لمكان معتقده في أهل العلم، فحضروه ورفعوا إليه أمر الناس وما نالهم من معرة العسكر ووعظوه فأناب ونادى مناديه برفع الأيدي عن ذلك، فسكن الاضطراب وأقصر العيث. وانتظم السلطان أبو الحسن أمصار المغرب الأوسط وعمله إلى سائر أعماله. وتاخم الموحدين بثغوره وطمس رسم الملك لآل زيّان ومعالمه، واستتبع زناتة عصبا تحت لوائه من بني عبد الواد وتوجين ومغراوة وأقطعهم ببلاد المغرب سهاما أدالهم بها من تراثهم من أعمال تلمسان، فانقرض ملك آل يغمراسن برهة من الدهر إلى أن أعاده منهم أعياص سموا إليه بعد حين عند نكبة السلطان أبي الحسن بالقيروان كما نذكره، فأومض بارقه، وهبّت ريحه، والله يؤتي ملكه من يشاء.
[1] كذا في النسخة الباريسية وفي نسخة ثانية: تاوعزدوت.
[2]
وفي نسخة ثانية: في هذه الوقائع. فقصّ هذا اليوم.