الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عندهم، وأوصلوه إلى السلطان وهو يومئذ الأشرف [1] . فكان يحضر يومئذ مجلسه وولّاه الوظائف العلمية، فكان ينتجع منها معاشه. وكان الّذي وصل حبله بالسلطان أستاذ داره محمد بن آقبغا آص [2] لقيه أوّل قدومه فحلا بعينه، واستظرف جملته، فسعى له وأنجح سعايته، ولم يزل مقيما بالقاهرة موقّر الرتبة معروف الفضيلة، مرشّحا لقضاء المالكية ملازما للتدريس في وظائفه إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين وسبعمائة هكذا ذكر من حضره من جملة السلطان أبي الحسن من أشياخنا وأصحابنا، وليس موضوع الكتاب الإطالة، فلنقتصر على هذا القدر، ونرجع إلى ما كنّا فيه من أخبار المؤلف.
(ولاية العلامة بتونس ثم الرحلة بعدها الى المغرب والكتابة على السلطان أبي عنان)
ولم أزل منذ نشأت وناهزت مكبّا على تحصيل العلم، حريصا على اقتناء الفضائل، متنقّلا بين دروس العلم وحلقاته، إلى أن كان الطاعون الجارف، وذهب الأعيان والصدور وجميع المشيخة، وهلك أبواي رحمهما الله. ولزمت مجلس شيخنا أبي عبد الله الأيلّي، وعكفت على القراءة عليه ثلاث سنين إلى أن شدوت بعض الشيء، واستدعاه السلطان أبو عنان فارتحل إليه، واستدعاني أبو محمد بن تافراكين المستبدّ على الدولة يومئذ بتونس إلى كتابة العلامة عن السلطان أبي إسحاق. مذ نهض إليه من قسنطينة صاحبها أبو زيد حافد السلطان أبي يحيى في عساكره، ومعه العرب أولاد مهلهل الذين استنجدوه لذلك، فخرج ابن تافراكين وسلطانه أبو إسحاق مع العرب أولاد أبي الليل، وبثّ العطاء في عسكره، وعمّر له المراتب والوظائف. وتعلّل عليه صاحب العالمة أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بالاستزادة من العطاء، فعزله وأدالني منه، فكتبت العلامة عن السلطان، وهي «الحمد للَّه والشكر للَّه» بالقلم الغليظ ما بين البسملة وما بعدها من مخاطبة أو مرسوم. وخرجت
[1] السلطان الأشرف هو ابو المفاخر شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون (754- 778) تولى الملك سنة 764 هـ.
[2]
هو الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص المتوفى سنة 795 هـ.
معهم أوّل سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وقد كنت منطويا على الرحلة من إفريقية لما أصابني من الاستيحاش لذهاب أشياخي وعطلاني [1] عن طلب العلم. فلما رجع بنو مرين إلى مراكزهم بالمغرب وانحسر تيّارهم عن إفريقية، وأكثر من كان معهم من الفضلاء صحابة وأشياخ، فاعتزمت على اللحاق بهم، وصدّني عن ذلك أخي وكبيري محمد رحمه الله، فلما دعيت إلى هذه الوظيفة سارعت إلى الإجابة لتحصيل غرضي من اللحاق بالمغرب، وكان كذلك، فإنّا لمّا خرجنا من تونس نزلنا بلاد هوّارة، وزحفت العساكر بعضها إلى بعض بفحص مرماجنّة وانهزم صفّنا ونجوت أنا إلى أبّة، فأقمت بها عند الشيخ عبد الرحمن الوسناني [2] من كبراء المرابطين، ثم تحوّلت إلى سبتة ونزلت بها على محمد بن عبدون صاحبها، فأقمت عنده ليالي حتى هيّأ لي الطريق مع رفيق من المغرب [3] ، وسافرت إلى قفصة، وأقمت بها أياما حتى قدم علينا بها الفقيه محمد ابن الرئيس منصور بن مزني، وأخوه يوسف يومئذ صاحب الزاب وكان هو بتونس، فلمّا حاصرها الأمير أبو زيد خرج إليه فكان معه. فلمّا بلغهم الخبر بأنّ السلطان أبا عنان ملك المغرب، نهض إلى تلمسان فملكها، وقتل سلطانها عثمان بن عبد الرحمن، وأخاه أبا ثابت وأنه انتهى الى المدية وملك بجاية من يد صاحبها الأمير أبي عبد الله من حفدة السلطان أبي يحيى، وراسله عند ما أطلّ على بلده، فسار إليه، ونزل له عنها. وصار في جملته، وولي أبو عنان على بجاية عمر ابن علي شيخ بني وطّاس من بني الوزير شيوخهم. فلمّا بلغهم هذا الخبر أجفل الأمير عبد الرحمن من مكانه عن حصار تونس، ومرّ بقفصة فدخل إلينا محمد بن مزني ذاهبا إلى الزاب، فرافقته إلى بسكرة، ودخلت إلى أخيه هنالك، ونزل هو بعض قرى الزاب تحت جراية أخيه إلى أن انصرم الشتاء.
وكان أبو عنان لما ملك بجاية ولّى عليها عمر بن علي بن الوزير من شيوخ بني وطّاس فجاء فارح مولى الأمير أبي عبد الله لنقل حرمه وولده، فداخل بعض السفهاء من صنهاجة في قتل عمر بن علي فقتله في مجلسه ووثب هو على البلد وأرسل إلى الأمير أبي زيد يستدعيه من قسنطينة، فتمشّت رجالات البلد بينهم خشية من سطوة السلطان.
[1] وفي نسخة ثانية: عطلتي.
[2]
وفي نسخة ثانية: الوشتاتي.
[3]
وفي نسخة ثانية: وبذرق لي مع رفيق من العرب، والبذرقة كلمة معرّبه معناها الخفارة أو العصمة.
ثم ثاروا بفارح فقتلوه وأعادوا دعوة السلطان كما كانت. وبعثوا عن عامل السلطان بتدلس يحياتن بن عمر بن عبد المؤمن من شيوخ بني ونكاسن من بني مرين، فملكوه قيادهم وبعثوا إلى السلطان بطاعتهم، فأخرج لوقته حاجبه محمد بن أبي عمرو، واكتنف [1] له الجند وصرف معه وجوه دولته وأعيان بطانته. وارتحلت من بسكرة وافدا على السلطان أبي عنان بتلمسان، فلقيت ابن أبي عمرو بالبطحاء، وتلقّاني من الكرامة بما لم أحتسبه، وردّني معه إلى بجاية فشهدت الفتح، وتسايلت وفود إفريقية إليه. فلمّا رجع إلى السلطان وفدت معهم فنالني من كرامته وإحسانه ما لم أحتسبه، إذ كنت شابا لم يطرّ شاربي. ثم انصرفت مع الوفود ورجع ابن أبي عمرو إلى بجاية، فأقمت عنده حتى انصرم الشتاء أواخر أربع وخمسين وسبعمائة وعاد السلطان أبو عنان إلى فاس وجمع أهل العلم للتحليق بمجلسه، وجرى ذكري عنده وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس، فأخبره الذين لقيتهم بتونس عني ووصفوني له، فكتب إليّ الحاجب يستقدمني، فقدمت عليه سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونظمني في أهل مجلسه العلمي، وألزمني شهود الصلوات معه، ثم استعملني في كتابته والتوقيع بين يديه على كره مني، إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي. وعكفت على النظر والقراءة ولقاء المشيخة من أهل المغرب ومن أهل الأندلس الوافدين في غرض السفارة، وحصلت من الإفادة منهم على البغية.
وكان في جملته يومئذ الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الصفّار من أهل مراكش إمام القراءات لوقته، أخذ عن جماعة من مشيخة المغرب وكبيرهم شيخ المحدّثين الرحّالة أبو عبد الله محمد بن رشيد الفهريّ سيّد أهل المغرب، وكان يعارض السلطان القرآن برواياته السبع إلى أن توفي.
(ومنهم) قاضي الجماعة بفاس أبو عبد الله محمد المغربي [2] صاحبنا، من أهل تلمسان، أخذ العلم بها عن أبي عبد الله محمد السلويّ [3] ورد عليها من المغرب خلوا من المعارف. ثم دعته همّته إلى التحلي بالعلم، فعكف في بيته على مدارسة القرآن
[1] وفي نسخة ثانية: واكثف.
[2]
وفي نسخة ثانية: المقّريّ وهو ابو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر المقري بتشديد القاف المفتوحة نسبة الى مقرة. أو سكون الكاف والميم في الحالتين مفتوحة. (الإحاطة 2/ 136) .
[3]
وفي نسخة ثانية: السلاوي نسبة الى سلّا.
فحفظه، وقرأه بالسبع. ثم عكف على كتاب التسهيل في العربية فحفظه، ثم على مختصر ابن الحاجب في الفقه والأصول فحفظهما. ثم لزم الفقيه عمران المشدّالي من تلاميذ أبي علي ناصر الدين، وتفقّه عليه، وبرز في العلوم إلى حيث لم تلحق غايته. وبنى السلطان أبو تاشفين مدرسة بتلمسان، فقدّمه للتدريس بها، يضاهي به أولاد الإمام، وتفقّه عليه بتلمسان جماعة كان من أوفرهم سهما في العلوم أبو عبد الله المغربي هذا.
ولما جاء شيخا أبو عبد الله الأيلّي إلى تلمسان عند استيلاء السلطان أبي الحسن عليها، وكان أبو عبد الله السلوي قد قتل يوم فتح تلمسان، قتله بعض أشياع السلطان لذنب أسلفه في خدمة أخيه أبي علي بسجلماسة قبل انتحاله العلم، كان السلطان توعّده عليه، فقتل بباب المدرسة، فلزم أبو عبد الله المغربي بعده مجلس شيخنا الأيلي ومجالس ابني الإمام. واستبحر في العلم وتفنّن. ولما انتقض السلطان أبو عنان سنة تسع وأربعين وسبعمائة وخلع أباه، ندبه إلى كتب البيعة فكتبها وقرأها على الناس في يوم مشهود. وارتحل مع السلطان إلى فاس، فلمّا ملكها عزل قاضيها الشيخ المعمّر أبا عبد الله بن عبد الرزاق وولّاه مكانه، فلم يزل قاضيا بها إلى أن أسخطه لبعض النزعات الملوكيّة، فعزله وأدال منه بالفقيه أبي عبد الله الفشتالي [1] آخر سنة ست وخمسين وسبعمائة، ثم بعثه في سفارة إلى الأندلس فامتنع من الرجوع. وقام السلطان لها في ركابه، ونقم [2] على صاحب الأندلس تمسّكه به، وبعث إليه فيه يستقدمه، فلاذ ابن الأحمر بالشفاعة فيه، واقتضى له كتاب أمان بخط السلطان أبي عنان، وأوفده في جماعة من شيوخ العلم بغرناطة القاطنين بها [3] منهم: شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي شيخ الدنيا جلالة وعلما ووقارا ورياسة وإمام اللسان فصاحة وبيانا [4] وتقدّما في نظمه ونثره. وترسّلاته. وشيخنا الآخر أبو البركات محمد بن محمد بن الحاج البلقيني [5] من أهل المرية شيخ المحدّثين والفقهاء والأدباء والصوفية والخطباء
[1] القشتالي: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد القشتالي القاضي بفاس، كان بيته معمورا بالجود والخير والصلاح، وكان أبو عبد الله هذا أحد اعلام المغرب (الإحاطة 2/ 133) .
[2]
وفي نسخة ثانية: ونكر.
[3]
وفي نسخة ثانية: وأوفده مع الجماعة من شيوخ العلم بغرناطة ومنهم القاصيان بغرناطة.
[4]
وفي نسخة ثانية: وامام اللسان حوكا ونقدا.
[5]
وفي نسخة ثانية: البلّفيقي: وهو محمد بن محمد بن إبراهيم ابن الحاج البلفيقي (708- 770) طبقات القراء 2/ 235.
بالأندلس، وسيّد أهل العلم بإطلاق، والمتفنّن في أساليب المعارف، وآداب الصحابة للملوك فمن دونهم، فوفدوا به على السلطان شفيعين على عظيم تشوّفه للقائهما، فقبلت الشفاعة وأنجحت الوسيلة.
حضرت بمجلس السلطان يوم وفادتهما سنة سبع وخمسين وسبعمائة وكان يوما مشهودا. واستقرّ القاضي المغربي في مكان بباب السلطان عطلا من الولاية والجراية. وجرت عليه بعد ذلك محنة من السلطان وقعت بينه وبين أقاربه، امتنع من الحضور معهم عند القاضي الفشتالي، فتقدّم السلطان إلى بعض أكابر الوزعة ببابه أن يسحبه إلى مجلس القاضي حتى ينفذ فيه حكمه، فكان الناس يعدّونها محنة، ثم ولّاه السلطان بعد ذلك قضاء العساكر في دولته، عند ما ارتحل إلى قسنطينة. فلما افتتحها وعاد إلى دار ملكه بفاس آخر ثمان وخمسين وسبعمائة اعتلّ القاضي المغربي في طريقه، وهلك عند قدومه بفاس.
(ومنهم صاحبنا) الإمام العالم القدوة [1] ، فارس المعقول والمنقول، وصاحب الفروع والأصول، أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف الحسني، ويعرف بالعلوي نسبة إلى قرية من أعمال تلمسان، تسمّى العلوين، فكان أهل بلده لا يدافعون في نسبهم. وربّما يغمز فيه بعض الفجرة ممن لا يروعه دينه ولا معرفته بالأنساب ببعض من اللغو، لا يلتفت إليه، نشأ هذا الرجل بتلمسان وأخذ العلم عن مشيختها، واختص بأولاد الإمام وتفقّه عليهما في الفقه والأصول والكلام، ثم لزم شيخنا أبا عبد الله الأبلي وتضلّع من معارفه، فاستبحر وتفجّرت ينابيع العلوم من مداركه. ثم ارتحل إلى تونس في بعض مذاهبه سنة أربعين وسبعمائة ولقي شيخنا القاضي أبا عبد الله ابن عبد السلام وحضر مجلسه وأفاد منه، واستعظم رتبته في العلم. وكان ابن عبد السلام يصغي إليه ويؤثر محله ويعرف حقّه حتى لقد زعموا أنه كان يخلو به في بيته، فيقرأ عليه فصل التصوّف من كتاب الإشارات لابن سينا، لما كان هو أحكم ذلك الكتاب على شيخنا الأبلّي وقرأ عليه كثيرا من كتاب الشفاء لابن سينا، ومن تلاخيص كتب أرسطو لابن رشد، ومن الحساب والهندسة والفرائض علاوة على ما كان يحمله من الفقه والعربية وسائر علوم الشريعة، وكانت له في كتب الخلافيات يد
[1] وفي نسخة ثانية: العالم الفذّ.
طولى، وقدم عالية، فعرف له ابن عبد السلام ذلك كلّه وأوجب حقّه، وانقلب إلى تلمسان، وانتصب لتدريس العلم وبثّه فملأ المغرب معارف وتلاميذ، إلى أن اضطرب المغرب بعد واقعة القيروان. ثم هلك السلطان أبو الحسن، وزحف أبو عنان إلى تلمسان فملكها سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة فاستخلص الشريف أبا عبد الله واختاره لمجلسه العليّ مع من اختاره من المشيخة، وزحف به إلى فاس فتبرّم الشريف من الاغتراب وردّد الشكوى وعرف السلطان ذلك [1] وارتاب به. ثم بلغه أثناء ذلك أنّ عثمان بن عبد الرحمن سلطان تلمسان أوصاه على ولده، وأودع له مالا عند بعض الأعيان من أهل تلمسان، وأنّ الشريف مطلع على ذلك، فانتزع الوديعة وسخط الشريف بذلك ونكبه، وأقام في اعتقاله أشهرا، ثم أطلقه أوّل ست وخمسين وسبعمائة وأقصاه، ثم أعتبه بعد فتح قسنطينة وأعاده إلى مجلسه إلى أن هلك السلطان آخر تسع وخمسين وسبعمائة.
وملك أبو حمّو بن يوسف بن عبد الرحمن تلمسان من يد بني مرين، واستدعى الشريف من فاس فسرّحه القائم بالأمر يومئذ الوزير عمر بن عبد الله فانطلق إلى تلمسان. وأطلقه [2] أبو حمو براحتيه، وأصهر له في ابنته، فزوّجها إياه، وبنى له مدرسة جعل في بعض جوانبها مدفن أبيه وعمّه، وأقام الشريف يدرس العلم إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وأخبرني رحمه الله أنّ مولده سنة عشر وسبعمائة.
(ومنهم صاحبنا) الكاتب القاضي أبو القاسم محمد بن يحيى البرجي من برجة [3] الأندلس. كان كاتب السلطان أبي عنان وصاحب الإنشاء والسرّ في دولته، وكان مختصّا به، وأثيرا لديه. وأصله من برجة الأندلس نشأ بها واجتهد في العلم والتحصيل، وقرأ وسمع وتفقّه على مشيخة الأندلس. واستبحر في الأدب وبرز في النظم والنثر، وكان لا يجاري في كرم الطباع وحسن المعاشرة، ولين الجانب وبذل البشر والمعروف. وارتحل إلى بجاية في عشر الأربعين وسبعمائة، وبها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي يحيى منفردا بملكها على حين أقفر من رسم الكتابة والبلاغة،
[1] وفي نسخة ثانية: فاحفظ السلطان بذلك.
[2]
وفي نسخة ثانية: وتلقّاه أبو حمو براحتيه.
[3]
برجة: مدينة بالأندلس من أعمال البيرة، ينسب إليها أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الجذامي المقري، هو منسوب إلى برجة بلدة من أعمال المرية (معجم البلدان) .
فبادرت أهل الدولة إلى اصطفائه وإيثاره بخطة الإنشاء والكتاب عن السلطان إلى أن هلك الأمير أبو زكريا، ونصب ابنه محمّد مكانه، فكتب عنه على رسمه ثم هلك السلطان أبو يحيى، وزحف السلطان أبو الحسن إلى إفريقية واستولى على بجاية، ونقل الأمير محمدا بأهله وحاشيته إلى تلمسان كما تقدّم في أخباره، فنزل أبو القاسم البرجي تلمسان، وأقام بها واتصل خبره بأبي عنان ابن السلطان أبي الحسن وهو يومئذ أميرها، ولقيه، فوقع من قلبه بمكان إلى أن كانت واقعة القيروان.
وخلع أبو عنان واستبدّ بالأمر فاستكتبه وحمله إلى المغرب، ولم يسم به إلى العلامة لأنه آثر بها محمد بن أبي عمر بما كان أبوه يعلّمه القرآن والعلم. وربّي محمد بداره، فولّاه العلامة، والبرجي مرادف له في رياسته إلى أن انقرضوا جميعا. وهلك السلطان أبو عنان واستولى أخوه أبو سالم على ملك المغرب، وغلب ابن مرزوق على هواه كما قدّمناه، فنقل البرجيّ من الكتابة واستعمله في قضاء العساكر، فلم يزل على القضاء إلى أن هلك سنة ست وثمانين وسبعمائة وأخبرني رحمه الله ان مولده سنة عشر وسبعمائة.
(ومنهم شيخنا المعمّر الرحالة) أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق شيخ وقته جلالة وتربية وعلما وخبرة بأهل بلده، وعظمة فيهم. نشأ بفاس وأخذ عن مشيختها، وارتحل إلى تونس فلقي القاضي أبا إسحاق بن عبد الرفيع، والقاضي أبا عبد الله النفزاويّ. وأهل طبقتهما، وأخذ عنهم وتفقّه عليهم، ورجع إلى المغرب ولازم سنن الأكابر والمشايخ إلى أن ولّاه السلطان أبو الحسن القضاء بمدينة فاس، فأقام على ذلك إلى أن جاء السلطان أبو عنان من تلمسان بعد واقعة القيروان، وخلعه أباه فعزله بالفقيه أبي عبد الله المغربي، وأقام عطلا في بيته.
ولما جمع السلطان مشيخة العلم للتحليق بمجلسه، والإفادة منهم، واستدعى شيخنا أبا عبد الله بن عبد الرزاق، فكان يأخذ عنه الحديث، ويقرأ عليه القرآن برواياته في مجلس خاص إلى أن هلك رحمه الله بين يدي مهلك السلطان أبي عنان، إلى آخرين وآخرين من أهل المغرب والأندلس، كلّهم لقيت وذاكرت وأفدت منه، وأجازني بالإجازة العامّة.