الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
هذا هو الجزء الخامس من تاريخ الأدب العربى، وهو خاص بالجزيرة العربية والعراق وإيران فى عصر الدول والإمارات الممتد من سنة 334 للهجرة إلى العصر الحديث. وكان المؤرخون للأدب العربى يدخلون منه نحو ثلاثة قرون فى العصر العباسى الثانى منتهين به حتى سنة 656 حين أغار قطعان التتار على بغداد وقوّضوا ما كان فيها من مدنية وحضارة. وكان هؤلاء المؤرخون يسمون الحقب التالية حتى الغزو العثمانى لمصر والشام والعراق باسم العصر المغولى. وسموا فترة حكم العثمانيين لتلك البلدان باسم العصر العثمانى. وكل ذلك تصور مخطئ، لأن سلطان الخلافة العباسية تتقلص ظلاله منذ سنة 334 بحيث لا يكاد يبقى للخلفاء العباسيين منه فى كثير من الأمر سوى بغداد، فقد كانت إيران بيد بنى بويه ونفس العراق أظله سلطانهم، وكانت البحرين واليمامة بيد القرامطة، وكانت الموصل وحلب بيد الحمدانيين، ومصر والشام بيد الإخشيد، والمغرب وإفريقيا بيد الفاطميين، والأندلس بيد عبد الرحمن الناصر. وتعاقبت دول كثيرة فى اليمن وفى أنحاء الجزيرة العربية، وبالمثل فى كل البلدان والأقاليم المذكورة، بحيث يصبح من الخطأ أن تنسب القرون: الرابع والخامس والسادس حتى منتصف السابع إلى الخلافة العباسية، وحتى ما بقى لها من اعتراف بالولاء فى بعض الدول والإمارات إنما كان اعترافا اسميّا، لا يدل على أى سلطان وراءه. ومن الخطأ الإبقاء على تسمية القرون الثلاثة التالية لغزو التتار بغداد باسم العصر المغولى، بينما كان سلطان المغول فيها لا يتجاوز إيران والعراق دون بقية العالم العربى، وتلك البقية هى الشطر الأكبر منه: الجزيرة العربية والشام ومصر والمغرب والأندلس، لذلك رأينا أن ندمج العصر المغولى فى عصر الدول والإمارات، لأن هذه التسمية هى الألصق بالعصر، وهى أكثر دقة ومطابقة للواقع. وبالمثل أدمجنا فيه ما سمّى بالعصر العثمانى، لأنه لم يكن عصرا بالمعنى الحقيقى، وإنما كان حقبة ممتدة، تتمة لعصر الدول والإمارات، وثمرة مرة لما أصاب العرب فيه من انقسام وتفكك.
وحقّا يكون عصر الدول والإمارات فى تاريخ الأدب العربى بذلك عصرا طويلا، غير أن طوله لا يعنى أى تفاصل روحى أو فكرى بين دوله وإماراته، فقد كان هناك دائما شعور عام فى كل مكان بأن هذه الإمارات والدول جميعا إنما هى وطن عربى واحد، وطن لاتحدث فيه الانقسامات أى تقاطع علمى أو أى تنابذ أدبى، وطن تتواصل أجزاؤه ووحداته تواصل الأفراد فى أسرة واحدة. ولذلك مظاهر شتى، فقد كان العلماء حين يؤلفون كتاب تراجم عامّا يجمعون فيه كل من عاشوا من النابهين فى هذا الوطن الكبير، وكانوا إذا ألفوا كتابا فى تراجم علم كالقراءات أو التفسير أو النحو أو حتى فى فرع كفقه الشافعية أو المالكية أو الأحناف أو الحنابلة جمعوا فيه علماءه فى جميع البلدان العربية، وبالمثل حين يؤلفون أحيانا فى تراجم الشعراء يجمعون فى مؤلفاتهم كل الشعراء فى جميع الأقاليم العربية، متناسين، بل مهملين، الفواصل السياسية والجغرافية بين الأقاليم والبلدان، وكأنها فى رأيهم أقواس وهمية فى المخطّطات السياسية والجغرافية، لا تدل أى دلالة على فوارق علمية أو أدبية. ومظهر ثان، هو أن الكتاب حين كان يؤلّف يصبح ملكا لعلماء العالم العربى جميعهم، فهم يشرحونه أو يشرحون شرحه أو يكتبون تقارير عليه، يشترك فى ذلك قاصيهم ودانيهم ومن فى أقصى المشرق ومن فى أقصى المغرب، ونضرب لذلك مثلا كتاب أو متن التلخيص فى علوم البلاغة للقزوينى الدمشقى المتوفى فى القرن الثامن الهجرى، فقد شرحه علماء من مصر ومن المغرب ومن أقصى المشرق، فهو ليس كتاب دمشق وحدها بل هو كتاب البلدان العربية جميعها. ونضرب مثلا ثانيا ديوان المتنبى فإنه لم يكد يبقى بلد عربى إلا وتجرّد له عالم من علمائه يشرحه ويعرض شرحه على الطلاب، ومن أهم شروحه شرح ابن جنى والعكبرى فى العراق وشرح ابن المستوفى فى إربل وشرح أبى العلاء المعرى فى الشام وشرح الواحدى فى إيران وشرح الإفليلى وابن سيده فى الأندلس، غير شروح أخرى، وغير دراسات نقدية لا تكاد تحصى، وكأن ديوانه ليس ديوان بلد بعينه، وإنما هو ديوان الأمة العربية جميعها. وليس ذلك فحسب، فإن ابن هانئ الأندلسى توفى بعده بنحو ثمانية أعوام، وقد درس شعره وتمثل منهجه تمثلا تامّا، بحيث كان ينظم أشعاره على غراره، وبحيث سماه النقاد متنبى الأندلس. وكل ذلك يصور بقوة وحدة الشعور والفكر فى هذا العصر المتطاول عصر الدول والإمارات، وهى وحدة ظل الشعر كما ظل النثر، وظل الأدب كما ظل العلم، مرآتها الصافية.
وقد بدأنا حديثنا عن الجزيرة العربية بعرض الحياة السياسية لأقاليمها الأساسية
فى هذا العصر، وهى الحجاز ونجد واليمن وحضرموت وظفار وعمان والبحرين، وعرضنا مجتمعها البدوى والحضرى وما كان فيها من نحل شيعية وخارجية وما شاع فى نجد من الدعوة الوهابية، وما حفّ بذلك من زهد ونسك. وصوّرنا جداول الثقافة التى كانت تجرى فى كل مكان وما رافقها من نشاط العلوم اللغوية والإسلامية. كما صوّرنا نشاط العشر فى الأقاليم المختلفة للجزيرة وطوائفه المتقابلة من شعراء مديح ورثاء وفخر وهجاء وأهم شعراء الدعوات المختلفة من إسماعيليين وزيديين وخوارج ووهابيين، وبالمثل شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية. وأوضحنا ما كان من نشاط للكتابة فى نجد وغيرها من أقاليم الجزيرة وما كان من نمو كتابة الرسائل الديوانية والشخصية، ونمو الوعظ والمحاورات والرسائل الأدبية.
وبالمثل تحدثنا عن العراق وحياتها السياسية وما تعاقب عليها من دول وكيف أن مجتمعها كان يتألف من ثلاث طبقات: عليا مترفة، ووسطى على شئ من اليسار، ودنيا بائسة، وشيوع المذهب الإمامى الاثنى عشرى بها وشيوع الزهد والتصوف وطرقه، وما كان من نشاط الحركة العلمية بها وتأسيس جامعتى النظامية والمستنصرية ببغداد، وكثرة المدارس هناك مع ما كان فى المساجد من نشاط علمى واسع، بحيث أصبحت الثقافة-حتى الثقافة الفلسفية-غذاء شعبيّا عامّا. وتتكاثر ببغداد الندوات الفكرية، وتتكاثر الكتابات الفلسفية والطبية والعلمية، كما تتكاثر البحوث اللغوية والنحوية والنقدية، وتنشط الدراسات الإسلامية والتاريخية. ويكثر الشعراء فى العراق كثرة مفرطة وينظمون فى الرباعيات والموشحات. وتتقابل طوائفهم من شعراء مديح على رأسهم المتنبى إلى شعراء رثاء وهجاء وشكوى، وشعراء غزل وقد نفذوا إلى ضرب جديد من الشعر الوجدانى.
وبجانبهم شعراء لهو ومجون، وشعراء زهد وتصوف ومدائح نبوية، وشعراء فلسفة وشعر تعليمى، وشعراء شعبيون. ويتنوع النثر تنوعا واسعا، فمن نثر فلسفى إلى نثر علمى ومناظرات ووعظ وقصص ورسائل شخصية وديوانية، وتتألق أسماء طائفة من الكتاب النابهين.
وتحدثنا عن إيران وأحوالها السياسية والدول المتقابلة بها والمتعاقبة، وعن مجتمعها والطبقات التى كانت تكوّنه: العليا والوسطى والدنيا، وعن نشاط الشيعة بها: الزيدية والإمامية والإسماعيلية وما كان يسرى فيها من زهد وتصوف. وعرضنا الحركة العلمية بها والعناية بالمدارس والمكتبات وما حدث هناك من نشاط فى دراسة الفلسفة وعلوم الأوائل، وفى وضع المعاجم والبحوث اللغوية والنحوية والبلاغية والنقدية، وفى الدراسات
الإسلامية والكتابة التاريخية. ويزدهر الشعر بإيران فى القرنين الرابع والخامس للهجرة.
ويظل حيّا ناميا حتى القرن التاسع، ويتكاثر شعراء المديح والرثاء والفخر والهجاء والشكوى والغزل واللهو والمجون والزهد والتصوف والفلسفة والحكمة والأمثال وأصحاب الشعر الشعبى. ويتنوع النثر ويظهر فيه قصص صوفى كثير وقصص فلسفى بديع ويتكاثر كتّاب الرسائل الديوانية والشخصية، ويلمع فى كل دولة وإمارة غير كاتب بارع.
وهذه الدراسة المتشعبة لتاريخ الأدب العربى فى الجزيرة العربية والعراق وإيران طوال حقب ممتدة من العصر العباسى الثانى إلى العصر الحديث جعلتنى أرجع إلى كل ما استطعت من كتب التاريخ والجغرافية والثقافة والأدب شعرا ونثرا لأجمع منها المادة العلمية التى تتطلبها الدراسة. ورجعت إلى طائفة من كتب المحدثين من العرب والمستشرقين. وأعترف بأن عقبات كثيرة صادفتنى وخاصة فى المصادر والحصول عليها، وقلتها أحيانا فى بعض الجوانب. وقد حاولت جهدى أن أرسم المعالم الأساسية لتاريخ الأدب فى تلك الأقاليم أثناء هذه الحقب المتطاولة، ولا أزعم أننى استطعت أن أوفّى هذا الرسم حقه كاملا من الدقة والاستقصاء. والله ولىّ الهدى والتوفيق.
القاهرة فى أول يونية سنة 1980 م. شوقى ضيف