الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامس الهجرى، ومثلها فاطمة بنت أبى على الدقاق شيخ القشيرى فى التصوف، وعنها أخذ الحديث بنيسابور كثيرون (1). ومن محدّثات القرن الخامس أيضا كريمة (2) بنت محمد، وشهدة (3) بنت أحمد. وهن جميعا أدلة على ازدهار الحركة العلمية بإيران. ومن تتمة هذه الأدلة أن نجد العلماء منذ أوائل هذا العصر يحاولون فهرسة كتب المكتبة العربية، موزعين الكتب على علومها المختلفة، على نحو ما هو معروف عن فهرست ابن النديم، وربما كان أهم من ذلك أن نجد معاصره الخوارزمى أبا عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف يؤلف كتابا موسوعيا هو «مفاتيح العلوم» ويهديه إلى أبى الحسن العتبى وزير الأمير نوح السامانى الثانى (366 - 387 هـ.) وكان يعيش فى رعايته بنيسابور. والكتاب يشتمل على المصطلحات الفنية للعلوم وتفسيرها وتوضيح دلالاتها، وهو مقالتان: المقالة الأولى فى علوم الشريعة وما يتصل بها، والمقالة الثانية فى الفلسفة وعلوم الأوائل.
2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة
تحدثنا فى كتابى العصر العباسى: الأول والثانى عن ترجمة علوم الهند والفرس واليونان، وكيف أنها شملت ما لدى الفرس والهند من مصنفات فى الفلك والرياضيات وما لدى اليونان من مؤلفات فى الرياضيات والطبيعيات. وسرعان ما شارك العرب فى كل ما ترجموه، سواء فى النظريات الفلكية أو فى العلوم الطبيعية، وقد سارعوا فى نقل كتاب المجسطى لبطليموس الإسكندرى وهو فى الفلك والجغرافية ونقل كتاب الأصول لأقليدس فى الهندسة وكتب أرسطو فى علمى الحيوان والطبيعة وفى المنطق وكتب جالينوس وبقراط فى الطب، وترجموا أيضا لأفلاطون وغير أفلاطون كتبا مختلفة. وقد ذكرنا فى كتابى العصر العباسى أسماء المترجمين والنقلة من اللغات المختلفة وأشهر ما نقلوه وترجموه، وعرضنا ذلك كله عرضا مستفيضا. وأوضحنا مساهمة العرب مساهمة حية خصبة فى جميع الميادين العلمية، بحيث ظهر من بينهم أفذاذ فى الرياضيات دوّت شهرتهم فيما بعد فى عالم الغرب مثل محمد بن موسى الخوارزمى الذى يفتتح سلسلة الرياضيين العظام بين العرب، ومثل جابر بن حيان الكيميائى المشهور، ومثل محمد بن زكريا الرازى ذائع الصيت فى عالم
(1) السبكى 5/ 11.
(2)
السبكى 5/ 95.
(3)
السبكى 6/ 71، 73.
الطب الذى اكتشف فى وضوح فرق ما بين مرضى الجدرىّ والحصبة ووضع أسسا واضحة للطب النفسى. وكان طبيعيا بعد أن تعمق العرب علوم الأوائل وفلسفاتهم أن يصبح لهم بدورهم فلاسفة نابهون. ويلمع اسم الكندى فيلسوف العرب الأول لعصر المأمون، ويلمع بأخرة من العصر العباسى الثانى اسم فيلسوف كبير هو الفارابى الذى مزج فى فلسفته بين روحانية الإسلام وأفكار فلاسفة اليونان مزجا رائعا، مصطفيا لأمته نظريات فلسفية جديدة.
وبانتهاء العصر العباسى الثانى ينتهى عصر المترجمين العظام، وندخل فى عصر جديد هو عصر الفلسفة الإسلامية الخالصة والمشاركة العلمية الخصبة، أما الفلسفة فنبغ فيها اثنان من الفلاسفة الإيرانيين البارعين هما ابن سينا المتوفى سنة 428 والبيرونى المتوفى سنة 440 للهجرة.
وابن (1) سينا أكبر فلاسفة الإسلام، ويلقب بالشيخ الرئيس، وقد احتفظ ابن أبى أصيبعة بترجمة شخصية له كتبها بقلمه، وهو يصور فيها حياته حتى بلغ سن الثانية والثلاثين، وفيها يذكر أن أباه من أهل بلخ وأنه انتقل منها إلى بخارى فى أيام الأمير السامانى نوح بن منصور وتولّى التصرف للسامانيين بقرية خرميثن، وفيها ولد له ابنه سنة 370 وانتقل الأب مع أسرته إلى بخارى وعنى بتربيته فأحضر له معلما للقرآن ومعلما للأدب، وما بلغ العاشرة حتى كان قد حفظ القرآن، وأقبل على دراسة الفقه. ويذكر أن أباه كان إسماعيليا ولم يلبث أن أقبل على دراسة المنطق والهندسة والفلك على شخص متفلسف يسمى الناتلى، وكان يقرأ معه إيساغوجى وكتاب أقليدس والمجسطى، ويراه لا يفهمها حق الفهم فكان يشرحها لأستاذه. وأكبّ على علوم الأوائل والطب، وسرعان ما اشتهر وهو لا يزال غلاما فى السابعة عشرة من عمره. واستغلقت عليه الإلهيات حتى قرأ بالصدفة فيها كتابا للفارابى، حلّ له مستغلقاتها. وحدث أن مرض الأمير نوح بن منصور فاستدعوه لمعالجته بعد أن عجز الأطباء عن مداواته، ويكون شفاؤه على يديه، فيوظفه عنده ويغدق عليه
(1) راجع فى ابن سينا وترجمته صوان الحكمة للبيهقى ص 52 والقفطى ص 413 وابن أبى أصيبعة ص 437 وابن خلكان 2/ 157 وروضات الجنات ص 241 ولسان الميزان 2/ 291 وكتاب لكارادى فوعنه (طبع باريس) ومقالته عنه فى دائرة المعارف الدينية والأخلاقية نشر هيستنجر (أدنبرة 1909) 2/ 272 وبراون (ترجمة د. إبراهيم أمين الشواربى) ص 111، 121 وتاريخ الفلسفة فى الإسلام لدى بور ص 164 ودائرة المعارف الإسلامية وما بها من مراجع والعلم عند العرب لألدومييلى ص 197 وكتاب مؤلفات ابن سينا لفؤاد سيد ولقنواتى. وانظر ترجمته بقلمه وتعليقنا عليها فى كتابنا «الترجمة الشخصية» طبع دار المعارف ومقالا لنا عن لغة ابن سينا فى العدد رقم 691 من مجلة الثقافة، وهو عدد خاص بعيده الألفى.
من أمواله. ويستأذنه ابن سينا فى دخول مكتبة القصر ويأذن له فيجد فيها ما لا يحصى من الكنوز فى علوم الأوائل. ولم تلبث الدولة السامانية أن انهارت فترك بخارى إلى خوارزم، ونزل بعاصمتها «خيوة» عند أميرها مأمون مع من كانوا يلوذون برعايته مثل البيرونى. وسمع محمود الغزنوى بهذه الصفوة من العلماء والمتفلسفة والأطباء فى بلاط أمير خوارزم، فأرسل إليه فى طلبهم، كما مر بنا، وأبى ابن سينا أن يذهب إليه، وأخذ يتنقل فى بلدان إيران حتى وصل إلى جرجان وأميرها قابوس بن وشمكير، فأكرمه وأنزله منزلة عليا، حتى إذا قتل سنة 403 ولى وجهه نحو أصفهان وأميرها البويهى علاء الدين بن كاكويه. وظل هناك إلى أن أدركته الوفاة بهمذان سنة 428 هـ/1036 م وقبره معروف بها إلى اليوم.
وعند ابن سينا تمتزج الفلسفة اليونانية بالحكمة الشرقية والروح الإسلامية، ويلقّب بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابى، وأكثر مؤلفاته بالعربية، وله مؤلفات بالفارسية، وأيضا له قصائد فلسفية بجانب نثره الفلسفى، وله قصص فلسفية كقصة سلامان وأبسال وقصة حىّ بن يقظان ورسالة الطير. ومصنفاته تعدّ بالمئات، وأشهرها كتاب القانون فى الطب وكتاب الشفاء فى الإلهيات وعلوم الطبيعة والرياضيات. وكان الكتاب الأول عماد الغربيين فى دراساتهم الطبية بجامعاتهم حتى القرون القريبة، وقد ترجموه إلى اللاتينية، ويقال إنه طبع بها ست عشرة مرة فى القرن الخامس عشر الميلادى وعشرين مرة فى القرن السادس عشر. وكتاب الشفاء دائرة معارف كبرى تتناول كل فروع الفلسفة.
وابن سينا يتأثر بأرسططاليس، وحاول جاهدا أن يوفق بين آرائه وآراء أفلاطون والأفلاطونية الحديثة والإسلام. ونحا فى كثير من أفكاره نحو الفارابى، وهو يتفق معه فى تفاريع المنطق وفى الإلهيات وما ذهب إليه من أن المادة لا تصدر عن الله، لأنه منزّه عن كل مادة وكل جسم، والله واحد من كل وجه، فلا يصدر عنه كثير لا بالعدد ولا بالانقسام إلى مادة وصورة، وإلا اختلفت الجهات فى ذاته. وهو-لذلك-لا يصدر عنه إلا واحد هو العقل الأول. وعن هذا العقل يصدر عقل يدبّر الفلك (الملائكة) ومنه تصدر نفس كما تصدر مادة هى جرم الفلك، وأخيرا العقل الفعّال الذى تصدر عنه مادة الكائنات فى الأرض وصورها الجنسية كما تصدر النفوس الإنسانية. وطبيعى أن لا يرتضى أهل السنة والمعتزلة منه هذه الآراء. وإذا نحّيناها عن فلسفة ابن سينا وجدناه بعدها يحاول التوفيق بين فلسفته وبين القائلين بسلطان القضاء، فيقول إن كل ما فى الوجود خيرا كان أم شرا بقضاء الله وقدره على نحو ما توضح ذلك رسالته فى القدر. وكان يرى أن من الموجودات ما هو خير محض كالأمور العقلية والسماوية، ومنها ما يغلب عليه الخير كالوجود
الأرضى والشر فيه من طبيعته لأنه عالم كون وفساد.
وكان يذهب إلى أن العقل أعلى قوى النفس، وعنده أن النفوس تنقسم إلى مراتب أعلاها النفوس الكاملة التى تتمسّك بالمثل العليا وبالخير المحض الخالص وكان يعدّ الموت بطلانا للجسم، أما النفس فتبقى خالدة وعلى اتصال بالعقل الكلى، وسعادتها وشقوتها حينئذ ترجعان إلى اتحادها به قوة وضعفا. وفى ذلك يكون الثواب والعقاب.
ويخطو ابن سينا بفلسفته خطوة، فيمزجها بالتصوف الذى تفيض على المتصوف فيه اللذات الروحية فلا يرى فى الكون سوى مبدعه وجماله على نحو ما تصور ذلك قصتاه «حى ابن يقظان» و «سلامان وأبسال» وسنلمّ بهما فى الفصل الأخير. وفى الأولى يعود حى بن يقظان الفيلسوف إلى مورد المعرفة الصوفية الإلهية، بينما يتخلص أبسال فى الثانية من أغلال اللذات الحسية موغلا فى اللذات العقلية وما يطوى فيها من لذات الصوفية الروحية.
ويوضح ذلك فى كتابه الإشارات، فيقول عن الصوفى ويسميه العارف إنه المتصرف بفكره إلى قدس الله مستديما لإشراق نور الحق على نفسه، وهو يعبد الله لأنه مستحق للعبادة لا رهبة من عقابه ولا رغبة فى ثوابه.
والبيرونى (1) هو محمد بن أحمد المولود سنة 362 بضاحية من ضواحى خيوه عاصمة خوارزم تسمى بيرون، ولا نعرف شيئا واضحا عن نشأته، ويبدو أنه تلقن معارفه الأولى بخيوه، ولم يلبث أن اتجه إلى الرياضيات والفلك فحذقهما حذقا رائعا، وشغف فى أثناء ذلك بمعرفة أحوال البلدان والأمم، ولم يكد يتدرج فى العقد الثالث من عمره حتى بارح موطنه إلى طبرستان حيث عاش فى رعاية أميرها قابوس، وإليه قدّم أول كتبه:«الآثار الباقية عن القرون الخالية» الذى فرغ من تأليفه حوالى سنة 390 وقد صوّر فيه المناهج التاريخية والتقاويم الحسابية لكثير من الأمم المتحضرة وهو أول كتبه العظيمة، وقد طبعه سخاو فى ليبزج سنة 1878 وقدم له بمقدمة نفيسة عن البيرونى وأعماله ومكانته. وكان قابوس متقلبا، فخشى البيرونى على نفسه منه، وتركه إلى موطنه وأميره فيه «مأمون خوارزم» . وسمع به وبعلمه محمود الغزنوى، فطلبه من أميره، وأبدى البيرونى-فما
(1) انظر فى البيرونى تتمة صوان الحكمة للبيهقى ومعجم الأدباء 17/ 180 وطبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة ص 459 ومقدمتى سخاو للآثار الباقية وتحقيق ما للهند من مقولة وبراون 111، 121 وكاجورى فى تاريخ الرياضيات ومادة بيرونى فى دائرة المعارف البريطانية وكتاب العلم عند العرب لألدومييلى ص 188 وما بعدها ومقالتى بروكلمان وفيدمان عن البيرونى فى دائرة المعارف الإسلامية وتاريخ الأدب الجغرافى لكراتشكوفسكى (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) 1/ 245 وما بعدها.
يروى-رغبته فى الذهاب إليه، ويقال: بل ظل مع مأمون خوارزم حتى استولى محمود الغزنوى على دياره فصحبه فيمن أخذهم معه من علماء خوارزم لسنة 408 للهجرة. وكان البيرونى شيعيا ومحمود سنيا يضطهد الشيعة، فتحول البيرونى إلى مذهبه، وربما تحول إلى هذا المذهب قبل صحبته لمحمود. وكان محمود ماينى يغزو الهند على نحو ما مر بنا فى الفصل السابق، فكان يسير معه، ويظهر أنه أقام بها سنوات متصلة مكنته من دراستها دراسة علمية خصبة، تعلم فى أثنائها اللغة السنسكريتية وقرأ ما كتبه فيها علماؤها، ودرس فى عمق فلسفاتها ورياضياتها وعقائدها وتقاليدها وجملة معارفها فى التنجيم والتاريخ والفلك، وكل ذلك أودعه كتابه الرائع:«تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة» وقد أتمه سنة 423 بعد وفاة محمود الغزنوى بعامين. وفى الكتاب قطع بنصها لمؤلفين هنود، وفيه وصف جغرافى مفصل للهند وآرائهم الدينية والفلسفية ومعارفهم وتاريخهم وتقاليدهم وعاداتهم وأعيادهم وأنظارهم فى الفلك والتنجيم.
ويقارن مقارنات خصبة بين علومهم وعلوم العرب واليونان والفرس. ويعترف بتفوق المعرفة اليونانية لما تمتاز به من كمال المنهج ومن الدقة والعمق. ويقارن بين أديان الهند وأديان الكتب السماوية مقارنات دالة على تأمل دقيق فى الديانات وفلسفاتها، ويوسع تأمله ليشمل المانوية وغيرها من ديانات الفرس. وفى كل ذلك ينثر آراءه الأصيلة التى تدل على عقل متفلسف دقيق منتهى الدقة. ونراه يبين فى قوة وجوه التوافق بين الفلسفة الفيثاغورية الأفلاطونية والحكمة الهندية.
ومن مصنفات البيرونى كتابه القانون المسعودى فى الهيئة والتنجيم ألفه سنة 421 للسلطان مسعود بن محمود الغزنوى عقب وفاة أبيه وهو دائرة معارف فى الفلك والهندسة والتنجيم، وقد وصفه ياقوت بأنه يعفّى أثر كل كتاب، صنّف فى تنجيم أو حساب، ويقول البيهقى إنه غرة فى وجوه تصانيفه. وفى مقدمته يشيد بالسلطان مسعود الذى قدم إليه الكتاب وقد نشر فى حيدر آباد سنة 1953. وللبيرونى كتب أخرى، منها كتاب فى المعادن سماه الجماهر فى معرفة الجواهر، أهداه إلى السلطان مودود الغزنوى، ومنها كتب فى الطب وكتاب فى الصيدلة نشره ماكس مايرهوف فى برلين وكتب أخرى فى الطبيعيات. وفى الحق أنه شخصية فريدة فى تاريخ إيران العربية.
ويلحق بهذين الفيلسوفين العظيمين الشهر (1) ستانى أبو الفتح محمد بن أبى القاسم
(1) انظر فى الشهرستانى وترجمته ابن خلكان 4/ 273 وتذكرة الحفاظ 4/ 1313 والسبكى 6/ 128 والوافى بالوفيات 3/ 278 وشذرات الذهب 4/ 149 ومرآة الجنان 3/ 289 ولسان الميزان 5/ 263 وعبر الذهبى =
المتوفى سنة 548 وهو من شهرستان فى شمالى خوارزم، واشتهر بكتابه الفريد «الملل والنحل» الذى ألفه فى سنة 521 وهو فى علم مقارنة الملل والأديان. وكان تسامح المسلمين مع أهل الكتاب من قديم سببا فى نشأة هذا العلم نشأة مبكرة لدى العرب، فمنذ القرن الثالث الهجرى وهم يؤلفون فيه إلى أن ظهر البيرونى وألف كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة» الذى تحدثنا عنه آنفا، وقلنا إنه يبحث فيه مباحث دقيقة فى الديانات، وجاء بعده ابن حزم الأندلسى المتوفى سنة 456 وألف كتابه «الفصل فى الملل والأهواء والنحل» وخلفه الشهرستانى، فألف كتابه سالف الذكر عارضا فيه جميع الفرق الإسلامية وديانات أهل الكتاب وديانات غيرهم من أهل الشرك فى اعتدال وإنصاف وبصر نافذ، وهو لا يبارى فى دقته وذكائه وتمييزه بين المعتقدات والملل سواء تحدث عن عالمه الإسلامى أو عن عالم الفرس القديم ودياناته أو عن عالم الهند أو عالم اليونان.
وظلت طوال العصر دراسات علوم الأوائل ناشطة وفى مقدمتها الرياضيات والفلك، وقد تقدم العرب بهما فى مطالع هذا العصر خطوات على نحو ما يصوّر ذلك ألدومييلى فى كتابه العلم (1) عند العرب، ومن نابهيهم فى القرن الرابع الهجرى ممن تحدّث عنهم أبو الفتح محمود بن محمد الأصفهانى الذى نقح كتاب المخروطيات لأبولونيوس، وأبو جعفر الخازن الخراسانى، وله كتاب فى الفلك وصف فيه عددا من آلات الرصد الفلكية، وأبو الحسين الصوفى مؤلف كتاب الكواكب الثابتة، وهو محلّى بالرسوم، ويقول ألدومييلى إنه صحّح فيه كثيرا من أخطاء بطليموس، وانتفع بتصحيحاته علماء الفلك المحدثون. واطرد هذا النشاط العلمى فى القرن الخامس إذ نجد أبا الحسن على بن أحمد النسوى يؤلف بالفارسية كتابا فى اللوغارتمات ويترجمه إلى العربية بعنوان المقنع فى الحساب الهندى. ويشمل نظام الملك فى الدولة السلجوقية برعايته الكثير من العلماء الرياضيين، وفى مقدمتهم (2) عمر الخيام صاحب الرباعيات المشهورة، وله كتاب فذ فى علم الجبر رتب فيه-كما يقول ألدومييلى-الصور المختلفة للمعادلات ذات الدرجة الثانية والثالثة ترتيبا منظما، وقد عهد إليه نظام الملك بإصلاح التقويم، وبنى له مرصدا سنة 471 ويظن أنه إما كان فى مرو وإما فى أصفهان وإما فى نيسابور، وعيّن له ثمانية من علماء الفلك يساعدونه فأصلح التقويم
= 4/ 132 وروضات الجنات 186 وبراون ص 459 ودائرة المعارف الإسلامية.
(1)
انظر العلم عند العرب ص 212 وما بعدها.
(2)
راجع فى عمر الخيام وترجمته القفطى ص 243 وآثار البلاد للقزوينى (طبعة وستنفلد) ص 318 وبراون ص 304 وألدومييلى ص 214، 221 ودائرة المعارف الإسلامية.
وألف فيه كتابه «التاريخ الجلالى» نسبة إلى السلطان جلال الدين ملكشاه السلجوقى. ومن أشهر الرياضيين بعده نصير (1) الدين الطوسى المولود بطوس سنة 597 وقد تلقّفه الإسماعيليون لما رأوا من ذكائه، فأرسلوه إلى عاصمتهم «ألموت» وهناك وجد مكتبة نفيسة أكبّ على ما فيها من كتب الفلسفة والرياضيات، حتى إذا استولى هولاكو على تلك القلعة انتقل نصير الدين إلى خدمته، وكرّمه لما سمع من معرفته بالفلك والتنجيم، وصحبه فى هجومه على بغداد، وانتهز الفرصة فاستولى على كثير من كتبها النفيسة، وكوّن منها مكتبة ضمّت أكثر من أربعمائة ألف مجلد، كما يقول ابن شاكر فى كتابه فوات الوفيات. وساعده هولاكو فى بناء مرصد مدينة المراغة المشهور سنة 657 وعيّن معه فيه جماعة من صفوة العلماء الرياضيين، وظل نصير الدين قائما على هذا المرصد حتى وفاته سنة 673 وقد ألف زيجا أو قل تقويما أصلح به تقويم الخيام، وألف كتبا كثيرة فى التنجيم والفلسفة والرياضيات والطبيعيات. ومن أشهر تلاميذه قطب (2) الدين محمود بن مسعود الشيرازى المتوفى سنة 710 وكان رياضيا فلكيا، ومن كتبه:«نهاية الإدراك فى دراية الأفلاك» . ومنهم نجم (3) الدين على بن عمر الكاتبى المشهور باسم دبيران المتوفى سنة 675 وكان موظفا فى مرصد المراغة بأذربيجان واشتهر بكتاب فى المنطق سماه «الرسالة الشمسية فى القواعد المنطقية» وهى مشروحة مرارا. وظل مرصد المراغة مجهزا بأكمل الآلات حتى القرن الثامن الهجرى، وكانت العربية لا تزال فى إيران اللغة الأولى للعلوم، وإن أخذت تزاحمها الفارسية حتى ظفرت بها فى الحقب للتأخرة.
وعلى نحو ما نهضت العلوم الرياضية والفلكية نهضت العلوم الطبيعية والطبية، وكانت البيمارستانات تعدّ مدارس كبرى لتعليم الطب والنهوض به، ومن أهم الأطباء فى القرن الرابع الهجرى على (4) بن العباس المجوسى صاحب الكناش الملكى فى الطب، وقد أهداه إلى عضد الدولة البويهى، وكان يعاصره أبو (5) سهل المسيحى الذى ألف ما يشبه دائرة
(1) انظر فى نصير الدين الطوسى وترجمته فوات الوفيات لابن شاكر (نشر مكتبة النهضة المصرية) 2/ 307 وروضات الجنات ص 506 وشذرات الذهب 5/ 339 وبراون ص 615 وألدومييلى ص 289، 296 ودائرة المعارف الإسلامية، وقد نشرت له دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد سنة 1358 هـ مجلدين من رسائله ومقالاته.
(2)
راجع فى قطب الدين وترجمته الدرر الكامنة لابن حجر 4/ 339 والنجوم الزاهرة 9/ 213 وألدومييلى ص 298.
(3)
انظره فى فوات الوفيات 2/ 134 وألدومييلى ص 271.
(4)
راجع ألدومييلى ص 238 وما بعدها حيث يعرض مجموعة من الأطباء بينها على بن العباس وانظر القفطى ص 232 وبروكلمان 4/ 291
(5)
انظر فيه القفطى ص 408 وبروكلمان 4/ 294.
معارف طبية فى مائة مقالة. ولزين (1) الدين الجرجانى الطبيب المتوفى سنة 531 موسوعة طبية كتبها بالفارسية سماها «ذخيرة خوارزم شاه» وقد أهداها إلى الشاه الخوارزمى قطب الدين محمد. ويظل الاهتمام بالطب على توالى الحقب، وكذلك ظل الاهتمام بالصيدلة وعلم العقاقير، ويشتهر فى هذا العلم موفق (2) بن على الهروى فى القرن الرابع الهجرى، كما يشتهر فى الكيمياء الطغرائى الشاعر المشهور وزير السلطان السلجوقى مسعود، وله كتب كثيرة فى الكيمياء (3)، منها الجوهر النضير فى صناعة الإكسير. وللقزوينى (4) زكريا بن محمد المتوفى سنة 682 للهجرة كتاب طريف فى التاريخ الطبيعى سمّاه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» .
ومرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الثانى أن كتاب بطليموس الجغرافى وجّه العرب منذ الخوارزمى الرياضى محمد بن موسى إلى التأليف فى علم الجغرافيا أو تقويم البلدان، ونشط فيه التأليف نشاطا واسعا واتبع الجغرافيون العرب حينئذ منهجا طريفا فى وصف البلدان أن يعنوا بالحديث عن عادات الشعوب، ويقصّوا بعض ما سمعوه من الأعاجيب، مما جعل كتبهم الجغرافية تعتمد على المشاهدة وحكاية ما سمعه الجغرافى بأذنه ورآه تحت بصره، وبذلك أصبحت تشبه كتب الرحلات. ويلقانا فى القرن الرابع رحالة مشهور هو أبو دلف الخزرجى مسعر بن مهلهل شاعر الكدية الذى سنترجم له بين الشعراء الشعبيين، وعداده فى شعراء أصفهان، وأصله كما يبدو من لقبه من أهل المدينة، وله رحلة إلى بلاد آسيا الوسطى والشرقية قام بها سنة 333 للهجرة وقد نشرت منها وزارة التربية والتعليم المصرية قطعة، حققها المستشرق مينورسكى، وعنى الدكتور محمد منير مرسى بإعادة نشر هذه القطعة كما سيأتى فى الحديث عنه بين الشعراء وفيها يصف أبو دلف بعض مدن الشمال الغربى لإيران. وجاء بعده فى القرن الخامس الهجرى رحالة إسماعيلى، هو ناصر خسرو، وقد كتب رحلته بالفارسية فى كتابه المسمى «سفرنامه» واستغرقت منه الرحلة سبع سنوات (437 - 444 هـ.) طاف فيها ببلدان موطنه إيران والعراق والجزيرة العربية والشام ومصر، وهى تخرج عن حديثنا لأنها ليست باللسان العربى. وللإيرانيين بجانب هذه الرحلات البرية رحلات بحرية إذ كان ملاحوهم يتعمقون فى المحيطين الهندى والهادى،
(1) راجع فيه ألدومييلى ص 320.
(2)
ألدومييلى ص 239.
(3)
انظر فى نشاط الطغرائى الكيميائى ألدومييلى ص 239.
(4)
راجع فى القزوينى براون (ترجمة الدكتور الشواربى) ص 612 وألدومييلى ص 296 ودائرة المعارف الإسلامية وما بها من مراجع وتاريخ الادب الجغرافى لكراتشكوفسكى 1/ 360.