الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما قام معتدلا يهزّ قوامه
…
إلا وبانت خجلة فى البان
وفى الأبيات انسياب مع جمال التصوير، بل مع التصوير المفاجئ، إذ نراه يخاطب البرق المختفى مع السحاب عن ديار صاحبته بأن سحائب الأجفان ودموع العيون حرية أن ترويها ويقول إنه حفظ صاحبته فأضاعته، وأطاعها فعصته، ويعقد صلة بين طرفها وطرف السنان، فكلاهما يصمى ويقتل، ويذكر أن قوام صاحبته لا يشبه قوام شجر البان فى اعتداله فحسب، بل إنه حين يبصره شجر البان يسرى فيه خجل وحياء شديد لحسن قوامه بالقياس إليه وجمال استوائه ومن أبياته السائرة قوله من قصيدة:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
…
ولا الصّبابة إلا من يعانيها
ولن نستطيع أن نمضى فى عرض أشعار الغزلين لكثرتهم ونكتفى بالحديث عن
ابن المعلم
والحاجرى والتلعفرى، إذ هم أهم من نظم الغزل فى العصر، وقد استطاعوا النفوذ فيه إلى ضرب جديد من الشعر الوجدانى يكتظ بالشوق والوجد والحب المبرّح الذى يستأثر بالقلوب والأفئدة.
ابن المعلم (1)
هو أبو الغنائم نجم الدين محمد بن على المعروف بابن المعلم، ولد بقرية الهرث من أعمال واسط جنوبى العراق سنة 501 وتوفى بها سنه 592 واستيقظت موهبته الشعرية مبكرة، فقصد بشعره حكام بغداد وبها اصطدم بشاعرها سبط ابن التعاويذى بعامل التنافس.
وكان كلما ألم ببغداد لا يلبث أن يفارقها إلى مسقط رأسه، وفيه يقول العماد الأصبهانى فى الخريدة:«متقدم الهرث شعره الديباج الملمّع المعلم، طرازه المعنّى الممنّع المحكم، فلفظه السّوار ومعناه المعصم. . كلامه حلو حال، عال غال، صفو من الرّنق خال. . فأين مهيار من أسلوبه! لو عاش شرب من كوبه» . ويقول ابن خلكان: «كان شاعرا رقيق الشعر لطيف حاشية الطبع يكاد شعره يذوب من رقته. . وأكثر القول فى الغزل والمدح وفنون المقاصد، وكان سهل الألفاظ صحيح المعانى، يغلب على شعره وصف الشوق والحب وذكر الصبابة والغرام، فعلق بالقلوب واستشهد به الوعاظ واستحلاه السامعون» . وأتاحت له رقة شعره الوجدانى صلة وثقى بينه وبين أصحاب الشيخ أحمد
(1) انظر فى ترجمة ابن المعلم وأشعاره الخريدة (قسم العراق 4/ 2/430 وابن خلكان 5/ 5 والوافى بالوفيات 4/ 165 وعبر الذهبى 4/ 276 والشذرات 4/ 310 والنجوم الزاهرة 6/ 140 وانظر ص 102.
الرفاعى، فكانوا يتغنون بغزلياته، ويرونها معينا لا ينضب لاستثارة حبهم الصوفى، ويقول ابن خلكان: «سمعت جماعة من مشايخ البطائح (يريد أصحاب الرفاعى) يقولون:
ما سبب لطافة شعر ابن المعلم إلا أنه كان إذا نظم قصيدة حفظها الفقراء (المتصوفة) المنتسبون إلى الشيخ أحمد الرفاعى وغنوا بها فى سماعاتهم (يريد أذكارهم) وطابوا عليها، فعادت عليه بركة أنفاسهم. . وبالجملة فشعره يشبه النّوح، ولا يسمعه من عنده أدنى هوى إلا فتنه وهاج غرامه». وملاحظة ابن خلكان أن شعر ابن المعلم يشبه النّوح ملاحظة دقيقة توضح السبب الحقيقى فى تعلق طائفة الرفاعيين به، لما يحمل من كثرة الوجد ولوعاته وحرارته التى لا تنطفئ فى فؤاده أبدا، فهو دائما يريد الوصال، ولا وصال على طريقة الصوفية، بل فراق متصل، يشقى به المحب ويبكى وينوح ولا مغيث ولا مخلّص ولا معين ولا أمل فى لقاء أو ما يشبه اللقاء، يقول:
لو قضى من أهل نجد أربه
…
لم يهج نشر الخزامى طربه
علّلوا الصّبّ بأنفاس الصّبا
…
إنها تشفى النفوس الوصبه
فهى إن مرّت عليه نشرت
…
ما انطوى عنه وجلّت كربه
كلفى فيكم قديم عهده
…
ما صباباتى بكم مكتسبه
عن جفونى النوم من بعّده
…
وإلى جسمى الضّنا من قرّبه
فصلوا الطّيف إذا لم تصلوا
…
مستهاما قد قطعتم سببه
فهو لم يقض أربا من صاحبته، وذلك هو مصدر لهفته ولوعته، وإنه ليتمنى أن تمرّ به أنفاس الصّبا محمّلة بنشرها علّها تشفيه من أوصابه وأوجاعه وتنقذه من كربه العظيم، وإنه ليكلف بها أشد الكلف، كلفا كأنما فطر عليه، فهو يعذبه ويشقيه ويسهده ويضنيه، وإنه ليتمنى أقل التمنى: أن يرى طيف المحبوبة ولكن أنّى له، وهو لا ينام، بل يظل ليله-مثل نهاره-يحتمل ما لا يستطيع تحمله من آلام الحب الذى أصبح محنة، لا يستطيع قلبه أن يجد إلى التخلص منه سبيلا. وينشد له العماد قطعة من كلمة له سارت وأنجدت وغارت حتى شدا بها الشادى، وحدا بها الحادى، ووجد بها أرباب الغناء الغنى والوجد (1) وأصحاب القلوب الهوى والوجد، وهى مطلع لإحدى مدائحه وفيها يقول:
تنبّهى يا عذبات الرّند
…
كم ذا الكرى؟ هبّ نسيم نجد
مرّ على الروض وجاء سحرا
…
يسحب بردى أرج وبرد
(1) الوجد: اليسار والسعة
حتى إذا عانقت منه نفحه
…
عاد سموما والغرام يعدى
وا عجبا منى! أستشفى الصّبا
…
وما تزيد النار غير وقد
أعلّل القلب ببان رامة
…
وما ينوب غصن عن قدّ
وأسأل الرّبع ومن لى لو وعى
…
رجع الكلام أو سخا بردّ
أأقتضى النّوح حمامات اللّوى
…
هيهات ما عند اللّوى ما عندى
بانوا فلا دار العقيق بعدهم
…
دار ولا عهد الحمى بعهد
والقطعة تكتظ بحب محروم يلذع فؤاد صاحبه لذعا بنيرانه، وبينما هو فى آلامه وغصصه التى يتجرعها محزونا إذا نسيم نجد يهبّ محملا بشذى عطر، يرد الروح، وكأنه رحيق الحياة، غير أنه لا يكاد يعانق منه نفحة حتى يحس كأنما فارق كل ما كان به من برد ولطف وعاد سموما، بل سمّا. ويا للهول نسيم أرج بارد يصبح ريحا سموما ساخنا، وإنه ليزيد نار حبه وقدا واشتعالا، ويتلفت يسأل الربع عن محبوبته، وليس عند الربع من جواب، وإنه ليئنّ وينوح ويطلب من حمامات اللوى أن تنوح وتئن معه، فهو أولى من الّلوى بالأنين والنواح، إنه ليس عندها ما عنده من تباريح الغرام، فقد رحلت صاحبته، ولم تعد دار العقيق دارها ولا عهد الحمى بعهد لها. لقد ذهب منه كل شئ ولم يعد له إلا النواح والبكاء. وله من أخرى فى فنّها وحلاوتها وحسنها كما يقول العماد الأصبهانى:
أرقى وهو المحبّ المستهام
…
ما يداوى بالتعاويذ الغرام
قصرت عن برئه أيدى الأسا
…
كيف حسم الداء والداء عقام (1)
يا لديغ الحدق النّجل متى
…
تجد البرء وحاميه الحسام
ودواء الحب فى شوك القنا
…
مت لديغا كلّ درياق سمام
قل لنوّام الغضا عن ساهر
…
من تجافاه الهوى كيف ينام
غبتم بالشمس عن ناظره
…
والضّحى مثل الدّجى كلّ ظلام
فحبه مرض عضال لا يداوى بالتعاويذ والرّقى، وقد عجزت عن برئه وشفائه أيدى الأسا والطب والعلاج، إنه داء لا يمكن الخلاص منه، وإنه للديغ الحدق النّجل الساحرة، وكل درياق له أو دواء إنما هو سم فلا يدرى المصاب به أيشرب رحيقا شافيا أم سمّا قاتلا. ويتجه إلى أهل الغضا يشكو سهاده وجفاء محبوبه، فقد غابوا بشمسه عن
(1) الأسا: المداواة والعلاج. عقام: لا يشفى منه.