المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - الزهد والتصوف - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٥

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌القسم الأولالجزيرة العربيّة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - أقاليم ودول وإمارات

- ‌اليمن ودولها

- ‌ حضرموت وظفار وتاريخهما

- ‌عمان وأمراؤها

- ‌البحرين ودولها

- ‌2 - المجتمع

- ‌3 - التشيع

- ‌4 - الخوارج: الإباضية

- ‌5 - الدعوة الوهابية السلفية

- ‌6 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل

- ‌علم الملاحة البحرية

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ القاسم بن هتيمل

- ‌أحمد بن سعيد الخروصىّ الستالىّ

- ‌علىّ بن المقرّب العيونى

- ‌عبد الصمد بن عبد الله باكثير

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌ التهامى

- ‌جعفر الخطّى

- ‌5 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ نشوان بن سعيد الحميرى

- ‌سليمان النبهانى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن القم

- ‌السلطان الخطّاب

- ‌عمارة اليمنى

- ‌2 - شعراء الدعوة الزيدية

- ‌يحيى بن يوسف النّشو

- ‌موسى بن يحيى بهران

- ‌على بن محمد العنسىّ

- ‌3 - شعراء الخوارج

- ‌أبو إسحق الحضرمىّ

- ‌ابن الهبينى

- ‌4 - شعراء الدعوة الوهابية السلفية

- ‌ محمد بن إسماعيل الحسنى الصنعانى

- ‌ابن مشرف الأحسائى

- ‌5 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌عبد الرحيم البرعى

- ‌عبد الرحمن العيدروس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وأنواعه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - رسائل ديوانية

- ‌3 - رسائل شخصية

- ‌4 - مواعظ وخطب دينية

- ‌5 - محاورات ورسائل فكاهية ومقامات

- ‌القسم الثانىالعراق

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - البويهيون والسلاجقة والخلفاء العباسيون

- ‌2 - الدول: المغولية والتركمانية والصفوية والعثمانية

- ‌الدولة المغولية الإيلخانية

- ‌الدولة الصفوية

- ‌الدولة العثمانية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - كثرة الشعراء

- ‌2 - رباعيّات وتعقيدات وموشحات

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ المتنبى

- ‌ سبط ابن التعاويذى

- ‌ صفى الدين الحلى

- ‌4 - شعراء المراثى والهجاء والشكوى

- ‌ السرى الرفاء

- ‌5 - شعراء التشيع

- ‌ الشريف الرضى

- ‌مهيار

- ‌ابن أبى الحديد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن المعلم

- ‌الحاجرى

- ‌التّلعفرىّ

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ ابن سكرة

- ‌ابن الحجّاج

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن السّراج البغدادى

- ‌المرتضى الشّهر زورىّ

- ‌الصّرصرىّ

- ‌4 - شعراء الفلسفة والشعر التعليمى

- ‌ ابن الشّبل البغدادى

- ‌ابن الهبّاريّة

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌الأحنف العكبرى

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع النثر:

- ‌2 - كتّاب الرسائل الديوانية

- ‌5 - الحريرى

- ‌القسم الثالثإيران

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - دول متقابلة

- ‌الدولة السامانية

- ‌الدولة البويهيّة

- ‌الدولة الزّياريّة

- ‌الدولة الغزنوية

- ‌2 - دول متعاقبة

- ‌دولة السلاجقة

- ‌الدولة الخوارزمية

- ‌الدولة المغولية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم التفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر العربى على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ على بن عبد العزيز الجرجانى

- ‌الطّغرائىّ

- ‌الأرّجانى

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌5 - شعراء الهجاء والفخر والشكوى

- ‌الأبيوردىّ

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ أبو بكر القهستانى

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ عبد الكريم القشيرى

- ‌ يحيى السهروردى

- ‌4 - شعراء الحكمة والفلسفة

- ‌ أبو الفضل السكرى المروزى

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌أبو دلف الخزرجى: مسعر بن مهلهل

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - كتّاب الرسائل

- ‌قابوس بن وشمكير

- ‌رشيد الدين الوطواط

- ‌3 - ابن العميد

- ‌خاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌5 - الزهد والتصوف

فيه أو قل يشترط فيه أن يكون فقيها، ولكن دون تصور علم لدنّى يهبط عليه. واشترطوا فى الإمام أن يكون كريما سمحا عادلا شجاعا. ونهوا عن ذم الصحابة وأبى بكر وعمر، لأنهم لم يبايعوا عليا بالخلافة، وجوّزوا إمامة المفضول من غير ذرية على بن أبى طالب على الأفضل من ذريته. وعقيدتهم بذلك لا تبعد كثيرا عن عقيدة أهل السنة ولذلك كان يقال من قديم إنهم أكثر الفرق الشيعية إنصافا واعتدالا (1).

‌5 - الزهد والتصوف

كانت موجة الزهد فى هذا العصر لا تقل حدة واتساعا عنها فى العصور السابقة، ومعروف أن القرآن دعا إليه مرارا كما دعا الرسول فى أحاديثه النبوية إلى الزهد فى عرض الحياة الدنيا وطلب ما عند الله من ثواب الآخرة، وبذلك كان الزهد من طوابع الحياة الإسلامية المستقرة فى الأمة. وأخذت تتكون منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم طبقات كثيرة من الزهاد المتقشفين الذين ينبذون وراء ظهورهم مباهج الحياة ويتجردون لعبادة ربهم.

ونراهم فى هذا العصر بكل بلد من بلدان العالم الإسلامى يعدّون بالعشرات بل بالمئات، ويمكن أن نسلك فيهم بصفة عامة طبقات الفقهاء، فمن يقرأ فى طبقات الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يجد المترجمين لهم يسوقون أخبارا كثيرة عن مدى ما كان يأخذ به الفقهاء من كل مذهب أنفسهم من التقشف وطمأنينه النفس القانعة مع ما يذكر من أن هذا الفقيه أو ذاك اعتكف فى بيت الله خمسين سنة أو أنه صام حياته أو أنه صام خمسا وسبعين سنة. وتسوق كتب التاريخ أسماء زهاد كثيرين ومن يرجع إلى المنتظم لابن الجوزى وابن الأثير وابن تغرى بردى سيراهم يذكرون فى وفيات السنوات أسماء كثرة من الزهاد، فمثلا فى سنة 348 توفى جعفر بن حرب وكان فى نعمة كبيرة، فاجتاز يوما بموكبه، فسمع قارئا يقرأ:{(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)} فصاح: بلى والله قد آن، ونزل عن دابته وفرق جميع أمواله ولزم العبادة حتى مات. وفى نفس السنة توفّى عالم زاهد كان يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف ويترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة تصدق بذلك الرغيف وأكل تلك اللقم التى استفضلها. وفى سنة 384 توفّى

(1) الشهرستانى 1/ 154.

ص: 269

أبو العباس عبد الله بن محمد، وكان قد ظل سبعين سنة ناسكا عابدا لايستند إلى حائط ولا إلى وسادة أو غيرها. وكانوا يكرهون فى الزاهد أن يتولى عملا للسلطان يكسب منه مالا (1)، وكانوا إذا عرفوا أن طعام شخص من مال أخذه من السلطان امتنعوا من أكله (2). وكانت موجة الزهد عامة فكثيرا ما نقرأ عن هذا الخليفة أو ذاك أنه كان زاهدا، وبذلك اشتهر الخلفاء القادر والمسترشد والقائم، ويقال عن الأخير إنه كان فى وجهه أثر صفرة من قيام الليل (3). وكان من الوزراء وأبنائهم من يرجعون إلى أنفسهم فينصرفون عن الدنيا ومتاعها الزائل إلى عبادة الله وما عنده من الثواب الآجل، ويروى عن سليمان بن الوزير نظام الملك، وكان يتولى المدرسة النظامية التى بناها أبوه ببغداد، كما مر بنا، أنه كان يحضر مواعظ ابن الجوزى واعظ بغداد المشهور، فأخذه الوجد يوما. فقام وأشهد ابن الجوزى والناس من حوله أنه قد أعتق جميع ما يملك من الرقيق، ووقف ما يملك على أعمال البر (4). ويبدو أن كثيرين كانوا يبالغون فى الزهد، حتى ليفرضون على أنفسهم العبادة ليل نهار، بل حتى لينصرفون عن الحياة الزوجية ويمتنعون منها. وكل ذلك مغالاة فى الزهد لا يرضاها الإسلام، الذى لا يريد للزاهد أن ينفصل عن المجتمع والحياة، وقد روى أن جماعة من الصحابة كانوا فى سفر أثنوا للرسول عليه السلام على رفيق لهم كان لا يزال داعيا ربه فى ركوبه مصليا له فى نزوله فقال لهم «فمن كان يكفيه علف بعيره وإصلاح طعامه؟ قالوا: كلنا، قال: فكلكم خير منه (5)». فالزهد الإسلامى ينكر إهمال الشخص لشئونه الدنيوية، كما ينكر بقوة فكرة العزوبة المعروفة عند رهبان النصارى (6). ونرى ابن الجوزى يحمل حملة شعواء على الزهاد الذين يمتنعون عن الزواج ونظرائهم الذين يمضون الليل والنهار فى العبادة والنسك وقد نحلت أجسامهم وشحبت ألوانهم ودقت عظامهم، حتى إنهم لا يستطيعون الصلاة واقفين، بل يصلون من قعود.

ويقول إن هذا كله مخالف للشريعة والسنة (7).

(1) النجوم الزاهرة 5/ 117.

(2)

النجوم 5/ 57.

(3)

النجوم 5/ 98.

(4)

الحوادث الجامعة والتجارب النافعة فى المائة السابعة (طبع بغداد) ص 124 وانظر تاريخ العراق فى العصر العباسى الأخير لبدرى فهد ص 397.

(5)

أعلام النبوة للماوردى (طبع القاهرة) ص 153 وراجع طبقات ابن سعد ج 3 ق 1 ص 287 وج 4 ق 2 ص 9.

(6)

انظر عيون الأخبار لابن قتيبة (طبع دار الكتب المصرية) 4/ 18 وروض الرياحين لليافعى (طبع القاهرة) ص 38.

(7)

صيد الخاطر لابن الجوزى (طبع القاهرة) ص 138.

ص: 270

وكان طبيعيّا أن يتحوّل كثير من الزهاد إلى متصوفة، لا يكتفون بالإعراض عن ملاذ الدنيا وطيباتها قانعين من الطعام بالكسرة ومن الثياب بالخرقة، لا يشغلهم مال ولا زوجات ولا أولاد. وقد أخذت تبنى لهم الرّباطات والخانقاهات فى العالم الإسلامى، تبنيها الدولة أحيانا، ويبنيها ذوو اليسار ابتغاء وجه الله أحيانا أخرى. وكان ما بها من طعام يأتى عن طريق الصدقات أو عن طريق ما يحبس عليها من الأوقاف، ولم يكن يسمح بالأكل من هذا الطعام إلا للعابد الناسك نسكا لا يستطيع معه كسب قوته أو إلا إذا أصبح من الشيخوخة بحيث تقعده عن العمل، وبذلك لم يكن يؤذن لعاطل بالأكل من هذا الطعام. وكان فى الأربطة والخانقاهات مجاميع من الشيوخ والشباب أصحاب الخلوة. وعادة كان لكل رباط شيخ كبير يصبح كل من فيه من أتباعه. والمحور الأساسى للتصوف هو محبة الله محبة يفنى فيها الصوفى المحبّ فى الحقيقة المطلقة حقيقة الكائن الإلهى، وقد أخذ يتداخل غلو كثير فى هذه العقيدة، ومرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الثانى أنه بلغ من غلو الحلاّج فى هذه العقيدة أن جرى على لسانه كلمات وأشعار كثيرة تصرّح بفكرة الحلول من مثل قوله:«أنا الله وأنا الحق» مما جعل الفقهاء يفتون بزندقته وقتله. غير أن هذا الغلو لم يمت بموت الحلاج، بل لقد رافقه غلو آخر عند بعض الصوفية لعله أكثر عنتا إذ ذهب فريق منهم إلى أنه ينبغى أن يظهروا للناس أنهم لا يعملون بشرائع الإسلام وإن كانوا يعملون بها فعلا، وهم المسمون بالملامتيّة أى المستحقين للوم، مبتغين من ذلك أن يكونوا محل احتقار وازدراء حتى يبلغوا مرتبة عليا من التصوف والانصراف عن الدنيا.

وكثير من الصوفية أخذوا يعلنون أنه لا عبرة بأداء الفرائض الدينية أو كما يسمونها عمل الجوارح، إنما العبرة بعمل القلب. وكل هذا انحراف بالتصوف عن منهجه الصحيح.

وكان ذلك سببا فى أن تنشأ حرب عاصفة منذ أوائل هذا العصر بين الفقهاء من جانب والمتصوفة من جانب آخر، فكان الفقهاء يرونهم خارجين على الإسلام بما يشيعون من أفكار الحلول وما يتصل بها وبما يأخذ بعضهم به أنفسهم من القعود عن أداء فرائض الإسلام، قاطعين بذلك كل سبب بينهم وبين دينهم الحنيف. وتفاقمت الحرب بين الطرفين بحيث أصبحت هناك ضرورة أن يوجد بعض المتصوفة المصلحين الذين يعيدون الأمر إلى نصابه، حتى لا يخرج التصوف عن حدود الشريعة. وسرعان ما ظهر أبو نصر السرّاج الصوفى الطوسى المتوفى سنة 378 وألف كتابه «اللمع» وفيه ينكر على الصوفية كل انحراف فلسفى وشطح صوفى يؤدى إلى نظرية الحلول، كما ينكر تعطيل الفرائض الدينية ويجعلها جزءا لا يتجزأ من التصوف، فبدونها لا يتحقق له وجود. وحمل أفكاره تلميذه أبو عبد

ص: 271

الرحمن السّلمىّ صاحب طبقات الصوفية، ولقّنها بدوره تلميذه عبد الكريم القشيرى المتوفى سنة 465 وقد ألف رسالة طويلة مشهورة رأب بها هذا الصدع الذى حدث بين الفقهاء والمتصوفة. ودوّت الرسالة منذ عصره فى العالم الإسلامى، وهو فيها يرسم مبادئ التصوف مبينا أنها لا تناقض الدين الحنيف بل تتحد معه فى وئام، ويعرض أعلام الصوفية مع طائفة من أقوالهم التى تربط بين التصوف والنهوض بفرائض الإسلام مع حملة شعواء على من يستخفّون بالصوم والصلاة وأداء الفروض الدينية وعلى من لا يميّزون بين الحلال والحرام مدّعين أنه زالت عنهم أحكام الدين. وخلفه أبو حامد الغزالى حجة الإسلام المتوفى سنة 505 فوصل بين التصوف والشريعة وصلا وثيقا لم يصبه وهن بعده، بحيث أصبح التصوف فى صورته العامة سنّياّ، وحقا انفصلت عنه بعض أسراب فلسفية استمرت فيها فكرة الحلول، ولكنها أسراب فردية على نحو ما هو معروف عن ابن عربى وابن سبعين الأندلسيين. أما بعد ذلك فقد عم التصوف السنى على نحو ما رسمه الغزالى فى كتابه «إحياء علوم الدين» وهو فى النصف الأول منه يتحدث عن الفرائض الدينية والنوافل من مثل الذكر وتلاوة القرآن والتهجد والأدعية. ويبدأ الحديث فى النصف الثانى بما ينبغى من صفاء القلب صفاء تقهر فيه النفس شهواتها وملاذها. ثم يتحدث عن صفات الكمال الروحى الذى يتطلبه الصوفى وما ينبغى له من التوبة والصبر والشكر والخوف والرجاء والزهد والتوكل والحب والإخلاص والمحاسبة والتفكر وتذكر الموت وما وراءه. وسنعود إلى الكتابة عن الغزالى والقشيرى وأبى نصر السراج الطوسى فى القسم الخاص بإيران. وسرعان ما أصبح هذا التصوف السنى القائم على أعمال الجوارح من الفرائض الدينية وأعمال القلب من الإخلاص وصدق المحبة الإلهية مطلب كثرة من الناس فى العالم الإسلامى جميعه. والغزالى لا يضع أصوله فحسب، بل يعدّ العدة لكى تشيع الطرق الصوفية فيه، فقد تحدث فى الجزء الثالث من الإحياء عن الشيخ الصوفى وتلميذه أو مريده، وقال إنه ينبغى أن يلزم شيخه لزوم الأعمى الماشى على شاطئ النهر لمن يقوده، ويقول: على الشيخ أن يدفعه إلى الخلوة والصمت والصوم والأرق مع دوام الذكر ومع التخلص من كل الشهوات. وسرعان ما أخذت الطرق الصوفية فى الظهور، ومن أقدمها الطريقة القادرية المنسوبة إلى الشيخ محيى الدين أبى محمد عبد القادر (1) الجيلانى مولدا الحسينى نسبا المتوفى سنة 561 وقد ولد بجيلان سنة 471 وجاء إلى بغداد فى شبابه ولزم حلقات الفقهاء والمحدّثين، ثم أخذ يعظ

(1) انظر فى الجيلانى الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب والنجوم الزاهرة 5/ 371 وتلخيص مجمع الآداب لابن الفوطى (طبع لاهور) 5/ 381.

ص: 272

الناس بعد سنة 520 وبنيت له مدرسة فلزمها وتكاثر الناس على سماع وعظه إلى أن لبّى نداء ربه، ويقول عنه ابن تغرى بردى:«كان ممن جمع بين العلم والعمل أفتى ودرّس ووعظ سنين، وكان محققا صاحب لسان فى التحقيق وبيان فى الطريق، وهو أحد المشايخ الذين طنّ ذكرهم فى الشرق والغرب» . وله كتابان مطبوعان يصوران طريقته هما سر الأسرار والغنية لطالبى طريق الحق، وهو فيهما يدعو إلى التمسك بالشريعة الإسلامية وأداء الفرائض الدينية مع الخلوص للمحبة الإلهية. وقد وضعت فى مناقبه كتب كثيرة، منها كتاب بهجة الأسرار ومعدن الأنوار فى مناقب القطب الربانى سيدى محيى الدين أبى محمد عبد القادر الجيلانى، وهو مطبوع بالقاهرة.

ومن الطرق الصوفية العراقية التى ذاعت فى العالم الإسلامى الطريقة الرفاعية المنسوبة إلى الشيخ الصالح العربى الأصل أبى العباس أحمد (1) بن أبى الحسن على المعروف بالرفاعى «إمام وقته فى الزهد والصلاح والعبادة» وقد شاعت طريقته فى عصره وكثر أتباعه. ويقال إن شخصا زاره فى ليلة النصف من شعبان، فوجد عنده نحو مائة ألف إنسان «وكان متواضعا مجرّدا من الدنيا». وكان مولده سنة 500 ووفاته سنة 578. ومن قوله:«سلكت كل طريق، فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الذل والافتقار والانكسار لتعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله والاقتداء بسنّة سيدى رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

وله كتاب سماه «حالة أهل الحقيقة مع الله» حققه وقدم له محمد نجيب خياطة، وهو مطبوع بحلب، وقد بناه الرفاعى على أحاديث نبوية، وكثير منها يتصل بالمحبة الربانية ومعرفة الله ووصف المتصوفة أهل الحقيقة، وقد سئل أحد أتباعه عن ورده، فقال: كان يصلى أربع ركعات بألف {(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)} ويستغفر كل يوم ألف مرة، واستغفاره أن يقول:{(لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ)} عملت سوءا وظلمت نفسى وأسرفت فى أمرى، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لى، وتب علىّ، إنك أنت التواب الرحيم، يا حىّ، يا قيوم، لا إله إلا أنت» -ويقول ابن خلكان: لأتباعه أحوال عجيبة من أكل الحيات وهى حية والنزول فى التنانير وهى تتضرّم نارا فيطفئونها، ومثل هذا وأشباهه.

وبجانب هاتين الطريقتين العراقيتين: الرفاعية والقادرية كان هناك أقطاب للصوفية

(1) راجع فى الرفاعى مرآة الزمان 8/ 370 والشذرات 4/ 259 والنجوم الزاهرة 6/ 92 وطبقات السبكى (طبعة عيسى البابى الحلبى) 6/ 23: وابن خلكان 1/ 171 وطبقات الشعرانى 1/ 140.

ص: 273

كثيرون من أمثال المرتضى الشهرزورى، وشهاب الدين أبو حفص (1) عمر السّهروردى البغدادى، وهو تلميذ عبد القادر الجيلانى، وله كتاب يسمى عوارف المعارف يوضح فيه ما يجب على المتصوف من أداء الفرائض الدينية ومتابعة السنة النبوية، ومن أطرف ما فيه الحديث عن المريد وشيخه وأنه ينزل منه منزلة الولد من أبيه. ويتحدث عن المدة التى يقطعها المريد حتى يتهيأ لانتظامه فى طريقة شيخه ويصبح معداّ أو مهيّأ لأن يخلع عليه «الخرقة» شعار الصوفية وهى ترمز رمزين: رمزا إلى أن المريد تلاشت إرادته فى إرادة شيخة، ورمزا ثانيا إلى أنه قد تسلم منه الخرقة ويد الله ورسوله فوق يد شيخه وأنه قد تم له الإذن بانتظامه فى الطريقة. ويقول السهروردى إن «المريد الصادق إذا دخل تحت حكم الشيخ وصحبه وتأدب بآدابه يسرى من باطن الشيخ حال إلى باطن المريد كسراج يقتبس من سراج، وكلام الشيخ يلقح باطن المريد. . . وينتقل الحال من الشيخ إلى المريد بواسطة الصحبة وسماع المقال» (2). ويتحدث السهروردى عن آداب الخلوة اللازمة للمتصوف، ويقول إن الخلوة تستغرق أربعين يوما من كل عام، تقضى فى الصلاة والصيام، ويذكر أن الغرض منها تصفية النفس وإزالة الحجب البدنية، ولذلك ينبغى على المريد إذا أراد الخلوة أن يجرد نفسه من العالم ومن كل ملكه، ويصلى ركعتين ويتوب إلى الله توبة نصوحا، ويبكى ويتضرع إليه ولا ينقطع عن ذكره طوال خلوته (3). وكان على المريد أن ينشر طريقة شيخه فى المدن والقرى بكل ما يستطيع، وبذلك أمكن للطريقتين القادرية والرفاعية أن ينتشرا لا فى العراق فحسب بل أيضا فى كل العالم الإسلامى.

ومنذ القرن الخامس الهجرى أخذ يشيع فى التصوف وبين المتصوفة ما سمّى بالذكر، وهو أن يتقابل الصوفية فى صفين ذاكرين الله مع التمايل يمينا وشمالا، ويقوم بين الصفين منشد ينشد بعض الأشعار الصوفية أو الغزلية الوجدانية التى تدلع المحبة الإلهية فى القلوب، وقد عمّ هذا الذكر عند القادرية والرفاعية وما نشأ بعدهما من طرق صوفية. ولابدّ أن نلاحظ أنه أخذت تنشأ فى الحقب المتأخرة من هذا العصر أو قل منذ أواسطه جماعات الدراويش، وهم صوفيون متجوّلون كانوا يطوفون العالم الإسلامى، وأخذت تظهر بينهم

(1) انظر فى ترجمته ابن خلكان 3/ 446 وعبر الذهبى 5/ 129 وطبقات الشافعية 8/ 338 ومرآة الزمان 8/ 679 والنجوم الزاهرة 6/ 284.

(2)

انظر كتابه عوارف المعارف (طبع دار الكتاب العربى ببيروت) ص 96، وينسب الكتاب خطأ إلى عمه عبد القاهر بن عبد الله السهروردى.

(3)

عوارف المعارف ص 221.

ص: 274

فى القرن الثامن الهجرى وما بعده فرقتان اشتهرتا، هما النّقشبندية، وقد رعاها تيمور لنك فى دولته، والبكطاشية، وقد نشأت فى جو الشيعة الإمامية، بدلالة تقديسها للأئمة العلويين، وهى تعتنق إلى حد ما نظرية الحلول، ويقال إن بعض معتنقيها لم يكونوا يهتمون بالشعائر الدينية، ولكن مما لا شك فيه أنها كانت طريقة صوفية تقوم على التقشف، واشتهر عنها تقديس الأولياء.

وفرق صوفية كثيرة أو قل طرق صوفية كثيرة أخذت تتفرع عن الرفاعية والقادرية بجانب طرق جديدة نشأت بدورها، وكان لهذه الطرق وأتباعها من الدراويش السائحين أو الجوالين أثر بعيد فى نشر الإسلام بشرقى إفريقيا وغربيها ووسطها، وأيضا بالهند والملايو وجزر الهند الشرقية، وكان لهم دور عظيم فى أن تظل للعالم الإسلامى وحدته على الرغم من توزعه بين دول شتى، وكذلك كان لهم دور عظيم فى بث الروح الدينية فى نفوس العامة على مر الحقب حتى اليوم.

ص: 275