المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - المجتمع - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٥

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌القسم الأولالجزيرة العربيّة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - أقاليم ودول وإمارات

- ‌اليمن ودولها

- ‌ حضرموت وظفار وتاريخهما

- ‌عمان وأمراؤها

- ‌البحرين ودولها

- ‌2 - المجتمع

- ‌3 - التشيع

- ‌4 - الخوارج: الإباضية

- ‌5 - الدعوة الوهابية السلفية

- ‌6 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل

- ‌علم الملاحة البحرية

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ القاسم بن هتيمل

- ‌أحمد بن سعيد الخروصىّ الستالىّ

- ‌علىّ بن المقرّب العيونى

- ‌عبد الصمد بن عبد الله باكثير

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌ التهامى

- ‌جعفر الخطّى

- ‌5 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ نشوان بن سعيد الحميرى

- ‌سليمان النبهانى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن القم

- ‌السلطان الخطّاب

- ‌عمارة اليمنى

- ‌2 - شعراء الدعوة الزيدية

- ‌يحيى بن يوسف النّشو

- ‌موسى بن يحيى بهران

- ‌على بن محمد العنسىّ

- ‌3 - شعراء الخوارج

- ‌أبو إسحق الحضرمىّ

- ‌ابن الهبينى

- ‌4 - شعراء الدعوة الوهابية السلفية

- ‌ محمد بن إسماعيل الحسنى الصنعانى

- ‌ابن مشرف الأحسائى

- ‌5 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌عبد الرحيم البرعى

- ‌عبد الرحمن العيدروس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وأنواعه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - رسائل ديوانية

- ‌3 - رسائل شخصية

- ‌4 - مواعظ وخطب دينية

- ‌5 - محاورات ورسائل فكاهية ومقامات

- ‌القسم الثانىالعراق

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - البويهيون والسلاجقة والخلفاء العباسيون

- ‌2 - الدول: المغولية والتركمانية والصفوية والعثمانية

- ‌الدولة المغولية الإيلخانية

- ‌الدولة الصفوية

- ‌الدولة العثمانية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - كثرة الشعراء

- ‌2 - رباعيّات وتعقيدات وموشحات

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ المتنبى

- ‌ سبط ابن التعاويذى

- ‌ صفى الدين الحلى

- ‌4 - شعراء المراثى والهجاء والشكوى

- ‌ السرى الرفاء

- ‌5 - شعراء التشيع

- ‌ الشريف الرضى

- ‌مهيار

- ‌ابن أبى الحديد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن المعلم

- ‌الحاجرى

- ‌التّلعفرىّ

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ ابن سكرة

- ‌ابن الحجّاج

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن السّراج البغدادى

- ‌المرتضى الشّهر زورىّ

- ‌الصّرصرىّ

- ‌4 - شعراء الفلسفة والشعر التعليمى

- ‌ ابن الشّبل البغدادى

- ‌ابن الهبّاريّة

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌الأحنف العكبرى

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع النثر:

- ‌2 - كتّاب الرسائل الديوانية

- ‌5 - الحريرى

- ‌القسم الثالثإيران

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - دول متقابلة

- ‌الدولة السامانية

- ‌الدولة البويهيّة

- ‌الدولة الزّياريّة

- ‌الدولة الغزنوية

- ‌2 - دول متعاقبة

- ‌دولة السلاجقة

- ‌الدولة الخوارزمية

- ‌الدولة المغولية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم التفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر العربى على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ على بن عبد العزيز الجرجانى

- ‌الطّغرائىّ

- ‌الأرّجانى

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌5 - شعراء الهجاء والفخر والشكوى

- ‌الأبيوردىّ

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ أبو بكر القهستانى

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ عبد الكريم القشيرى

- ‌ يحيى السهروردى

- ‌4 - شعراء الحكمة والفلسفة

- ‌ أبو الفضل السكرى المروزى

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌أبو دلف الخزرجى: مسعر بن مهلهل

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - كتّاب الرسائل

- ‌قابوس بن وشمكير

- ‌رشيد الدين الوطواط

- ‌3 - ابن العميد

- ‌خاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌3 - المجتمع

على حكم هؤلاء المماليك قضاء نهائيا. وبذلك تدخل بغداد والعراق فى الدور الثالث من أدوار الحكم العثمانى الذى أظلّ البلاد حتى سنة 1336 هـ/1918 م. ويمكن أن ندخل الشطر الأكبر من هذا الدور فى حقب العصر الحديث فى العراق، إذ هبّ جماعة من المصلحين فى تركيا يحاولون إصلاح أداة الحكم الفاسدة، واضطر السلطان عبد المجيد أن يصدر أمرا بإلغاء الاحتكارات والمصادرات وتحديد الضرائب على أسس قومية من العدالة.

وكان ذلك إيذانا بعصر جديد فى تركيا والولايات التابعة لها فى العراق وغير العراق، غير أن الولاة الذين تعاقبوا على العراق حتى سنة 1286 هـ/1869 م لم يصدروا عن ذلك فى حكمهم، فظل الظلام والفساد مخيّمين عليها إلى أن وليها مدحت باشا فى السنة آنفة الذكر، وكان معروفا بنزعته الإصلاحية وما قام به من خدمات عظيمة فى ولايته على بلغاريا. ولم يكد يستلم مقاليد الولاية فى العراق حتى نهض فيها بإصلاحات كثيرة فى إدارة الحكم، فألغى نظام الالتزام وردّ الأرض على الفلاحين العراقيين نظير أقساط محدودة، وأنشأ مطبعة لطبع الجريدة الرسمية وطبع الكتب، كما أنشأ طائفة من المدارس المهنية والعلمية النظرية، وبنى مستشفى كبيرا، ومدّ بها خطا للبرق، وأصلح نظام الموازين والنقود بحيث تعد ولايته بحق البدء الحقيقى للعصر الحديث فى العراق. وقد ظل العثمانيون فى العراق وبغداد قبله نحو ثلاثة قرون ونصف لم يعنوا فيها أى عناية بإصلاحات اجتماعية أو تعليمية أو اقتصادية.

‌3 - المجتمع

كان المجتمع فى بغداد والعراق يتألف من ثلاث طبقات: طبقة أروستقراطية، على رأسها الخليفة والسلطان الحاكم ويتلوهما حواشيهما من الوزراء والقادة والأمراء والولاة وكبار الموظفين والإقطاعيين، ويدخل فى هذه الطبقة بعض التجار الرأسماليين. وطبقة وسطى تتكون من صغار الموظفين والتجار والصناع والقضاة والعلماء ورجال الحسبة، وطبقة دنيا هى طبقة العامة من الزراع والخدم والرقيق وأصحاب الحرف. ويسلك أهل الذمة فى الطبقتين الأخيرتين عادة، إلا من ارتفع منهم إلى الوزارة، وكان ذلك يحدث نادرا كما حدث فى عهد عضد الدولة، فقد اتخذ له وزيرا نصرانيا، هو نصر بن هرون، الذى ترك له تدبير شئون فارس بينما كان وزيره المدبر لشئون بغداد والعراق المطهر بن عبد الله.

ص: 251

وكانت الطبقة الأولى تعيش فى رخاء بل فى ترف، لكثرة ما كان يصبّ فى حجورها من الأموال، عن طريق الضرائب التى كانت تؤخذ من الناس وكانت متعددة، فهناك ضرائب الزكاة على الزروع، وهناك ضرائب الصادرات والواردات التى تجبى على البضائع المنقولة وتسمى المكوس، وهناك ضرائب على الأسواق والحوانيت. وأهم من ذلك الضرائب أو الأموال التى كانت تؤخذ من أصحاب الإقطاعات وقد توسع فيها البويهيون ثم من خلفهم من السلاجقة والمسئولين على البلاد، إذ منحوها لكبار القواد، حتى قد يمنحونهم قرى برمّتها. وهذه الإقطاعات العسكرية هى التى كانت شائعة، وإحدى اثنتين إما أن تكون إقطاع تمليك يورث وعلى أصحابه دفع العشر للدولة، وإما إقطاع يستغلّ طالما كان صاحبه حيا، وكأنه كان منحة تعطى للقواد بدلا من رواتبهم. وكان كبار الموظفين والأثرياء من التجار وغيرهم يمتلكون الضياع ويدفعون عنها العشر ويلزمون بإصلاح القنوات التى تمرّ بأرضهم. وطبيعى أن كانت هناك ضياع سلطانية للخليفة وللأمير البويهى وللحاكم لبغداد. وكانت هناك أراض موقوفة لأغراض دينية كالإنفاق على المساجد أو على الجهاد أو على الفقراء أو على الحرمين. وكان القاضى هو الذى يشرف على إدارة الأراضى الموقوفة. وحدث أن صادر عضد الدولة أراضى السواد الموقوفة (1)، غير أن من بعده أعادوها إلى الوقف. وكان الوزراء كثيرا ما تصادر أموالهم حتى بعد وفاتهم كما حدث للمهلبى (2) وزير معز الدولة البويهى. وكانوا يصادرون أحيانا تركة بعض الإقطاعيين ذوى الثراء. ويروى أنه فى سنة 351 توفّى رجل اسمه دعلج تاركا ثلاثمائة ألف مثقال من الذهب فاستولى عليها معز الدولة، ولم يمسّ أى مسّ ما خلّفه من أوقاف.

على كل حال كانت موارد الدولة كثيرة، ومن أجل ذلك تعددت الدواوين التى يخزن فيها المال أو يجلب إليها مثل ديوان الإقطاع، وديوان الخراج، وديوان الأوقاف، وديوان الجوالى أو الجزية التى كانت مفروضة على أهل الذمة، وديوان الخلافة الذى كان ينفق على القصر ومماليكه وحجّابه وخدمه وحرسه وكانوا يعدّون بالمئات، وديوان التركات وكانت تؤخذ عليها ضريبة، ومن ليس له وارث كانت الدولة تستولى على تركته. ثم ديوان الزمام وهو الذى يشرف على مالية الدولة ونفقاتها وكل ما يتصل بشئونها المالية من رواتب ومن إعداد للجيوش. وكان الخلفاء العباسيون ينثرون الأموال نثرا على حواشيهم وفى أعراسهم، كما حدث فى زواج الخليفة الطائع لابنة بختيار، وكان صداقها مائة (3) ألف

(1) أبو شجاع ص 71.

(2)

مسكويه 6/ 258.

(3)

ابن خلكان (طبع دار صادر ببيروت) 1/ 267.

ص: 252

دينار. واتسع هذا الاحتفال بزواج الخلفاء من بنات الأمراء السلاجقة، ويروى أنه حين تزوج الخليفة المقتدى بنتا للسلطان ملكشاه نقل جهازها على 130 بعيرا فى موكب كبير كانت تدق فيه الطبول والبوقات وتنثر الأموال على الرعية (1). وبالمثل حين زفّت الخاتون ابنة ملكشاه إلى الخليفة المستظهر بالله سنة 504 زيّنت بغداد، وقد حمل جهازها 162 بعيرا و 27 بغلا (2) سارت فى شوارع بغداد بينما جماهير الناس رجالا ونساء يرقصون ويغنون مبتهجين. وكانت قصور الخلفاء تكتظ بالتحف وأوانى الذهب والفضة، ويروى أنه حدث حريق فى أواخر سنة 651 بدار الخلافة، فاستخرج بعد إطفائه من تلك الأوانى ما تزيد قيمته على مائتى ألف دينار، وسبقه حريق فى سنة 601 فبلغ ما احترق بالدار فيه أكثر من نصف مليون دينار (3).

وكانت نساء الخلفاء وجواريهم يبالغن فى زينتهن، حتى يقال إن زوجة الخليفة المستضئ كانت تزين نعالها باللآلئ الكبار (4)، فما بالنا بما كانت تتخذه وراء ذلك من الحلى والجواهر. ويقال أيضا إن جارية للمستنصر بالله بلغ من عنايتها بثيابها وزينتها أن صاحب ديوانها رصد ما أنفقته فى شهر للزراكشة والصاغة والبزّازين (تجار الملابس) والجوهريين، فإذا هو مائة ألف دينار ونحو خمسمائة ألف درهم (5). ويروى عن هذا الخليفة أنه نفح كبير حرسه علاء الدين الطيبرسى ليلة زفافه على ابنة الأمير بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مائة ألف دينار غير إقطاع كبير أهداه إليه (6)، ويقال إنه أحصيت فى عيد الفطر سنة 626 الخلع التى وهبها الطيبرسى لمماليكه وأتباعه فبلغت 1700 خلعة (7). فقصر الخلافة بل كلّ حواشى القصر كانوا يعيشون فى ترف شديد. وقل ذلك نفسه عن السلاطين وحواشيهم من البويهيين والسلاجقة والإيلخانيين ومن جاء بعدهم، وكانت الأموال تصبّ فى حجورهم وينفقون منها كثيرا على ترفهم وبذخهم. ويقال إن ميزانية الدولة بلغت فى عهد عضد الدولة نحو اثنين وثلاثين مليونا من الدنانير. وكان يعنى ببناء القصور وعمارتها، ويروى أن ميزانية الدولة فى عهد ملكشاه السلجوقى بلغت عشرين مليونا من الدنانير (8)، وكثير من الملايين المذكورة كان يتحول فى قصورهم إلى ترف ما بعده ترف،

(1) المنتظم لابن الجوزى 9/ 36 وانظر كتاب العامة البدرى فهد ص 213.

(2)

المنتظم 9/ 165.

(3)

دول الإسلام للذهبى (طبع حيدر آباد) 2/ 80.

(4)

انظر مضمار الحقائق وسر الخلائق لمحمد بن تقى الدين الأيوبى 123 - وراجع تاريخ العراق فى العصر العباسى الأخير للدكتور بدرى فهد (طبع بغداد) ص 382.

(5)

مضمار الحقائق 183 وبدرى فهد ص 382.

(6)

بدرى فهد ص 252.

(7)

بدرى فهد ص 383.

(8)

المنتظم 9/ 7.

ص: 253

وظل ذلك بقصور الخلفاء فى العهد الأخير من الدولة العباسية كما مر بنا آنفا. ولا شك فى أن شيئا كثيرا من التدهور أصاب بغداد بعد الغزو المغولى، إذ أصبحت مع ما يتبعها من العراق ولاية ضمن ولايات متعددة يدبّر شئونها الإيلخانيون ثم التيموريون ومن جاء بعدهم. ومعروف أن الإيلخانيين لم يتخذوا بغداد عاصمة لهم، بل كانت عاصمتهم تبريز ومدينة بنوها سموها السلطانية، وعاد حقا إلى بغداد شئ من النشاط فى عهد الشيخ حسن الكبير وأبنائه، بل قبل ذلك فى عهد بوسعيد، ولكن على كل حال لم يعد لها مجدها القديم، بل سرعان ما تردت فى هوة من فساد الحكم. وغزاها تيمور لنك وتولاها بعده أحمد بن أويس ثم قرا يوسف وأبناؤه ثم أوزون حسن كما أسلفنا، وأصبحت إحدى الولايات فى الدولتين الصفوية والعثمانية. وإذا كان ابن جبير زارها سنة 580 وقال إنه ذهب أكثر رسمها ولم يبق منها إلا شهير اسمها وإنها أصبحت كالطلل الدارس والأثر الطامس (1) فإن ابن بطوطة حين زارها سنة 728 فى عهد بوسعيد الإيلخانى أعاد إلى الأذهان كلام ابن جبير، وعلق عليه بقول أبى تمام. قائلا كأنه اطلع على ما آل إليه أمرها حين قال فيها:

لقد أقام على بغداد ناعيها

فليبكها لخراب الدّهر باكيها (2)

وبدون شك كانت حيوية بغداد أقوى من الخراب الذى أصابها مع غزو هولاكو ومع خروج صولجان الحكم منها فقد ظلت لها مسحة غير قليلة من عراقتها، وظلت منزلا للعلم والعلماء، بفضل ما كان يجبيه حكامها من حوض دجلة والفرات وما به من أشجار وزروع وثمار. وإذا كنا قد رأينا الخلفاء والحكام وحواشيهم يتنفسون حياة مترفة، فقد كان يتنفسها معهم الأشراف وكبار الموظفين والإقطاعيون والوزراء. وكان الأخيرون خاصة يدبرون شئون الدولة وتصير إليهم أموالها، فأثرى منهم كثير ثراء فاحشا، وغرقوا فى الترف والنعيم. ويلقانا فى أول العصر المهلبى وزير البويهيين، وكان يشتهر بمآدبه وكثرة ما كان يقدّم فيها من أصناف الطعّام والحلوى، وقالوا إنه كان «إذا أراد أن يأكل شيئا بمعلقة كالأرز واللبن وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجا مجرودا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة

(1) رحلة ابن جبير (طبعة ليدن) ص 217.

(2)

رحلة ابن بطوطة (طبع المطبعة الأزهرية) 1/ 139.

ص: 254

ثانية» (1). وفى هذا الخبر ما يدل على مدى الترف وما دخله من تعقيد فى الوسائل، فاللون من الطعام لا يؤكل بملعقة واحدة وإنما يؤكل بملاعق كثيرة. وأبعد من هذا الخبر دلالة على الترف الذى غرق فيه بعض الناس وكثرة ما كانوا ينفقون فيه ما يروى عن المهلبى أيضا من أنه «ابتيع له فى ثلاثة أيام ورد بألف دينار فرشت به مجالسه وطرح منه كمية كبيرة فى بركة عظيمة كانت فى داره، ولها فوّارات عجيبة يطرح الورد فى مائها وينفضه» (2) وإذا كان يشترى من الورد وحده فى ثلاثة أيام بألف دينار كى يزين به مجلسه وبركة قصره، فماذا اشترى لهذا القصر من السجاجيد والبسط والطنافس والستور وأنواع الوسائد والديباج والتحف. لا بد أن اشترى من ذلك كله بمئات الألوف. ولم يكن هذا شأنه وحده، بل كان أيضا شأن الوزراء جميعا وكبار الإقطاعيين والتجار. واشتهر بمجالس أنسه التى كان يعقدها بقصره ليلتين فى كل أسبوع، ويقول ابن خلكان:«كان يجتمع فيها عنده ندماؤه من الفقهاء والقضاة على اطراح الحشمة والتبسّط فى القصف والخلاعة، وهم القاضى أبو بكر ابن قريعة وابن معروف والقاضى التنوخى وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبى. فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذّ سماع الغناء وأخذ الطرب منهم مأخذه وهبوا ثوب الوقار للعقار وتقلبوا فى أعطاف العيش، بين الخفة والطيش، ووضع فى يد كل واحد منهم طاس ذهب فيه ألف مثقال، مملوء شرابا قطربّليّا أو عكبريا، فيغمس لحيته فيه، بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ويرشّ بعضهم بعضا، ويرقصون بأجمعهم، وعليهم الثياب المصبّغات ومخانق المنثور، فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم فى التوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء» (3).

وظل هذا الترف طويلا فى مجالس الوزراء والسلاطين والأمراء، واشتهر عضد الدولة بمجالس أنسه فى بغداد وغير بغداد وما كان بها من السماع وغناء الجوارى والمغنين وألوان الفاكهة والرياحين وأقداح الشراب، ويقال إنه غنّى يوما بأبيات للخليفة المطيع لله وكان قد لحنها، فلم يعجبه لحنه (4) وكأن الخلفاء وأبناء الخلفاء كانوا لا يزالون يضعون الألحان لبعض الأغانى كما مر بنا فى العصر العباسى الأول. وبدون ريب كان يعيش هذه المعيشة المترفة التى لا تخلو من خمر وغير خمر كبار القواد ورؤساء الدواوين والإقطاعيون وكبار التجار والموظفون. ويعرض محمد بن أحمد أبى المطهر الأزدرى-فى حكايته الطريفة عن

(1) معجم الأدباء 5/ 153 وانظر الفن ومذاهبه فى الشعر العربى ص 279.

(2)

معجم الأدباء 9/ 138.

(3)

ابن خلكان 3/ 366.

(4)

معجم الأدباء 17/ 101 وما بعدها.

ص: 255

أبى القاسم البغدادى التى تقص حياة شيخ طفيلى بغدادى فى يوم ببغداد فى القرن الخامس للهجرة-ما كانت تلبسه الطبقة المترفة من ملابس أنيقة مجلوبة من جميع البلدان العربية موشاة بديباج الذهب المنسوج وكأنما نسجت من أزهار الربيع، كما يقول، يفوح منها العنبر والطيب. ويذكر بيوت هذه الطبقة فيقول إن سقوفها غشّيت بالساج وزيّنت تعاريجها بالآبنوس والعاج، مع الأروقة المليحة والأبهاء المشرفة العالية ومع الأواوين (جمع إيوان) وقد فرشت بالطنافس والمخادّ المذهبة والأبسطة والمقاعد المموهة بالذهب والمطارح المحشوة بريش العصافير الهندية والديباج التّسترىّ المقصّب الذهبى. ثم يفيض فى القول فى الأطعمة من كل صنف والأفواه والعطور وأنواع المسك والعنبر والعود المطيّب وأدوات الزينة من الأمشاط وغير الأمشاط. ويوازن بين هذه الحياة المترفة وحياة الطبقة الوسطى والدنيا الخشنة، واصفا أطعمتها ودورها. ويبدو أنهم كانوا يضيفون إلى كثير من الأطعمة أنواع الطّيب وماء الورد والتفاح وحبّ الرمان والزعفران، ويعرض أصنافا كثيرة للحلوى، وطبيعى أن تكثر فيها العطور. ويقول إنه حين يرفع الطعام يأتى فراش متهلل الوجه نظيف الثياب خفيف الروح بيده خلال سلطانى مطيّب، ويغسل الضيوف أيديهم، ويناولهم الفراش مناديل ألين من القزّ وأنعم من الخزّ، ويطيل الوصف للوز والجوز المقشورين وأنواع الفواكه وما كانت تزيّن به الموائد من الأزهار والأنوار، ويتحدث عن الخمور وكئوسها ودنانها مطنبا مطيلا. ويذكر ما فى مجالس السّراة من المغنين الذين يأخذون بمجامع القلوب، إذ يملأون الآذان سرورا ويقدحون فى القلوب نورا (1)

وكانت المغنيات يغنين فى مجالس السلاطين والخلفاء من وراء ستارة، أما فى مجالس السراة وعلية القوم والنوادى فكن يغنين دون ستارة غالبا، ويطيل ابن أبى المطهر الأزدى فى الإشادة بمغنيات بغداد وزمّاراتها وطبّالاتها وصنّاجاتها ورقّاصاتها وضاربات العود بها، ويصف إحداهن ممن يضربن على العود قائلا: تدخل المجلس تعطره من نسيمها بالمسك والكافور والعنبر وتجرى عليها غلالة جرى الماء ورداء قصب مزين مرصّع بالزبرجد الأخضر والياقوت الأحمر وفى عنقها سبحة (عقد) من الحب الكبار بما يعادل ألف دينار، والجوارى يحملن ذيول ثوبها. وتجلس وعلى وجهها إزار قصب أبيض رقيق، وتبدو متنقّبة لا يرى منها إلا المحاجر وأطراف الذوائب، وتلقى بحديث كزهر الجنان أو صوب الغمام أعذب من الماء الزلال، وأعلق بالنفوس من السحر الحلال، ثم تحسر

(1) حكاية أبى القاسم البغدادى (نشر مينز فى هايدلبرج) ص 35 - 46.

ص: 256

النقاب وتتناول عودا من ساج منقوشا بالعاج وتجسّ أوتاره وتفتتح غناء-كما يقول أبو القاسم-أعذب من تيار الفرات وتفتّته فى مجارى الحلق وتكسّره فى مجارى النّفس.

يقول: وهناك لا تسمع إلا شهقة عالية، ومقلة باكية، وجيبا مشقوقا، وفؤادا يطير خفوقا (1).

ولم نلم إلا بكلمات قليلة من وصف أبى القاسم لهذه الجارية المغنية، لندل على أن الغناء كان لا يزال مزدهرا ببغداد حتى القرن الخامس، ونظن ظنا أن هذا الازدهار ظل له طويلا، وغاية ما فى الأمر أنه لم يتح له عالم يؤلف فيه على نحو ما ألف أبو الفرج الأصفهانى كتابه الأغانى عن المغنين والمغنيات فى القرون الثلاثة الأولى للهجرة. وفى كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبى حيان التوحيدى فى أوائل هذا العصر نص طويل (2) يصور ازدهارا عظيما للغناء فى زمنه ومدى تأثر الناس به وطربهم عند سماعه على لسان المغنيات والمغنين، ويحكى لنا كيف كان شخص يسمى البردانى يطرب طربا شديدا حين يستمع إلى علوة جارية ابن علّوية، وهى تغنّى بأبيات للسّروىّ يقول فيها:

بالورد فى وجنتيك من لطمك

ومن سقاك المدام لم ظلمك

ويسترسل أبو حيان فى وصف انفعال السامعين إزاء الغناء ببغداد فى عصره، من مثل ابن فهم، وكان يطرب إذا اندفعت «نهاية» جارية ابن السّلمى بشدوها:

أستودع الله فى بغداد لى قمرا

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودّعته وبودّى لو يودّعنى

صفو الحياة وأنى لا أودّعه

والبيتان من قصيدة أبى محمد على بن زريق وسننشد منها أبياتا أخرى فى الفصل الثالث. ولما سمعهما منها ضرب بنفسه الأرض وتمرّغ فى التراب وهاج وأزبد وتعفّر شعره، وهيهات من الرجال من يضبطه ويمسكه ومن يجسر على الدنوّ منه، فإنه يعضّ بنابه، ويخمش بظفره، ويركل برجله ويخرّق المرقّعة (رداء الصوفية) قطعة قطعة، ويلطم وجهه ألف لطمة، كأنه عبد الرازق المجنون بباب الطاق. وكثيرون كانوا يطربون طرب هذا الصوفى، فتنقلب حماليق عيونهم، ويسقطون مغشيا عليهم، ويرشون عليهم الكافور وماء الورد-كما يقول أبو حيان-ويقرءون فى آذانهم آية الكرسى والمعوّذتين، ويرقونهم رقى مختلفة، حتى يفيقوا من سكرتهم، منهم أبو الحسن الجرّاحى قاضى الكرخ، فإنه كان إذا سمع الجارية «شعلة» وهى تغنى أغنيتها:

لابدّ للمشتاق من ذكر الوطن

واليأس والسلوة من بعد الحزن

(1) حكاية أبى القاسم ص 50 وما بعدها.

(2)

الإمتاع والمؤانسة 2/ 165 - 183.

ص: 257

ابتلّت شيبته بالدموع، مع شجن قد ثقب القلب وأوهن الروح وفتّت الصخر وأذاب الحديد، يقول أبو حيان:«وهناك ترى-والله-أحداق الحاضرين باهتة، ودموعهم متحدّرة، وشهيقهم قد علا رحمة له، ورقّة عليه، ومساعدة لحاله. وهذه صورة إذا استولت على أهل المجلس وجدت لها عدوى لا تملك، وغاية لا تدرك، لأنه قلما يخلو إنسان من صبوة أو صبابة، أو حسرة على فائت، أو فكر فى متمنىّ، أو خوف من قطيعة، أو رجاء لمنتظر، أو حزن على حال» . ويسوق أبو حيان لنا صورا من طرب الشعراء حين سماع بعض الجوارى أو المغنين، فهذا ابن نباتة يطرب على صوت جارية تسمّى «خاطف» وهذا ابن حجاج يطرب على غناء قنوة البصرية، وهى جارته وعشيقته.

ويذكر أبو حيان أن الطرب كان يأخذ بابن صبر القاضى كل مأخذ، حين يستمع إلى «درّة» جارية أبى بكر الجرّاحى وهى تغنىّ:

لست أنسى تلك الزيارة لما

طرقتنا وأقبلت تتثنّى

كم ليال بتنا نلذّ ونلهو

ونسقّى شرابنا ونغنّى

هجرتنا فما إليها سبيل

غير أنا نقول: كانت وكنّا

يقول أبو حيان: «وإذا بلغت: «كانت وكنا» رأيت الجيب مشقوقا، والذّيل مخروقا، والدمع منهملا، والبال منخذلا، ومكتوم السر فى الهوى باديا؛ ودليل العشق على صاحبه مناديا». ويعرض علينا أبو حيان صورا مختلفة من طرب الصوفية مثل المعلم غلام الحصرى شيخ الصوفية، ومثل ابن سمعون أكبر واعظ شهدته بغداد فى زمنه، فإن الطرب كان يقيمه ويقعده حين يستمع إلى ابن بهلول، وهو يزلزل الدنيا بصوته الناعم وغنّته الرخيمة وظرفه البارع ودماثته الحلوة. ويذكر أبو حيان جارية كانت تنوح تسمّى حبابه كانت فى النّوح واحدة لا أخت لها وقد تهالك الناس بالعراق على نوحها، يقول:

ورأيت لها أختا يقال لها «صبابة» كانت فى الحسن والجمال فوقها. . وزلزلت هذه بغداد فى وقتها، ولم يكن للناس غير حديثها لنوادرها وحاضر جوابها. ثم يقول أبو حيان فى ختام هذا الفصل الطريف.

«ولو ذكرت هذه الأطراب من المستمعين والأغانى من الرجال والصبيان والجوارى والحرائر لأطلت وأمللت وزاحمت كل من صنّف كتابا فى الأغانى والألحان. وعهدى بهذا الحديث سنة ستين وثلاثمائة. وقد أحصيت-أنا وجماعة فى الكرخ-أربعمائة وستين جارية فى الجانبين (جانبى بغداد الغربى والشرقى) ومائة وعشرين حرة يجمعن بين الحسن والحذق والظرف والعشرة. وهذا سوى من كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزّته وحرسه

ص: 258

ورقبائه، وسوى من كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط فى وقت أو ثمل (سكر) فى حال، وخلع العذار فى هوى قد حالفه وأضناه».

ولا ريب فى أنه كان بجوار أولئك المئات من المغنيات مئات من المغنين، وكم كنا نتمنى لو أن أبا حيان أطال وأملّ وصنف فى أغانى عصره كتابا ككتاب أبى الفرج الأصبهانى، ولكنه لم يعن بذلك فخسر الشعر والغناء خسارة كبرى لأن معاصريه ومن جاءوا بعده لم يحاولوا التأليف فى الأغانى والمغنيات والمغنين على غرار صنيع الأصبهانى.

وأكبر الظن أن هذا الازدهار للغناء ظل حتى غزو التتار لبغداد، وبقيت منه أسراب فى الحقب المغولية، إذ نجد ابن بطوطة حين زار بغداد سنة 727 يذكر أنه رأى السلطان الإيلخانى بو سعيد فى سفينة بدجلة يتنزّه، وعن يمينه وشماله قوارب وسفن لأهل الطرب والغناء، ويذكر أيضا أنه رأى هذا السلطان فى أحد مواكب تنقله، ومع كل أمير من أمرائه عسكره وطبوله، وكان يتقدم الموكب الحجاّب والنقباء ثم أهل الطرب وهم نحو مائة رجل، كانوا يغنون فى مجموعات بالتناوب، ولا يزالون يتداولون الغناء بينهم، حتى ينزل بو سعيد، فإذا ركب عادت المجاميع إلى الطرب والغناء (1).

ولم تكن الطبقة الدنيا تنعم بالغناء نعيم الطبقة الأرستقراطية، والمظنون أن الطبقة الوسطى كانت تنعم به بعض الشئ، أما من وراءهم من عامة الناس فلم يكن لديهم من المال ما يجعلهم يأخذون بنصيب من هذا النعيم، إلا ما قد ينعمون به فى الأعياد العامة، وعادة كانت بغداد تزيّن بالأعلام ذات الألوان الزاهية فى عيدى الفطر والأضحى، ومع مواكب الحج فى رحيلها وقدومها، وظل الاحتفال بذلك كله حتى نهاية هذا العصر، وكانوا يحتفلون بأعياد الفرس ويخرجون فيها للمتنزهات وسماع المغنين والمغنيات، وأهمها عيد المهرجان فى السادس والعشرين من أكتوبر، ويستمر ستة أيام ويسمى اليوم السادس منه المهرجان الأكبر، ويأتى بعده عيد السّذق، وهو يوافق عيد الميلاد، وفيه تشعل النار فى السفن والزوارق بدجلة، وتخرج العامة للفرجة عليها وبأيديهم الشموع، ويلى هذا العيد عيد النيروز فى أول الربيع، ويبتدئ فى الحادى والعشرين من مارس ويستمر ستة أيام مثل عيد المهرجان. وبجانب ذلك كانوا يحتفلون بأعياد النصارى ويخرجون فيها للمتنزهات والأديرة، وكان لكل دير عيده.

ومن المحقق أن العامة كانت تعانى كثيرا من الضنك والضيق لكثرة الضرائب التى كانت تجبى منها وقلة ما كان يعود عليها من الكسب، وقد يدل على ذلك من بعض الوجوه أن

(1) ابن بطوطة 1/ 143 وما بعدها.

ص: 259

الطبيب حين كان يدور من بيت إلى آخر لمعالجة العامة كان يأخذ أجرا له عن كل مريض ربع درهم (1)، ويذكر التنوخى أن رجلا كان يستأجر حانوتا بنصف درهم وزيدت إلى درهم (2). والخبران من أخبار أوائل العصر فى القرن الرابع الهجرى، فما بالنا بما صارت إليه العامة بعد ذلك من بؤس وتعاسة، وهذا هو السبب فى كثرة العيّارين ببغداد طوال القرنين الرابع والخامس الهجريين، ومن يقرأ أخبارهم يحس أنهم كانوا يستشعرون فكرة العدالة الاجتماعية، إذ يرون طائفة قليلة من الوزراء والقواد وكبار الموظفين والإقطاعيين والتجار الموسرين يتمتعون بل يتمرّغون فى الترف والنّعيم وهم محرومون يتجرّعون البؤس والمسغبة، وقد أشعلوا فى شهر المحرم لسنة 364 للهجرة ببغداد حريقا عظيما، واستفحل أمرهم حتى خافهم الجند وتلقبوا بالقواد وتسلطوا على بغداد وأخذوا الضرائب من الأسواق (3)، ويذكر أبو حيان من قوادهم ابن كبرويه وأبا الدرد وأبا الذباب وأسود الزّبد (4). وعادوا إلى التسلط على بغداد سنة 380 فنهبوها وعينوا عريفا لهم فى كل محلة (5). وأخذ ينتظم مع الزمن فى صفوفهم كثير من العلويين والعباسيين كما حدث فى فتنتهم سنة 392 مما يدل على أنهم كانوا ساخطين سخطا شديدا على الأغنياء المترفين من رجال الدولة وغيرهم، وأنهم كانوا ينادون بفكرة العدالة الدينية. ونمضى فى القرن السادس الهجرى فنجد فتنهم تشتعل ببغداد من حين إلى حين، ويعظم شأنهم فى عهد السلطان مسعود السلجوقى (527 - 547 هـ) وينهبون بغداد مرارا. وما زالت فتنهم تنشب فيها طوال القرن السادس، حتى إذا كنا فى عصر الخليفة الناصر (575 - 622 هـ) وجدناه فى سنة 578 يستدعى شيخا من بينهم عرف بأن له أتباعا كثيرين، فعرض عليه أن ينتظم معه ومع أتباعه فى الفتوة، على أن تتجه وجهة صالحة، فلا تكون للإفساد ولا للنهب ولا للفتن، بل تكون فتوة فاضلة تقوم على المروءة وشرف النفس. وشرب الناصر من يد الشيخ عبد الجبار ماء الفتوة وهو ماء مملوح، وكأنه يشير عندهم إلى أنهم لا يشربون الخمر وأيضا لبس الناصر سراويلها كما أسلفت وأخذ فى تنظيم هذه الفتوة الشريفة، فدخل فيها أهل بغداد أفواجا، وعمد إلى نشرها فى الآفاق وطلب إلى الحكام أن يدخلوا فيها، ودخل كثير منهم، على هدى منشور فيها، أرسله إلى الآفاق يحض على الانتظام فى سلكها، وكان ممن انتظم فيها شهاب الدين الغورى سلطان غزنة والهند، كما ذكر ابن الأثير فى حوادث سنة 602 وانتظم فيها السلطان

(1) مسكويه 2/ 198.

(2)

الفرج بعد الشدة للتنوخى 2/ 155.

(3)

انظر حوادث سنة 364 فى المنتظم وابن الأثير وابن تغرى بردى.

(4)

الإمتاع والمؤانسة 3/ 160.

(5)

راجع فى السنة المذكورة المنتظم وابن الأثير.

ص: 260

العادل الأيوبى وأبناؤه كما مرّ بنا. وكان هذا عملا جليلا، لا لأنه أنقذ بغداد من العيارين والنهب والسلب المستمر فحسب، بل لأنه وجّه شباب بغداد بل شباب الأمة إلى أتخاذ الفتوة الفاضلة درعا فى حروبهم مع أعدائهم من الصليبيين، وقد تحولت إلى نظام عظيم، كتب فيه العلماء كتبا، من أهمها كتاب الفتوة لابن المعمار البغدادى المتوفى سنة 642 وهو يوضح فيه حقيقتها ومنشأها ومنزلتها من الشريعة الإسلامية وشرائطها ومصطلحاتها على ألسنة الفتيان النبيلة (1). غير أن بغداد لم تلبث أن اكتسحتها أمواج التتار هى والعراق، وحكمها الإيلخانيون ومن جاء بعدهم من التيموريين والتركمان والصفويين والعثمانيين، وأخذت أحوال أهلها هى والعراق عامة تزداد سوءا من عصر إلى عصر، لكثرة ما كان يفرض على الناس فى المدن والريف من الضرائب الفادحة.

ولم نتحدث عن أهل الذمة من المجوس والنصارى والصابئة واليهود، وكانوا يتمتعون بتسامح واسع نظير ما يدفعونه من الجزية، وكانت لا تتجاوز دينارا اللعامة ودينارين للطبقة الوسطى وثلاثة دنانير لأصحاب الثراء، وكانت أشبه بضريبة تؤخذ للدفاع الوطنى، إذ لم يكن يؤديها إلا من يقدرون على حمل السلاح، فلا يؤديها النساء ولا الرهبان ولا من لم يبلغ الحلم ولا العجوز ولا الفقير البائس ولا ذوو العاهات. وكانت الدولة وخاصة فى الحقبة البويهية تستخدم بعض النصارى فى الدواوين واتخذ منهم عضد الدولة وزيرا-كما مرّ بنا-وكان منهم أطباء كثيرون فى مختلف الحقب، أما اليهود فكانوا يشتغلون بأهون المهن، فكان منهم الصّباغون والخرّازون وأمثالهما كالأساكفة.

وكان الرقيق كثيرا كثرة مفرطة، وكان من أجناس مختلفة، فمنه الإفريقى ومنه التركى الآسيوى ومنه الأوربى وخاصة الصقلبى والرومى. وكانت له سوق رائجة فى بغداد من قديم، وكانت التجارة فيه تدرّ أرباحا طائلة على النخاسين، وكانت لهم حيل كثيرة يخدعون بها الناس عند شراء الجوارى والرقيق بعامة، ومن أجل ذلك ألف ابن بطلان المتوفى بعد سنة 455 للهجرة رسالة سماها «شراء الرقيق وتقليب العبيد» وفيها يصور حيل النخاسين فى تحسين الجوارى وطرق خداعهم فى إزالة آثار الجدرى والوشم والنمش من أجسادهن وصبغهن بألوان تخفى ما قد يكون من آثار البرص أو البهق وصبغ عيونهن بألوان تجعلها كحلاء أو زرقاء، ويصور بعض مقاييس الحسن فى الجارية من أخمص قدمها إلى

(1) انظر فى الفتوة وتنظيم الناصر لها كتاب الفتوة لابن المعمار (طبع بغداد) والمقدمة الطويلة التى كتبها الدكتور مصطفى جواد لهذا الكتاب. وانظر الفتوة والخليفة الناصر للمستشرق الألمانى فرانز تيشنر فى كتاب المنتقى من دراسات المستشرقين (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر).

ص: 261

مفرق شعرها (1) وكانت المحظوظات منهن تجلب إلى دور الخلفاء والسلاطين، وكثير من الخلفاء كانوا من أبنائهن، فالقائم بأمر الله (422 - 467 هـ) كانت أمه قطر الندى جارية رومية (2)، وابنه المقتدى (467 - 487 هـ) كانت أمة جارية أرمنية (3). وكذلك كانت أم المستظهر (487 - 512 هـ) من الجوارى (4). وكان منهن كثيرات فى قصر الخلافة يخدمن زوجات الخلفاء أو يكن وصيفات لهن (5).

وكانت الجارية المغنية تباع بأغلى الأثمان، وكان فى بغداد بعض نواد بها جوار مغنيات يختلف إليهن الشباب لسماع الغناء واللهو (6). واشتهر كثيرات منهن باللطف والظرف والبديهة الحاضرة ونظم الشعر (7) وحب الأزهار ونقش الأبيات الرقيقة على الأردية والأكمام والعصائب والمناديل، وكان لذلك تأثير فى رقىّ الأذواق ببغداد من قديم.

وكان شرب الخمر معتادا فى كثير من مجالس السلاطين والوزراء وسراة القوم، على نحو ما مرّ بنا عن المهلبى وزير معز الدولة البويهى، وحكوا عن ابنه عز الدولة بختيار أنه «كان يحب أن يقضى أوقاته فى الصيد والأكل والشرب والسماع واللهو واللعب بالنرد وتحريش الكلاب والديكة والفتاخ (العقبان)(8). ومرّ حديثنا عن عضد الدولة البويهى ومجالس أنسه وطربه وشربه. وكان السلطان مسعود السلجوقى منهمكا فى اللذات والانعكاف على الخمور والراحات (9). ويكثر وصف الخمر على ألسنة الشعراء وفى حكاية أبى القاسم البغدادى وصف كثير لها فى غير موضع، وفيه تساق بعض أشعار الماجنين الكبيرين ببغداد فى القرن الرابع الهجرى: ابن حجاج وابن سكرة، وهما أكبر مجان بغداد-إن لم يكن كل البلدان العربية-على مرّ التاريخ.

وكان الصيد لهوا عاما للسلاطين والناس، وكان من أكبر هواته ملكشاه السلجوقى، ويقول ابن خلكان: «كان لهجا بالصيد، حتى قيل إنه ضبط ما اصطاده بيده فكان عشرة آلاف فتصدّق بعشرة آلاف دينار. وصار بعد ذلك كلما قتل صيدا تصدق بدينار. .

وخرج مرة من الكوفة لتوديع الحجاج. . وصاد فى طريقه وحشا كثيرا، وبنى هناك منارة من حوافر الحمر الوحشية وقرون الظباء مما صاده (10)». وكانت العامة تلهج بالصيد مما دفع

(1) انظر رسالة شراء الرقيق وتقليب العبيد بين الرسائل التى نشرها عبد السلام هرون باسم نوادر المخطوطات.

(2)

المنتظم 8/ 58.

(3)

المنتظم 8/ 291 و 9/ 200.

(4)

المنتظم 9/ 81.

(5)

المنتظم 8/ 230 والمستجاد من فعلات الأجواد للتنوخى 23.

(6)

أخبار الظراف والمتماجنين لابن الجوزى (طبع دمشق) ص 97.

(7)

نفس المصدر ص 97 وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى 8/ 31.

(8)

مسكويه 6/ 386.

(9)

ابن خلكان 5/ 202.

(10)

ابن خلكان 5/ 284.

ص: 262