الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل
السياسة والمجتمع
1 - البويهيون والسلاجقة والخلفاء العباسيون
البويهيون (1) أسرة فارسية تنسب إلى بويه، وهو فارسى ديلمى، ويقال إنه كان صيّادا على بحر قزوين، وكان أبناؤه على والحسن وأحمد من حوله يحتطبون. ونراهم حين صار إليهم الملك ينسبهم المؤرخون-ملقا لهم فيما يبدو-إلى الملك الساسانى بهرام جور. ومهما يكن فقد التحق بويه وأبناؤه بخدمة ما كان بن كاكى، حتى إذا انتصر عليه مرداويج الزّيارى صاحب جرجان تحولوا إليه، وأيدوه فى حروبه ضد الدولة العلوية الزيدية بطبرستان، فولّى عليا الكرج فى الجنوب الشرقى من همذان سنة 320 للهجرة، ولم يلبث على أن استولى على فارس وأرّجان واتخذ شيراز مقرا له. وقتل مرداويج فى سنة 323 فاستولى هو وأخوه الحسن على أصفهان والرّىّ اللتين كانتا تابعتين له وتولى الحسن شئونهما وشئون بلاد الجبل، واستولى أخوهما أحمد على كرمان، وظل يتقدم تدريجا نحو الغرب حتى استولى على الأهواز سنة 326 ومضى يتقدم حتى استولى على واسط، وفى هذه الأثناء كانت المجاعة تهدد بغداد، وكان الجند الأتراك ثائرين على الخليفة وقواده لعجزه عن دفع رواتبهم، فوجد أحمد الأبواب جميعها مفتوحة إلى بغداد فدخلها فى جمادى الأولى سنة 334. ورحّب به الخليفة المستكفى منقذا ومخلّصا، ومنحه إمرة الأمراء ولقّبه معز الدولة، ولقّب أخاه عليا صاحب فارس وشيراز عماد الدّولة والحسن صاحب بلاد
(1) انظر فى الدولة البويهية تجارب الأمم لمسكويه وذيله لأبى شجاع والمنتظم لابن الجوزى وتاريخ ابن الأثير وابن خلدون والنجوم الزاهرة لابن تغرى بردى وأحسن التقاسيم للمقدسى فى مواضع متفرقة وابن خلكان فى تراجم أمرائها وكذلك الجزء الثانى من كتاب اليتيمة للثعالبى وابن طباطبا (الفخرى فى الآداب السلطانية) والحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى لآدم ميتز (طبعة القاهرة) ص 27 وما بعدها وتاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص 244 وتاريخ الأدب فى إيران من الفردوسى إلى السعدى لبراون ترجمة الدكتور إبراهيم أمين الشواربى ومادة بنى بويه فى دائرة المعارف الإسلامية.
الجيل ركن الدولة، وضربت ألقابهم على السكّة، وذكرت أسماؤهم وألقابهم مع الخليفة فى خطبة الجمعة. ومن حينئذ بالغ البويهيون فى الألقاب الفخمة يضفونها على أنفسهم وعلى وزرائهم. . ولم يكد الشهر التالى لدخول معز الدولة بغداد يتقدم حتى خلع المستكفى وسملت عيناه، وولى الخلافة بعده ابن عمه المطيع لله، ولم يكن له ولا لمن تلاه من الخلفاء العباسيين فى عهد البويهيين حول ولا طول ولا سلطان إلا ما كان من ذكر أسمائهم فى خطبة الجمعة وعلى السّكّة المضروبة. وكأنما أصبحوا مجرد صنائع فى أيدى البويهيين يسبغون عليهم الرواتب بالمقدار الذى يريدون.
وظل معز الدولة يلى شئون بغداد والعراق والأهواز وكرمان إلى أن توفى سنة 356 وخلفه ابنه عز الدولة بختيار، وكان شديد البأس شجاعا يمسك الثور العظيم بقرنيه فلا يتحرك، وتزوج الخليفة الطائع ابنته شاه زمان فى سنة 364 على صداق قدره مائة ألف دينار. وكانت ولاية فارس قد صارت إلى ابن عمه عضد الدولة ابن ركن الدولة منذ وفاة عمه عماد الدولة سنة 338 للهجرة إذ لم يترك ولدا. فآلت ولايته إلى أخيه ركن الدولة، فمنحها ابنه عضد الدولة. وتوفّى ركن الدولة سنة 365 وجعل لعضد الدولة أقاليم فارس وكرمان وأرّجان وشيراز، ولأخيه مؤيد الدولة الرىّ وأصفهان، ولأخيهما فخر الدولة همذان والدّينور، وجعل لعضد الدولة الرياسة على أخويه، ولم تلبث الأمور أن ساءت بينه وبين بختيار ابن عمه معز الدولة، فاشتبكا فى حروب، قتل فيها بختيار فى شوال سنة 367. وبذلك دخلت بغداد وما تبعها من العراق فى حوزة عضد الدولة منذ هذا التاريخ.
وعضد الدولة هو أعظم ملوك بنى بويه، إذ بلغ سلطانه من سعة الملك ما لم يبلغه أحد من أسرته وهو أول من خطب له-فيما يقال-على منابر بغداد بعد الخلفاء وأول من لقّب بشاهنشاه (ملك الملوك) فى الإسلام وأصبح البويهيون بعده يلقّبون بهذا اللقب، وكانت فيه قسوة شديدة، ومما يصور ذلك رميه بابن بقية الوزير تحت أرجل الفيلة حين سلّمه إليه بختيار لأمور ساءته، فقتلته بأرجلها شر قتلة. وقد قضى على لصوص الطرق قضاء مبرما وأعاد الأمن إلى نصابه فى صحراء كرمان وصحراء جزيرة العرب، ورفع عن قوافل الحجاج الجباية واحتفر لهم الآبار فى سبلهم إلى مكة وأدار على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سورا حصينا، وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها وابتدأ بعمارة المساجد، وألزم أصحاب العقارات تشييد بيوتهم وأقرض من قصرت يداه من بيت المال وخاصة من كانت بيوتهم تقع على شاطئ دجلة، وعنى بالبساتين فامتلأت خرابات بغداد بالزهر والخضرة، وجلب
إلى بغداد الغروس فى سائر البلاد، وعنى بجداولها وجسورها، وأنشأ سوقا للبزّازين. وبنى مارستانا كبيرا ببغداد، وأجرى الرواتب على العلماء من كل صنف، وكان عادلا سيوسا يحسن اختيار ولاته وعماله، وكانت جراياته متصلة على الفقراء والمساكين.
غير أن مدة حكمه لبغداد والعراق لم تطل، فقد توفى سنة 372، وكأنهما لم تنعما بحكمه إلا خمس سنوات متصلة. وكان قد قسم مملكته بين أبنائه الثلاثة: شرف الدولة وصمصام الدولة وبهاء الدولة، وهو تقسيم أثبتت الأيام دائما أنه نذير بضياع الدولة واختلال شئونها. وتولى شئون بغداد والعراق صمصام الدولة يعاونه وزيره أبو عبد الله بن سعدان صاحب أبى حيان، ولم ينجح أمر صمصام الدولة وغلب عليه أخوه شرف الدولة سنة 376 وقهره وحبسه وأخذ بغداد منه، ويتوفّى شرف الدولة سنة 379 بعد أن عهد بالملك لأخيه بهاء الدولة وضياء الملة الذى ظل حاكما لبغداد والعراق حتى وفاته سنة 403 وكان-كما يقول المؤرخون-ظالما غشوما سفاكا للدماء، وقد قبض على الخليفة الطائع سنة 381 وخلعه من الخلافة، وولاها القادر بالله، ولم يكن فى ملوك بنى بويه أظلم منه ولا أقبح سيرة، ويقال إنه جمع من المال ما لم يجمعه أحد. وتوزعت الدولة بعده بين أبنائه الأربعة: مشرّف الدولة وقوام الدولة وجلال الدولة وأبى شجاع سلطان الدولة وهو الذى ولى بغداد بعد أبيه بعهد منه، وظل يلى شئون ولايته حتى سنة 412 حين عظم أمر أخيه مشرف الدولة وعلت كفّته، فخطب له ببغداد فى المحرّم وخوطب بشاهنشاه.
ويدور العام، فيتم الصلح بين الأخوين، ويعود ذكر سلطان الدولة إلى الخطبة، ويتوفى سلطان الدولة فى سنة 415 ولا يلبث أخوه مشرف الدولة أن يتوفى بعده فى سنة 416 وتصبح بغداد خالصة هى والعراق لأخيهما جلال الدولة، ويستوزر أبا سعيد بن ماكولا، ويلقبه علم الدين سعد الدولة أمين الملة شرف الملك، مما يصور مدى تغالى البويهيين فى الألقاب، ويطول حكم جلال الدولة حتى وفاته سنة 435 ويختل الحكم فى أيامه ويختل السلطان حتى يبلغ من ذلك أن يستولى العيّارون واللصوص على بغداد سنة 426 ويفعلون بها أفعالا قبيحة، واختلّت الشئون المالية، وبلغ من سوء اختلالها أن باع جلال الدولة ثيابه وماعون بيته وآلاته فى الأسواق، وخلت داره-كما يقول ابن الجوزى-من الحجّاب والفراشين والبوابين. وخلفه أبو كاليجار بن سلطان الدولة حاكم فارس والأهواز، وكان شجاعا فاتكا مشغولا باللهو، وفى عهده أخذ المدّ السلجوقى يزداد حتى شمل أكثر إيران، مما جعله يموت غمّا سنة 440 ويخلفه ابنه أبو نصر الملقب بالملك الرحيم، وبلغ من ضعفه أن جرّده أحد قواده الأتراك، ويسمى البساسيرى، من سلطانه
كله، وأحسّ الخليفة العباسى القائم بأمر الله بخطره، وعرف أنه يكاتب سرّا الخليفة المستنصر الفاطمى بمصر، وأنه يدبّر أمرا خطيرا. وكانت الدولة السلجوقية قد أخذ يعظم شأنها فى خراسان بقيادة طغرلبك ودانت لها خراسان وشطر كبير من إيران، فكتب إليه الخليفة يستنهضه إلى المسير إلى بغداد سنة 446، وأمر أن يذكر اسم طغرل فى الخطبة وعلى النقود قبل اسم الملك الرحيم. ولم يلبث أن دخل بغداد وقضى نهائيا على الدولة البيويهية.
والسلاجقة (1) شعبة من الأتراك الغزّ الذين أخذوا يغيرون بقيادة زعيمهم سلجوق منذ سنة 420 للهجرة على حدود إيران الشمالية والشرقية، جاءوا من التركستان إلى بلاد ما وراء النهر، وكانوا يقضون مشتاهم بالقرب من بخارى ومصيفهم بالقرب من سمرقند. وقد اعتنق سلجوق الإسلام السنى وتبعته قبيلته. ويقال إن السلطان محمودا الغزنوى دعاهم إلى الإقامة فى الأقاليم المحيطة ببخارى، غير أنه عاد فتوجّس منهم شرا، مما جعله يأمر بالقبض على إسرائيل بن سلجوق، وحبسه فى قلعة ببلاد الهند، ظل بها حتى مات. وتوفى محمود.
وفكر السلاجقة فى الثأر فانقضّوا على بخارى. وهزموا جيوش مسعود بن محمود. وأعلن طغرلبك نفسه ملكا على خراسان فى صيف سنة 430 للهجرة، ودانت له مرو ونيسابور، ولم يلبث مسعود أن توفى سنة 432 فتمكنوا من الاستيلاء على بقية خراسان واستولوا على طبرستان وسجستان وهراة وبست وأخذ طغرل يولّى أبناء أسرته وعمومته على البلاد، واتخذ الرّىّ حاضرة له. واستنجد به الخليفة القائم بأمر الله كى يضبط بغداد على نحو ما أسلفنا، فدخلها فى سنة 447 وهرب منها البساسيرى، وخلع عليه الخليفة خلعا سنية وأجلسه على العرش إلى جواره، وألبسه حلة فاخرة، وكان البساسيرى قد فرّ إلى الشمال فتعقبه طغرلبك حتى الموصل، واضطر أن يتركه إلى حرب أخ لأمه يسمى إبراهيم بن ينال خرج عليه فى همذان، وعرف البساسيرى كيف يستغل الفرصة، فوضع يده فى يد أحد أمراء بنى عقيل، وهو قريش بن بدران، واستوليا على بغداد وأمر الخطباء على منابرها بذكر اسم المستنصر الخليفة الفاطمى فى خطبة الجمعة، وكذلك صنعا بما استوليا عليه من
(1) انظر فى السلاجقة تاريخ ابن الأثير وابن طباطبا وابن خلدون وابن تغرى بردى فى مواضع متفرقة وكتاب راحة الصدور فى تاريخ الدولة السلجوقية للراوندى ترجمة الدكتور إبراهيم أمين الشواربى والدكتور عبد النعيم حسنين (طبع القاهرة) ومجموعة النصوص المتعلقة بتاريخ السلاجقة نشر هوتسما بليدن وتاريخ دولة آل سلجوق للعماد الأصبهانى (مختصر البندارى) ووفيات الأعيان لابن خلكان فى تراجم سلاطينهم وتاريخ الأدب فى إيران من الفردوسى إلى السعدى (ترجمة الدكتور إبراهيم أمين الشواربى) وسلاجقة إيران والعراق للدكتور عبد النعيم حسنين (طبع القاهرة) وتاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص 271 ومادة السلاجقة فى دائرة المعارف الإسلامية.
المدن. وأخرج البساسيرى الخليفة من بغداد إلى عانة من مدن الجزيرة، ولكن طغرل لم يلبث أن عاد إلى بغداد وأعاد إليها الخليفة وقضى على هذه الفتنة قضاء مبرما، مما جعل الخليفة يلقبه بلقب ملك الشرق والغرب.
وطغرل هو أول ملوك الدولة السّلجوقية العظام، وكان شجاعا مقداما كريما حليما حازما حريصا على أداء واجباته الدينية، وتوفّى بمدينة الرّىّ سنة 455 فخلفه ابن أخيه ألب أرسلان بن جغرى بك، كان اسمه بالعربية محمدا، ولقّب بالملك العادل، ويقال إنه أول من لقب بالسلطان من بنى سلجوق، وذكر على منابر بغداد، وكان شجاعا مطاعا، وهو أعدل بنى سلجوق فى الرعية، وقد وسع حدود مملكته من الصين شرقا إلى الشام غربا، وقد استولى على ما بيد الفاطميين من البلاد حتى دمشق، وقاد حملات مظفرة ضد دولة الروم الشرقية وأسر إمبراطورها «رومانوس ديوجين» سنة 462 فى موقعة دمّر فيها الجيش الرومى تدميرا. ويقال إن جيشه لم يكن يزيد على خمسة عشر ألف محارب بينما كان الجيش الرومى فى تلك الموقعة يتألف من مائتى ألف رجل من يونان وأرمن وقوقاز وروس وغيرهم. وفدى الإمبراطور نفسه بمليون دينار، وعقد معه ألب أرسلان معاهدة لمدة خمسين سنة، على أن تلبيه جنود الروم إذا طلبها، وأن تردّ إلى أسرى المسلمين حرياتهم.
وكان مدبّر مملكته وزيره نظام الملك، وكان حصيفا وافر العقل، وسياسيا حكيما بصيرا بتدبير الأمور، محبا للعلم، وقد بعث فى دولته نهضة علمية أسس لها مدارسه المعروفة باسم المدارس النظامية، أقامها فى كثير من البلدان، وعنى خاصة بمدرسته النظامية ببغداد واستقدم لها العلماء من نيسابور وغيرها وفى مقدمتهم أبو إسحق الشيرازى والغزالى وغيرهما من كبار العلماء. وخلف ألب أرسلان حين توفى سنة 465 ملكشاه ابنه، وكان شابا فى الثامنة عشرة من عمره، فأحكم له نظام الملك شئون دولته وفرّق البلاد على أولاده، وجعل مرجعهم إلى ملكشاه. وكان مظفرا، استولت جيوشه على كثير من البلاد، حتى قيل إنه ملك من الأقاليم ما لم يملكه أحد من السلاطين، فكانت مملكته تشتمل على جميع بلاد ماوراء النهر وإيران والعراق وبلاد الروم والجزيرة والشام، وكان ملكه يمتدّ من مدينة كاشغر-وهى أقصى مدينة للترك-إلى بيت المقدس طولا-كما يقول ابن تغرى بردى- ومن بحر قزوين والقسطنطينية إلى بحر الهند عرضا.
وكان من أحسن الملوك سيرة، وبالمثل كان وزيره نظام الملك، ويروى أنه لما تسلطن خرج عليه عمه «قاورد بك» صاحب كرمان، فحاربه وأخذه أسيرا فلما مثل بين يديه قال له: أمراؤك كاتبونى وأبرز له مكاتبات، فأخذها ملكشاه وأعطاها إلى وزيره نظام
الملك، فتناولها منه وألقاها فى موقد نار كان بين يدى ملكشاه فاحترقت. فسكنت قلوب الأمراء وبذلوا الطاعة، وثبت ملكه بهذا الصنيع الجميل لنظام الملك. وكان ملكشاه مولعا بالعمائر، فعمّر الأسوار والقناطر وحفر الأنهار، وأبطل المكوس فى جميع بلاده، وأقام مصانع الماء بطريق مكة وأنفق عليها أموالا طائلة، وهو الذى عمّر جامع السلطان ببغداد سنة 485 وكانت الطرق فى أيامه آمنة، تسير القوافل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب فى مملكته وليس معها خفير.
وتزوج الخليفة المقتدى بابنته سنة 480. ويقول ابن خلكان: كان اليمن والبركة مقرونين بناصيته، وكان إذا دخل بغداد أو أصبهان أو أى بلد من البلاد دخل مع عدد لا يحصى لكثرته، فيرخص السعر وتنحط أثمان الأشياء عما كانت عليه قبله. ويتكسب المتعيشون مع عسكره الكسب الكثير. وكان ينفق الأموال الكثيرة على المدارس والرباطات. وتوفى ببغداد فى شوال سنة 485 وحمل تابوته إلى أصبهان ودفن فى مدرسة موقوفة على الشافعية والحنفية. وبه ينتهى عهد السلاجقة العظام، وخلفه ابنه بركياروق، وكان أخوه السلطان سنجر نائبه على خراسان، ودخل فى حروب مع أخيه محمد صاحب أذربيجان، وكانت كفته دائما الراجحة، وحاربه عمه تتش صاحب دمشق، وقتل فى بعض المعارك، ودوّخ الإسماعيلية الباطنية فى إيران، وقتل منهم كثيرين، وكان عالى الهمة إلا أنه كان مولعا بالشراب والإدمان عليه وتوفى سنة 498. وخلفه أخوه محمد، وله وقائع مع الإسماعيلية وانتصارات متوالية استولى فيها على بعض حصونهم، ويقول ابن خلكان:
«له الآثار الجميلة والسيرة الحسنة والمعدلة الشاملة والبر بالفقراء والأيتام والحرب للطائفة الملحدة (يريد الإسماعيلية) والنظر فى أمور الرعية» . وتوفى سنة 511. وقام بالملك بعده ابنه محمود وهو يومئذ فى سن الحلم، وكان قوى المعرفة بالعربية حافظا للأشعار والأمثال عارفا بالتواريخ والسّير شديد الميل إلى أهل العلم والخير، وهو ممدوح حيص بيص الشاعر المشهور، ويقول ابن خلكان إن السلطنة ضعفت فى أواخر أيامه وقلت أموالها حتى عجزوا عن إقامة وظيفة الفقّاعى أو الشّرابى، فدفعوا له يوما بعض صناديق الخزانة حتى باعها وصرف ثمنها فى حاجته.
وتوفى سنة 525 بعد أن عهد لابنه داود وهو صغير فى المهد، ولما كان لا يصلح لصغره تولى السلطنة عمه طغرل، وتوفى سنة 527 فصارت إلى أخيه مسعود. وكان قد سلمه أبوه إلى أتابكة الموصل: مودود ثم آق سنقر ثم جوش بك، وكان شجاعا، غير أنه أقبل على
الاشتغال باللذات، وطالت أيامه حتى سنة 547 وقتل من الأمراء خلقا كثرا، وممن قتلهم الخليفتان لعهده المسترشد بالله والراشد. وفى هذا ما يدل على أن السلاحقة استهانوا بخلفاء بنى العباس ولم يدعوا لهم حولا ولا طولا، إذ استخلصوا منهم كل شئ حتى حق الحياة.
ويقول ابن خلكان لم تقم للسلاجقة بعد مسعود راية، وكأنه يختم دولتهم فى العراق، أو قل كأن قتله للخليفتين المسترشد والراشد كان إيذانا بانتهاء الدولة السلجوقية، وأقيم بعده فى الملك ابن أخيه ملكشاه بن محمود، ولم يلبث أن توفى بعد خمسة أشهر من حكمه.
ولابد أن نلاحظ أنه منذ انتهاء عهد السلاجقة العظام بموت ملكشاه سنة 485 أخذ البيت السلجوقى يضعف لصغر السلاطين الذين كانوا يعتلون العرش وهم أحداث. وابتدع السلاجقة نظام الأتابكة، وهم قواد يتولون تربية أبنائهم، وكانوا يجعلونهم معهم حين يولونهم بعض الإمارات فيصبحون هم الحكام الحقيقيين، وليس ذلك فحسب، فكثيرا ما تنافسوا فيما بينهم، فكان كل منهم يريد أن يفوز لأميره الذى فى رعايته بالسلطنة، وبذلك حمل الإخوة وأبناء الأعمام السيوف وشهرها بعضهم فى وجوه بعض، مما جعل عهود بركياروق ومحمد وابنه محمود ومسعود حروبا متصلة، وبذلك ضعفت الدولة أو أخذت فى الضعف سريعا.
وكانت تمنح لبعض هؤلاء الأتابكة بلدان وإقطاعات تقطعها الدولة لهم، حتى يساعدوها بما تحتاج إليه من مال وجند. وانتهز بعض هؤلاء الأتابكة الفرصة فاستقلوا ببلدانهم وجعلوها وراثية فى أسرهم. نذكر منهم الأرتقيين أو الدولة الأرتقية فى ديار بكر والجزيرة وبلدانها ميّافارقين وآمد وحصن كيفا وحرّان وماردين، كما نذكر منهم بنى زنكى فى الموصل ولهم الفضل الأكبر فى القضاء على الصليبيين فإن «زنكى» الملقب بعماد الدين هو الذى افتتح سلسلة دحرهم وطردهم من ديارنا باستيلائه على «الرّها» من جوسلين الصليبى، وبذلك سقطت أولى ممالكهم، وتبعه ابنه نور الدين يمحقهم محقا فى الشام، وحين علا نجم صلاح الدين وتبعته الشام ترك للأسرة الموصل وبلدانها سنجار وغيرها.
على كل حال كان طبيعيا أن تهبط الدولة السلجوقية بعد صعود ويأفل نجمها، وقد حاول محمد شاه بن محمود السلجوقى فى سنة 552 الاستيلاء على بغداد غير أنه أرغم على فك الحصار، أرغمه الخليفة المقتفى وجنوده، ولم يستطع السلاجقة بعد ذلك العودة إلى بغداد، بل انحازوا إلى همذان حيث توالى فيها سلاطينهم إلى حين. وعاد إلى بغداد وما يتبعها من البلدان جنوبى الموصل استقلالها، وردّت إلى الخلفاء حرياتهم وسلطانهم
وللمقتفى (1)(532 - 555 هـ) الفضل فى عودة صولجان الحكم إلى أيدى الخلفاء العباسيين. وظلوا قابضين عليه حتى الغزو المغولى أو التتارى سنة 656 وكان المتقى عالما أدبيا دمث الأخلاق.
وخلفه ابنه المستنجد (555 - 566 هـ) وكان عادلا محبوبا فى الرعية أزال المظالم والمكوس. وولى الخلافة بعده ابنه المستضئ (566 - 575 هـ) وكان حسن السيرة أسقط المكوس والضرائب فى أيام خلافته. وفى أيامه أعاد صلاح الدين الخطبة باسمه فى مصر والثغور الشامية، وانقطعت دولة الفاطميين من مصر وأعمالها، وبذلك عاد للأمة اجتماعها على خليفة واحد. وخلفه ابنه الناصر (575 - 622 هـ) وفى عهده سحق صلاح الدين الصليبيين فى الشام واستولى منهم على بيت المقدس وغيره من البلدان والحصون. واستطاع عبد الجبار البغدادى فى أيامه أن يحوّل جماعة الفتاك الذين كانوا يرهبون الناس فى بغداد وينهبون الأموال إلى جماعة كبيرة للفتوة والبسالة، واتخذ لهم سراويل مخصوصة، وبذلك أحالهم إلى جماعة حربية، واستنفر فئات منهم كثيرة لجهاد الصليبيين فى الشام مع الأيوبيين، ورعى الناصر الجماعة خير رعاية، وانضم إليها ولبس سراويلها، وأرسل بها إلى ولاته كى يلبسوها ويصبحوا من فتيان الأمة المجاهدين.
وممن أرسلها إليهم الملك العادل أخو صلاح الدين وأبناؤه، فلبسوها، ولبسها شهاب الدين صاحب غزنه والهند.
ويتولى الخلافة بعد الناصر ابنه الظاهر، ولا يدور العام حتى يتوفى، ويخلفه ابنه المستنصر (623 - 640 هـ) وكان شغوفا بالعلم فأسس مدرسته المستنصرية المشهورة. ونشر السنن وكفّ الفتن. وأخذ سيل المغول أو التتار يتعاظم فى عهده ويكتسح خوارزم وإيران وتمتد بعض سيوله إلى ديار بكر والجزيرة. وولى الخلافة بعده ابنه المستعصم (640 - 656 هـ) وكان ضعيفا جاهلا بتدبير الملك، استوزر مؤيد الدين بن العلقمى، وكان رافضيا حريصا على زوال الدولة، فكاتب هولاكو وأرسل إليه أخاه وغلامه، وسهّل عليه فتح العراق وأخذ بغداد.
وسارع هولاكو، وهاجم بغداد، ولقيه العسكر والبغداديون على مرحلتين من بغداد،
(1) انظر فى المقتفى والخلفاء العباسيين التالين تاريخ ابن الأثير وابن طباطبا وابن تغرى بردى وابن خلدون والبداية والنهاية لابن كثير والعبر فى خبر من غبر للذهبى (طبع الكويت) وخلاصة الذهب المسبوك للإربلى (طبع بغداد) ومآثر الإنافة فى معالم الخلافة للقلقشندى وتاريخ الخلفاء للسيوطى (طبع القاهرة) وجامع التواريخ لرشيد الدين الهمدانى ترجمه إلى العربية محمد صادق نشأت ومحمد موسى هنداوى وفؤاد عبد المعطى الصياد (طبع القاهرة) وتاريخ العراق فى العصر العباسى الأخير للدكتور بدرى محمد فهد (طبع بغداد).