المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5 - الحريرى - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٥

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌القسم الأولالجزيرة العربيّة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - أقاليم ودول وإمارات

- ‌اليمن ودولها

- ‌ حضرموت وظفار وتاريخهما

- ‌عمان وأمراؤها

- ‌البحرين ودولها

- ‌2 - المجتمع

- ‌3 - التشيع

- ‌4 - الخوارج: الإباضية

- ‌5 - الدعوة الوهابية السلفية

- ‌6 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل

- ‌علم الملاحة البحرية

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ القاسم بن هتيمل

- ‌أحمد بن سعيد الخروصىّ الستالىّ

- ‌علىّ بن المقرّب العيونى

- ‌عبد الصمد بن عبد الله باكثير

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌ التهامى

- ‌جعفر الخطّى

- ‌5 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ نشوان بن سعيد الحميرى

- ‌سليمان النبهانى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن القم

- ‌السلطان الخطّاب

- ‌عمارة اليمنى

- ‌2 - شعراء الدعوة الزيدية

- ‌يحيى بن يوسف النّشو

- ‌موسى بن يحيى بهران

- ‌على بن محمد العنسىّ

- ‌3 - شعراء الخوارج

- ‌أبو إسحق الحضرمىّ

- ‌ابن الهبينى

- ‌4 - شعراء الدعوة الوهابية السلفية

- ‌ محمد بن إسماعيل الحسنى الصنعانى

- ‌ابن مشرف الأحسائى

- ‌5 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌عبد الرحيم البرعى

- ‌عبد الرحمن العيدروس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وأنواعه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - رسائل ديوانية

- ‌3 - رسائل شخصية

- ‌4 - مواعظ وخطب دينية

- ‌5 - محاورات ورسائل فكاهية ومقامات

- ‌القسم الثانىالعراق

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - البويهيون والسلاجقة والخلفاء العباسيون

- ‌2 - الدول: المغولية والتركمانية والصفوية والعثمانية

- ‌الدولة المغولية الإيلخانية

- ‌الدولة الصفوية

- ‌الدولة العثمانية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - كثرة الشعراء

- ‌2 - رباعيّات وتعقيدات وموشحات

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ المتنبى

- ‌ سبط ابن التعاويذى

- ‌ صفى الدين الحلى

- ‌4 - شعراء المراثى والهجاء والشكوى

- ‌ السرى الرفاء

- ‌5 - شعراء التشيع

- ‌ الشريف الرضى

- ‌مهيار

- ‌ابن أبى الحديد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن المعلم

- ‌الحاجرى

- ‌التّلعفرىّ

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ ابن سكرة

- ‌ابن الحجّاج

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن السّراج البغدادى

- ‌المرتضى الشّهر زورىّ

- ‌الصّرصرىّ

- ‌4 - شعراء الفلسفة والشعر التعليمى

- ‌ ابن الشّبل البغدادى

- ‌ابن الهبّاريّة

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌الأحنف العكبرى

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع النثر:

- ‌2 - كتّاب الرسائل الديوانية

- ‌5 - الحريرى

- ‌القسم الثالثإيران

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - دول متقابلة

- ‌الدولة السامانية

- ‌الدولة البويهيّة

- ‌الدولة الزّياريّة

- ‌الدولة الغزنوية

- ‌2 - دول متعاقبة

- ‌دولة السلاجقة

- ‌الدولة الخوارزمية

- ‌الدولة المغولية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم التفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر العربى على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ على بن عبد العزيز الجرجانى

- ‌الطّغرائىّ

- ‌الأرّجانى

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌5 - شعراء الهجاء والفخر والشكوى

- ‌الأبيوردىّ

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ أبو بكر القهستانى

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ عبد الكريم القشيرى

- ‌ يحيى السهروردى

- ‌4 - شعراء الحكمة والفلسفة

- ‌ أبو الفضل السكرى المروزى

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌أبو دلف الخزرجى: مسعر بن مهلهل

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - كتّاب الرسائل

- ‌قابوس بن وشمكير

- ‌رشيد الدين الوطواط

- ‌3 - ابن العميد

- ‌خاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌5 - الحريرى

فى الحيوانية وأنه يخطر بباله أنه ربما أصابه نفس المكروه بجامع الحيوانية بينه وبين الحيوان.

ولا يزال ابن مسكويه يتعمق فى الإجابة موضحا أن الشريعة لا تخرج عن مقتضى العقل بحال. ونذكر طرفا من إجابة ابن مسكويه عن مسألة خلقية سألها أبو حيان، وهى إذاعة الأسرار مهما ضرب عليها من حجب الكتمان، يقول:

«قد تبيّن فى المباحث الفلسفية أن للنفس قوتين إحداهما معطية والأخرى آخذة. فهى بالقوة الآخذة تستثيب (تسترجع) المعارف وتشتاق إلى تعرف الأخبار، وبها يوجد الصبيان أول نشوئهم محبيّن لسماع الخرافات، فإذا اكتهلوا أحبوا معرفة الحقائق. وهذه القوة هى انفعال وشوق إلى الكمال الذى يخصّ النفس. وهى بالقوة المعطية تفيض على غيرها ما عندها من المعارف، وتفيده العلوم الحاصلة لها، وهذه القوة ليست انفعالا بل فاعلة. وهاتان القوتان موجودتان للنفس بالذات لا بالعرض. فكل إنسان يحرص بإحدى قوتيه على الفعل، وهو الإعلام، وبالأخرى على الانفعال، وهو الاستعلام. . فقد ظهر السبب الداعى إلى إخراج السر، وهو أن النفس لما كانت واحدة واشتاقت بإحدى قوتيها إلى الاستعلام، واشتاقت بالأخرى إلى الإعلام لم ينكتم سرّ بتّة. وهذا تدبير إلهى عجيب، ومن أجله نقلت الأخبار القديمة وحفظت قصص الأمم، وعنى المتقدمون بتدوين ذلك وحرص المتأخرون على نقله وقراءته» .

ويمضى ابن مسكويه فيذكر أن صاحب السر ينبغى أن لا يستودع إلا القادر على نفسه والقاهر لنزواتها، وأن إخراجه من جملة شهوات النفس وأن حفظه لذلك يحتاج مجاهدة شديدة. وهذه الإجابة توضح كيف كان عقل ابن مسكويه خصبا وكيف كان حافلا بالآراء الطريفة، وهو يعرضها فى أسلوب جزل مصقول ليس فيه أى صعوبة ولا أى عوج أو التواء. وقد روى ياقوت فى ترجمته نسخة وصية له طريفة يعاهد فيه الله على العفة والشجاعة والحكمة وما يتفرع عن ذلك من شيم نبيلة رفيعة.

‌5 - الحريرى

(1)

هو أبو محمد القاسم بن على الحريرى، كان أبوه من أثرياء «المشان» ، وهى قرية قريبة

(1) انظر فى الحريرى وترجمته الأنساب للسمعانى 165 ب وخريدة القصر (قسم العراق) 2/ 599 ومعجم الأدباء 16/ 261 وابن خلكان 4/ 63 وإنباه الرواة 3/ 23 وتذكرة الحفاظ والسبكى 7/ 266 وشذرات الذهب 4/ 50 واللباب 1/ 295 ومرآة الجنان 3/ 213 والعبر فى خير من عبر 4/ 38 والنجوم الزاهرة. 5/ 225 وروضات الجنات 527 ونزهة الألباء لابن الأنبارى ص 379 وشرح الشريشى على المقامات =

ص: 472

من البصرة، وقد ولد له سنة 446 وبها كان منشؤه ومرباه. ثم سكن البصرة فى حى بنى حرام الفزاريّين، وأخذ يختلف إلى علماء عصره، يأخذ عنهم الحديث والفقه والأدب، ويسميهم، ويعدّدهم، السبكى فى طبقاته. ويذكر مترجموه أنه تولى وظيفة الخبر فى ديوان الخلافة بالبصرة، وهى وظيفة تشبه وظيفة مصلحة الاستعلامات فى عصرنا، ولا يعرف بالضبط متى تقلّدها ولا متى عهد إليه بها، وظل فى هذه الوظيفة إلى وفاته سنة 516 وظلت بعده فى أبنائه حتى آخر عهد المتقى بالله (530 - 555 هـ). ولم تمنعه الوظيفة من أن يعكف على الأدب واللغة، بل أن يفرغ لهما، فيكتب مجموعة من الرسائل، وآيته الرائعة: المقامات، وينظم من الشعر ما يتيح له أن يكون من أصحاب الدواوين، ويؤلف كتابه المعروف «درّة الغوّاص فى أوهام الخواص» وهو مطبوع مرارا وواضح من عنوانه أنه فيه يسجل أغلاط المتأدبين مما يشيع على ألسنة العامة، وإن كان قد بالغ فى ذلك حتى عدّ بعض الكلمات الفصيحة غير صحيحة. ولشهاب الدين الخفاجى شرح عليه طبع فى إستانبول، ومرّ بنا فى غير هذا الموضع أن لتلميذه الجواليقى تكملة ألحقها بالكتاب وهى مطبوعة. ويؤلف الحريرى أيضا ملحة الإعراب، وهى منظومة فى النحو شرحها شرحا جيدا، وهى مطبوعة فى القاهرة مرارا. وكان لا يزال يختلف بين عمله فى البصرة وضياعه فى المشان وبين بغداد دار الخلافة وملتقى العلماء والأدباء. ومما يدل على أنه كان يختلف إلى بغداد منذ أواخر القرن الخامس ما أنشده له العماد الأصبهانى فى مديح سعد الملك وزير السلطان محمد شاه السلجوقى الذى صلبه وقتله سنة 500 للهجرة. ويقول السبكى إنه حدّث فى بغداد بجزء من حديثه وبمقاماته.

وكان الحريرى لا يبارى فى الأدب والبلاغة والفصاحة، وتعدّ مقاماته آية براعته التى ليس لها لاحقة مماثلة وكأنما أغلق الأبواب بكلتا يديه بعده، فلم يستطع أحد أن يجاريه أو يبلغ مبلغه فى تلك المقامات، ويشهد بذلك الزمخشرى قائلا:

أقسم بالله وآياته

ومشعر الحج وميقاته

إن الحريرىّ حرىّ بأن

نكتب بالتّبر مقاماته

ويقول السمعانى عنه: «لم يكن له فى فنه نظير فى عصره، ولو قلت إن مفتتح الإحسان فى شعره كما أن مختتم الإبداع فى نثره، وأن مسير الحسن تحت لواء كلامه، كما أن

= الحريرية، وهو مطبوع فى مصر مرارا، وهو شرح نفيس وتكتظ رفوف المكتبات بشروح للمقامات لا تزال مخطوطة. وراجع فيه وفى مقاماته كتابنا (المقامة) طبع دار المعارف ص 44 والفن ومذاهبه فى النثر العربى ص 292.

ص: 473

مخيّم السحر عند أقلامه، لما زلقت من شاهق الإنصاف، إلى حضيض الاعتساف».

ويقول العماد الأصبهانى: «طلعت ذكاء (1) ذكائه فى المغرب والمشرق، وامتلأت ببضائع فوائده، ونواصع فرائده، حقائب المشئم والمعرق. . حريرىّ الوشى، عراقىّ الوشم (2)، لؤلؤى النظم، كلامه يتيمة البحر، وتميمة النّحر، ودرّة الصّدف، ودرّى السّدف (3). . قد أعجز الفصحاء بصناعته، وأبرّ (4) على البلغاء ببراعته» . ويقول الرواة إنه كان بخيلا دميم الخلقة والهيئة، تقتحمه العين، وكان يعتاد نتف لحيته، والناس على الرغم من ذلك يزدحمون عليه لسماع مقاماته وإجازتهم بروايتها. ويقال إنه أجاز لسبعمائة طالب أن يرووها عنه، وفى ذلك ما يدل على ما كان يحظى به هو ومقاماته فى عصره من منزلة أدبية رفيعة.

والمقامات أقاصيص قصيرة تصور مواقف متنوعة لأديب متسول يحتال ببيانه وفصاحة لسانه على الناس، فيلقون إليه بالدراهم والدنانير، وهى تزخر بحركة تمثيلية، غير أنها لا تتسع لتصوير حياة مجتمعها، فقد كانت غاية الحريرى منها غاية بيانية بلاغية فحسب، واستطاع أن يحقق هذه الغاية إلى أبعد مدى. ويزعم الرواة أن سبب صوغه لها ما حكاه عن نفسه من أنه كان جالسا فى مسجد بنى حرام فى البصرة فدخل شيخ رثّ الهيئة، كان شحاذا أديبا فسلّم ثم سأل، فأعجبت الحاضرين فصاحته وحسن بيانه، فسألوه عن كنيته فقال أبو زيد، وسألوه عن موطنه، فقال من سروج، وهى بلدة قرب حرّان شمالى العراق، فعمل الحريرى المقامة المعروفة باسم الحرامية، وهى المقامة الثامنة والأربعون، ونسبها إلى أبى زيد السّروجى المذكور، واشتهرت فبلغ خبرها-فيما يقال-أنو شروان ابن خالد وزير الخليفة المسترشد (512 - 529 هـ). فأشار عليه أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة. ويقال بل إنه حين عاد إلى البصرة صنع أربعين مقامة، ورجع إلى بغداد، فأعجب بها الأدباء، وطلبوا إليه أن يؤلف على غرارها مقامة امتحانا له، فظل أربعين يوما لا يفتح عليه بشئ، فعاد إلى البصرة، وألف عشر مقامات، وأصعد بها إلى بغداد فعرف الأدباء فضله. وقال بعض حساده إنها من صناعة شخص كان استضافه، فمات عنده. وقال حساد آخرون إن البدو أخذوا جرابا لمغربى من بعض القوافل كانت به هذه المقامات، وتصادف أن اشتراه منهم الحريرى فنسبها إلى نفسه! .

وكل ما قدمنا قصص غير صحيحة، وفى مقدمتها قصة تشجيع أنوشروان بن خالد له

(1) ذكاء: شمس.

(2)

الوشم: النقش.

(3)

السدف: الظلم.

(4)

أبر: غلب.

ص: 474

وبعثه على تأليفها، فإنه تولى وزارة المسترشد بعد وفاة الحريرى، وكذّبها ابن خلكان بطريق آخر إذ قال إنه رأى نسخة من المقامات بخط الحريرى نفسه كتب بخطه على ظهرها إنه صنفها للوزير جلال الدين بن صدقة وزير المسترشد وقد وزر له فى أول خلافته سنة 512 وكأنه هو الذى أشار إليه فى مقدمة المقدمات بقوله:«فأشار من إشارته حكم وطاعته غنم إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع» يريد البديع الهمذانى ومقاماته.

وتوقف الشريشى فى شرحه إزاء هذه العبارة، وكأنه أراد أن يدحض كل ما قيل من أن المقامات ألفت فى عهد المسترشد بإشارة أحد وزيريه: ابن صدقة أو ابن خالد، فقال إنها إنما ألفت بإشارة الخليفة المستظهر (487 - 512 هـ) وبدأ الحريرى تأليفها سنة 495 واستغرقت منه نحو عشر سنوات حتى سنة 504.

واتسعت الأسطورة بأبى زيد، أديب المقامات الشحاذ، فقيل إنه نحوى يسمى المطهّر ابن سلار، ونرى كتب تراجم النحاة تترجم له ذاكرة أنه صاحب الحريرى الذى أنشأ المقامات على لسانه، وتقول إنه روى عنه أرجوزته «ملحة الإعراب» وربما كان المطهر شخصية حقيقية، ودخل الوهم منه على النحاة، فظنوا أنه أبو زيد السّروجى. ومن المؤكد أن أبا زيد فى المقامات شخصية خيالية اخترعها خيال الحريرى ليحوك من حولها حيل أديب متسول. وقد سمى راويته الحارث بن همّام يعنى به نفسه أخذا من الحديث النبوى:

«كلكم حارث وكلكم همام» أى كاسب كثير الاهتمام. ومن المؤكد أيضا أنها بناء متكامل، لم يعدّ مجزّا ولا قطعة تلو قطعة، ويتضح ذلك من طريقة الحريرى فى عرضه المقامة الأولى، إذ جعلها لتعريف أبى زيد بروايته، بينما جعل الأخيرة، وهى ذات الرقم الخمسين، لتوبة أبى زيد من حرفة الشحاذة وحيلها الكاذبة وندمه على ما تقدم من ذنوبه، ويغيب عن راويته، ولا يزال يبحث عنه حتى يجده فى بلدته سروج وقد تحول ناسكا متصوفا مستغرقا فى عبادة ربه. وسمى المقامات فيما عدا ثلاثا منها باسم البلدان التى تنقل فيها أبو زيد من مشرق العالم الإسلامى إلى مغربه. ونرى الحريرى يذكر فى مقدمتها مقصده منها إذ يقول:«أنشأت خمسين مقامة تحتوى على جدّ القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشّحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات ورصّعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجى النحوية، والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والخطب المحبّرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية» .

ومعنى ذلك أنه لم يقصد فيها إلى القصص لذاته، وإنما قصد فيها إلى أفانين من النثر فضلا عما التزمه من السجع. وكان ذوق التصنع عمّ فى الكتابة، فلم يقف الكتّاب عند السجع

ص: 475

والمحسنات البديعية، بل أخذوا يضيفون إلى ذلك عقدا غريبة يصعّبون بها المرور إلى السجع، حتى يثبتوا براعتهم الأدبية، وما نكاد نلمّ بالمقامة السادسة، حتى نراه يخلب ألباب الناس برسالة تتوالى كلماتها: كلمة حروفها منقوطة وكلمة حروفها غير منقوطة، حتى إذا كانت المقامة المغربية السادسة عشرة عرض عقدة أو لعبة غاية فى العسر تسمى ما لا يستحيل بالانعكاس كقوله. «لم أخا ملّ» فإن العبارة تقرأ طردا وعكسا فلا تتغير حروفها، ومضى يعرض طائفة كبيرة من مثل هذه العبارة نثرا وشعرا، مما ملأ الحاضرين به إعجابا شديدا. وفى المقامة القهقرية التالية جاء بطائفة كبيرة من الحكم تقرأ الألفاظ فيها لا الحروف طردا وعكسا مثل «مع اللجاجة تلغى الحاجة» فإنها يمكن أن تقرأ «الحاجة تلغى مع اللجاجة» . ويسمى المقامة السادسة والعشرين باسم الرّقطاء لأنها تتألف من كلمات تتوالى حروفها بالتبادل بين النقط وعدمه مثل «نائل يديه فاض، وشحّ قلبه غاض» . وفى المقامة الثامنة والعشرين نرى أبا زيد يخطب خطبة كل كلماتها غير منقوطة، ويعود إلى نفس اللعبة فى المقامة التالية. وكل هذه عقد غريبة كان يمكن أن تخنق المقامات خنقا لولا ما امتاز به نسج الحريرى من عذوبة ورشاقة. وكانت لعبة الألغاز شاعت فى العصر، فأفرد لها مقاماته: السادسة والثلاثين والثانية والأربعين والرابعة والأربعين. وخصّ النحو بالمقامة الرابعة والعشرين، إذ عرض فيها اثنتى عشرة مسألة نحوية، وأفرد للفقه مقامتين:

الخامسة عشرة والثانية والثلاثين. وقلما يعنى بعرض شئون عصره السياسية والاجتماعية إلا أشياء طفيفة هنا وهناك، فقد كان مشغولا بعرض الأمثال والكنايات وألفاظ اللغة الغريبة، على أن تكون مقبولة لا تصكّ الأسماع ولا تستثقلها الأفواه. وهو يكثر فى مقاماته من الآيات القرآنية ومن أشعاره الجيدة ومن المحسّنات البديعية وخاصة الجناس. وطبيعى أن تتعدد فيها المواقف ويتنوع معها وصفه، فتارة يصف روضة أو فلاة أو بحرا أو سوقا، وتارة ثانية هو زاهد متعبد يكثر من وعظه بمثل قوله:

«ابن آدم ما أغراك بما يغرّك، وأضراك (أجرأك) بما يضرّك، وألهجك بما يطغيك، وأبهجك بمن يطريك. . لا بالكفاف تقتنع، ولا من الحرام تمتنع، ولا للعظات تستمع، ولا بالوعيد ترتدع. . يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك. .

أتظن أن ستترك سدى، وأن لا تحاسب غدا. . كلا والله لن يدفع المنون، مال ولا بنون، ولا ينفع أهل القبور، سوى العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادّعى (ونهى النّفس عن الهوى) وعلم أن الفائز من ارعوى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى)».

ص: 476

والمواعظ والأدعية الإلهية كثيرة فى المقامات، ودائما تعرض فى مثل هذه الأسجاع الخفيفة التى تطير عن الأفواه فى عذوبة ورشاقة. وبينما يلقانا أبو زيد فى بعض النوادى واعظا إذا هو يتحول من حين إلى حين ماجنا مع ندامى يحتسى العقار ويخلع الوقار. ولكن من الحق أن ذلك قليل فى المقامات، وقد أراد به الحريرى إلى الفكاهة والدعابة، وهما واضحتان عنده فى مقامات عدّة، وخاصة حين يظهر أبو زيد مع ابنه أو مع زوجته مختصمين إلى أحد القضاة أو الحكّام على نحو ما نرى فى المقامة الإسكندرانية، إذ تنكّر فى زى شيخ هرم خبيث تجرّه بعنف امرأة معها طفل نحيل ضئيل، وتقدما إلى القاضى وكانا قد عرفا أنه أحضر مال الصدقات ليوزعه على الفقراء وذوى الحاجات، ولم تلبث المرأة أن بادرت إليه قائلة:

«أيّد الله القاضى، وأدام به التراضى، إنى امرأة من أكرم جرثومة، وأطهر أرومة، ميسمى الصّون. . وخلقى نعم العون، وبينى وبين جاراتى بون، وكان أبى إذا خطبنى بناة المجد، وأرباب الجدّ، سكّتهم وبكّتهم، وعاف وصلتهم وصلتهم، واحتجّ بأنه عاهد الله تعالى بحلفة، أن لا يصاهر غير ذى حرفة، فقيّض القدر لنصبى ووصبى، أن حضر هذا الخدعة نادى أبى، فأقسم بين رهطه، أنه وفق شرطه، وادّعى أنه طالما نظم درّة إلى درّة، فباعهما ببدرة (مال كثير) فاغترّ أبى بزخرفة محاله (كيده) وزوّجنيه قبل اختبار حاله، فلما استخرجنى من كناسى (بيتى) ورحّلنى عن أناسى، ونقلنى إلى كسره (بيته) وحصّلنى تحت أسره، وجدته قعدة جثمة (لا يفارق البيت) وألفيته ضجعة (عاجزا) نومة. . . ومزّق مالى بأسره، وأنفق مالى فى عسره. . ولى منه سلالة، كأنه خلالة، وكلانا ما ينال منه شبعة، ولا ترقأ له من الطّوى (الجوع) دمعة، وقد قدته إليك، وأحضرته لديك، لتعجم (لتختبر) عود دعواه، وتحكم بيننا بما أراك الله» .

وتمضى المقامة على هذا النمط الفكه، ويردّ الشيخ بقصيدة طويلة يدعى فيها أنه لا يشقّ غباره فى العلم والشعر، وأنه طالما اكتسب الأموال بدرر كلامه، غير أن سوق الأدب كسدت، لانقراض جيل الكرام، مما اضطره إلى بيع كل ما يملك هو وزوجته، حتى لقد باع-كارها والدموع تترقرق فى عينيه-جهازها وكل ما دخلت به من أثاث ورياش أو ثياب فاخرة. وتنتهى المقامة بعطف القاضى على الشيخ وزوجته وفرضه لهما فى الصدقات حصّة.

والمقامات يشيع فيها الجناس والمحسنات البديعية، كما تشيع فيها العذوبة، ويخيل إلى قارئ الحريرى فى مقاماته كأنما جمع العربية كلها فى كنانة أو حقيبة ثم نثر ألفاظها بين

ص: 477

يديه، وأخذ يختار منها وينتخب أروع ما عرفت لغتنا من أساليب مسجوعة، وكأنما كان يعزفها على قيثارة عزف ملحن مبدع، مما جعل معاصريه ومن جاء بعدهم يتخذونها النموذج النثرى الذى لا يجارى فى غرس ذوق العربية فى نفوس الناشئة وكل ما يطوى فى هذا الذوق من إحساس بجمال الصياغة الأدبية النثرية. ومرّ بنا فى الفصل الثانى من هذا القسم الخاص بالعراق أن لابن الخشاب البغدادى المتوفى سنة 567 مبحثا لغويا فيما زعمه من أغلاط الحريرى فى مقاماته وأن لابن برّىّ اللغوى المصرى المتوفى سنة 582 ردّا عليه انتصر فيه للحريرى.

وكان للحريرى بجانب مقاماته مجموع رسائل، لم تحتفظ به يد الزمن، غير أن العماد فى خريدته وياقوت فى معجمه احتفظا ببعض رسائله، وأطال العماد الأصبهانى فى قطف منتخبات كثيرة من هذه الرسائل شغلت منه فى ترجمته له نحو أربعين صحيفة، وقد سجل منها هو وياقوت رسالتين اشتهرتا فى عصر الحريرى وبعد عصره، اختار كلمات الأولى منها من ذوات السين ولذلك سميت السينية، واختار كلمات الثانية من ذوات الشين، ولذلك سميت الشينية، والتكلف فيهما واضح لالتزام كلمات بعينها، وكأنه فيهما يحجل فى قيود ثقيلة. غير أن ما وراءهما من رسائل يشهد له بسلاسة سجعه وحسن رصفه فى رسائله شأنه فى مقاماته، كقوله فى وصف جواب أو رسالة من أحد أصدقائه:

«وصل الجواب. . وخلته كتاب الأمان، من الزمان، فتلقيته، كما تتلفى يد الإنسان، صحف الإحسان، وصكاك العطايا الحسان. لا: بل كما تتلقى أنامل الرّاح (الكف) كاسات الرّاح (الخمر) من أيدى الصّباح (الفاتنات) فى نسمات الصّباح، ومازلت أتمتع بحلىّ ودرر، ووشى وحبر (حرير) وملح وزهر. . فلله ما جمع فيه من أنوار ونوّار (زهر) ونضير (جميل) ونضار (ذهب) وتحسين وإحسان، ومعين (ماء عذب) ومعان» .

وواضح ما فى هذا السجع من خفة ورشاقة بما يحتويه من مهارة فى انتخاب ألفاظه وتقصير عباراته بحيث يمتع الألسنة كلامه حين يجرى عليها متدفقا فى عذوبة، كما يمتع الآذان حين تستمع إلى جرسه ونبراته، حتى ليشعر قارؤه أن متاعا موسيقيّا خلابا يصبّ فى حنايا سجعه، متاعا يلذ الآذان والقلوب والأفئدة.

ص: 478