الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
النثر وكتّابه
1 - تنوع النثر:
رأينا فى العصرين العباسى الأول والثانى كيف تنوع النثر تنوعا واسعا، فكان هناك النثر العلمى والنثر الفلسفى والنثر الأدبى، وكانت هناك المناظرات والمواعظ والقصص وكتب الأدب التهذيبى، وكانت هناك الرسائل الشخصية والسياسية، وكل هذه الأنواع مضت تزدهر فى عصر الدول والإمارات بالعراق وخاصة فى القرنين الرابع والخامس للهجرة. ولا نبالغ إذا قلنا إنهما كانا أزهى القرون فى العصر بالقياس إلى النثر وفنونه، فقد بلغ العقل العربى كل ما كان يرجى له من نضج، إذ ظل المترجمون ينقلون إليه قبل ذلك كل ما كان عند الأمم القديمة من معارف، وظل يتغذى بها وينمو ولم يلبث أن شارك فيها وأصبح للعرب علماؤهم ومتفلسفتهم، وظل يقطع أشواطا ومراحل حتى بلغ القمة فى مطالع هذا العصر.
وكانت قد بقيت للترجمة بقية، وهى تدل بوضوح على ما نقوله، فقد كانت انتقلت من الترجمة الحرفية إلى الترجمة بالمعنى على نحو ما صورنا ذلك فى كتاب العصر العباسى الثانى، وإذا رجعنا إليها وإلى أصحابها فى هذا العصر لاحظنا أنهم انتقلوا بها نقلة واسعة نحو العناية بالأداء والصياغة، حتى لكأن المترجمات توضع فى العربية ابتداء، فلا عوج ولا أمت فى صيغة، بل مع الرونق وحسن الأداء، ونضرب مثلا للمترجمين عيسى بن زرعة البغدادى المتوفى سنة 398 وفيه يقول أبو سليمان المنطقى السجستانى:
«هو آخر من يرتضى نقله لكتب الحكيم أرسططاليس: البسائط والجوامع. . وكتاب جالينوس «منافع الأعضاء وغيره من الكتب» . ويذكر مثلا لما ترجمه من كلام أرسططاليس على هذا النمط (1):
(1) انظر فى الفقرة التالية المترجمة كتاب منتخب صوان الحكمة لأبى سليمان المنطقى السجستانى (طبع طهران) ص 333
ولو أننا لم نعرف أن هذه الفقرة مترجمة عن أرسططاليس ما تنبهنا إلى ذلك لصياغتها العربية المحكمة، وما يجرى فيها من رونق الصياغة الأدبية كما هو واضح فى مثل قوله:
«ومن رفع عصاه عن نفسه، وألقى حبله على غاربه، وسيّب هواه فى مرعاه» . وهى استعارات وكنايات بيانية. وأرسططاليس فى الفقرة يشير إلى ما ذهب إليه من أن الإنسان مكوّن من طبيعة هى البدن وما يتصل به من الملذات، وهى تصلح وتفسد، وأيضا من النفس التى لا تبلى والتى يترقى بها الإنسان ويكمل. وابن زرعة يترجم حقا، ولكنها ترجمة أشبه بأن تكون من إنشائه ابتداء، ولذلك تصبح الفقرة، وكأنها وصية أو نصيحة لواعظ-كما لاحظ أبو سليمان المنطقى السجستانى-يريد بها للإنسان أن يصلح من طبيعته الأمارة بالسوء ولا يستجيب إلى شهواتها ومآربها المادية. ولم ينقلها مترجم يعرف العربية فحسب، بل ترجمها أديب يتذوق أساليب العربية ويفقه دقائقها وخصائصها البيانية.
ويشيد ابن أبى أصيبعة فى كتابه طبقات الأطباء ببلاغة كثيرين منهم ومن العلماء بالرياضيات والطبيعيات، ويسوق لهم أشعارا كثيرة.
وشملت هذه الصياغة المحكمة الفلسفة، ويخيل إلى الإنسان أنها كانت قد أصبحت فى القرنين الرابع والخامس للهجرة قوتا أو غذاء عاما للشعب، بحيث لم تقتصر على الطوائف العليا والوسطى فى المثقفين، بل اتسعت حتى احتوت الطوائف الدنيا، وذكرنا فى الفصل الثانى دليلا قويّا على ذلك هو أن جماعة إخوان الصفا السرّيّة التى كانت تدعو فى البصرة إلى المذهب الإسماعيلى لجأت إلى الفلسفة والعلوم فى صنع رسائل اتخذتها وسيلة لنشر هذا المذهب، ولو أنه استقر فى نفسها أن العلوم والفلسفة معا يرتفعان عن مدارك العامة ما لجأت إلى هذه الوسيلة ولعرفت منذ أول الأمر أنها وسيلة قاصرة فكفّت عنها، أما وقد تمادى إخوان الصفا فيها ومضوا يدسّون رسائلهم فى دكاكين الوراقين ببغداد والبصرة فإن ذلك دليل حى على تعلق العامة بمعرفة الفلسفة، وسنرى عما قليل مناظرة بين زعيمهم المقدسى والحريرى فى دكان حمزة الوراق بشارع الوراقين فى بغداد، تتناول الأسس
والغايات التى من أجلها كتبت رسائل إخوان الصفا، وقد عمل المقدسى ورفيقه زيد بن رفاعة على إذاعتها ونشرها ببغداد.
وأخرى ألممنا بها فى فصل الثقافة وهى تدل على أن الفلسفة أصبحت فى القرن الرابع الهجرى شائعة مشتركة بين الناس أو قل بين البغداديين، وهى كثرة المنتديات التى كانت تثار فيها مسائلها، ومثلنا لذلك بندوة أبى سليمان المنطقى السجستانى، وذكرنا من كان يؤمها من علية المتفلسفة، وكان وراءهم آخرون دونهم فى الرتبة، يؤمون داره كل يوم. وكان كثيرا ما يلقى سؤال وتدور حوله محاورة كبيرة، كل متفلسف يرى فيها رأيا يدلى به، ثم يكون الرأى الأخير لأبى سليمان، وكأنه المنارة الهادية. وقد استطاع أحد تلاميذه وهو أبو حيان التوحيدى-كما مرّ بنا-أن يجمع طائفة كبيرة من هذه المحاورات الفلسفية، وسماها المقابسات أى المحاورات، وكأنما ارتضى لها كلمة المقابسة لتدل على أن كل من كان يحضر الندوة ويحاور فيها كان يقتبس من فكر صاحبه. وكأنما استحال بينهم الفكر الفلسفى إلى ما يشبه نارا كل يقبس منه حسب استطاعته، وقد بلغت المقابسات مائة وستا فى نحو أربعمائة صفحة كبيرة، وهى أشبه بدائرة معارف فلسفية تضم مباحث عميقة فى الإلهيات والطبيعيات والنفس والعقل والأخلاق والأدب والبلاغة. ويمكن أن ندخل متفلسفة القرن الرابع فى هذه الندوة وغيرها فى دائرة الفارابى وتلاميذه، فقد مضوا جميعا فى إثره يعنون بالإلهيات وبمنطق أرسطو وبالنفس والعقل متأثرين بنظرية الفيض التى بثّتها الأفلاطونية الحديثة، وهى مبثوتة فى كلام أبى سليمان وتلميذه النّوشجانى، وقد عرض لها الأخير فى المقابسة السادسة والثلاثين ولا نرى أحدا يراجعه مما يدل على إيمانهم بها جميعا.
وفى مواضع كثيرة من المقابسات نرى أبا سليمان وغيره من تلاميذه يرفعون من شأن الدين، وقد حاول هو وبعض مريديه مرارا وتكرارا أن يدفعوا الفكرة أو النظرية التى قامت عليها رسائل إخوان الصفا، وهى الوصل بين الفلسفة والشريعة، كما مر بنا فى فصل الثقافة ونقضوها عليهم نقضا، وصوّر أبو حيان فى كتابه الإمتاع والمؤانسة ردّ أبى سليمان عليهم (1)، وهو رد مفحم رائع أوضح فيه أن مرد الشريعة إلى الله والوحى ومرد الفلسفة إلى الرأى والعقل، ونعرض حانبا من رده لنرى قدرته البيانية، يقول:
«الشريعة مأخوذة عن الله عز وجل بواسطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحى وباب المناجاة، وشهادة الآيات وظهور المعجزات، على ما يوجبه العقل تارة، ويجوّزه
(1) الإمتاع والمؤانسة 2/ 6 - 18 وانظر فى أبى سليمان ص 285 السابقة.
تارة، لمصالح عامة متقنة، ومراشد تامة مبيّنة، وفى أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوص فيه (كالبعث) ولا بد من التسليم للداعى إليه والمنبه عليه، وهناك يسقط لم؟ ويبطل كيف؟ ويزول: هلاّ، ويذهب لو وليت فى الريح، لأن هذه المواد عنها محسومة واعتراضات المعترضين عليها مردودة، وارتياب المرتابين فيها ضار، وسكون الساكنين إليها نافع. . وأساسها على الورع والتقوى، ومنتهاها إلى العبادة وطلب الزلفى. ليس فيها حديث المنجم فى تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك. . ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر فى آثارها. . ولا فيها حديث المهندس. . ولا فيها حديث المنطقى. . فعلى هذا كيف يسوغ لإخوان الصفا أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوة تجمع حقائق الفلسفة فى طريق الشريعة. . وكما لم نجد فى هذه الأمة من يفزع إلى أصحاب الفلسفة فى شئ من دينها، كذلك أمة عيسى عليه السلام، وهى النصارى، وكذلك المجوس. . فأين الدين من الفلسفة؟ وأين الشئ المأخوذ بالوحى النازل من الشئ المأخوذ بالرأى الزائل؟ . .
وبالجملة النبى فوق الفيلسوف والفيلسوف دون النبى، وعلى الفيلسوف أن يتّبع النبى وليس على النبى أن يتبع الفيلسوف، لأن النبى مبعوث والفيلسوف مبعوث إليه. ولو كان العقل يكتفى به لم يكن للوحى فائدة ولا غناء، على أن منازل الناس متفاوته فى العقل بأسره لواحد منا وإنما هو لجميع الناس. . والنبى يقول أمرت وعلّمت وقيل لى وما أقول شيئا من تلقاء نفسى، والفيلسوف يقول رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت، والنبى يقول: معى نور خالق الخلق أمشى بضيائه، وهذا يقول معى نور العقل أهتدى به، والنبى يقول:
قال الله تعالى وقال الملك، وهذا يقول قال أفلاطون وسقراط. .».
وواضح أن أسلحة أبى سليمان من المنطق والتفلسف أسلحة حادة، فقد فصل بوضوح بين الدين أو الشريعة وبين الفلسفة، فالدين مرجعه الوحى والفلسفة مرجعها العقل، والدين مرجعه الله والفلسفة مرجعها آراء الفلاسفة، وهى تتفاوت وتختلف باختلافهم، والشريعة مستغنية عن الفلسفة بكل فروعها. والنبى فوق الفيلسوف، والشريعة تدعو إلى التقوى والورع ولا شأن للفلسفة بذلك. ولعل وصل إخوان الصفا بين الشريعة والفلسفة هو الذى دفع أبا سليمان وغيره من أفراد مدرسته إلى مهاجمة المتكلمين، لأنهم صدروا فى مباحثهم الكلامية كثيرا عن هذا الوصل وما يتصل به من التوفيق، وكأن أبا سليمان أحسّ أنهم هم المسئولون عن هذا العمل المغرض الذى يراد به الدعوة إلى المذهب الإسماعيلى الشيعى الغالى غلوّا شديدا، ولذلك مضى يهاجمهم مهاجمة عنيفة-كما نقل عنه أبو حيان
فى المقابسات-قائلا إنهم يعتمدون على الجدل والمغالطة ومحاولة إسكات الخصم والإيهام مع قلة تألّه وسوء ديانة. ومن المؤكد أن وصفهم بقلة التأله وسوء الديانة فيه مبالغة، وقد يكون اتفق له منهم من رأى فيه انحرافا عن الدين، وكان ينبغى أن لا يعمّم حكمه. على كل حال إنما أردنا بما اقتبسناه من كلامه عن إخوان الصفا والوصل بين الشريعة والفلسفة أن ندل على أن لغة المتفلسفة فى العصر صبغت بأصباغ أدبية واضحة، إذ يعرف أبو سليمان كيف يصطفى ألفاظه، وكيف يجرى فيها ترادفا بديعا يجعل لوقعها على الآذان جمالا، وكيف ينسق عباراته ويأتى بها قصيرة متلاحقة. ونقرأ فى المقابسات قطعا فلسفية أدبية للكثيرين من تلاميذه ورفاقه مثل النّوشجانى الذى نراه يستدل على الحياة بعد الموت على هذا النمط (1):
«إذا كان صنف من أصناف الموجود فى حكم المعدوم لخساسته، ونقصه وتهافته، وفساد طبيعته، وطموس ضيائه، وقبح صورته، وانمحاء بهجته، وخمود شعاعه، وفقد تمامه، وتقطّع نظامه، واستيلاء رذيلته، وبطلان فضيلته، فلا تنكر أن يكون فى مقابلته وبإزائه صنف آخر من المعدوم فى حكم الموجود لصحة صورته، ونفاسة جوهره، وكمال فضيلته، وظاهر عفته، وبهاء هيئته، وغلبة عدالته، ونقاء سنخه، وصفاء سوسه (2)، وطهارة ذاته، وظاهر زينته، ودوام نضرته، وتناسب جملته وتفصيله، وسائر ما لا يحيط القول به. . فإنك متى حويت هذه المعانى. . اكتنفتك الخيرات عاجلا، والسعادات آجلا. فتكون حينئذ موجودا وإن عدمت، وباقيا وإن فنيت، وحاصلا وإن فقدت، وثابتا وإن نفيت، وحيا وإن مت، وظاهرا وإن بطنت، وجليّا وإن خفيت، وواضحا وإن أشكلت، وشاهدا وإن غبت، وقادرا وإن عجزت. .
هنالك تصل إلى غنى بلا قنية (3)، وتنطق بلا عبارة، وتفعل بلا آلة، وتصيب بلا مشورة، وتعقل بلا مقدمة، وتبقى بلا آفة. . وتسعد بلا شوب. إلهية ورثتها من البشرية، وربوبية وصلت إليها بالعبودية».
ويمضى النوشجانى فيقول لمنكر الحياة بعد الموت إنك إنما تنكرها حين تنظر إلى شخص فى إسار الحس وقشور البدن مع فساد العقيدة والعكوف على الشهوات المهلكة، فتقول متى يكون لهذا رجوع وحياة بعد الموت؟ وكان حريّا به أن يباين هواه ويختار الحق ويؤثر الخير إذن تكون السعادة غايته، والأبد نعته ونهايته. وصياغة النوشجانى رائعة بما فيها من
(1) المقايسات (طبعة بغداد): المقايسة السادسة والأربعون وانظر فى النوشجانى المقايسات 29، 36، 106.
(2)
السوس والسنخ: الأصل.
(3)
القنية: ما يكتسب من المال ويقتنى.
جمال الجرس فى الأداء الناشئ عن قصر العبارات وحسن انتخاب الألفاظ وما يجرى فيها من ترادف بديع وقدرة على التناسق فى الكلمات والصيغ وسيلانها، بل تدفقها، بالفكر الصافى الخالى من الشوائب. وهو ما نقوله إن النثر الفلسفى فى هذا العصر التقى بالأدب والتمع فى أثنائه وعلى حواشيه، فغدا يروع السمع كما يروع الفكر والذهن.
وطبيعى فى هذه الأثناء أن تزدهر المناظرات، وأن تشيع فى كل مجلس وبين العلماء والأدباء، وقد اشتهر مجلس المهلبى ببعض مناظرات بين الحاتمى والمتنبى على نحو ما يوضح ذلك الحاتمى فى رسالته «الموضحة» واشتهر عضد الدولة البويهى بما كان يعقد من مناظرات بين العلماء فى مجالسه، ويحدثنا القاضى عياض فى ترجمته (1) للباقلاّنى عن مناظرته بحضرة عضد الدولة للأحدب رئيس معتزلة بغداد حول تكليف ما لا يطاق، ومناظرته بحضرته أيضا لأبى إسحق النّصيبينى رئيس معتزلة البصرة حول رؤية الذات العلية. وكانت المناظرات لا تزال ناشبة بين أصحاب الطب وغيره من علوم الأوائل حتى لنجد طبيبا بغداديّا فى القرن الخامس الهجرى هو ابن بطلان يرحل إلى مصر لمناظرة ابن رضوان الطبيب المصرى والحوار معه (2). وما لنا نذهب بعيدا ومنتدى أو ندوة أبى سليمان المنطقى السجستانى فى القرن الرابع الهجرى كانت تعج بالحوار والجدال فى كل فروع الفلسفة ومسائلها الدقيقة. ولم تكن المناظرات تقتصر على الندوات أو على المساجد، بل كانت أيضا تجرى فى الأسواق وخاصة سوق الوراقين حيث يلتقى أصحاب المذاهب والآراء، فتنشب بينهم معارك الجدل والمناظرة، من ذلك المناظرة الطريفة التى حكاها أبو حيان بين شخص يسمى الحريرى كان يأخذ بشئ من الفلسفة والفكر الدقيق وبين المقدسى أبى سليمان محمد بن معشر البيستى الرازى مخرج رسائل إخوان الصفا كما أسلفنا فى فصل الثقافة، ولذلك نسبها إليه أبو سليمان المنطقى السجستانى كما مرّ بنا، وكان لا يزال يرى ببغداد فى ندوته، وفى شارع الوراقين. وكان الرأى العام السائد هناك يعارض نظريته فى التوفيق بين الشريعة والفلسفة، ولعلهم كانوا يعرفون مقصده الذى نبهنا إليه مرارا، وكانوا يتعرّضون له فلا يراهم أهلا للجواب، حتى كان يوم-وهو يتجوّل فى الوراقين-تعرّض له فيه الحريرى غلام ابن طرّارة وهيّجه بما أورد عليه من أدلة، مما جعله يندفع قائلا (3)
الشريعة طبّ المرضى والفلسفة طب الأصحاء، فالأنبياء يطبّون للمرضى حتى
(1) انظر هذه الترجمة فى نهاية كتاب التمهيد للباقلانى (نشر دار الفكر العربى بالقاهرة) ص 246.
(2)
راجع القفطى ص 298، 444 وابن أبى أصبيعة ص 325 وما بعدها.
(3)
الإمتاع والمؤانسة 2/ 11 وما بعدها.
لا يتزايد مرضهم أو حتى يزول بالعافية ولا شئ وراء العافية، وأما الفلاسفة فيطبّون للأصحاء وبذلك يفيدونهم كسب الفضائل التى تؤهلهم للحياة الإلهية. وإن كسب المريض بعض الفضائل فليست فضائله من جنس فضائل الصحيح، إذ الأولى (فضائل المريض) تقليدية والثانية برهانية، والأولى مظنونة والثانية مستيقنة، والأولى جسمية والثانية روحانية، والأولى دهرية والثانية زمانية. وقال إننا جمعنا بينهما لأن الشريعة لا تعترف بالفلسفة بينما الفلسفة تعترف بها لأن الشريعة عامة والفلسفة خاصة فجمعنا بينهما لأن العامة قوامها بالخاصة، كما أن الخاصة تمامها بالعامة.
وأخذ الحريرى ينقض أفكاره فكرة فكرة مبينا ما فيها من فساد، فقال له إن كلامك يخالف الواقع، إذ لا يوجد طبيبان: طبيب للمرض وطبيب للصحة، بل ذلك شئ خارج عن العادة، فدائما الطبيب يعنى بحفظ الصحة ودفع المرض، وإذن سقطت تلك الفكرة المضللة. ونقض عليه ما زعمه من أن الفضيلة الدينية تقليدية والفلسفية برهانية، فقال له إن الدينية برهانية لأنها صادرة عن الوحى ولذلك تستقيم مع أى برهان، أما الفضيلة الفلسفية فهى التقليدية، لأن مدارها على رأى الشخص فيوافقه أو يخالفه آخر، فهى لا تثبت ولا تستقر بحال. ويعجب الحريرى أشد العجب من جعل المقدسى الشريعة من باب الظن وهى بالوحى، والفلسفة من باب اليقين وهى من الرأى. ويقول له: إنك غالطت وموّهت إذ زعمت أن الفضيلة الدينية جسمية والفضيلة الفلسفية روحانية، إذ الصحيح العكس لأن الشريعة وحى من الله والفلسفة من قبل أشخاص ذوى أجسام، وهى تناقش الأجسام والأعراض. ويسأله إنك تقول إن الفلسفة للخاصة فلماذا تحاولون جمع العامة لها، بينما تقولون الشريعة للعامة، فلم تجمعون بين متفرقين؟ إنه لجهل أى جهل. وبالمثل يقول له إنك تذكر أن الشريعة تجحد الفلسفة، فلماذا تريدون حملها عليها قسرا. وبذلك أخرسه. وقد عاد يسأله أى شريعة تريدون وصلها بالفلسفة، ولماذا تعنون بالتوفيق بينها وبين الدين الحنيف، بينما فى المتفلسفة نصارى ومجوس ويهود.
ويصارحه بأنه لا يرى من إخوان الصفا من يقوم بأركان الدين ويتقيد بالكتاب والسنة ويراعى معالم الفريضة ووظائف النافلة، ويتساءل أين كان الصحابة والتابعون من الفلسفة؟ ويعلن إليه أن هذه المحاولة من التوفيق بين الشريعة والفلسفة إنما هى كيد للدين القويم، حاوله من قبلهم كثيرون فباءوا بالخذلان والخسران المبين. ويذكر له طائفة كبيرة من معجزات الرسل، ويدعو المقدسى وصحبه إلى الإيمان بالشريعة دون تأويل ولا تدليس ولا تعليل ولا تلبيس.
والحريرى إنما هو شخص أشبه بأن يكون من العامة، ولذلك عرضنا مناظرته مع المقدسى لندل على مدى ما حظى به العقل العربى فى القرن الرابع من قدرة على الاستنباط والتعليل وتحليل الأفكار وتشعيبها ونقضها من أساسها نقضا. واستمرت هذه الحركة الفكرية الفلسفية خصبة مثمرة حتى منتصف القرن الخامس، ثم أخذت تتراجع موجاتها إلى الوراء، أو قل أخذت حدّتها تخف، بسببين: أولا لانتشار التصوف وتعلق العامة به، وخاصة بعد أن وجّهه أبو نصر السرّاج الطوسى والقشيرى نحو التصوف السنى، ويعم هذا التصوف منذ القرن السادس الهجرى بعد ظهور الشيخ عبد القادر الجيلانى والشيخ الرفاعى، ولا يلبث الدراويش أن ينتشروا فى العراق وغير العراق. وثانيا لأنه أتيح للسنة ونصرتها على الفلسفة عالم كبير هو الغزالى الذى كان لحملاته العنيفة على الفلسفة والمتفلسفة أكبر الأثر فى انصراف الناس عنها، وكان هو نفسه صوفيّا سنّيّا، فدعم التصوف السنى إلى أقصى حد، وأصبحت كفته هى الراجحة طوال قرون متطاولة.
وقد مضت خطابة الوعظ تزدهر فى العصر على نحو ما مرّ بنا فى حديثنا عن شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية، وأخذت تكثر أدعية ومناجيات مختلفة للذات العلية، ويكفى أن نذكر من كتبها كتاب الإشارات الإلهية لأبى حيان التوحيدى، وهو مطبوع، وجميعه دعاء واستغفار وتضرع إلى الله وتوبة وطلب للهداية واتباع سبيل الرشاد. وتلقانا من حين إلى آخر أدعية ومناجيات بديعة، من ذلك دعاء (1) لمحمد بن عبد الملك الفارقى المار ذكره فى الفصل الماضى. وأخذت توضع كتب كثيرة فى التصوف وفى القصص والحكايات عن أصحابه، من أهمها كتاب اللمع فى التصوف لأبى نصر السراج الملقب بطاووس الفقراء المذكور آنفا المتوفى سنة 378 وهو من طوس وحين ورد على بغداد أفردت له غرفة خاصة فى جامع الشونيزية وأعطى رياسة الدراويش، وكتاب قوت القلوب لأبى طالب (2) المكى الوافد على بغداد المتوفى بها سنة 386. ويلقانا من كتب القصص كتاب حكايات المشايخ الجعفر (3) الخلدى المتوفى سنة 348 ومر بنا فى حديثنا عن ابن السراج البغدادى بين شعراء الصوفية كتابه «مصارع العشاق» وهو يزخر بأخبار وأقاصيص عن العباد والنساك.
(1) خريدة القصر (قسم الشام) 2/ 433.
(2)
راجع فى أبى طالب تاريخ بغداد 3/ 89 وابن خلكان 4/ 303 والوافى 4/ 116 وميزان الاعتدال 3/ 655 والشذرات 3/ 130 ولسان الميزان 5/ 30 ومرآة الجنان 2/ 430.
(3)
انظره فى تاريخ بغداد 7/ 226 وبروكلمان 4/ 75.
وأخذت تؤلف كتب قصص عامة، على نحو ما نرى عند أبى على المحسّن (1) التنوخى المتوفى سنة 384 وله ثلاثة كتب قصصية، هى: كتاب «المستجاد من فعلات الأجواد» وهو أقاصيص عن مجموعة كبيرة من الأجواد أو الكرماء الماضين، وهو مطبوع، و «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» وهو أقاصيص وأخبار عن معاصريه وهو أيضا مطبوع، ثم كتاب الفرج بعد الشدة وهو مطبوع، وهو أقاصيص ونوادر وأخبار وأمثال ولابن مسكويه كتاب أقاصيص سماه «أنس الفريد» سقط من يد الزمن. وأخذ بعض الكتّاب يحاولون تقليد بديع الزمان الهمذانى فى مقاماته، وفى مقدمتهم أبو القاسم عبد الله بن محمد بن ناقيا الذى ذكرناه فى فصل الثقافة بين علماء البلاغة فى القرن الخامس الهجرى، وهو سابق للحريرى، وقد ألف تسع مقامات بطلها واحد وهو اليشكرى، ورواتها متعددون، وتدور على الكدية أو الشحاذة الأدبية، وهى مطبوعة من قديم فى إستانبول مع ثلاثين مقامة لأبى العلاء أحمد بن أبى بكر بن أحمد الرازى من أدباء القرن السادس وقد حاكى بها مقامات الحريرى وأهداها إلى أبى حامد الشهرزورى المتوفى سنة 586، وكان يعاصره ابن الجوزى الذى مرّ ذكره فى غير موضع، وله خمسون مقامة، غير أنه لم يجعل لها بطلا من الأدباء الشحاذين أصحاب الكدية، وإنما نحا بها نحو الوعظ، على طريقة الزمخشرى فى مقاماته الوعظية. وربما كانت أهم المقامات التى ألفت فى القرن السادس بعد مقامات الحريرى مقامات يحيى بن سعيد بن مارى النصرانى البغدادى المتوفى سنة 589 وتسمى المقامات المسيحية لنصرانيته، وهى ستون مقامة ضاهى بها مقامات الحريرى. ونلتقى فى أواخر القرن السابع بالمقامات الزينية لمعد بن نصر الله ابن رجب الجزرى المعروف بابن الصّيقل المتوفى سنة 701 وهى خمسون مقامة، فرغ من تأليفها سنة 672. ويخلفه كثيرون يؤلفون مقامات مفردة أو بضع مقامات مجموعة. وتظل مقامات الحريرى فى الذروة، لا يبلغ شأوه فيها أى أديب بعده، وسنفرد له كلمة نعرض فيها لمقاماته.
وتكثر فى العصر كتب الأدب التهذيبى، وتتخذ مجريين: مجرى فلسفيّا فكريّا على نحو ما نرى فى كتاب تهذيب الأخلاق لمسكويه، ومجرى عمليّا تربويّا مثل كتاب أدب الدنيا والدين لأبى الحسن على بن محمد الماوردى المار ذكره وهو مقسم إلى خمسة أبواب:
باب فى فضل العقل وذم الهوى، وباب فى أدب العلم، وباب فى أدب الدين. وباب فى
(1) راجع ترجمته فى اليتيمة 2/ 345 وتاريخ بغداد 13/ 155 ومعجم الأدباء 17/ 92 والمنتظم 7/ 178 وابن خلكان 4/ 159 والنجوم الزاهرة 4/ 168 والشذرات 3/ 112.
أدب الدنيا، وباب فى أدب النفس، وكل باب ينقسم إلى فصول، وفى كل فصل تذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار التى تحث على الفضائل وتنهى عن الرذائل.
وكان هذا الكتاب مقررا للمطالعة فى المدارس الثانوية وما أجدره أن يعود إليها لتربية النشء على الأخلاق القويمة. وتكثر كتب الأدب التهذيبى بعد هذا الكتاب ولكنها لا تبلغ مبلغه فى النفع والفائدة.
وتموج اليتيمة والخريدة بالرسائل الشخصية أو الإخوانية، وتتكاثر كثرة مفرطة، فى الشكر والثناء والتهنئة والعتاب والاعتذار والاستعطاف والتهادى والتعزية، وعادة تدور حول معان محدودة، ولكن الكتاب يتفننون فى تطويلها، وبذلك يستحيل المعنى الضئيل النحيل إلى ما يشبه خيطا أو حبلا تعلق عليه سجوف من السجع والجناس وفنون البديع تكدّس فيها أكداسا، وتكدّس معها تعقيدات بصور كثيرة تارة بجلب بعض المصطلحات العلمية وخاصة منذ القرن الخامس وما بعده، وتارة باتخاذ حرف واحد تبنى عليه الرسالة.
وللحريرى رسالتان إحداهما سينية كل كلماتها من ذوات السين، والثانية شينية كل كلماتها من ذوات الشين، وقد قلده الحصكفى (1) يحيى بن سلامة خطيب ميّا فارقين المتوفى سنة 551 فصنع رسالة سينية، وحاول الإغراب أكثر فصنع رسالة من الحروف المهملة وخطبة ليس فى حروفها حرف منقوط، وكان شغوفا بالجناس وصنع المنعكس منه بحيث تشتق كل كلمة من أختها على هذه الشاكلة:
ويستمر بهذه الصورة، فكل كلمة فى السجعة الأولى تعود فى السجعة الثانية مقلوبة معكوسة فى هيئتها وبنيتها وصورتها، فعقود تتحول إلى قعود والتذرع إلى التعذر وحالية إلى حائلة. وهى مهارة تحيل الرسالة إلى ما يشبه العمل المطبعى الذى يؤدّيه عمال المطابع من جمع الحروف بعضها إلى بعض من أول الكلمة إلى آخرها تارة ومن آخرها إلى أولها تارة ثانية جمعا يصور مهارة، ولكنها مهارة لفظية أشبه باللعب. ونلتقى بمعاصر للحصكفى، هو الحيص بيص البغدادى المارّ ذكره بين الشعراء وفيه يقول العماد الأصبهانى:«له رسائل ومكاتبات معدول بها عن الفن المعتاد والأسلوب المعروف» يقول: وهى كثيرة، وسأورد
(1) انظر فى الحصكفى الخريدة (قسم الشام) 2/ 471 وما بعدها والمنتظم 10/ 183 والسبكى 7/ 330 وابن خلكان 6/ 205 ومعجم الأدباء 20/ 18 وكتابنا الفن ومذاهبه فى النثر العربى (الطبعة الثامنة بدار المعارف) ص 304 وبدار الكتب المصرية نسخة مخطوطة من رسائله.