الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو إسحق الحضرمىّ
(1)
هو أبو إسحق إبراهيم بن قيس الهمدانى الحضرمى، ولد بحضر موت ولا يعرف بالضبط تاريخ مولده ولكن يغلب أن يكون ولد فى مستهل القرن الخامس الهجرى أو فى أواخر القرن الرابع. وهو من بيت علم وفضل، كان أبوه-كما يقول مقدم ديوانه-عالما ورعا زاهدا متقشفا. ويبدو أنه كان يعتنق عقيدة الإباضية مثله، ومثل كثيرين من أهل حضرموت، ونشأ ابنه على عقيدته، حتى إذا شبّ أخذ يتحمس لها ويحاول أن ينشرها فى الناس من حوله، وفى نسبه وإباضيته يقول:
فإن تسألى عنىّ وعن أهل مذهبى
…
ومن أين دارى أنت يا أمّ حازم
فإنى من همدان أصلى وقدوتى
…
فمرداس والأوطان أرض الحضارم
أنا الرجل الدّاعى إلى الحقّ والذى
…
أبت نفسه شتم الطّغاة الأشائم
أنا الرجل الشارى الذى باع نفسه
…
وأصبح يرجو الموت عند التصادم
وهو فى الأبيات يصرح بأنه حضرمى من همدان، وأنه أخلص نفسه للدعوة الإباضية، ويصف نفسه بأنه من الشّراة، وقد سمى الخوارج أنفسهم بهذا الاسم إشارة إلى قوله تعالى:{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ} وهو يعلن أنه باع نفسه لربه والدعوة لنحلته، وأصبح يطلب الموت والاستشهاد فى سبيلها حتى يفوز برضوان الله، ويبدو أن الشعر سال على لسانه مبكرا، مما جعله يخلف ديوانا، وهو يصور فيه حياته وأحداثها تصويرا تاما، وهى حياة وأحداث متصلة بأئمة الإباضية فى نزوى إذ نراه على رأس حملة للخليل بن شاذان إمام الإباضية استطاع بها أن يضم حضرموت إلى سلطانه وقد ظل واليا له عليها إلى وفاته ثم لخلفه راشد بن سعيد الذى مدّ جناح سلطانه إلى عمان، ونجده يشيد بإمامه الخليل بن شاذان فى قصائد كثيرة، بمثل قوله:
يا أيها العلم العدل الذى كملت
…
له الخصال مروءات وإيمانا
إنى أحبّك والرّحمن يعلمه
…
حبّ احتساب إلى ذى الطّول قربانا
ويطلب فى القصيدة منه معونة ليحطم الغواة الضالين. وكانت لا تزال تأتيه المعونات ولا يزال يحارب أعداء عقيدته فى حضرموت، ويبدو أن كثيرين كانوا ينقضون طاعته بين
(1) انظر فى ترجمة أبى إسحق الحضرمى وأشعاره كتاب صفحات من التاريخ الحضرمى لسعيد عوض با وزير ص 66 وتحفة الأعيان 1/ 251 وفى مواضع متفرقة. وقد طبع ديوانه مع مقدمة لسليمان البارونى.
البدو وفى المدن الحضرمية، فكان لا يزال يرسل إليهم الحملات، ولا يزال بهم حتى يلقوا له عن يد وهم صاغرون، وصوّر ذلك فى قصائد كثيرة ذاكرا نشره للدعوة الإباضية وكيف أن خطباء يوم الجمعة يخطبون باسم إمامه فى كل مكان بحضرموت، وكيف أن البلاد والقبائل دانت له مذعنة مستسلمة، يقول للخليل فى إحدى قصائده:
سل الخطبا لما دعوا لك جهرة
…
على رغم أهل الجور بعد التصادم
وسل عرب البيداء لما أذقتهم
…
عشيّة خانوا العهد سمّ الأراقم
وأمّا نواحى حضرموت فإنها
…
بحول إلهى طوع أمرى كخاتمى
ولم يبق لى إلا الصّليحىّ قائما
…
وها هو أيضا سعده غير قائم
ونحن إليه واردون بجيشنا
…
فما هو أدهى من ملوك الدّيالم
وهو فى البيتين الأخيرين يشير إلى أنه عازم على حرب الصليحى مؤسس الدولة الصليحية فى اليمن وكان قد أخذ يدعو لنفسه ويبدو أن كلا منهما كان يتحرّش بصاحبه، ويهدده بأنه سيستعين بإمامه، وكان الصليحى يهدده بالخليفة الفاطمى وجنوده، وإلى ذلك يشير أبو إسحق بقوله:
يخوّفنى أنّ المعزّ ملاذه
…
بمصر وما خوفى لأهل المظالم
إذا وفده ولّى إلى مصر رائدا
…
مضى وفدنا قصدا لخير المعالم
ليعلم أىّ الحزب أسبق نصرة
…
وأيّهما أولى بفعل المكارم
وواضح أنه سمى المستنصر خليفة مصر حينئذ المعز كأنه لا يعرف لقبه الحقيقى. وخرج هو وخصمه الصليحى من التهديد والوعيد إلى إشعال الحرب، ونرى أبا إسحق يوجه قصيدة أشبه بنداء إلى إمامه الخليل بن شاذان كى يغيثه وينصره ضد الصليحى، قبل أن تتفاقم المعارك وتقع الكارثة، يقول له من قصيدته نونية:
انصر أخاك فإن الحرب قائمة
…
والحق يطلب من أهليه أركانا
اجعله أوّل ما تحيا البلاد به
…
إنا نؤمل جيشا منك يغشانا
واعلم بأنك قد أثّرت مأثرة
…
فارفع لها شرفا فالأمر قد هانا
ويبدو من البيت الأخير أن الخليل بن شاذان كان قد أرسل إليه معونة مالية، وهو يريد معونة حربية. واستطاع فعلا أن يرد جيوش الصليحى وأن ينزل بها خسائر فادحة.
ويتوفى الخليل بن شاذان إمامه ويخلفه راشد بن سعيد، ويبقيه واليا له على حضرموت.
ويظل يرسل له بقصائد المديح، وكان قد استولى على عمان كما أسلفنا، وله يقول:
أيا راشد إنا لعمرك نزدهى
…
بذكراكم فى حضرموت تعاظما
إذا ما عمانىّ ألمّ بأرضنا
…
أحطنا به نسأله عنكم تزاحما
وله فيه قصيدة دالية يشيد فيها بالإباضية، وأخلاقهم الفاضلة، ومناقبهم الكريمة، وكيف أنه أصبح إماما لهم وقيّما عليهم، يصلح أمرهم، ويدفع عنهم الخطوب، يقول:
إباضيّة زهر كرام أفاضل
…
مناقبهم فى كل سامى علا تبدو
وأنت لنا من بعدهم صرت قيّما
…
حمولا لثقل الخطب يورى بك الزّند (1)
ونراه فى نفس القصيدة يطلب إلى إمامه راشد أن يبعث إليه بنجدة تعينه فى حربه مع قبيلتى نهد وعقيل إن هما لم تستكينا نهائيا، ولم تلقيا السلاح وهما صاغرتان، يقول:
وإن عدلوا عن بغيهم وتراجعوا
…
إلى عسكر الإسلام والحقّ وارتدّوا
فأهلا وسهلا بالعشيرة إنهم
…
إليكم بإخلاص لربّ السّما أدّوا
وإن هم أبوا فاستصرخونا فإننا
…
قريب وما للقوم من صحبهم بدّ
وما بين وادى حضرموت وبينكم
…
إذا سرّكم إتياننا نحوكم بعد
وهو يسمى عسكر الخوارج عسكر الإسلام والحق، ومن قديم كانوا يقولون إن معسكرهم هو معسكر الإسلام وحده، ويصفون خصومهم بالبغى والجور وأنهم خرجوا على حدود الدين. ومن الحق أن الإباضية معتدلون ويؤمنون بأن غيرهم من المسلمين أهل توحيد، على نحو ما صورنا ذلك فى غير هذا الموضع. وليس فى الديوان ما يدل على أنه ظل عاملا لأئمة نزوى بعد راشد، وظن بعض من عرضوا له أنه ربما استقل ودعا لنفسه بالإمامة ونستبعد ذلك، ونظن أنه ظل على ولائه لأئمة الإباضية فى نزوى، وحقا نراه فى بعض شعره يصرّح بأنه وهب نفسه لنشر الهدى وإحيائه فى كل مكان، على شاكلة قوله:
علق الفؤاد بأن أكون أنا الذى
…
يحيى الهدى بقواضب ورماح
وعلى السيوف يموت كلّ مكرّم
…
وعلى السيوف قياد كلّ فلاح
وعلى السيوف ينال من طلب العلا
…
غرف الجنان وقصدهنّ كفاحى
وهو يقصد بالهدى نحلته الإباضية، ويقول إنه يشعر فى أعماقه أن عليه نشر دعوتها وإشاعتها فى كل بقعة، ويردد ما يذكره شعراء الخوارج قديما من محبتهم للاستشهاد فى سبيل الله، وكأنه أصبح شعارا لهم، حتى يلحقوا بمن سبقوهم من رفاقهم إلى جنات ربهم ونعيمه. ولسنا نعرف سنة وفاته وأكبر الظن أنه توفى حوالى منتصف القرن الخامس الهجرى.
(1) يورى هنا: يتقد.