الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آخر من دواوين شعراء العرب قاطبة، بحيث أصبح الديوان معدّا لكى يستغله الباحثون فى كتابة ترجمة حياة المتنبى على نحو ما صنع بلا شيروطه حسين. وفى الشرح نظرات نقدية كثيرة، وخاصة فى الأبيات الغامضة التى يختلف فيها الشراح، فإن الواحدى يقارن بين أقوالهم وينفذ إلى الفكرة الصائبة دائما، مما يدل على قدرة نقدية حقيقية وذوق أدبى جيد.
4 - علوم التفسير والحديث والفقه والكلام
نشط العلماء لهذا العصر بإيران فى تفسير القرآن الكريم، واتضحت فيه اتجاهات ثلاثة: اتجاه التفسير بالرأى، واتجاه شيعى، واتجاه صوفى، وأهم ما نصادفه من الاتجاه الأول تفسير الزمخشرى، وهو يذيع فيه أفكار مذهبه الاعتزالى فالآيات الكريمة توجّه مع فكرة الحرية والاختيار فى أفعال العباد ومع فكرة تنزيه الذات العلية عن كل تشبيه ومع إكبار العقل ورفض كل اعتقاد فى السحر والكهانة (1). ويقف الفخر الرازى المار ذكره آنفا بعده فى الصف المقابل فيدفع فى تفسيره العظيم للقرآن «مفاتيح الغيب» آراء المعتزلة بطريقة فلسفية، إذ كان عقله متفلسفا إلى أبعد حد، وهى فلسفة تظهر فى تفسيره بصور كثيرة، حين يخوض فى المباحث العقلية، وحين نرى المسألة عنده تتشعب شعبا كثيرة.
وكان عقله من الخصب بحيث تغدو الفكرة كأنها شجرة كبيرة، تتفرع منها فروع، وتتفرع من الفروع غصون إلى غير نهاية. وكان أشعرى العقيدة، فأشاع مذهب الأشاعرة فى تفسيره، وتعقب المعتزلة كما قلنا معليا عليهم وعلى أفكارهم مذهبه الأشعرى السّنّى. ومن تفاسير هذا الاتجاه بعد الرازى تفسير البيضاوى (2) عبد الله بن عمر المتوفى بتبريز سنة 691 وقد سماه «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» وهو يعتمد فيه على الزمخشرى وتفسيره، كما يعتمد على الرازى وغيره من المفسرين، وهو لا ينحى فى تفسيره باللائمة-كما يصنع الزمخشرى-على أهل السنة، وجاء بعده فى هذا الاتجاه أبو البركات النسفى (3) المذكور بين فقهاء الأحناف فى قسم العراق وقد سمى تفسيره «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» .
(1) انظر فى تأثر الزمخشرى بالاعتزال فى تفسيره كتاب المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن لجولد تسيهر ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار.
(2)
راجع فى البيضاوى السبكى 8/ 157 وبغية الوعاة وروضات الجنات 454 وشذرات الذهب 5/ 392 ومرآة الجنان 4/ 220.
(3)
انظر فى النسفىّ الدرر الكامنة 2/ 352 وتاج التراجم رقم 86 واللكنوى 101 ودائرة المعارف الإسلامية.
وهذا الاتجاه فى التفسير كان يرافقه اتجاه شيعى فى بيئات الشيعة المختلفة بإيران، وكانوا ينسبون من قديم إلى أئمتهم من مثل جعفر الصادق والحسن بن على العسكرى المتوفى سنة 260 تفاسير بأسمائهم، ومن مفسريهم فى أواخر القرن الثالث محمد بن مسعود السّلمى رأس الإمامية بخراسان، ومن أشهر تفاسيرهم فى هذا العصر تفسير الطوسى أبى جعفر محمد بن الحسن المتوفى سنة 460 وكان قد نشأ فى طوس، ثم رحل إلى العراق فى الثالثة والعشرين من عمره، وظل ببغداد إلى أن أصبح شيخ الطائفة ومرجع فتياها ومن أجل ذلك وضعناه فى القسم الخاص بالعراق. ونلتقى بتفسير الطبرسى (1) أبى على الفضل بن الحسن المتوفى بطوس سنة 552 ولقبه الطبرسى نسبة إلى طبرستان، وقد سمى تفسيره مجمع البيان. وهو فى ثلاثين مجلدا.
أما الاتجاه الصوفى فمن التفاسير فيه تفسير أبى عبد الرحمن السلمى المتوفى سنة 412 وسماه «حقائق التفسير» وأهم منه تفسير القشيرى الذى مر ذكره فى حديثنا عن التصوف، وهو فى تفسيره كعقيدته صوفى سنى، بعيد عن متاهات الاتحاد بالذات العلية ووحدة الوجود مما يلجّ فيه بعض متفلسفة الصوفية، وتغلب عليه روح الوعظ، ومثله فى هذا الاتجاه الغزالى فى بعض ما يعرض له من آى الذكر الحكيم، ولأخيه أبى الفتح أحمد بن محمد الغزّالى الواعظ المذكور بين المفسرين فى العراق، تفسير ينحو فيه نحو الوعظ والتصوف، لا يزال مخطوطا.
ومن التفاسير العامة تفسير أبى الليث نصر بن محمد السمرقندى المتوفى سنة 373 وسماه «بحر العلوم» وتفسير الثعلبى (2) النيسابورى المتوفى سنة 427 وتغلب عليه النزعة القصصية والنقل عن الإسرائيليات ولتلميذه الواحدى المذكور آنفا شراح ديوان المتنبى ثلاثة تفاسير:
البسيط والوسيط والوجيز وله كتاب «أسباب النزول» واختصر الفرّاء البغوى الحسين بن مسعود المتوفى سنة 510 تفسير الثعلبى وسمّى مختصره «معالم التنزيل» . ولنظام (3) الدين بن الحسن النيسابورى المتوفى فى أواسط القرن التاسع الهجرى تفسير سماه «غرائب القرآن ورغائب الفرقان» ويعد مختصرا لتفسير الفخر الرازى ويهتم فيه بذكر القراءات.
وظل علم الحديث ناهضا فى إيران لهذا العصر، ومرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الثانى ما يصور مدى نهضته فى هذا الإقليم، فقد كان من إنتاجه صحيح البخارى وصحيح مسلم
(1) انظر فى الطبرسى روضات الجنات ص 512 ومقدمة تفسيره بقلم محسن الأمين وما بها من مراجع.
(2)
راجع فى الثعلبى معجم الأدباء 5/ 36 وطبقات المفسرين ص 5 وطبقات القراء 1/ 100 وابن خلكان 1/ 79 وإنباه الرواة 1/ 119 وروضات الجنات 68 والسبكى 4/ 58 والنجوم الزاهرة 4/ 283
(3)
انظره فى روضات الجنات ص 225.
وسنن النسائى وابن ماجه القزوينى وجامع الترمذى، ويمكن أن نلحق بتلك الكتب سنن أبى داود السجستانى، وبذلك تكون كتب الصحيح الستة من الحديث النبوى من صنع إيرانيين. ومضى هذا النشاط يؤتى ثمارا جديدة فى القرون التالية. وأول من نلقاه من كبار المحدثين فى العصر محمد (1) بن أحمد بن حبّان البستى السجستانى قاضى سمرقند ومحدثها المتوفى بها سنة 354 ويشتهر بكتابه «الجرح والتعديل» فى نقد حملة الحديث ورواته، وكان يملى مصنفاته فى الحديث وتقرأ عليه أو تؤخذ عنه. وكان يعاصره ابن القطان (2) الجرجانى المتوفى سنة 360 وله كتاب الكامل فى الجرح والتعديل أو كتاب الكامل فى معرفة ضعفاء المحدثين. وخلفهما ابن منده (3) الأصبهانى محمد بن إسحق المتوفى سنة 395 وقد رحل طويلا فى طلب الحديث وله مسند أبى حنيفة وكتب فى الحديث مختلفة. وكان يعاصره أبو سليمان حمد (4) بن محمد الخطّابى البستى المتوفى سنة 386 وألف فى نقد الحديث كتبا منها إصلاح غلط المحدثين، وله شرح على صحيح البخارى، وهو أول من رتب أقسام الحديث الثلاثة الكبرى وهى: الصحيح والحسن والضعيف. وعاصره الحاكم النيسابورى (5) المعروف باسم ابن البيّع المتوفى سنة 404 وهو الذى جعل أصول الحديث النبوى علما مستقلا، وكان بنو سامان أصحاب بخارى يوفدونه فى سفاراتهم إلى بنى بويه، وله كتاب المستدرك على الصحيحين: صحيح البخارى وصحيح مسلم، جمع فيه كثيرا من الأحاديث التى لم يدخلاها فى صحيحيهما مستدلا ببراهين قوية على أنها مستكملة لشروطهما، والكتاب مطبوع فى حيدر آباد، مع تعليقات فى الرد على مؤلفه للذهبى. وكان يعاصره ابن فورك (6) محمد بن الحسن الأصبهانى محدث نيسابور ونزيل غزنه المتوفى بها
(1) انظر فى ابن حبان الأنساب 81 والوافى بالوفيات 2/ 317 وتذكرة الحفاظ 3/ 125 والسبكى 3/ 131 وميزان الاعتدال 3/ 507 وشذرات الذهب 3/ 16 ولسان الميزان 5/ 112
(2)
راجع فى ابن القطان تذكرة الحفاظ 3/ 143 وميزان الاعتدال 1/ 2 ولسان الميزان لابن حجر 1/ 6 وشذرات الذهب 3/ 51.
(3)
راجع فى ابن منده أخبار أصبهان لأبى نعيم 2/ 306 وتذكرة الحفاظ 3/ 338 ولسان الميزان 5/ 70.
(4)
انظر فى الخطابى السبكى 3/ 282 وإنباه الرواة 1/ 125 والأنساب 80 ب 202 ب ومعجم الأدباء 10/ 268 وابن خلكان 2/ 214 وتذكرة الحفاظ ويتيمة الدهر 4/ 334.
(5)
راجع فى الحاكم النيسابورى الأنساب 99 ب والسبكى 4/ 155 وتذكرة الحفاظ 3/ 227 وطبقات القراء 2/ 184 ولسان الميزان 5/ 232 والمنتظم 7/ 274 وتاريخ بغداد 5/ 473 واللباب 2/ 95 وابن خلكان 4/ 280
(6)
انظر فى ابن فورك السبكى 4/ 127 والوافى 2/ 344 وابن خلكان 4/ 272 والشذرات 3/ 181 والنجوم الزاهرة 4/ 240.
سنة 406 وكان شديد الرد على الكرامية وله كتب كثيرة فى الحديث والفقه الحنفى، منها بيان مشكل الحديث، ورد على الملحدة والمعطلة والمبتدعة من الجهمية والمعتزلة، وكتب مصنفات أخرى فى نفس الموضوع ردا على المشبهة والمجسّمة. ومن كبار المحدثين التالين أبو إسحق الإسفراينى المتوفى سنة 418 وأبو نعيم الأصفهانى المتوفى سنة 430 ويشتهر بكتابة «حلى الأولياء» والبيهقى (1) أبوبكر احمد بن الحسين المتوفى سنة 458 نيسابور، وبها كان يملى كتبه وتصانيفه ومن أهمها كتاب السنن الكبير، وكتاب معرفة الآثار. وازذهرت دراسات الحديث فى عصر السلاجقة ازدهارا عظيما، كان من ثمارها ظهور الفرّاء البغوى (2) المار ذكره بين المفسرين وله مصنفات كثيرة فى الحديث والفقه الشافعى وتفسير القرآن الكريم، وأهمها كتابه المصابيح جمعه من كتب الصحاح الستة وبوّبه وقسم الأحاديث فى كل باب إلى صحيحة وتشمل كل ما أخذه من صحيحى البخارى ومسلم وإلى حسنة، وما رأى فيها من ضعف أشار إليه. وجاء بعده فى القرن الثامن الهجرى محمد بن عبد الله الخطيب التبريزى فرتبه ترتيبا جديدا وأتمه سنة 737 وسماه مشكاة المصابيح، وألف بجانب المشكاة كتابا فى رجالها سماه أسماء المشكاة، وهو تراجم للرواة المذكورين فى المشكاة أتمه سنة 740. وظلت دراسات الحديث وروايته ناشطة بإيران فى القرون التالية.
ولم يكن النشاط فى علم الفقه أقل منه فى علم الحديث، بل ربما كان أوسع وأعظم، وقد استقرت منذ أوائل العصر المذاهب الفقهية الكبرى: مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعى ومذهب ابن حنبل، ولم يكن المذهب الحنبلى شائعا فى إيران ولا فى أى إقليم من أقاليمها، ومع ذلك لا نعدم أن نجد فيها بعض الحنابلة فى هراة وهمذان (3) من مثل أبى إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصارى صاحب كتاب ذم (علم) الكلام، وكان محدثا يتظاهر بالتجسيم والتشبيه، وينال من الأشاعرة (4) وربما كان المذهب المالكى أقل أتباعا حتى ليروى أن أحمد بن فارس اللغوى الذى ذكرناه فى غير هذا الموضع وكان شافعيا كان ينزل الرّىّ، فصار مالكيا، كما يقول ياقوت فى ترجمته بمعجم الأدباء، فسئل فى
(1) راجع فى البيهقى تذكرة الحفاظ 3/ 309 واللباب 1/ 165 والأنساب 101 وابن خلكان 1/ 75 والسبكى 4/ 8
(2)
انظر فى البغوى السبكى 7/ 75 وابن خلكان 2/ 136 وتهذيب ابن عساكر 4/ 345 وتذكرة الحفاظ 4/ 1257 وشذرات الذهب 4/ 48 والنجوم الزاهرة 5/ 223
(3)
أحسن التقاسيم للمقدسى 179، 395، 439، 481.
(4)
السبكى 4/ 272
ذلك، فقال: دخلتنى الحمية لهذه البلدة، يقصد مدينة الرى، كيف لا يكون فيها رجل على مذهب مالك الرجل المقبول القول على جميع الألسنة. وكان مذهب داود الظاهرى أكثر اتباعا فى إيران أثناء القرن الرابع، ولكن لم يلبث أن تراجع وخفت صوته أمام المذهبين الكبيرين. مذهب الشافعى ومذهب أبى حنيفة.
وكان لمذهب الشافعى الغلبة وخاصة فى شرقى إيران وما وراء النهر، ويقال إن الفقيه أبا بكر (1) القفال المعروف بالشاشى والمتوفى سنة 365 هو الذى نشر مذهب الشافعى فى تلك الأصقاع، ويذكر المقدسى أنه كان غالبا أيضا فى كرمان (2)، وعملت مؤثرات سياسية فى نشره بل فى ازدهاره لعهد السلاجقة، فإن وزيرهم المشهور نظام الملك كان شافعيا أشعريّا عدوّا للحشاشين الإسماعيلية، فأسس، كما مر بنا، مدارس فى جميع المدن الإيرانية الكبيرة سنة 457، ورصد لها مبالغ طائلة، لإلحاق مكتبات بها ولمساكن الأساتذة ورواتبهم، واختار لكل مدرسة صفوة من أئمة الشافعية والأشاعرة فى عصره، وظل ذلك من بعده. فكان طبيعيا أن يزدهر المذهب الشافعى فى إيران ازدهارا عظيما وأن يتألق فى دراساته الفقهية فقهاء كثيرون، يعدون فى الذروة من الإمامة والقدرة على الفتيا، ولولا أن الاجتهاد بالمعنى الواسع كان قد أغلقت أبوابه، ولم يبق لهم إلا الاجتهاد فى الفروع، لتطوروا بالفقه الشافعى تطورا عظيما. ومن أهم من نلقاه منهم لعصر السلاجقة أبو (3) إسحق الشيرازى المتوفى سنة 476 وقد عينه نظام الملك لتدريس فقه الشافعى بنظامية بغداد كما مرّ فى قسم العراق، وكان يقابله فى نظامية نيسابور إمام الحرمين الجوينىّ (4) عبد الملك أبو المعالى إمام الأئمة لعصره على الإطلاق المتوفى سنة 478. وقلنا فى غير هذا الموضع إنه كان يحضر دروسه أربعمائة تلميذ، ورزق من التوسع فى العبارة وعلوها ما لم يعهد من غيره، وله بنيت المدرسة النظامية بنيسابور، وظل فيها ثلاثين سنة يلقى محاضراته، وسلّم له المحراب والمنبر والخطابة ومجلس الوعظ يوم الجمعة وله تصانيف كثيرة منها النهاية فى الفقه الشافعى والشامل؛ والبرهان فى أصول الفقه. ومن تلاميذه الغزالى وأجل تلاميذه بعده إلكيا الهرّاسى (5)
(1) انظر فى ترجمة القفال الأنساب 460 وابن خلكان 3/ 46 وعبر الذهبى 2/ 338 والوافى 4/ 112 وشذرات الذهب 3/ 207 والسبكى 3/ 200
(2)
المقدسى ص 468
(3)
انظر فى ترجمة أبى إسحق الشيرازى السبكى 4/ 215 والمنتظم 9/ 7 واللباب 2/ 232 والأنساب 435 ب وشذرات الذهب 3/ 349 وابن خلكان 1/ 29
(4)
راجع فى الجوينى الأنساب الورقة 144 والمنتظم 9/ 18 وابن خلكان 3/ 167 والسبكى 5/ 165 والعقد الثمين 5/ 507 وشذرات الذهب 3/ 358.
(5)
مرّت مصادر ترجمته بين المفسرين فى العراق.
على بن محمد المتوفى سنة 504 بدأ حياته العلمية معيدا لإمام الحرمين، ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة، ثم تولى تدريس المدرسة النظامية ببغداد إلى وفاته. وكان يعاصره أبو المحاسن الرويانى (1) عبد الواحد بن إسماعيل المتوفى سنة 502 بآمل شهيدا على أيدى الباطنية الملاحدة، وكان مدرس نظامية طبرستان وكان الوزير نظام الملك كثير التعظيم له لكمال فضله وله كتاب البحر فى الفقه وهو من أطول كتب الشافعيين وكتاب الكافى، وصنف فى الأصول والخلاف. ومن كبار فقهاء الشافعية فى القرن السادس فخر الدين الرازى محمد بن عمر الطبرستانى الأصل الرازى المولد المتوفى سنة 606 فريد عصره، ومر بنا الحديث عن تفسيره وعن كتاب له فى البلاغة، وله كتب كثيرة فى علم الكلام وفى الحكمة وفى الطب، يقول ابن خلكان: «انتشرت تصانيفه فى البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة، فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين، وله فى الفقه وأصوله كتب مختلفة، وكان يعظ مواطنيه باللسانين العربى والفارسى، ونزل بأخرة من عمره فى هراة. وبها توفى، وله مواعظ طريفة. وكان قريبا من عصره الرافعى (2) المتوفى سنة 623 وكان إماما كبيرا فى التفسير والحديث والأصول، أما الفقه فكان فيه-كما يقول السبكى-عمدة المحققين وأستاذ المصنفين، وهو قزوينى، وكان له مجلس للتفسير ولسماع الحديث والفقه، وله الشرح الصغير والمحرر وشرح مسند الشافعى والشرح الكبير المسمى بالعزيز فى شرح كتاب الوجيز للغزالى، واسمه يتردد فى كتب الفقه الشافعى وحواشيه التى ألّفت بعده فى مصر وغير مصر.
وكان مركز المذهب الحنفى مدينة بخارى لعهد السامانيين وبعدهم، وكثيرون علماء هذا المذهب الذين ترجمت لهم كتب طبقات الحنفية مثل الفوائد البهية للكنوى والجواهر المضية لابن أبى الوفاء وتاج التراجم فى طبقات الحنفية لابن قطلوبغا، ومن مشاهيرهم فى القرن الرابع أبو بكر أحمد بن على الجصّاص الرازى الذى سبق ذكره فى قسم العراق ومثله مرّ هناك أبو زيد الدّبوسى البخارى المتوفى سنة 430 وهو أول من أسس علم الخلاف بين المذاهب الفقهية، وله تقويم الأدلة فى أصول الفقه. ومنهم البزدوىّ (3) على بن محمد بن عبد الكريم السّمرقندىّ المتوفى سنة 482 وله المبسوط فى الفقه وكتب مختلفة فى علم
(1) انظر فى الرويانى كتاب الأنساب 263 أو المنتظم 9/ 160 وابن خلكان 3/ 198 والسبكى 7/ 193 والنجوم الزاهرة 5/ 197
(2)
انظر فى الرافعى تهذيب الأسماء واللغات 2/ 264 وشذرات الذهب 5/ 108 وفوات الوفيات 2/ 7 والسبكى 8/ 281 ومراة الجنان 4/ 56.
(3)
انظر البزدوى فى الفوائد البهية (طبعة القاهرة) ص 124 والجواهر المضية وابن قطلوبغا ص 41 والأنساب 78
الأصول والتفسير. ومنهم السرخسى (1) محمد بن أحمد المتوفى سنة 490 وكان إماما علامة متكلما مناظرا أصوليا مجتهدا وله كتاب المبسوط فى أحد عشر مجلدا، وهو أشبه بدائرة معارف فى الفقه الحنفى، ومنهم برهان (2) الدين أبو الحسن الفرغانىّ المتوفى سنة 593 وله كتاب الهداية شرح البداية فى مجلدين وهو من أمهات كتب الفقه الحنفى، وعليه حواش عدة. ومنهم العميدى (3) السّمرقندى أبو حامد محمد المتوفى سنة 615 كان إماما فى فن الخلاف، ويقول ابن خلكان له فيه طريقة مشهورة بأيدى الفقهاء، ومن مصنفاته الإرشاد، واعتنى بشرحه كثير من أرباب هذا الشأن. ومنهم حافظ الدين النسفى المذكور بين المفسرين والذى مر ذكره بين فقهاء الأحناف فى قسم العراق وقد ذكرنا هناك كتابه المشهور الذى يتداوله علماء المذهب الحنفى والذى سماه كنز الدقائق، وله طبعات كثيرة فى الهند ومصر، وعنى به كثيرون فشرحوه، ويكثر الشرّاح للكتب فى القرون التالية. ولابد أن نلاحظ أن كثيرين ممن مروا بنا فى علوم الأوائل وعلوم النحو والتفسير والبلاغة كانوا أحنافا ولهم مشاركة فى تأليف مصنفات الفقه الحنفى مثل الزمخشرى وناصر المطرزى ونصير الدين الطوسى.
وكان للشيعة بإيران فقهاؤهم، ونذكر للزيدية منهم الإمام الهارونى (4) أحمد بن الحسين البطحانى المتوفى سنة 411 وكان إماما للزيدية بجيلان وبلاد الديلم. وقد أخذ المذهب الزيدى فى التضاؤل أمام المذهب الإمامى الاثنى عشرى حتى انحسر عن إيران، وتبعه المذهب الإسماعيلى، وخاصة بعد القضاء على فرقة الحشاشين الإسماعيلية فى منتصف القرن السابع الهجرى قضاء نهائيا، على أننا نلاحظ أن فقهاء المذهب الإسماعيلى كانوا يتركون-فى عهد الدولة الفاطمية-موطنهم فى إيران وينزلون القاهرة وتذيع منها مؤلفاتهم فهم أولى بأن ينسبوا إلى موطنهم الجديد، على نحو ما صنع حميد الدين الكرمانى المتوفى سنة 408 والمؤيد فى الدين هبة الله الشيرازى المتوفى حوالى سنة 470. أما المذهب الإمامى فهو الذى كتب له أن يذيع وينتشر فى إيران، حتى إذا كانت الدولة الصفوية جعلته المذهب الرسمى للدولة، ومن فقهائه المبكرين الذين عملوا على تأسيسه فى إيران أبو جعفر القمى المتوفى سنة 290 والكلينى الرازى المتوفى سنة 328 قبل هذا العصر بقليل ولكتابه الكافى
(1) راجع فى السرخسى الجواهر المضية والفوائد البهية ص 158 وابن قطلوبغا رقم 157
(2)
انظر فى الفرغانى الفوائد البهية ص 41 والجواهر المضية 1/ 383 وابن قطلوبغا ص 42 وبروكلمان 6/ 309
(3)
راجع ترجمة العميدى فى الفوائد البهية والجواهر المضية 2/ 128 وتاج التراجم 58 وابن خلكان 4/ 257 والوافى 1/ 280 والشذرات 5/ 64
(4)
انظره فى بروكلمان (ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار) 3/ 333.
أهمية كبيرة، ويعد-كما مرّ بنا فى قسم العراق-رابع أربعة من الكتب الكبرى للإمامية، وهو فيه يتناول العقيدة الإمامية بجميع فروعها ويشتمل على أكثر من ستة عشر ألف حديث، وشرحه كثيرون من علماء إيران الإمامية بعده. وأشهر فقهاء الإمامية فى أوائل هذا العصر: عصر الدول والإمارات ابن بابويه القمى نزيل بغداد المذكور فى قسم العراق والمتوفى بالرى سنة 381 وكان أبوه كما مر بنا رئيس الشيعة فى مدينة قم مركز المذهب الإمامى، وبابن بابويه استعان ركن الدولة بن بويه فى استخدام تعاليم الإمامية فى تدبير سياسته، وفى ذلك دليل يضمّ إلى ما قدمناه من أدلة فى غير هذا الموضوع على أن البويهيين كانوا إمامية. ومن أهم مصنفات ابن بابويه الأمالى واعتقادات الإمامية وكتاب من لا يحضره الفقيه، وهو أحد الكتب الأساسية عند الشيعة، وأكبر فقهاء الشيعة بعد ابن بابويه أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى وقد تحدثنا عنه فى القسم الثانى الخاص بالعراق.
ونشط علم الكلام بجانب العلوم الإسلامية السابقة، وظل للمعتزلة طوال القرنين الرابع والخامس نشاطهم، ومن أهم رجالهم القاضى عبد الجبار قاضى قضاة البويهيين فى الرىّ المار ذكره فى المباحث البلاغية، وله كتاب المغنى فى أبواب التوحيد والعدل، وهو دائرة معارف واسعة فى الاعتزال وأصوله، وقد نشرت وزارة الثقافة بمصر أجزاء كثيرة منه.
ومن أهم رجال الاعتزال بعده الزمخشرى ومر بنا أنه أخذ نفسه فى تفسيره بتوجيه آى الذكر الحكيم توجيها اعتزاليا، أساسه تأويل كل الآيات التى قد يفيد ظاهرها تشبيها، وكذلك توجيه الأخرى التى قد تدل على فكرة القدر والجبر نحو فكرة الإرادة الحرة فى أفعال العباد. وقد عنى الشيعة دائما بالاعتزال وعدّوه مؤيدا لهم فى دعواتهم الشيعية، ولعل ذلك ما ساعد على بقائه بعد القرن الخامس الهجرى، ولكن على كل حال ضعف شأنه. ومنذ أحمد ابن حنبل وفتنة القول بخلق القرآن وأهل السنة الحنابلة يحملون على المعتزلة حملات شديدة، حتى ليصمونهم بالإلحاد أحيانا. ولا نصل إلى أوائل القرن الرابع الهجرى حتى ينفصل-كما مر بنا فى العصر العباسى الثانى-أبو الحسن الأشعرى عن المعتزلة، وكان قد تتلمذ لهم، ويكوّن لنفسه مذهبا جديدا يسمى المذهب الأشعرى، وهو مذهب يقوم على التوسط بين آراء المعتزلة وآراء أهل السنة، وكان المعتزلة يقدّمون العقل فيجعل معه بل قبله الكتاب والحديث النبوى. وبذلك أصبحت كل مسألة تقرن فيها الأدلة العقلية بالأدلة السمعية من القرآن الكريم والسنة، ونضرب لذلك مثلا تنزيه الله عن التشبيه الذى كان يقول به المعتزلة كما أسلفنا أخذ به، كما أخذ يقول أهل السنة فى أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة، واستدل على ذلك بأدلة سمعية فى كتابه الإبانة وبأدلة عقلية فى كتابه اللمع. وكان
المعتزلة يحتكمون دائما فى الإلهيات إلى العقل فاحتكم معه إلى الشرع والأدلة السمعية من القرآن والسنة. وتوسط بين المحدثين والمعتزلة فى فكرة خلق الإنسان لأفعاله، فقال إن هذه الأفعال لله صنعا وللإنسان كسبا وإرادة، فالإنسان يريدها والله يخلقها. وقال، فى مسألة خلق القرآن التى أحدثت فتنة بين المحدّثين والمعتزلة فى زمن المأمون والمعتصم والواثق، إن الألفاظ المنزلة بالوحى دلالات على الكلام الأزلى والدلالة مخلوقة محدثة، وقال إن صفات الله ليست هى عين الذات الإلهية كما قال المعتزلة ولا هى أحوال كما قال أبو هاشم الجبّائى المعتزلى وإنما هى زائدة على الذات قائمة بها.
وإنما أطلنا فى الحديث عن مذهب الأشعرى لأنه المذهب الذى ساد طوال هذا العصر فى أغلب البيئات الإسلامية وخاصة بين الشافعية والمالكية، وكان المذهب الشافعى-كما مر بنا-منتشرا فى شرقى إيران، وكان أصحابه جميعا أشاعرة، ولم يلبث نظام الملك الوزير السلجوقى المشهور أن أسس لهذا المذهب الكلامى وبالمثل لقرينه المذهب الشافعى كراسى فى جميع المدارس التى أنشأها-كما مر بنا-فى إيران والعراق، فازدهر المذهب ازدهارا عظيما، وانتصر فعلا على المعتزلة والسلفيين من أهل السنة جميعا، إذ أصبح المذهب الرسمى آنذاك وكان من أهم رجاله إمام الحرمين الجوينى الذى ذكرناه بين الفقهاء، وكان أعلم أهل زمانه بعلمى الكلام والفقه الشافعى وبنيت له المدرسة النظامية بنيسابور كما أسلفنا، ونرى الشهرستانى يشرح على لسانه رأيه المتوسط فى أفعال العباد وأنها لله خلقا وللناس كسبا يقول: إن نفى هذه القدرة والاستطاعة (عن الإنسان) مما يأباه العقل والحس، وأيضا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه كنفى القدرة أصلا. . فلابد إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار يحس من نفسه أيضا عدم الاستقلال فالفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهى إلى مسبب الأسباب، فهو الخالق للأسباب ومسبباتها المستغنى على الإطلاق، فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه، والبارئ تعالى هو الغنى المطلق الذى لا حاجة له (1). وخلف الجوينى تلميذه الغزالى، فقاد هذا المذهب إلى النصر الحاسم، وظل أعظم المذاهب الكلامية طوال العصر.
وكان يعتنقه الشافعية كما أسلفنا فى إيران وغير إيران، أما الحنفية فكانوا يؤثرون على
(1) انظر الملل والنحل للشهرستانى (طبعة مصطفى البابى الحلبى وتحقيق الكيلانى) 1/ 98
مذهب الأشعرى مذهبا متوسطا مثل مذهب الأشاعرة لعلم من أعلامهم، وهو مذهب الماتريدى (1) محمد بن محمد بن محمود المتوفى بسمرقند سنة 333 وكان التنافس شديدا بين الماتريدية والأشعرية، وكانوا أقرب من الأشعرية إلى المعتزلة، ويمكن معرفة موقفهم هم والأشاعرة والمعتزلة جميعا من مسألة الإيمان بالله فالمعتزلة يقولون بأن الوسيلة إلى ذلك التى توجبه هى العقل، ويقول الأشاعرة بل الوسيلة الموجبة هى الشرع الذى يحتم علينا الإيمان بالله، ويتوسط الماتريدية بين الطرفين فيقولون إن أساس الإيمان بالله الشرع كما يقول الأشاعرة، ولكن هذا الإيمان يدركه العقل فالعقل وسيلة فيه. ومثلا فى مسألة الصفات الإلهية كان المعتزلة يقولون بأنها عين الذات الإلهية، وقال الأشعرى إنها زائدة على الذات قائمة بها، وتوسط الماتريدية فقالوا إن الله عالم وله علم أزلى. وبينما كان المذهب الأشعرى يسود فى نيسابور كان المذهب الماتريدى يسود فى بخارى وسمرقند وآسيا الوسطى حيث يسود المذهب الحنفى فى الفقه. وكان الكرامية من الصوفية خاصة يحملون على المذهب الأشعرى، ومعروف أنهم كانوا يغلون فى التشبيه. وعلى كل حال أخذت كفة المذهب الأشعرى تعلو حتى فى بيئات الماتريدية منذ اتخاذه عقيدة رسمية للسلاجقة فى عهد وزيرهم نظام الملك. وظل المعتزلة ينازعونهم طوال هذا العصر، حتى فى نيسابور نفسها وحتى منذ عهد نظام الملك أو قل قبله بقليل فإن الوزير السابق له أبا نصر منصور بن محمد الكندرى حسّن لسلطانه طغرلبك السلجوقى أن يمنع الأشاعرة من الوعظ والتدريس وأن يعزلهم عن الخطابة، ونشبت بذلك فتنة (2) فى نيسابور بين الأشاعرة والمعتزلة، ولم يلبث الوزير أن قتل وخلفه نظام الملك فازدهر المذهب الأشعرى منذ هذا الحين كما ذكرنا.
وكان أهل السنة الحنابلة يخالفون الأشعرية فى الأخذ بفكرة التأويل المجازى للآيات والأحاديث التى قد تدل على التشبيه والتجسيد للذات الإلهية، دون إثباتهما، ومعروف أن الأشعرى كان يقول إزاء مثل هذه الآيات كما فى قوله تعالى (بل يداه مبسوطتان) إن ذلك يفهم ولكن بلا كيف، حتى لا يأخذ بفكرة التشبيه، وكان أهل السنة الحنابلة يأخذون مثله بظاهر الآيات مع الإيمان بتنزيه الله عن التشبيه والتمثيل وكانوا يرون أن كلام الله قديم وأن القرآن لذلك غير مخلوق، بينما توسط الأشعرية، وقالوا إن كلام الله قديم ولكن
(1) انظر فى ترجمة الماتريدى الأنساب للسمعانى 498 والفوائد البهية ص 95 والجواهر المضية لابن أبى الوفا 2/ 130 وابن قطلوبغا ص 59 وشرح الإحياء للزبيدى 2/ 15 ونشر له الدكتور فتح الله خليف كتاب التوحيد الذى يصور مذهبه الكلامى، وهو كتاب نفيس.
(2)
راجع فى هذه الفتنة طبقات الشافعية للسبكى 3/ 389 وترجمات عبد الكريم القشيرى والجوينى وأبى سهل بن الموفق.