الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنه ليزدرى الطمع فى الدنيا الذى يتحول بالعالم إلى ما يشبه دوّارة الريح فهو يدور مع نفعه المهين، ناسيا أن من شأن علمه أن يجعله مخدوما لا خادما وسيدا لا عبدا ذليلا، وإلا كان الجهل خيرا منه وأكثر عائدة على صاحبه. ويحمل حملة شعواء على من يراهم حوله من العلماء صغار النفوس الذين لم يصونوا حرمة العلم بل دنّسوه ولطخوه بهوان أليم.
الطّغرائىّ
(1)
هو أبو إسماعيل مؤيد الدين الحسين بن على بن محمد، الكاتب الشاعر الذى غلب عليه لقب الطّغرائى لعمله فى دواوين الطّغراء، وهى الطّرّة التى يكتبها عادة رئيس ديوان الإنشاء فى أعلى الكتب فوق البسملة بالخط الغليظ متضمنة نعوت السلطان أو الحاكم الذى يصدر الكتاب باسمه. وقد ولد بأصفهان سنة 453 لأسرة عربية تنتسب إلى أبى الأسود الدؤلى، ولا نعرف شيئا واضحا عن نشأته ولكن ثقافته الأدبية والعلمية العميقة تدل على أنه اختلف إلى دور العلم وحلقات العلماء منذ نعومة أظفاره وأنه تثقف على أيدى جهابذة موطنه من اللغويين والفقهاء والأدباء وأصحاب الصنعة (الكيمياء) وله فيها مصنفات مختلفة (2) ويبدو أن ملكته الشعرية استيقظت فى نفسه مبكرة، فسال الشعر على نساء، ووفد به على الرؤساء، وكان من أوائل من وفد عليهم فضل الله بن محمد صاحب ديوان الإنشاء لألب أرسلان، وأعجب به وبشعره، فعينه كاتبا فى الديوان وأوصله إلى الوزير نظام الملك فاستمع إلى مدائحه فيه، ورحّب به. وحدث أن اشترك الفضل فى مؤامرة كبرى على نظام الملك وانكشفت المؤامرة، وألقى به فى غياهب السجون، وظل الطغرائى يحفظ له صنيعه معه ويواسيه فى محنته ببعض أشعار يدبّجها فى مديحه. وكان نظام الملك حصيفا. فلم يأخذ على الشاعر شيئا من وفائه لصاحبه، وظل الطغرائى يعمل فى دواويته. كما ظل على صلته به يمدحه فى المناسبات ومن مدائحه البديعة فيه بائيتان، يشيد فيهما به وبانتصارات جيوش الدولة فى الشرق وفى الغرب على شاكلة قوله:
(1) انظر فى ترجمة الطغرائى وشعره معجم الأدباء 10/ 56 وابن خلكان 2/ 185 والأنساب للسمعانى 543 والشذرات 4/ 41 ومقدمة الصفدى لشرحه على قصيدة الطغرائى، لامية العجم المسمى بالغيث المسجم وكتاب الطغرائى للدكتور على جواد الطاهر (طبع بغداد) وكتابه الشعر العربى فى العراق وبلاد العجم فى العصر السلجوقى. وديوان الطغرائى مطبوع قديما بإستانبول وطبعت لاميته مع شروح لهم وأهم شروحها شرح الصفدى (طبع القاهرة).
(2)
العلم عند العرب لألدومييلى ص 307 - 310 وكتاب الشعر العربى السالف للدكتور على جواد الطاهر 2/ 155.
خميس أقاصى الشرق ترزم تحته
…
وترتجّ منه أخريات المغارب (1)
يلفّهم بالرّعب قبل طرادهم
…
ويهزمهم بالكتب قبل الكتائب
وفى هذه الأثناء يتزوج، وما تلبث زوجته أن تتوفّى وتترك له رضيعا لا يزال يجد فى نفسه منه شجى عميقا عليها، ومراثيه فيها تفيض بالحزن المرير على شاكلة قوله:
بنفسى من غاليت فيها بمهجتى
…
وجاهى وما حازت يداى من الوفر
وفزت بها من بين يأس وخيبة
…
كما استخرج الغوّاص لؤلؤة البحر
فجاءت كما جاء المنى واشتهى الهوى
…
كمالا ونبلا فى عفاف وفى ستر
فيا موت ألحقنى بها غير غادر
…
فإن بقائى بعدها غاية الغدر
وهى مرثية بديعة، فقد أظلمت الدنيا فى عينى الطغرائى بعد زوجته الشابة الجميلة.
ولم يعد له منها سوى الأنين والدموع والزفرات، وإنه ليشيح بوجهه عن الصبر وأجره وثوابه مفضيا إلى لوعات قلبه وحسرات نفسه، إذ تركت بين جوانحه نارا لا تنطفئ، ويتوجه إليها بالخطاب نادبا لحظه العاثر، منشدا:
لآنستنا حتى إذا ما يهرتنا
…
سنا-وسناء غبت غيبوبة البدر
وقد كان ربعى آهلا بك مدّة
…
أحنّ إليه حنّة الطّير للوكر
وآوى إليه وهو روضة جنّة
…
بدائعها يختلن فى حلل حمر
فمذ بنت عنه صار أو حش من لظى
…
وأضيق من قبر وأجدب من قفر
لقد غاب عنه بدره وانقضّ وكره ودمّرت جنته وعاد يتقلب بعد أعطاف النعيم فى لظى الجحيم، وحتى مسكنه أصبح قبرا مظلما وقفرا مجدبا. ويظل يبكيها وتمر به الأيام، فيسلو عنها ويتزوج ويرزق الولد، وهو فى أثناء ذلك يعمل فى دواوين السلاجقة، ويتوفّى نظام الملك، وتضطرب به الحياة، فيتعرض لبعض الوزراء بالهجاء ولبعضهم بالمدح والثناء، وتتوثق صلته بالسلطان محمد بن ملكشاه (499 - 512 هـ) ويصبح فى عهده نائبا فى ديوان الطّغراء أو بعبارة أخرى وزيرا للقلم والإنشاء. ونراه فى مدحة له يتحدث عن جيوشه ووقائعها مع الروم وما تلقى فى قلوبهم من فزع بمثل قوله:
خيل بأرض الرّقّتين وراءها
…
نقع كمرتكم الغمام مثار
ريع العدوّ وقد أحسّ بقربها
…
فالجنب ناب والرقاد غرار (2)
وعلى خليج الرّوم منك مهابة
…
من خوفها يتطامن التيّار
ولقد درى الرومىّ أنّ وراءه
…
خطرا تقاصر دونه الأخطار
(1) ترزم: تسقط إعياء.
(2)
غرار: قليل
ويتحدث فى نفس القصيدة عن مقاومة السلطان محمد للباطنية الحشاشين وقضائه المبرم على ابن عطاش فى حصن «شاه دز» بقرب أصفهان واستيلائه على قلعته، على نحو ما مر بنا فى غير هذا الموضع. ويتولى السميرمى الوزارة ويتوفى السلطان محمد ويخلفه ابنه محمود وتفسد العلاقة بين الطغرائى والوزير، ويرحل إلى بغداد وينبو به المقام فيذم فى بائية مقامه فى العراق مستهلا ذمه بقوله:
مللت ثوائى بالعراق وملّنى
…
رفاقى وكانوا بالعراق طرابا
وينظم حينئذ لاميته التى اشتهرت خطأ باسم لامية العجم، وقائلها عربى كما مر بنا فى نسبه، وليس فيها أى تعصب للعجم ضد العرب، ولعلها سمّيت بذلك لأن قائلها كان يعيش فى بلاد العجم وجعلها على روىّ لامية العرب للشنفرى وقد نالت شهرة واسعة منذ عصره وشرحها الأسلاف مرارا وأهم شروحها شرح الصفدى، وموضوعها الشكوى من الزمان وأهله، شكوى لا تنكسر فيها نفسه، بل يظل له طموحه وتظل له صلابته، وتظل له فضائله التى يفخر بها، وهو يستهلّها بقوله:
أصالة الرأى صانتنى عن الخطل
…
وحلية الفضل زانتنى لدى العطل
وربما أشار بالعطل إلى تعطله من وظيفته الديوانية حنيئذ، أو ربما يشير إلى ما حدث له أحيانا من هذا العطل ويهتف:
فيم الإقامة بالزّوراء لا سكنى
…
بها ولا ناقتى فيها ولا جملى
ويشكو طويلا الغربة بالزوراء (بغداد) وأن لا صديق له فيها ولا أنيس سوى الوحشة وبعد الوطن والدار، مع بوار الأمانى وانعكاس الآمال. ويرحل مع صديق، ويقتربان من حىّ إضم بالقرب من المدينة، حى الحبيبة التى ضرب إليها أكباد الإبل، ولكن دونها الحماة بالسهام والبيض والسّمر، أو السيوف والرماح، والأسد رابضة حول الكناس.
ويتمنى إلمامة بالحى تبرئه من علله، بل ليتمنى الموت فى سبيل نظرة، وكل هذا رمز عن مطامحه التى لا يستطيع تحقيقها، وإنه ليصرّح بأن طالب المجد لابد له أن يغامر وأن يركب الأخطار، فإن لم يتحقق له فى بلدة طلبه فى أخرى، ويصيح:
إن العلا حدّثتنى وهى صادقة
…
فيما تحدّث أن العزّ فى النّقل
ويقول إنه لا يزال يعلل نفسه بالآمال فى أن تقبل عليه الأيام ثانية. ويشكو من الدهر ومن الناس، مع شعور غير قليل بالكرامة، ومع التحذير الشديد من الأصدقاء الأدعياء قبل الأعداء. ويختم القصيدة بالدعوة إلى القناعة ورفض المناصب فكل ما على الدنيا ظل
زائل، وسننشد قطعة من هذه اللامية فى حديثنا عن شعراء الحكمة والفلسفة.
ولا ندرى كيف رغب ثانية فى العمل لدى السلاجقة، إذ نراه يقصد إمارة السلطان مسعود بالموصل سنة 513 ويعيّنه وزيرا له، وتنشب الحرب بين مسعود وأخيه السلطان محمود وتدور الدوائر فى سنة 515 على مسعود وجيشه ويؤسر الطّغرائى ويقتل بتهمة الزندقة. ويبدو أن خصومه استغلوا عكوفه على الكيمياء، فاتهموه بالسحر والإلحاد، واستمع السلطان محمود إلى اتهامهم له وأمر بقتله. والشكوى كثيرة فى أشعار الطّغرائى وتكفى منها لاميته السالفة. وفى ديوانه مقطوعات غزلية كثيرة يستوحى فيها حجازيات الشريف الرضى ومهيار، ومن طرائف غزله:
يا قلب مالك والهوى من بعد ما
…
طاب السلّو وأقصر العشّاق
أو ما بدا لك فى الإفاقة والألى
…
نازعتهم كأس الغرام أفاقوا
يا حبّذا نجد وأعراق الثّرى
…
لدن وأنفاس النعيم رقاق
وكان يدعو إلى مجلس الشراب أحيانا وسماع المثالث والمثانى والانتشاء بالخمر فى مباهج الربيع. وطبيعى أن يتردّد الفخر فى أشعاره، على نحو ما ترددت منه رنات فى لاميته، وله يفتخر بثقافته الواسعة وإلمامه بشتى العلوم:
أما العلوم فقد ظفرت ببغيتى
…
منها فما أحتاج أن أتعلّما
وعرقت أسرار الخليفة كلّها
…
علما أنار لى البهيم المظلما
واشتهر كما قدمنا بمعرفته العميقة بالصنعة أو كما نقول الآن علم الكيمياء، وله فيها أشعار يضمها مخطوط تحتفظ به مكتبة جامعة القاهرة بعنوان مفتاح الرحمة ومصابيح الحكمة، ونقل منها الدكتور على جواد الطاهر طائفة (1) تصور هذا الضرب من شعره العلمى أو التعليمى. ويكثر عند الطغرائى ومعاصريه جميعا معارضته الشريف الرضى ومهيار فى بعض قصائدهما، بل أيضا معارضته من سبقهما من الشعراء، وربما كانت لاميته السالفة أروع قصائده من حيث السبك والصياغة، ومع ذلك حاول الصفدى فى شرحه لها جاهدا أن يرد معانى أبياتها بيتا بيتا إلى سابقيه. وكان الطغرائى كشعراء عصره يتصنع لفنون البديع ولكل ما أتوا به من فنون التكلف، وفى الحق أنه كان شاعرا بارعا، وبلغ من إعجاب السابقين به وبلاميته أن عارضها منهم كثيرون، كان آخرهم البارودى فى لامية له مشهورة.
(1) انظر الشعر العربى فى العراق وبلاد العجم فى العصر السلجوقى 2/ 155.