الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفس المعين الذى يستمد منه شعره الوجدانى، على نحو ما يتضح من قوله فى مطلعها:
ليس يروى ما بقلبى من ظما
…
غير برق لائح من إضم (1)
إن تبدّى لك بان الأجرع (2)
…
وأثيلات النّقا من لعلع (3)
…
يا خليلى قف على الدار معى
…
وتأمّل كم بها من مصرع
واحترز واحذر فأحداق الدّمى
…
كم أراقت فى رباها من دم
وللحاجرى موشح فى ديوانه، ولكنه لا يبلغ جمال هذا الموشح فى موسيقاه ورصف ألفاظه. وليس معنى ذلك أن التلعفرى يتفوق على الحاجرى فى روعة شعره، فالحاجرى هو الأستاذ وهو الذى مهد الطريق وعبّدها للتّلعفرى، وهما جميعا يجلّيان فى غزلهما تجلية بديعة. ويقول ابن تغرى بردى عن التلعفرى إنه كان يتشيع، ولكنه لم يفسح لنحلته فى شعره.
2 - شعراء اللهو والمجون
مرّ بنا فى حديثنا عن المجتمع فى الفصل الأول كيف أن الطبقة المترفة من الحكام والوزراء وعلية القوم كانت تنغمس فى الترف، وكيف كان كثيرون منها يقبلون على اللهو واحتساء الخمر فى مجالس أنس كانت لا تزال تنعقد فى بغداد، وذكرنا من بين هذه المجالس مجلس الوزير المهلبى ومن كان يحضره من القضاة والفقهاء وكيف كانوا يطرحون الحشمة والوقار ويقبلون على القصف والخلاعة والرقص، وفى يد كل منهم طاس مملوء خمرا يعبّ منه عبّا. ولم يكن جميع الوزراء مثل المهلبى، ولكن كثيرين منهم كانوا يقيمون هذه المجالس وإن لم يتسعوا مثله فى اللهو والعبث، ويصور محمد بن أبى المطهر الأزدى فى كتابه «حكاية أبى القاسم البغدادى» -الذى عرضنا له فى غير هذا الموضع-بعض هذه المجالس فى القرن الخامس الهجرى وكيف كانت تعبق بالطيب على بساط الرياحين
(1) إضم: الوادى الذى فيه المدينة المنورة.
(2)
البان: شجر. والأجرع: الرملة الطيبة المنبت
(3)
أثيلات: شجر. النقا: القطعة من الرمل. لعلع: ماء بالبادية.
والورود وكيف كانت تهبّ للأنس رياح، سحابها الأقداح، وبرقها الراح، وقد نطقت ألسنة العيدان والنايات تسند غناء الجوارى والمغنين بألحانها الشجية، ويطيل فى وصف الخمر وأن منها ما كأنه عصر من خدّ الشمس، وما هو أصفى من الماء، وأرق من دمعة العاشق المهجور (1). والكتاب إنما كتب فى وصف المجون ببغداد لعصر مؤلفه، وينبغى أن لا نظن أنه يمثل صورة الحياة العامة، إنما هى صورة حياة طبقة خاصة هى الطبقة المترفة، وكان وراءها الشعب يكدح ويتصبّب جبينه عرقا كى تملأ هذه الطبقة بطونها وتملأ مجالسها بالشرب من الطاس والكاس. وحقا كانت للشعب مواسم للهو والعبث، غير أنها قلما تعدّت أعياد المجوس والنصارى مما عرضنا له فى غير هذا الموضع.
على كل حال ينبغى أن لا نبالغ فى تصور ما كان ببغداد من اللهو والمجون، وأن نقصر ذلك على الفئة الأرستقراطية أما الشعب فحسبه منها ما كان يستمتع به من لهو فى بعض الأعياد وخاصة أعياد الربيع، وظل ذلك طوال العصر ومن خير ما يصوره مقامة لظهير الدين الكازرونى المتوفى سنة 697 عرض فيها لهذا الجانب من لهو البغداديين وخروجهم إلى الرياض وتنزههم فى الحدائق والأنهار قائلا:«أما زمان الربيع وأيام الوشى البديع فإنهم كانوا يصطحبون ويتجمعون وينثالون (كأنهم إلى نصب يوفضون) فينزلون الجوارى (السفن) فى رهط من الجوارى، ويدخلون نهر عيسى ويباكرون إلى قصده. . ويخترقون أشجاره ويقطفون ثماره ونوّاره، ويفترشون رياضه وأزهاره وينزلون غيطانه وأنهاره، ثم تعزف القيان وتصطخب العيدان، وتصفّق الغدران، وترقص الأغصان، وتميد الأفنان، وكلما دسع (امتلأ) الرّاووق (دنّ الخمر وطاسه) طاب المشوق. . وكلما طرب العود، زمجرت الرعود، وقد انتظموا فى سلك الراحة، واجتمعوا للاستراحة، كذلك أياما، لا يطعمون مناما» (2) ولم تكن حانات بغداد فى الكرخ ولا حانات المتنزهات وحدهما هما اللتان يجد فيهما عشاق المجون ما يصبون إليه من الخمور بل كانوا يجدونها أيضا فى الأديرة.
وبذلك كله ظلت الخمرية تتردد على ألسنة الشعراء، وظلوا يصوغونها، وكل منهم يحاول أن يأتى فيها بمقطوعة أو قصيدة بديعة، وقد نظمت كثير من الخمريات فى مجالس الوزير المهلبى، ولعل جليسه القاضى أبا القاسم التنوحى كان المجلّى بين ناظميها بمثل قوله فى
(1) حكاية أبى القاسم البغدادى ص 45 وما بعدها.
(2)
انظر مقامة ظهير الدين الكازرونى (طبع بغداد) ص 27.
إحدى خمرياته (1).
وراح من الشمس مخلوقة
…
بدت لك فى قدح من نهار
هواء ولكنه جامد
…
وماء ولكنه غير جار
وهو تصوير بديع أن يجعل الخمر شمسا أو قطعة منها وماء غير جار والكأس نهارا وهواء جامدا. وكان كثيرون من أهل بغداد رجالا ونساء يحفظون الخمرية لجمال تصويرها، يدل على ذلك ما حكاه ابن خلكان-فى ترجمة صاحبها-عن الحسن بن عسكر الصوفى الواسطى قال: كنت ببغداد فى سنة إحدى وعشرين وخمسمائة جالسا على دكة بباب أبرز للفرجة إذ جاء ثلاث نسوة فجلسن إلى جانبى، فأنشدت متمثلا:
هواء ولكنه جامد
…
وماء ولكنه غير جار
وسكتّ، فقالت إحداهن: هل تحفظ لهذا البيت تماما؟ فقلت: ما أحفظ سواه، فقالت: إن أنشدك أحد تمامه وما قبله ماذا تعطيه؟ فقلت ليس لى شئ أعطيه، فأنشدتنى الخمرية وزادت بعد البيت السابق:
إذا ما تأمّلتها وهى فيه
…
تأملت نورا محيطا بنار
فهذا النهاية فى الابيضاض
…
وهذا النهاية فى الاحمرار
فحفظت البيتين منها. وإنما روينا ذلك لندل على ظرف الجوارى فى بغداد وأن سوق الخمريات كانت رائجة، ولذلك كان الشعراء يحاولون الإبداع فيها والإتيان بالمعانى المبتكرة الطريفة كقول الببّغاء فى عتق الخمر (2):
وعريقة الأنساب والشّيم
…
موجودة والخلق فى العدم
هى آدم الكرم المولّد فى ال
…
دّنيا وحوّا الخمر فى القدم
ظهرت ونور الشمس فى فلك
…
من قبل خلق الصبح والظّلم
واشتقّ معنى اسم السّلاف لها
…
من كونها فى سالف الأمم
وبون بعيد بين هذه الخمرية وخمرية التنوخى فى بعد الخيال والتصوير. ومن قديم يمزج الشعراء فى الخمرية بين الحب ونشوة الخمر. ومن طريف ما كان يطرب الناس ببغداد لعهد أبى حيان التوحيدى غناء سندس جارية ابن يوسف صاحب ديوان السواد، وهى تتشاجى وتتدلل وتتمايل وتتكسّر متغنية بهذه الخمرية (3).
(1) انظر ترجمة القاضى التنوخى فى ابن خلكان 3/ 366 والجواهر المضية ومعجم الأدباء 14/ 162.
(2)
اليتيمة 1/ 262.
(3)
الإمتاع والمؤانسة 2/ 173.
مجلس صبّين عميدين
…
ليسا من الحبّ بخلوين
قد صيّرا روحيهما واحدا
…
واقتسماه بين جسمين
تنازعا كأسا على لذّة
…
قد مزجاها بين دمعين
والكأس لا تحسن إلا إذا
…
أدرتها بين محبّين
ومن قديم أيضا يمزج الشعراء بين النشوة بالخمر والنشوة بالطبيعة، إذ كانوا فعلا كما مر بنا يشربونها على أبسطة الربيع وبين آسه وورده وزهره، ونقلوا الأزهار إلى مجالسها، حتى تعبق بروائحها أو قل نقلوا الربيع بكل ما فيه نقلا يأخذ بمجامع القلوب ويمتزج بالنفوس.
فكان طبيعيا أن يتحدث الشعراء فى خمرياتهم عن جمال الطبيعة وجمال الورود والرياحين فى الربيع، وقرنوا إلى ذلك سقوط الثلج فى الشتاء كقول الوزير المهلبى فى إحدى خمرياته (1):
الورد بين مضمّخ ومضرّج
…
والزهر بين مكلّل ومتوّج (2)
والثلج يهبط كالنّثار فقم بنا
…
نلتذّ بابنة كرمة لم تمزج (3)
وكان الغناء يرافق الخمر، كما أشرنا إلى ذلك، فعرضت خمريات كثيرة للغناء والخمر معا، كما عرضت أخرى للغزل بالسقاة من الغلمان، وكثير منه كان يقصد به إلى التندر والدعابة فى أثناء السكر. وكان الغزل بالغلمان لونا من ألوان التماجن فى العصر، وهو -لا شك-وصمة معيبة فى جبين أصحابه.
ودفع التماجن إلى ظهور أشعار لا يستحى أصحابها من ذكر العورات والإسراف فى الفحش، ونعجب الآن أن يتّخذ ذلك ضربا من الهزل والتسرية عن الناس، وكأنما أعياهم أن يسرّوا عن أنفسهم، فالتمس بعض الشعراء هذه التسرية التى تؤذى النفوس الكريمة. وكان شعراء هذا الهزل الماجن يمزجونه بفكاهات ونوادر ودعابات كثيرة، وكأنهم أحسوا أنه يجب تخفيف حدّته، وأنى لهم؟ ! فقد كان يمتلئ بسخف كثير، وسخفه ليس ناشئا عن التورط فى الخمر فحسب وإنما أيضا عن التورط فى وصف الفواحش والتصريح بالآثام فى غير استحياء. وكان الذى دفع إلى ذلك ابن سكّرة وابن الحجّاج فى القرن الرابع، غير أن شعراء الخمر أنفسهم من حولهما ومن بعدهما كانوا يترفعون عن هذا الدّرك
(1) اليتيمة 2/ 237.
(2)
مضمخ: ملطخ بالطيب، مضرج: ملطخ بالحمرة.
(3)
النثار: ما ينثر فى حفلات العرس والسرور من نقود أو حلوى.
الأسفل من التصريح بالمآثم على نحو ما نرى فى خمريات عبد الصمد (1) بن بابك المتوفى بعدهما سنة 410 وله من خمرية:
عقار عليها من دم الصّبّ نفضة
…
ومن عبرات المستهام فواقع
معوّدة غصب العقول كأنما
…
لها عند ألباب الرجال ودائع
تحيّر دمع المزن فى كأسها كما
…
تحيّر فى ورد الخدود المدامع
وقد أبدع فى تصوير فواقعها فى كأسها بأنها عبرات شاربها العاشق الولهان، ويقول إنها استردّت منه وديعتها، ففارقه عقله. ويصل بين امتزاج الماء بالخمر المحمرة فى كأسها وبين الدموع وتحدرها على خدود المحبوبة الموردة، وله من أخرى:
يا صاحبىّ امزجا كأس المدام لنا
…
كيما يضئ لنا من نورها الغسق
خمرا إذا ما نديمى همّ يشربها
…
أخشى عليه من اللألاء يحترق
لو رام يحلف أن الشمس ما غربت
…
فى فيه كذّبه فى وجهه الشّفق
وخوفه على نديمه من الاحتراق فى لألاء الخمر غريب، وأغرب منه دعواه أن الشمس غربت فى فمه بدليل ما تتضرج به خدوده من حمرتها، وكأنها تركت عليها شفقها أو بصماتها الحمراء. ويظل الشعراء بعد ابن بابك ينظمون فى الخمر متفننين فى معانيها محاولين بكل جهدهم أن ينفذوا فيها إلى طرائف جديدة، على نحو ما يلقانا عند سبط ابن التعاويذى والحاجرى والتّلعفرى وصفى الدين الحلّى. وانحصرت موجة المجون والفحش بذلك عند ابن سكرة وابن الحجاج وتراجعت عند خالفيهم وكادت تنحصر فى شعر هزلى مضحك على نحو ما هو معروف عند صريع (2) الدّلاء المتوفى بمصر سنة 412 من مثل قوله:
من مضغ الأحجار أدمت فكّه
…
فالضّرس لم تخلق لتليين الحصى
من قطع النّخل وظلّ راجيا
…
ثمارها فذاك مقطوع الرّجا
وقد يحاول شاعر من باب الدعابة محاكاة ابن حجاج أو ابن سكرة، غير أنه يخفف جدا من تماجنه وتعابثه بحيث لا يستخدم شيئا من ألفاظ الفحش، إنما يكتفى ببيان عكوفه على الخمر وأنها كل لذته فى دنياه، حتى إنه لا يستطيع أن يهجرها فى ليالى رمضان
(1) انظر فى ترجمة عبد الصمد اليتيمة 3/ 374 وابن خلكان 3/ 196 وعبر الذهبى 3/ 102 والنجوم الزاهرة 4/ 245 والشذرات 3/ 191. وله ديوان مخطوط. انظر بروكلمان 5/ 25.
(2)
انظر فى ترجمة صريع الدلاء تتمة اليتيمة للثعالبى 1/ 14 وابن خلكان 3/ 383 وعبر الذهبى 3/ 110 والشذرات 3/ 197 وله ديوان مخطوط. انظر بروكلمان 2/ 65.