الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومضى يتنصّل من البيتين السالفين. غير أنه ساق تنصله فى تهكم وسخرية لاذعة من تهديده بسفك دمه، قائلا:
فدع التهدّد بالحسام جهالة
…
فحسامك القطّاع ليس له يد
من قد تركت به قتيلا؟ ! أنبنى
…
ممن توعّده ومن تتهدّد
إن لم أمت إلا بسيفك إننى
…
لقرير عين بالبقاء مخلّد
وكل هذا يمكن أن يحتمل من نشوان فى سبيل دفاعه عن نفسه، ولكنه لم يلبث أن وصم جبينه وصمة لا تمحى بالأبيات التالية:
موتى قريش فكلّ حىّ ميّت
…
للموت منا كلّ حىّ يولد
قلتم لكم إرث النّبوّة دوننا
…
أزعمتم أن النبوة سرمد
منكم نبىّ قد مضى لسبيله
…
قدما فهل منكم نبىّ يعبد
وهذه سفاهة وخرق وحماقة، ويقول العماد الأصبهانى تعليقا على هذه الأبيات:«قاتله الله ولعنه وأخزاه، ما أشد افتراه على الله وأجراه، وأية فضيحة فوق هذا ولولا النبى المصطفى الذى اختاره الله واجتباه، وجعله الوسيلة إلى نيل رضاه، صلوات الله عليه وسلامه، ما سعدوا ولا فازوا ولا حازوا من الشرف والفضيلة ما حازوا» وحقا إنها كلمات خبيثة كلها نكد وخزى وبوار، ولو أن الشاعر وجّه شعره وجهة أخرى غير وجهة هذه العصبية الخرقاء لكان ذلك له أفضل وأجدى.
سليمان النبهانى
(1)
آخر سلاطين بنى نبهان العمانيين ولا يعرف تاريخ مولده، وقد عاش حتى سنة 915 للهجرة وكانت حياته فى الحكم سلسلة من الحروب بينه وبين أخيه وبينه وبين خوارج نزوى، منها وقعة «حممت» بينه وبين خوارج نزوى لعهد إمامهم عمر بن الخطاب، وفيها انهزم عمر، ودارت الأيام وانتصر عمر عليه، وسرعان ما توفى فتنفّس سليمان الصعداء وعاد إلى عاصمته وأخرج منها شيوخ الخوارج المقيمين بها. وحاربه الخوارج فى «واقعة أزكى» ودارت الدوائر عليه. وما زال به أبو الحسن بن عبد السلام الذى ولى أمر الخوارج بعد عمر بن الخطاب، حتى غادر الديار إلى هرمز فى أرض فارس ومات أبو الحسن فعاد واسترد سلطانه، غير أن العمانيين بايعوا إمام الخوارج محمد بن إسماعيل الخروصى سنة 906
(1) انظر فى ترجمة سليمان النبهانى تحفة الأعيان لنور الدين السالمى 1/ 321 وما بعدها ومقدمة محقق ديوانه عز الدين التنوخى، وهى مقدمة بديعة. والديوان مطبوع بدمشق.
ونشبت بينهما موقعة الحمة وهزم فيها سليمان ولم تقم له بعدها قائمة. وبذلك ضعفت دولة النبهانيين وكاد يقضى عليها قضاء نهائيا. وديوانه يفيض بثقافة لغوية وأدبية جيدة، وهى ثقافة تتضح بجلاء خلال معارضاته الكثيرة للشعراء، إذ كان يعارض أشعار الجاهليين من أمثال امرئ القيس وطرفة وعنترة وزهير وعمرو بن معد يكرب والنابغة والأعشى وأشعار الإسلاميين من أمثال جرير والفرزدق وذى الرمة وكثيّر وقطرىّ بن الفجاءة وأشعار العباسيين من أمثال أبى نواس وأبى العتاهية وأبى تمام والبحترى وابن دريد والمتنبى وأبى العلاء. وقد تتبع محقق الديوان الأستاذ عز الدين التنوخى ذكره للمواطن والأماكن التى نثرها امرؤ القيس فى أشعاره، كما تتبع أخذه من عنترة ومعارضته لطرفة فى معلقته وعمرو بن معد يكرب فى داليته وابن دريد فى مقصورته وأبى نواس فى خمرياته وما تطوى من معان وصور وأوزان وقواف، ولاحظ معارضته لأبى العلاء فى قصيدته (ألا فى سبيل المجد) وأنه استعار منه المعانى وكثيرا من الألفاظ كما استعار الوزن والقافية، على شاكلة قوله:
ألا فى سبيل المجد ما أنا صانع
…
نفوع وضرّار ومعط ومانع
وإنى لذو طعمين شهد يشوبه
…
رحيق وسمّ دونه السّمّ ناقع
ولكن من الحق أنه مع هذه المعارضات الكثيرة فى ديوانه وإغاراته على معانى الأسلاف وأخيلتهم وأفكارهم شاعر مجيد يحسن رصف الكلم. والموضوع الأساسى فى ديوانه هو الفخر، وهو شئ طبيعى، لأنه كان سلطانا وصاحب دولة ومن فخره الذى يصور فيه بسالته وشجاعته:
يمينا بالصّوارم والحراب
…
وبالخيل المسوّمة العراب (1)
وكلّ مفاضة كالنّهى سرد
…
تردّ العضب مفلول الذّباب (2)
أنا ابن السابقين إلى المعالى
…
ورغم الصّيد والشّوس الغضاب (3)
أنا الملك الذى ساد البرايا
…
مقرّ الفخر والحسب اللّباب
ولى يومان من نعمى وبؤسى
…
ولى طعمان من أرى وصاب (4)
ويتضح لنا من هذه الأبيات صوته فى الفخر، فهو يقسم بأدوات الحرب والبأس أنه
(1) المسوّمة: المعلمة. العراب: الجيدة.
(2)
المفاضة: الدرع. النهى: الغدير. والشعراء يشبهون الدروع وغضونها بمياه الآبار حين تمر بها الريح فتحدث فيها حركات وغضونا. سرد. منسوجة. الغضب: السيف. الذباب: حده.
(3)
الصيد: السادة. الشوس: جمع أشوس وهو المتعاظم الذى يتيه بنفسه زهوا.
(4)
الأرى: عسل النحل. الصاب: المر.
سليل السابقين إلى الشرف: شرف النسب وشرف الفعال، ويتمدح بأنه كالمنذر بن ماء السماء الذى كان يتخذ له يومين كل عام يوم نعمى ويوم بؤسى وأن له طعمين حلوا ومرّا. وهو يلتقى مع نشوان بن سعيد فى الإكثار من الفخر بقحطان وملوك اليمن وأقيالها بمثل قوله:
ونحن ملكنا الجنّتين بمأرب
…
ودسنا برغم أنف كسرى وقيصر
ويكثر من تعداد أسماء هؤلاء الأقيال والملوك، ولكنه لا يبلغ من التيه بهم والزهو مبلغ نشوان، وإن كنا نحس عنده أيضا نغمة الفخر على نزار حين يردّد ما قدمه الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم وما أدوه من جهاد فى سبيل إعلاء الإسلام وما بذلوا من الأرواح والأموال، على نحو ما نرى فى قوله:
ولولا الملوك الصّيد قومى لم يقم
…
لعمرى قوم قبلة الصّلوات
ضربنا على الإسلام أبناء هاجر
…
فدانوا وأدّوا واجب الزّكوات
ويقصد بأبناء هاجر قريشا، وهى أم إسماعيل عليه السلام كما هو معروف. وكثيرا ما يبالغ مبالغات مفرطة فى فخره تتجاوز الحدود كقوله:
وهب الإله لى الفضائل مثلما
…
أعطى الكليم الصّحف والألواحا
والكليم هو موسى عليه السلام، وما كان أغناه عن مثل هذه المبالغة. ويكثر فى ديوانه من ذكر الأطلال والغزل، وهو فيهما مقلد يحتذى على معانى الأسلاف وصورهم.
ويتعرض كثيرا لوصف الناقة، وأهم من وصفه لها وصفه للفرس لأنه يتصل بشجاعته وحروبه، غير أنه لا يأتى فى الوصفين بجديد، ويكثر من ذكر الصيد وهو طبيعى لأمير يجد فراغا كثيرا. وله قصيدة ميمية يصف فيها حمار الوحش وأتنه ومسيرته معها فى الصحراء بحثا عن ماء حتى إذا ألمّ به أرسل عليه وعلى الأتن صائد متربص وراء الأشجار سهامه، فأخطأت الصيد ومضى الحمار وأتنه عبر الصحراء. ويتلو هذا المشهد بمشهد ثان لمعركة بين ثور وكلاب صائد، ويذكر لنا لون الثور ومبيته بين أشجار تقيه صوب الغمام، حتى إذا أسفر الفجر وخرج الثور من كناسه أرسل الصائد عليه خمسة كلاب، فقتل منها اثنين، ومضى يشق طريقه فى الفلوات مثيرا للغبار من حوله. والمشهدان منقولان حرفيّا من بائية ذى الرمة المشهورة التى عرضنا لها فى كتابنا «التطور والتجديد فى الشعر الأموى» ولم يلتمس الشاعر منه المشهدين فحسب، بل التمس أيضا بعض عباراته ومعانيه، حتى وصف ذى الرمة لثوره بأنفته من الفرار من المعركة نجده عند النبهانى إذ يقول:
واعتاده أنف الكري
…
م فكرّ كالبطل المحامى
وللخمر حيّز كبير فى الديوان، ويستظهر الأستاذ عز الدين التنوخى أنه كان يطلق لنفسه العنان فى مطالع حياته، ويقرن إحدى خمرياته إلى خمرية لأبى نواس، ويبين مدى إغارته على معانيها وصورها وعلى الوزن والقافية، ومن شعره فى الخمر قوله:
وكم جنّة فى الأرض دان قطوفها
…
بها غرفات أيّما غرفات
قضينا بها أيامنا بمدامة
…
لدى قاصرات الطّرف بين سقاة
وحور كأمثال الدّمى وبراغز
…
يطرّبننا بالنّاى والنّغمات
وواضح أنه لكى يجمّل صورة الجنة جاء بقاصرات الطرف اللائى يقصرن عيونهن على صواحبهن ولا يلتفتن إلى غيرهم، كما جاء بالحور العين وأضاف إليهن أولادهن من البراغز وهن يطرّبنهم بالضرب والعزف والغناء على الآلات الموسيقية. ويبدو أنه كثيرا ما كان يفكر فى الدنيا ونوائبها إذ نرى له بعض مواعظ فى ديوانه-وله رثاء حار لأخ ثار عليه وقتله- ولعل من الطريف أن نجده يختم بعض قصائده بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، على شاكلة قوله فى خاتمة إحدى قصائده:
وأختم شعرى بذكر الرسول
…
نبىّ البريّة نور الظلام
وفى الحق أنه كان شاعرا مجيدا، وتكثر معارضاته واقتباساته من الشعراء السابقين، غير أن ملكته الشعرية كانت ملكة خصبة.