الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أين المفرّ لمن هواك طليبه
…
وسهام لحظك بالسّقام تصيبه
يشكو ولا أحد يرقّ لما به
…
وارحمتاه لمن جفاه حبيبه
وجميع ما فى القلب منك عرفته
…
أتكون ساكنه وأنت تذيبه
حنّ العذول عليه حين هجرته
…
ورنا له الواشى ورقّ رقيبه
يا ويح من يرثى له أعداؤه
…
فشجونه لا تنقضى ونحيبه
وهو غزل كله وجد ولوعة وهيام، غزل يترقرق فيه الشوق واللهفة والحنان، حتى ليحنّ على المحب العذول والواشى الرقيب، فكلهم يأسى له، وهو يلتاع بحبه وشجونه، ولا يكفّ عن النحيب، إذ يحب صاحبته كما لم يحب فتاة قط، ويحتمل فى ذلك آلاما ثقالا. وله مدائح نبوية كثيرة بديعة، يستهلها بنسيب رائع، من مثل قوله:
عرّج بمنعرج اللّوى والمنحنى
…
فعساك تظفر من لقاهم بالمنى
أهواهم وهواهم لا ينقضى
…
أبدا وإن شطّ التباعد بيننا
فلئن ظفرت بزورة أحيا بها
…
فلى السعادة والمسرّة والهنا
يا أهل طيبة إنّ لى فى حيّكم
…
قمرا له كلّ المحاسن والسّنا
أنواره منها الدّياجى أشرقت
…
بدر به قد نوّرت كلّ الدّنا
وله الفضائل والمآثر والعلا
…
وله المفاخر والمحامد والثّنا
والنسيب كالمديح النبوى يذوب رقة وخفة ورشاقة، مما يدل بوضوح على قدرة الشاعر الموسيقية وأن أذنه كانت من رهافة الحس بحيث تحسن اختيار القوافى واصطفاء الألفاظ إحسانا بعيدا.
موسى بن يحيى بهران
(1)
شاعر الإمام شرف الدين (912 - 965 هـ.) وليس بين أيدينا معلومات واضحة عن زمن مولده ووفاته. وكان شرف الدين مدّ يده إلى المصريين معينا حين أرسل قانصوه الغورى طائفة من الجراكسة فى سنة 921 إلى جنوبى البحر الأحمر لرد عدوان البرتغاليين ونزلت فى جزيرة كمران، وطلبت من السلطان عامر آخر أسرة بنى طاهر أن يعينها ضدهم، ولكنه رفض عونها ومنع عنها الميرة، وكان شرف الدين قد أرسل إليها شيئا من
(1) انظر فى ترجمة موسى بن يحيى بهران وأشعاره كتاب شعر الغناء الصنعانى لمحمد عبده غانم ص 184 - 187، 199 - 200 وتاريخ اليمن لعبد الواسع (طبع المطبعة السلفية) ص 49. وللشاعر ديوان نظمه فى مديح الإمام شرف الدين.
العون والمؤن، وشكا من السلطان عامر، فتعاون قائدها معه على حربه، وقضيا عليه وعلى حكم أسرته سنة 922. ودخل شرف الدين صنعاء، ودخلت البلاد جميعها فى طاعته وأكثرت الشعراء من تهنئته بهذا النصر المبين، وفى مقدمتهم موسى بن يحيى بهران إذ هنأه بقصيدة رائعة، فيها بقول:
خليفة الرحمن فى أرضه
…
مبارك الوجه كريم الجدود
برّ كريم من بنى المصطفى
…
إمام حقّ ساعدته الجدود
قالت له الأيام إذ أقبلت
…
ما أحسن الوصل عقيب الصّدود
وأهلك الباغين حتى ثووا
…
واستبدلوا بعد القصور اللّحود
واستبشر العدل بأيامه
…
فامتلأ الغور به والنّجود
وأصبحت صنعاء من عجبها
…
ترفل فى مستحسنات البرود
وقد ورّى الشاعر فى البيت الثانى بكلمة الجدود وهو لا يريد بها الآباء كما فى البيت الأول-وكما قد يتبادر-وإنما يريد بها الحظوظ. وهو يذكر نسب شرف الدين من الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ هو من سلالة الحسن بن السيدة فاطمة الزهراء. ولا يلبث أن يمدحه برفع أعباء الظلم عن كواهل الشعب وإحلاله فى كل مكان للعدل الذى لا تصلح حياة الأمم بدونه، ويشير فى البيت الأخير إلى فتح شرف الدين لصنعاء وكيف اتخذت زينتها ابتهاجا به وفرحا. ويسترسل فى القصيدة منشدا:
يا شرف الدين وقيت الرّدى
…
ودمت تحمى بالحداد الحدود
لا غرو أن سدت جميع الورى
…
مثلك يا بحر النّدى من يسود
علمك بحر ماله ساحل
…
زندك أورى من جميع الزنود (1)
وجود كفّيك إذا ما همى
…
غيث مغيث ما له من رعود
وفى البيت الأول جناس واضح بين الحداد أى السيوف والحدود. ومنذ هذا التاريخ بل ربما قبله بحقب يكثر الجناس فى شعر اليمنيين، وقد مضوا أيضا يكثرون من التورية محاكاة للمصريين. والشاعر يمدح شرف الدين بالكرم والشجاعة والعلم بالشريعة. وفى الأبيات السالفة مدحه بالعدل. وكل هذه مبادئ أساسية فى الإمامة الزيدية كما مر بنا فى صدر هذا الكلام. ومضى فى القصيدة مبالغا فى مديحه خاتما لها بالدعاء له. ولموسى قصيدة بائية بديعة يهنئ فيها شرف الدين بأحد أعياد الفطر، وفيها يقول:
حوى شرف الهدى والدين مجدا
…
رفيعا وابتنى شرفا عليّا
(1) أورى: من ورى الزند إذا خرجت ناره.
براه إلهنا برّا صفيّا
…
ولم يخلقه جبّارا عصيّا
سرى سرّ النبوّة فيه حتى
…
حكى عن جدّه خلقا سنيّا
حوى علم الذين مضوا جميعا
…
وأصبح وارثا لهم وليّا
تأزّر وارتدى بالحكم كهلا
…
وأوتى حكم خالقه صبيّا
وواضح أن قوافى الأبيات مأخوذة من فواصل سورة مريم، وأن الشاعر لم يكتف بذلك، بل حاول أن يسبغ على شرف الدين بعض ما جاء فى السورة من نعوت للنبى يحيى، وقارن بين البيت الثانى وقوله تعالى فى نعت يحيى بن زكريا:{(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبّاراً عَصِيًّا)} . ويشير الشاعر فى البيت الثالث إلى فكرة ميراث النبوة التى جاءت فى السورة على لسان زكريا إذ يدعو ربه أن يهبه غلاما: {(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)} . ويكمل الفكرة فى البيت الرابع. ولا يلبث أن يسلك فى البيت الأخيرة نهاية الآية الكريمة: {(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)} .
وهو غلو واضح. ويمضى فى القصيدة قائلا:
وقل يا بن الأكارم من قريش
…
وأحسنهم-إذا ذكروا-نديّا
ومن دنت الملوك له وذلّت
…
وخرّت من مهابته جثيّا
بفضلك تتّقى نوب الليالى
…
فكن فى النائبات بنا حفيّا
والشطر الثانى فى البيت الأول مستمد من قوله تعالى فى السورة: {(أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)} أى مجلسا وجماعة. والبيت الثانى يستضئ بالفاصلة (جثيّا) الواردة فى السورة أى تخرّ الملوك على ركبها ولا تستطيع الحراك هيبة له وإجلالا. وقافية البيت الثالث مأخوذة من قول إبراهيم فى السورة لأبيه: {(سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا)} أى رءوفا يرعانى. ويختم الشاعر القصيدة بالدعاء لشرف الدين والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
عليك سلام ربك ما تغنّت
…
حمام الأيك صبحا أو عشيّا
وصلىّ الله خالقنا على من
…
تخيّره نبيّا هاشميا
محمد المشفّع فى البرايا
…
صلاة تبلغ الأمد القصيّا
وتكثر هذه الخاتمة عند شعراء الجزيرة وخاصة فى القرون الأخيرة من هذا العصر، وكثيرا ما يضمنونها كما صنع الشاعر الإشارة إلى شفاعة رسول الله لأمته يوم القيامة. ولهذه القصيدة وسابقتها مقدمتان غزليتان بديعتان، ومن قوله فى مقدمة القصيدة الأولى:
لمقلتى فى خدّه جنّة
…
محفوفة بالنّار ذات الوقود