المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - كثرة الشعراء - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٥

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌القسم الأولالجزيرة العربيّة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - أقاليم ودول وإمارات

- ‌اليمن ودولها

- ‌ حضرموت وظفار وتاريخهما

- ‌عمان وأمراؤها

- ‌البحرين ودولها

- ‌2 - المجتمع

- ‌3 - التشيع

- ‌4 - الخوارج: الإباضية

- ‌5 - الدعوة الوهابية السلفية

- ‌6 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل

- ‌علم الملاحة البحرية

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ القاسم بن هتيمل

- ‌أحمد بن سعيد الخروصىّ الستالىّ

- ‌علىّ بن المقرّب العيونى

- ‌عبد الصمد بن عبد الله باكثير

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌ التهامى

- ‌جعفر الخطّى

- ‌5 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ نشوان بن سعيد الحميرى

- ‌سليمان النبهانى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن القم

- ‌السلطان الخطّاب

- ‌عمارة اليمنى

- ‌2 - شعراء الدعوة الزيدية

- ‌يحيى بن يوسف النّشو

- ‌موسى بن يحيى بهران

- ‌على بن محمد العنسىّ

- ‌3 - شعراء الخوارج

- ‌أبو إسحق الحضرمىّ

- ‌ابن الهبينى

- ‌4 - شعراء الدعوة الوهابية السلفية

- ‌ محمد بن إسماعيل الحسنى الصنعانى

- ‌ابن مشرف الأحسائى

- ‌5 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌عبد الرحيم البرعى

- ‌عبد الرحمن العيدروس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وأنواعه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - رسائل ديوانية

- ‌3 - رسائل شخصية

- ‌4 - مواعظ وخطب دينية

- ‌5 - محاورات ورسائل فكاهية ومقامات

- ‌القسم الثانىالعراق

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - البويهيون والسلاجقة والخلفاء العباسيون

- ‌2 - الدول: المغولية والتركمانية والصفوية والعثمانية

- ‌الدولة المغولية الإيلخانية

- ‌الدولة الصفوية

- ‌الدولة العثمانية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - كثرة الشعراء

- ‌2 - رباعيّات وتعقيدات وموشحات

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ المتنبى

- ‌ سبط ابن التعاويذى

- ‌ صفى الدين الحلى

- ‌4 - شعراء المراثى والهجاء والشكوى

- ‌ السرى الرفاء

- ‌5 - شعراء التشيع

- ‌ الشريف الرضى

- ‌مهيار

- ‌ابن أبى الحديد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن المعلم

- ‌الحاجرى

- ‌التّلعفرىّ

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ ابن سكرة

- ‌ابن الحجّاج

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن السّراج البغدادى

- ‌المرتضى الشّهر زورىّ

- ‌الصّرصرىّ

- ‌4 - شعراء الفلسفة والشعر التعليمى

- ‌ ابن الشّبل البغدادى

- ‌ابن الهبّاريّة

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌الأحنف العكبرى

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع النثر:

- ‌2 - كتّاب الرسائل الديوانية

- ‌5 - الحريرى

- ‌القسم الثالثإيران

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - دول متقابلة

- ‌الدولة السامانية

- ‌الدولة البويهيّة

- ‌الدولة الزّياريّة

- ‌الدولة الغزنوية

- ‌2 - دول متعاقبة

- ‌دولة السلاجقة

- ‌الدولة الخوارزمية

- ‌الدولة المغولية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم التفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر العربى على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ على بن عبد العزيز الجرجانى

- ‌الطّغرائىّ

- ‌الأرّجانى

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌5 - شعراء الهجاء والفخر والشكوى

- ‌الأبيوردىّ

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ أبو بكر القهستانى

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ عبد الكريم القشيرى

- ‌ يحيى السهروردى

- ‌4 - شعراء الحكمة والفلسفة

- ‌ أبو الفضل السكرى المروزى

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌أبو دلف الخزرجى: مسعر بن مهلهل

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - كتّاب الرسائل

- ‌قابوس بن وشمكير

- ‌رشيد الدين الوطواط

- ‌3 - ابن العميد

- ‌خاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌2 - كثرة الشعراء

لا تمش، لا تفعل كذا». فكلامهم دخلته رطانة الإيرانيين ودخلته ألفاظهم، أما لا التى ذكر ابن بطوطة أنهم يصلون الأفعال بها دائما حين يطلبون من شخص شيئا فأكبر الظن أنها لام الأمر حرّفت ومدّت قليلا أو لعلها لام التوكيد. وينبغى أن لا نظن من ذلك أن العمانيين كانوا قد هجروا الفصحى فى عهد ابن بطوطة، فهو إنما يتحدث عن لهجتهم ولغتهم اليومية، أما بعد ذلك فكانوا يهتمون بالفصحى اهتمام الأقاليم العربية بها جميعا، يتخذونها لغة للعلم وللشعر، وكثيرا ما نقرأ فى ترجمة من اشتهروا بالشعر هناك أنهم تلقوا العربية والعلوم الشرعية عن أربابهما فى عمان، وقل ذلك نفسه فى نزوى وفى صحار وغيرهما من المدن.

وهذا نفسه نلاحظه على البحرين فمواجهتها لإيران جعلت عناصر إيرانية كثيرة تنزلها، وكان لذلك بعض التأثير فى اللغة العامية التى نشأت هناك، وإن كان لا يصل إلى تأثير الإيرانية فى عامية عمان لأن الإيرانيين كثيرا ما نزلوا هناك وحكموها. وقد ظل البحرانيون يعكفون على العلوم الإسلامية وعلوم العربية وظلوا يروون الشعر وينهلون من موارده مما أعد لظهور شعراء مختلفين على مر الزمن طوال هذا العصر، وكأن سيل الشعر كان لا يمكن ردّه ولا صده فى أى إقليم عربى، فهو دائما زاد للعرب وعدّة وعتاد.

ومعرفتنا بالحركة الشعرية فى نجد قليلة، ومع ذلك نستطيع أن نتعرف على أطراف منها من خلال من كانوا يرحلون عنها إلى الأقطار المجاورة، إذ لم تكن وسائل حفظ الشعر عندهم مهيأة، ونقصد وسائله الأولى من الأقلام والحبر والورق. وهؤلاء المهاجرون يدلّوننا على ما كان من نشاط شعرى وراءهم، وقد نشط الشعر فى عهد بنى مزيد الأسديين الذين شادوا الحلّة على حدود العراق وكذلك فى عهد بنى عقيل العامريين حين هاجروا إلى الموصل على نحو ما مر بنا فى غير هذا الموضع. ونفاجأ بنشاط واسع للشعر فى نجد مع دعوة محمد بن عبد الوهاب منذ أواسط القرن الثانى عشر الهجرى.

‌2 - كثرة الشعراء

بعثت دول الجزيرة العربية التى تحدثنا عنها فى أقاليمها المختلفة نشاطا واسعا فى الشعر، فقد كان الحكام دائما يعنون بأن تحفّ بهم جمهرة من الشعراء، وخاصة فى اليمن التى قامت فيها دويلات صغيرة تنافست فى جذب الشعراء ونثر الأموال والعطايا عليهم. غير أن أخبار هؤلاء الشعراء فى القرن الرابع الهجرى قليلة، وكان المظنون أن يترجم الثعالبى فى اليتيمة وتتمتها لطائفة

ص: 92

منهم، غير أنه لم يعن بهم، وإن كان قد ذكر أبا الحسن التهامى، وسنترجم له فى غير هذا الموضع، وجاء عنده ذكر شعراء قليلين مغمورين خرجوا من الجزيرة إلى العراق أو إلى إيران مثل ابن أبى مرّة المكى وينشد له قوله فى أبى الفتوح أمير مكة الآتى ذكره (1):

يا سيّدا فديته بروحى

خوّلك الله أبا الفتوح

ملك سليمان وعمر نوح

وإذا كان الثعالبى قصرّ فى الترجمة لشعراء الجزيرة العربية لعصره فإن أبا الحسن الباخرزى المتوفى سنة 467 للهجرة عنى بهم فى فاتحة كتابه «دمية القصر وعصرة أهل العصر» إذ ترجم لطائفة كبيرة منهم، مقدما لهم بقوله:

«إن أحسن أبيات الأشعار ما طلعت من أبيات الأشعار (2)، ورعت مع الظّباء الشّيح، وتزوّدت مع الضّباب (3) الريح، مستغنية بحسنها عن التصنع والتعمل، حلوة إذا ذاقها الناظر بحسن التأمل. . وقد وقع لى من أشعار هذه الطبقة ما هو أعذب من الماء الزّلال، وأرقّ من الشّمول صفّقت بالشمال» .

وأول ما يلاحظ على مجموعة الباخرزى من الشعراء أنهم من مدن وقبائل شتى فى الجزيرة العربية، فمنهم المكى والمدنى والطائفى الثقفى واليمنى، ومنهم العامرى والأسدى والبكرى والطائى والغسّانى والرّبعى والشيبانى والهمدانى. وهم بذلك يمثلون الجزيرة فى جميع أنحائها غربا وشرقا ووسطا وشمالا وجنوبا. وفى ذلك ما يؤكد أن الفصحى كانت لا تزال مسيطرة على الجزيرة حتى منتصف القرن الخامس الهجرى، ولا تزال حية ناضرة على ألسنة العرب فى نجد والحجاز واليمن، كما توضح ذلك تراجم الباخرزى وما ساقه لأصحابها من أشعار، وهو لم يدخل الجزيرة إذ لم يمد رحلاته إلى ما وراء البصرة وبغداد، ومنهم من لقيه فى هاتين المدينتين أو فى مدينة الرّىّ حاضرة السلاجقة ووزيرهم العظيم نظام الملك الذى وفد عليه الشعراء من أنحاء الجزيرة العربية ليقدموا له مدائحهم. وجمهورهم لم يلقهم الباخرزى، وقد روى أخبارهم وأشعارهم عن بعض الأدباء المكيين والمدنيين الذين ذكروهم له أو عن بعض الأدباء الإيرانيين وخاصة أبا عامر الفضل بن إسماعيل التميمى الجرجانى، وهو تارة ينقل عنه مشافهة وتارة ثانية ينقل عن كتاب له يسمى «قلائد الشرف» . وأول من ترجم له أبو الفتوح (4) الحسن بن جعفر الحسنى أمير مكة المتوفى سنة

(1) تتمة اليتيمة للثعالبى 1/ 83.

(2)

أبيات الأشعار هنا يقصد بها الباخرزى الخيام المتخذة من أوبار الإبل رمزا للبادية.

(3)

الضب: من الزواحف فى نجد وذنبه كثير العقد.

(4)

انظره فى العقد الثمين 4/ 69.

ص: 93

430 للهجرة، وقد أنشد له قوله:

وصلتنى الهموم وصل هواك

وجفانى الرّقاد مثل جفاك

وحكى لى الرسول أنك غضبى

يا كفى الله شرّ ما هو حاك

والبيتان طريفان فكرة وصورة، وقد نسبهما العماد فى الخريدة لابن أبى الفتوح شكر (1) الذى خلفه على إمارة مكة إلى أن توفى سنة 453 وهو الذى حاك بعض بنى هلال قصة له بين أقاصيصهم الهلالية إذ زعموا، كما مرّ بنا، أنه تزوج الجازية بنت الحسن بن سرحان الهلالى، ثم حدثت بينه وبين عشيرتها مغاضبة، فاحتالوا عليه بحجة أنهم يريدونها لزيارة أبويها، وذهب معهم إلى نجوعهم فى نجد، فذكروا له أنهم سيخرجون إلى الصيد وهى معهم، ومضوا فى رحلتهم الكبرى إلى إفريقيا، على نحو ما هو معروف عن رحلة بنى هلال المشهورة، وظل لها بين جوانحه حب دفين، وظلت تكلف به إلى أن ماتت وهى هائمة بحبه عاشقة. ويبدو أن بنى هلال نسجوا هذه القصة بعد رحلتهم من الجزيرة، إذ يجرى فيها خلل الإعراب كما يجرى فى بقية أقاصيص الهلالية، وإنما نزعم هذا الزعم، لما رواه الباخرزى من أشعار النجديين فى هذا التاريخ، وهى تدل على أن الخلل الإعرابى لم يكن قد فشا على ألسنتهم حتى أواسط القرن الخامس الهجرى، وفى تقديرنا أن ذلك إنما حدث فى القرون التالية مباشرة. ومن طريف ما ينسب إلى الأمير شكر قوله (2):

قوّض خيامك عن أرض تضام بها

وجانب الذّلّ إن الذّلّ يجتنب

وارحل إذا كان فى الأوطان منقصة

فالمندل الرّطب فى أوطانه حطب

والبيتان يصوران إباء العربى وشعوره بالكرامة ورفضه للضيم مهما احتمل فى هذا الرفض من العناء الشاق. ويترجم الباخرزى لشاعر يسمى المجاشعى ويلقبه بشاعر الحرمين، ويسوق له مدحة فى نظام الملك، ويتلوه بأبى الحسن العبشمى المكى ثم بأبى الفضل جعفر بن الحسين الشيبى، ويسوق له أبياتا سمعها منه فى مديح بعض الوزراء، كما يسوق له أبياتا فى النسيب، ويترجم لعم له يسمى جعفر بن يحيى الحكّاك وشعره متوسط. ويترجم الباخرزى بجانب هؤلاء الشعراء المكيين لشاعرين من المدينة: خزرجى وأوسى، ثم لشاعر من الطائف يسمى سليمان بن خضر، وينشد له غزلا رقيقا. ويضم إلى هؤلاء الشعراء الحجازيين شاعرا يمنيّا يسلكه فيهم هو على بن محمد الصّليحى مؤسس الدولة الصليحية الإسماعيلية باليمن، وكان فارسا، وله أشعار جيدة فى تصوير فروسيته وفتكه بأعدائه فى القتال من مثل قوله (3).

(1) الخريدة (قسم شعراء الشام) نشر المجمع العلمى العربى بدمشق 3/ 19 وانظر العقد الثمين 5/ 15

(2)

العقد الثمين 5/ 16. والمندل: عود الطيب.

(3)

الخريدة (قسم شعراء الشام) 3/ 225.

ص: 94

زوّجت بيض الهند سمر رماحهم

فرءوسهم عوض النّثار نثار

وكذا العلا لا يستباح زواجها

إلا بحيث تطلّق الأعمار

والنثار ما ينثر على العروسين فى الزفاف من الدراهم والدنانير والورود، وهو يتصور معاركه مع أعدائه أفراحا، نثارها رءوس خصومه التى تطيح بها سيوفه وسيوف جنوده، ويقول إن هذا دائما مهر العلا وصداقها.

ويترك الباخرزى شعراء غربى الجزيرة إلى شرقيها مصعدا إلى أقصى الشمال حيث إمارة بنى عقيل العامريين الذين أسسوها فى الموصل وبوادى نجد العراقية فى القرن الرابع الهجرى، ويترجم الباخرزى لأمير منهم هو قرواش بن المقلّد الذى ولى الإمارة سنة 391 وظل أميرا نحو خمسين عاما إلى أن غلبه على إمارته أخوه بركة وسجنه وتوفى فى سجنه، كما مرّ بنا، سنة 444 ويقول المؤرخون:«كان كريما وهابا نهابا» وكان يحسن صوغ الشعر وحوكه، من مثل قوله الذى أنشده الباخرزى:

لى أشقر سمح العنان مغاور

يعطيك ما يرضيك من مجهوده

ومهنّد عضب إذا جرّدته

خلت البروق تموج فى تجريده

ومثقّف لدن السّنان كأنما

أمّ المنايا ركّبت فى عوده

وبذا حويت المال إلا أننى

سلّطت جود يدى على تبديده

وهو يفتخر بأن ما له ليس ميراثا عن آبائه، وإنما هو مما أنعم به عليه فرسه الذى لا يشقّ غباره فى الغارات، وسيفه القاطع المسلول دائما للنزال ورمحه الذى يفتك بالرجال، وتلك أدوات جلبه للمال وسرعان ما تبدده يداه فى الناس. ويترجم الباخرزى لابن عم له يسمى أبا جوثة، ثم يهبط من الموصل وبواديها إلى بوادى الحلّة بالقرب من الكوفة حيث إمارة بنى مزيد الأسديين التى أسستها قبيلتهم بنو أسد فى أواخر القرن الرابع الهجرى، ويترجم لدبيس بن على بن مزيد الذى ولى إمارتها سنة 408 حتى وفاته سنة 477 وله حروب كثيرة مع بنى خفاجة، واستنجد به قرواش ضد الغزّ حين أغاروا على بلاده، فنجده. وينشد له الباخرزى بيتين يدلان على شاعرية متوسطة بل على شاعرية ضعيفة

ويأخذ الباخرزى بعد ذلك فى الترجمة لطائفة من شعراء نجد، يبتدئهم بمحمد بن الجراح من قبيلة بكر، ومما أنشده له فى كرم الضيافة الذى يشتهر به العرب من قديم قوله:

لا يرفع الضيف عينا فى منازلنا

إلا إلى ضاحك منا ومبتسم

ويطيل الباخرزى فى الوقوف عند شاعر طائى، هو أبو كامل تميم بن المفرج، وفيه يقول:

«كامل» وبالكمال قد كنى، وإذا وصف تمام الفضل فتميم عنى، وناهيك بذاك الألمعى».

ص: 95

ويذكر الباخرزى أنه مدح الوزراء فى إيران ونال جوائزهم، وأنه أبعد فى الرحلة حتى غزنة. ويلم ببعض مدائحه وخمرياته، وينشد له أشعارا فى الغزل تذوب رقة، من مثل قوله:

ودّعينا-إن كنت أزمعت-جاره

قبل أن يمنع الفراق الزياره

زوّدى وامقا أجدّ ارتحالا

ما قضى فى مقامه أوطاره

لم يزل يحذر التفرق حتّى

حققوا يوم رامتين حذاره

كان يكفيه-والمحبّ قنوع-

وقفة أو تحيّة أو إشاره

كاعب فى الحجال يمنعها الزّو

ر حياء يصونها وغراره

ذات ثغر كأنه حين يبدو

عقد درّ أو أقحوان قراره

والأبيات تسيل عذوبة ورشاقة، والألفاظ فيها ملتحمة أوثق التحام، وكلما قرأنا بيتا فيها، بل شطرا، أحسسنا بجمال اتساقه، وأنه يتصل بسابقه اتصال ذوى الرحم والقرابة، وما أجمل قوله:«والمحب قنوع» فأى شئ يقنعه: وقفة أو تحية أو إشارة من بعيد. وقد عبّر عن حجابها وأنها لا تستطيع أن تراه تعبيرا ظريفا، إذ ذكر أنها فى الحجال والأستار داخل بيتها، ولا يصونها الحجاب وحده، بل يصونها أيضا حياؤها وخجلها. والمعانى رقيقة رقة بالغة، والصور جميلة وطبيعية، ولا تكلف، ولا تصنع، بل شاعر وامق يعبّر عن حبه وهيامه تعبيرا حافلا بالوجد والصبابة دون أى أثر للحب الحسى المادى وأدرانه، بل هو حب عذرى طاهر يخلو من كل إثم ووزر، سوى اللوعة. ويترجم الباخرزى لشاعر من غسان ولشاعر ثان بدوى، ثم لشاعر ثالث همدانى يسمى المنيع، وينشد له قطعة غزلية فى ابنة عم له تسمى ذؤابة شغفت قلبه حبا، وفيها يقول:

كأنّ ذؤابة فى القزّ تمشى

ربيب مها ترتدى بالظّلال

وهى صورة بديعة، إذ يصور صاحبته وثوبها الهفهاف بمهاة فى يوم قيظ شديد الحرارة، وقد أوت إلى ظلال شجرة وسط الصحراء تتخذ منها غلالة تقيها حمارّة القيظ. ويمضى الباخرزى، فيترجم لشاعر من ربيعة ثم لشاعر عامرى يسمى قيسا، وكأنما يعيد لنا ذكرى قيس مجنون ليلى، وهو يكثر من الحديث عن ديار صاحبته ومعاهدها من مثل قوله:

قفا صاحبىّ قليلا عليّا

ولا تعجلانى يا صاحبيّا

وعوجا على طلل داثر

لريّا وأين من العين ريّا

معاهد لم يبق صرف الزما

ن منها ومنّى إلا شويّا

«وشويّا» تصغير شئ بمعنى بقية قليلة، بالضبط كما نستعملها فى عاميتنا المصرية، وكأن لها أصلا صحيحا فى العربية، والأبيات تفيض بالوجد والحنين. ويترجم الباخرزى لشاعر شيبانى

ص: 96

من مدّاح نظام الملك الوزير السلجوقى ولشاعر من بنى عجل من شيبان من مدّاحه أيضا، ويبدأ مدحته فيه بوصف الخمر. ويتبعهما الباخرزى بثلاثة من الشعراء النجديين، ويقف وقفة طويلة عند شاعر من اليمامة يسمى على بن الأزهر، ويقول: «مما سحر لبّى من لبّ كلامه قوله:

ديارهم بالرّقمتين سقيت

سحابا من الوسمىّ ثم وليت (1)

وما لك فى رىّ السحائب حاجة

فقد طالما من مقلتىّ رويت

وكم قد سبتنى فيك من ذات برقع

بأحسن عين للمهاة وليت (2)

أيا بأبى الفوران طنّبت فيهما

وأرض من الفورين كنت وطيت (3)

وماء حللتيه وإن كان آجنا

وروض رعيت العشب فيه رعيت

والصورة فى البيت الثانى بديعة، إذ ذكر، بعد أن دعا للديار بالسّقيا، أنها ليست فى حاجة إلى رى السحاب فقد طالما رويت من مقلتيه، وقد سبته صاحبته بعينيها وصفحة جيدها.

ويذكر فى البيت الرابع الفورين، وهما موضعان باليمامة كثيرا ما التقيا فيهما، ويهتف مفديا الأرض التى وطئتها قدماها وكل ما مرت به أو نزلت عنده من مياه ورياض. وفى البيت الخامس يشبع الكسرة فى كلمة «حللته» فتمتد تاء التأنيث على نحو ما تمتد فى عاميتنا المصرية. والكلمات محبوكة، وكل بيت يستدعى ما يليه فى سلاسة وعذوبة، ويستطيب الماء الذى حلت به وإن كان آجنا متغيرا، كما يستطيب الروض والعشب مع الدعاء لها، ويقول الباخرزى:

«ما أحسن ما جمع بين قوله: «رعيت العشب» على الإخبار و «رعيت» على الدعاء».

ويستعجل الشاعر الركب معه فى السير، وينشأ بينه وبين صاحبته حوار طريف على هذا النمط:

فقلت لهم سيروا ولا تتروّحوا

فليس لنا وادى الغضا بمبيت

فقالت: ولم أمسيت تطوى بلادنا

فقلت أمرتينى غداة نهيت

وقد كنت لا ترضين منهم بما أرى

من الضّيم لى فاليوم كيف رضيت

وأقسمت أن لا تقبلى قول كاشح

كذوب فكم أقسمت ثم نسيت

والحوار مع صاحبته طبيعى، ولكل بيت رقته وعذوبته ودقته، فلم يعد الغضا مبيتا صالحا لهما، وقد أمرته بالمسير غداة نهته، ولم تكن ترضى له بالضيم والهوان فرضيت، وكم أقسمت له وعاهدته أن لا تقبل فيه قول كاشح كاذب، ولم يقل لها-كما لاحظ الباخرزى-نقضت

(1) الرقمة: جانب الوادى والروضة. الوسمى: أول مطر الربيع.

(2)

الليت: صفحة العنق.

(3)

طنبت: أقمت. وطيت: سرت فيها.

ص: 97

العهد وحنثت فى يمينك، بل قال لها متلطفا «نسيت» القسم والعهد بل الأقسام والعهود. وهو لطف ورقة حسّ ما بعدها رقة، ويترجم الباخرزى بعده لشاعر بدوى نجدى يسمى على بن حسان، وينشد له قوله:

سقيا لأيام التصابى

مع كلّ خرعبة كعاب (1)

إذ نحن نرتع فى الهوى

ونجرّ أردية الشّباب

والدّهر عنا غافل

كالسيف يؤمن فى القراب

والأبيات سلسة سائغة، والصور والأخيلة فيها طريفة، وخاصة الصورة الأخيرة التى صور فيها الدهر وكأنه سيف احتواه غمده، فلم يعد يخيفهم ولا يرهبهم، فالسيف فى غمده، والدهر بهمومه يغشاه حجاب من الغفلة إلى حين. وينشد له الباخرزى من قصيدة قافية:

وحقّ لى وجدى على شادن

أدقّ جسمى منه خصر دقيق

وشاهد يشهد فى خدّه

أن ليس فى الحسن لهذا رفيق

فكلما عذّبنى هجره

صحت من الوجد الحريق الحريق

فخصر الشادن الدقيق أنحل جسمه، وكأنما أعداه نحولا وضنى، وما أجمل البيت الثانى الذى جعل فيه من الخدّ شاهدا يشهد بحسنه وجماله بل بتفوقه على كل حسن وجمال. والحب يكوى فؤاده ويلذعه، وكأنه جمرات نار يصلى بها قلبه بل يحترق، وهو ينادى، الحريق الحريق. ويترجم الباخرزى بعده لشاعر أسدى من شعراء المديح ولمغنية بدوية تسمى أم كلثوم.

وإنما أطلنا عرض شعراء البدو فى الدّمية لأنها تكاد تكون المصدر الوحيد لشعراء نجد عامة فى الحقب الأولى من هذا العصر، فلولاها ما اتضح لنا شعر البدو فى القرنين الرابع والخامس الهجريين ولا أن البوادى كانت لا تزال تكتظ بالشعر والشعراء. ومن الغريب أن العماد الأصبهانى وزير صلاح الدين الأيوبى وشاعره الذى عنى مثل الباخرزى بالترجمة لشعر العالم العربى جميعه لم يعن بشعراء نجد ولا أفرد لهم صحفا فى خريدته إلا ما ذكره عن شعراء عقيل أصحاب إمارة الموصل وبواديه، أودعهم فى قسم الشام والجزيرة، وكذلك ما ذكره من شعراء بنى مزيد الأسديين أصحاب الحلّة وبواديها أودعهم قسم العراق، وبالمثل أودع شعراء الحجاز واليمن فى القسم الخاص بالشام، أو قل ألحقهم به، ولم يعن أى عناية بشعراء عمان والبحرين. وكتابه يعدّ المصدر العام الثانى بعد الدمية لشعراء الجزيرة العربية فى القرنين الخامس والسادس الهجريين. وقد صنفه فى مطالع العقد الثامن من القرن السادس، وهو يصرّح بذلك مرارا فى تضاعيفه.

(1) الخرعبة: الشابة الحسنة.

ص: 98

ولم يذكر العماد لبنى عقيل أصحاب الموصل وبوادى الجزيرة سوى مسلم (1) بن قريش ابن أخى قرواش الذى مرّ ذكره، وهو أعظم أمراء هذه الأسرة سلطانا، إذ كان يستولى على ديار ربيعة ومضر فى نجد. وملك حلب من بنى مرداس، وبذلك قضى على إمارتهم فيها نهائيا، وأخذ الإتاوة من الروم. وكانت سيرته منذ ولى سنة 453 من أحسن السير وأعدلها، وعمّ الأمن دياره، وكان يصرف الجزية فى جميع بلاده إلى الطالبيين من أبناء على بن أبى طالب. وكان هو وأهله شيعة إسماعيلية على مذهب الفاطميين، ومما يدل على ذلك أن قرواشا عمه خطب فى بلاده للحاكم صاحب مصر، كما يقول المؤرخون، ثم رجع عن ذلك خوفا من حكّام بغداد السلاجقة. وعنى هو وأفراد أسرته بنثر الأموال على الشعراء فأتوهم من بغداد وغير بغداد. وكان مسلم يجزل العطايا للشعراء، وحين قصده ابن حيّوس شاعر الشام وأنشده مدائحه فيه بالغ فى إكرامه. ويقول العماد الأصبهانى إنه أقطعه الموصل، غير أن ابن حيوس لم يلبث أن توفى، وخلف أكثر من عشرة آلاف دينار، فحمل ذلك إلى خزانة مسلم فردّه، وقال: لا يتحدّث الناس عنى أننى أعطيت شاعرا مالا، ثم شرهت فيه وأخذته، ويروى أنه لما ملك حلب هجاه بعض شعرائها، فسأل عنه، فقيل له: إنه من أهل قرية المعرّة رعيتك، فقال: أوصوا به الوالى ليحسن إليه، وحذّروه أن يجنى عليه، فهذا لا يعرفنا، ولو لم تكن له شكاية من والينا ما قال هذا القول (2). وفى ذلك ما يدل على حصافته وبعد نظره وحسن سياسته وكان شاعرا يحسن صوغ الشعر ورصفه، وله مكاتبات شعرية مع منصور بن دبيس المزيدى أمير بوادى الحلّة وأنشد له العماد إحدى هذه المكاتبات، كما أنشد له شعرا شيعيّا، أو بعبارة أدق ثلاثة أبيات شيعية، ويروى له (3):

وما كنت مجزاع الفؤاد وإنما

فؤادى على بين الحبيب جزوع

وكانت سليمى للمحبين روضة

ووصل سليمى روضة وربيع

والصورة فى البيت الثانى بديعة وتدلّ على شاعرية جيدة. وكان طموحا كريم النفس يطلب العلا مهما يكن مطلبها باهظا، وله فى ذلك مهوّنا من أهل عصره ومصغّرا:

وإنى لأحقر هذا الزمان

ولا سيما أهل هذا الزمن

يريدون نيل العلا بالمنى

ونيل العلا برغيب الثّمن

وكانت وقفة العماد عند بنى مزيد الأسديين أكثر طولا، وأول من ترجم له منهم بهاء الدولة

(1) انظر فى ترجمة مسلم الخريدة (قسم الشام) 2/ 255 وابن خلكان 5/ 267 والنجوم الزاهرة 5/ 119.

(2)

الخريدة قسم الشام 2/ 128.

(3)

انظر فى هذين البيتين وما بعد هما هامش الخريدة فى ترجمة مسلم نقلا عن الوافى للصفدى.

ص: 99

منصور (1) بن دبيس الذى خلف أباه على رياسة القبيلة سنة 474 وكان إسماعيليّا رافضيّا مثل آبائه، وله-كما ذكرنا آنفا-مكاتبات شعرية مع مسلم بن قريش صاحب الموصل وبواديه، وظل على رياسة قبيلته الأسدية حتى توفى سنة 479 وبعث هو وأبوه دبيس نشاطا أدبيا فى بيئتهما، فقصدهما الشعراء بالمديح. وكان منصور يجيد الشعر وله فى رثاء صاحب له يكنى أبا مالك:

فإن كان أودى خدننا ونديمنا

أبو مالك فالنائبات تنوب

وكلّ ابن أنثى لا محالة ميّت

وفى كلّ حىّ للمنون نصيب

ولو ردّ حزن أو بكاء لهالك

بكيناه ما هبّت صبا وجنوب

وله فخر جيد. وخلفه ابنه سيف الدولة صدقة (2)، وهو الذى بنى مدينة الحلّة لقبيلته، كى تنتقل من حياة البداوة إلى حياة الحضارة، وفيه يقول العماد:«كان جليل القدر، جميل الذكر. . له دار الضيافة التى ينفق عليها الأموال الألوف. . المعروف بإسداء المعروف، وإغاثة الملهوف» وقد قصده الشعراء من كل فج، وله قدم ابن الهبّاريّة-كما مرّ بنا-كتابه الصادح والباغم» الذى نظمه فى عشر سنوات على غرار كليلة ودمنة. ونازل محمد بن ملكشاه السلجوقى سنة 501 وقتل فى المعركة، ولما سمع نظام الملك وزير السلجوقيين فى الرّىّ خبر موته قال: مات أجلّ صاحب عمامة. وكان فارسا شجاعا عادلا فى رعيته، كما كان محسنا للآداب حافظا أشعار الجاهليين والإسلاميين والعباسيين. ويقول العماد: كان يقبل على الشعراء، ويمدهم بحسن الإصغاء وجزيل العطاء» وكان يرتب لهم سنويا مكافآت، كل حسب طبقته. واستطاع ابنه دبيس (3) أبو الأغر سيف الدولة أن يلم شتات إمارته، غير أنه خرج على المسترشد مرارا وتفرّق عنه جنده تكرارا إلى أن قتله السلطان المسعودى السلجوقى صبرا سنة 529 وهو الذى يشير إليه الحريرى-كما مرّ بنا-فى مقامته «العمانية» واصفا كيف أقبل الناس يثنون على أبى زيد، حين سمعوا فصاحته، يقول:«حتى كأنه الأسدى دبيس» فى إقبال الناس وتزاحمهم على رؤيته لشجاعته، وكان شاعرا، وأنشد له العماد محاورات شعرية مع أخيه بدران وكان ينشد:

حبّ علىّ بن أبى طالب

للناس مقياس ومعيار

يخرج ما فى أصلهم مثلما

تخرج غشّ الذهب النار

(1) ترجمته فى الخريدة (قسم العراق) 4/ 1/157 وابن خلكان 2/ 491 والنجوم الزاهرة 5/ 122.

(2)

انظر فى صدقة بن منصور الخريدة (قسم العراق) 4/ 1/163 وابن خلكان 2/ 490 والنجوم الزاهرة 5/ 196.

(3)

راجعه فى الخريدة 4/ 1/170 والمنتظم 10/ 52 وابن خلكان 2/ 263 والنجوم الزاهرة 5/ 256.

ص: 100

ولم يستقم لآل مزيد بعد دبيس سلطان، وأبدلت العزة بالذلة، كما يقول العماد. ويترجم لأخيه بدران (1)، ويقول إنه تغرب عن الحلّة، وقصد الشام ثم توجه إلى مصر وبها توفى سنة 530 وروى له العماد أشعارا يحنّ فيها إلى الحلّة باكيا مجد آبائه، وأخرى غزلية، أو شيعية، أو يذيب فيها بعض أمانيه الضائعة من مثل قوله:

لا والذى قصد الحجيج على

بزل وما يقطعن من جدد (2)

لا كنت بالراضى بمنقصة

يوما وإلا لست من أسد

لأقلقلنّ العيس دامية ال

أخفاف من بلد إلى بلد (3)

ولم يستطع أن يبعث الإبل ولا غير الإبل لرد إمارة آبائه. ولا يلقانا بعده شاعر لبنى مزيد فى الحلة، وأغلب الظن أن قبيلة بنى أسد عادت أو عاد معظمها إلى البوادى، وكأنما كان ذلك كله دورا نهضت به وانتهى بانتهاء بنى مزيد وانتقاض سلطانهم.

ويترجم العماد لشعراء الحجاز وتهامة ويريد بها مكة، إذ يطلق عليها اسم تهامة أحيانا، وأول من يترجم لهم شكر بن أبى الفتوح، وقد مرت بنا ترجمته عند الباخرزى. وتلاه بترجمة لجعفر (4) بن محمد بن إسماعيل الحسنى، وقال إنه كان عارفا بالنحو واللغة، شاعرا يمدح الأكابر طلبا لرفدهم وعطائهم، وقال نقلا عن السمعانى إنه كانت فى رأسه دعاوى عريضة خارجة عن الحد، لا يرى أحدا فى علم اللغة فوقه. رحل من الحجاز إلى العراق، ثم دخل خراسان وأقام بها، ثم عاد إلى بغداد وألمّ بواسط والبصرة فى سنة نيف وثلاثين وخمسمائة على عزم المسير إلى بلاد فارس، وأنشد له العماد قطعتين: حائية ولامية، ومن قوله فى أولاهما:

أما لظلام ليلى من صباح

أما للنجم فيه من براح

كأنّ الأفق سدّ فليس يرجى

له نهج إلى كل النواحى

كأنّ الصبح منفىّ طريد

كأن الليل بات صريع راح

ويتلوه العماد بأبى عبد الله (5) محمد بن إبراهيم الأسدى الحجازى، ويقول إن مولده بمكة ومنشأه بالحجاز، وإنه لقى أبا الحسن التهامى شاعر مكة المشهور فى صباه، ويبدو أنه عمّر طويلا، إذ يقال إنه ولد سنة 401 وتوفى سنة 500 وقد رحل إلى العراق واتصلت رحلاته إلى غزنه، وينسب له البيتان المشهوران:

(1) الخريدة 4/ 1/177 وابن خلكان 2/ 264.

(2)

البزل: جمع بازل وهو البعير القوى المتين، والجدد: الأرض المستوية.

(3)

العيس: الإبل.

(4)

انظر ترجمته فى الخريدة (قسم الشام) 3/ 20 والعقد الثمين 3/ 428 وإنباه الرواة للقفطى 1/ 266.

(5)

انظره فى الخريدة (قسم الشام) 3/ 23 والوافى بالوفيات للصفدى 1/ 356 والعقد الثمين 3/ 398 والمنتظم لابن الجوزى 9/ 153.

ص: 101

قلت: ثقّلت إذ أتيت مرارا

قال: ثقّلت كاهلى بالأيادى

قلت: طوّلت قال: لا بل تطوّل

ت، وأبرمت قال: حبل الوداد

وتتداول البيتين كتب البلاغة، إذ يصوران لونا من ألوان البديع وهو القول بالموجب.

وهو توجيه الكلام فى الحوار وجهة طريفة، تنفى ظاهره المراد. ويترجم العماد عقبه لشاعر يسمى أبا بكر (1) محمد بن عتيق السّوارقىّ الذى توفى بطوس سنة 538 وأنشد له العماد أشعارا منها قوله:

أيا ساكنى نجد سلام عليكم

وإن كنت لا أرجو إيابا إليكم

وإن كان جسمى فى خراسان ثاويا

فقلبى بنجد لا يزال لديكم

ويترجم العماد بعده لشاعر من خدّام سدّة المصطفى صلى الله عليه وسلم يسمى كافورا النبوى. ويقول إنه رحل أيضا عن المدينة، وأوغل فى رحلته حتى بخارى، وينشد له العماد بعض شعره، ثم يترجم لشريف سليمانى هو علىّ (2) بن عيسى كان أبوه عيسى أميرا على المخلاف السليمانى وقتله أخوه أبو غانم يحيى، ففرّ ابنه على إلى مكة، وظل فيها إلى وفاته سنة 556 يقول العماد:«وله تصانيف مفيدة وقريحته فى النظم والنثر مجيدة» ويقول القفطى: «لما نزل الزمخشرى مكة وجد بها الشريف على بن عيسى بن حمزة الحسنى فعرف قدره، ورفع أمره وتتلمذ عليه، ونشّطه لتصنيف ما صنّف» وقد ألف له تفسيره الكشاف المشهور، وفيه يقول على مادحا ومنوّها:

جميع قرى الدنيا سوى القرية التى

تبوّأها دارا فداء زمخشرا

وأحر بأن تزهى زمخشر بامرئ

إذا عدّ فى أسد الشّرى زمخ الشّرا (3)

وينشد له العماد طائفة من أشعاره تدل على شاعرية خصبة وأنه كان يملك زمام اللغة ويعرف أساليبها السويّة المونقة، وله أبيات فخر كثيرة تصور عزة نفسه وإباءه الضيم ومروءته، ومن قوله فى رثاء بعض آبائه:

غاض النّمير العذب يا واردا

وحال عن عهدك ذاك الزّلال

ويترجم العماد عقبه لابن عم له يسمى دهمش (4) بن وهّاس، يظهر أنه فارق المخلاف السليمانى مثله وأقام بمكة، فترجم له العماد بين أبنائها، ويقول إنه وفد على صلاح الدين فى

(1) الخريدة (قسم الشام) 3/ 26.

(2)

راحع ترجمته فى الخريدة (قسم الشام 3/ 32 والعقد الثمين 6/ 217. ومادة زمخشر فى معجم البلدان لياقوت.

(3)

الشرى: مأسدة. زمخ: ترفع عليها وتكبر.

(4)

راجعه فى الخريدة (قسم الشام) 3/ 35 والعقد الثمين 4/ 361.

ص: 102

ذى الحجة سنة إحدى وسبعين، وهو على باب حلب، ثم يتلوه بابن الريحانى (1) على بن الحسن المكى الذى وفد على صلاح الدين فى سنة سبعين، ويذكر له قطعة فى مدح أمير المدينة قاسم الحسينى، وفيه يقول:

سما بكرام من ذؤابة هاشم

غطاريف صيد ماجدين جحاجح

ويلقانا بعد ذلك فى مكة القائد سالم بن أبى سليمان، وهو مغربىّ الأصل، وينشد له العماد قصيدة فى المديح لعيسى بن فليتة أمير مكة، تزخر بالعقيدة الزيدية، وسنعرض لها فى موضع آخر، حين نتحدث فى الفصل التالى عن شعر العقيدة الزيدية. ويتنقل العماد من شعراء الحجاز إلى شعراء اليمن، ويترجم لأكثر من أربعين شاعرا منهم، وهم يصورون ما بثّت دويلات اليمن من نهضة شعرية فى بلدانها، وكان كثير من أمراء هذه الدويلات شاعرا، وترجم العماد لأربعة منهم، هم على بن محمد الصليحى مؤسس الدولة الصليحية، وجياش أمير آل نجاح حكام زبيد وحاتم بن أحمد الهمدانى أمير صنعاء والمهدى بن على بن مهدى أمير زبيد الذى قضى على دولة آل نجاح. ومر بنا حديث عن الصليحى عند الباخرزى، وكان جياش شاعرا مجيدا، ويروى أن ابن القمّ شاعر اليمن فى عصره أرسل إليه عاتبا (2).

يأيها الملك الذى خرّت له

غلب الملوك نواكس الأذقان

أترى الذى وسع الخلائق كلّها

يابن النصير يضيق عن إنسان

فأجابه جياش:

لا، والذى أرسى الجبال قواعدا

ذى القوّة الباقى، وكلّ فان

ما إن يضيق برحبنا لك منزل

ولو انّه فى باطن الأجفان

ويشيد الشعراء طويلا بما كان يصلهم من عطايا الأمراء وأضرابهم من مثل أمراء بنى زريع والأمراء الزيديين وأئمتهم. وممن ترجم له العماد من شعراء الصّليحيين ابن القمّ وعمارة اليمنى وسنخص كلا منهما بكلمة فى حديثنا عن شعراء الإسماعيلية. وبالمثل ترجم لشاعر إسماعيلى ثالث من شعراء الصيليحيين هو عمرو بن يحيى الهيثمى شاعر الداعى على بن محمد الصليحى. ومعروف أن آل زريع حكام عدن خلفوا الصليحيين حين انتهت دولتهم بموت الملكة الحرة أروى سنة 532 وصارت إليهم حصونهم ومعاقلهم وأموالهم، كما صاروا هم القائمين على الدعوة الفاطمية الإسماعيلية، ويترجم العماد لشاعرهم أبى بكر العيذىّ وسنخصه بكلمة بين شعراء المديح. وشعراء زبيد ودولة آل نجاح كثيرون، وعلى رأسهم جياش كما

(1) انظره فى الخريدة (قسم الشام) 3/ 32 والعقد الثمين 6/ 149.

(2)

الخريدة (قسم الشام) 3/ 224.

ص: 103

أسلفنا، وله فضل تخليد أسمائهم فى كتابه «المفيد فى أخبار زبيد» والكتاب مفقود، غير أن عمارة اليمنى كتب له مختصرا كما مرّ بنا وهو الذى رجع إليه العماد فى الترجمة لجمهور شعراء اليمن، وأول شاعر بارع يلقانا منهم زكرىّ (1) بن شكيل وله مدائح بديعة فى جياش، ويستهل إحداها بوصف طريف للخمر والمرأة الفاتنة، وفيه يقول:

اسقنى الرّاح إنها تجلب الرّو

ح وريحانها إلى الأرواح

بزلوها فامتدّ منها لجوّ اللّ

يل نور أغنى عن المصباح (2)

ما يزيل الهموم مثل اصطباح

فى صباح لدى وجوه صباح

إذ ترى الدّيك كالبعير، وكالأر

ض السموات، أو فإنك صاح

وارع عينيك فى عيون من الزّه

ر جلاها نور كنور الأقاحى

شفتاها نقلى وماء ثنايا

ها عقارى وخدّها تفّاحى (3)

هذه الجنّة التى وعد اللّ

هـ وما عن نعيمها من براح

والأبيات تسيل عذوبة ورشاقة وخفة وتكاد تطير عن الأفواه طيرانا، والألفاظ تتداخل فيما بينها تداخل أفراد الأسرة المتشابكين فى الرحم، وما أجمل الجناس بين الاصطباح والصباح بفتح الصاد والصباح بكسرها أى الوجوه المشرقة المضيئة. وصور خدر الخمر فى البيت الرابع تصويرا جيدا، وأحكم مراعاة النظير فى البيتين الخامس والسادس، إذ قرن العيون والثغر إلى الزهر ونور الأقاحى، كما قرن الشفاه والرضاب والخدود إلى النّقل من الفستق وغيره والخمر والتفاح، وسمى ذلك كله الجنة، مبعدا فى الخيال. ويلقانا بعده من شعراء آل نجاح القاضى العثمانى (4)، وله فى الصليحى حين فتك به سعيد بن نجاح هجاء مرير، وساق له العماد خمريتين، يتماجن فيهما، أما الأولى فيقول إنه شرب حتى حسب المهر أرنبا، وأما الثانية فيستوفى فيها ما سبقه إليه أبو نواس من فكرة العفو الإلهى عن الكبائر كما كان يزعم ذلك المرجئة، يقول متماجنا:

قم فاسقنى بالكأس من تلك التى

أهل النّهى فى وصفها قد حاروا

واشرب ولا يلحقك خوف عقوبة

فيها فربّ حسابها غفّار

ويترجم العماد لإسماعيل بن البوقا وزير جياش، وأهم من ترجمته ترجماته لبنى أبى عقامة قضاة زبيد فى عهد آل نجاح، وفى مقدمتهم القاضى أبو عبد الله محمد بن أبى عقامة

(1) الخريدة (قسم الشام) 3/ 218.

(2)

بزل الدن: ثقبه.

(3)

العقار: الخمر. النقل: ما يرافق الشراب من المشهيات.

(4)

انظر الخريدة (قسم الشام) 3/ 231 ولعله الشريف العثمانى المذكور فى طبقات فقهاء اليمن ص 177

ص: 104

الحفائلى (1) الذى قتله على بن مهدى حين دانت له زبيد سنة 554 وينشد له العماد أشعارا رائعة، منها قوله فى مديح قوم راحلين:

للمجد عنكم روايات وأخبار

وللعلا نحوكم حاج وأوطار

تشتاقكم كلّ أرض تنزلون بها

كأنكم لبقاع الأرض أمطار

فحيث كنتم فثغر الرّوض مبتسم

وأين سرتم فدمع المزن مدرار

لله قوم إذا حلّوا بمنزلة

حلّ النّدى ويسير الجود إن ساروا

لا يعجب الناس منكم فى مسيركم

كذلك الفلك العلوىّ دوّار

والبدر مذ صيغ لا يرضى بمنزلة

فيها يخيّم فهو الدّهر سيّار

وهو مديح رائع، فالمجد لا يزال يروى أخبارهم، ولا يزال للعلا منهم أمانىّ موصولة، وكل أرض تشتاقهم وتتلهف عليهم، كأنهم غيث جدبها الممحل، وكل مكان ينزلون يصبح روضا مشرقا، وكلما ساروا عن مكان بكاهم الناس بدمع هتون، بكوا شمائلهم وكرمهم الذى يتبعهم أينما حلوا وساروا. وتصويره فى البيتين الأخيرين لهم فى رحيلهم بالفلك الدوار والبدر السيار تصوير دقيق يارع. ومن شعره فى الحداثة قوله يصف روضة:

وروضة ما رأى الراءون مشبهها

كأنما سرقت سرّا من الزمن

غيم وظلّ وروض مونق وهوى

يجرى من الروح مجرى الروح فى البدن

غنّت بها الطّير ألحانا وساعدها

رقص الغصون على إيقاعها الحسن

لقد سكرت وما الصهباء دائرة

فيها ولا نغمات العود فى أذنى

وتصوير فتنته بالروضة تصوير جيد، فقد تصور كأنها سرقت من الزمن سرا دون أن يدرى لما يرى فيها من اجتماع جمال الطبيعة وجمال صاحبته التى تأسر لبه، ويتخيل الروض كله من حوله يتغنى ويرقص، تتغنى فيه الطير وترقص الأغصان على ألحانها متعانقة مرة ومنفرجة مرة، وهو مسلوب الحس فتنة وجمالا، حتى لكأنما هو فى مشهد غناء ورقص حقيقى. وكل شئ من حوله يأخذ بعقله. ويترجم العماد لابن مكرمان، وهو شاعر زيدى، سنعرض له فى حديثنا عن الدعوة الزيدية وشعرائها، كما يترجم لشاعر خارجى من شعراء على بن مهدى هو ابن الهبينىّ، وسنلم به فى حديثنا عن شعراء الخوارج، ويترجم أيضا لنشوان بن سعيد وشعره يكتظ بفخر عنيف بأصوله اليمنية، وسنتحدث عنه بين شعراء الفخر والهجاء.

ووراء من سميناهم من شعراء اليمن فى الخريدة كثيرون لم نعرض لهم، لأن شعرهم متوسط

(1) راجع فى ترجمة محمد بن أبى عقامة الخريدة (قسم الشام) 3/ 240. وطبقات فقهاء اليمن ص 240 والنجوم الزاهرة 5/ 330.

ص: 105

أو دون المتوسط. ولعل القارئ لاحظ أننا اكتفينا بالخريدة عن عرض المختصر فى أخبار زبيد لعمارة اليمنى الذى أشرنا إليه آنفا، لأن الخربدة تستغرقه.

ونترك العماد ومصدره العام أو خريدته عن اليمن والحجاز وشعرائهما حتى منتصف القرن السادس الهجرى، وبعد ذلك فالحجاز أهم مصدر له من منتصف هذا القرن حتى الربع الأول من القرن الثامن الهجرى كتاب العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين للفاسى وبه شعراء ممن جاوروا بمكة كثيرون، وبه مكيّون، ولدوا فى مكة ونشئوا بها واستيقظت مواهبهم الشعرية فيها، وأكثر أشعارهم مدائح زيدية فى حكام مكة وأمرائها الزيديين. وتكثر المدائح النبوية فى هذا الكتاب سواء لشعراء مكة أو لمن نزلوها وأنفقوا بقية حياتهم فيها أو فى المدينة، ولهم غزل رقيق نحس فيه نفحات الوجد الصوفى. ويلى هذا المصدر فى الأهمية من الترجمة لشعراء الحجاز كتاب سلافة العصر لابن معصوم، وقد ترجم فى مكة لأكثر من ثلاثين شاعرا من شعراء القرنين العاشر والحادى عشر الهجريين، وأكثر أشعارهم مدائح لأمراء مكة، وكثير منها معارضة لقصائد الشعراء السالفين النابهين ويلاحظ ذلك ابن معصوم فى غير موضع من كتابه، كما يلاحظ كثرة تصنعهم لألوان البديع وللتعبير عن التواريخ. وتكثر فى أشعارهم المدائح النبوية (والمناجيات) الإلهية. ومثلهم شعراء المدينة الذين ترجم لهم ابن معصوم، وهم أربعة عشر شاعرا ونجد عندهم الألوان الشعرية المتأخرة مثل الدوبيت. ويلقانا بعض شعراء الحجاز فى كتاب ريحانة الألبا للخفاجى المتوفى سنة 1069 وبه قسم عن مكة والمدينة، وألف ذيلا له المحبى سماه نفحة الريحانة، وبه قسم عن نبغاء الحجاز وألف المحبى أيضا كتاب خلاصة الأثر فى أعيان القرن الحادى عشر وبه تراجم لبعض شعراء مكة والمدينة ومثله كتاب سلك الدرر فى أعيان القرن الثانى عشر للمرادى وكتاب تاريخ الجبرتى، ففيهما بعض تراجم لمكيين ومدنيين.

وإذا تركنا الحجاز إلى اليمن بعد من ترجم لهم العماد فى خريدته وجدنا توران شاه الأيوبى يفتتحها سنة 569 ويزيل منها الدويلات التى تحدثنا عنها آنفا، ويتحول شعراء اليمن إلى مديحه وفى مقدمتهم أبو بكر العيذى شاعر دولة الزّريعيين. ويتولاها بعده أمراء من أسرته، لعل أهمهم الأمير المسعود بن الملك الكامل صاحب مصر، وقد دخلها سنة 612 وكان يصحبه بعض الشعراء والأدباء وفى مقدمتهم أبو الغنائم الشيزرى، ولخزانته وباسمه ألف فى اليمن كتابه «جمهرة الإسلام ذات النثر والنظام» وقد قسمه إلى أكثر من عشرة كتب، وختم كل كتاب ببعض أشعاره فى مديح المسعود. وكان قد حج الأمير المسعود فى سنة 625 وأناب عنه عمر بن على بن رسول، وتوفى بمكة، فانتهز الفرصة عمر واستقل باليمن وأسس فيها دولة بنى رسول التى ظل

ص: 106

لواؤها مرفوعا على اليمن من سنة 626 إلى سنة 858 وقد أرخ على بن الحسن الخزرجى تاريخا بديعا لهذه الدولة من منئشئها إلى سنة 803 وهى السنة التى توفى فيها السلطان الأشرف، وتاريخه فى مجلدين، وهو كما قلنا فى غير هذا الموضع تاريخ حضارى وسياسى وأدبى، إذ عنى بوصف احتفالات الرسوليين وبأحداثهم ووقائعهم الحربية وما نظم فيها من أشعار، ويذكر مع كل سلطان شعراءه وتهنئتهم له بالجلوس على أريكة الحكم وبالأعياد الإسلامية وبانتصاراته على أعدائه، فعمر بن على بن رسول الذى تلقب بالملك المنصور معه شاعره محمد بن حمير الذى لم يكن يترك مناسبة إلا ويقدم له فيها مدائحه، ومع ابنه المظفر شعراؤه: ابن حمير وابن هتيمل وأضرابهما، وبالمثل من خلفهما من السلاطين. ويلقانا بعد الخزرجى وكتابه العقود اللؤلؤية فى تاريخ الدولة الرسولية ابن الدّيبع وكتابه قرة العيون، وفيه حديث مفصل عن دولة آل طاهر وشعرائهم، وقد ظلت من سنة 858 إلى سنة 922 وكان زوالها على يد الجراكسة جنود قانصوه الغورى، على نحو ما مرّ بنا فى الفصل الأول، فقد نازلوا آخر سلاطينها عامرا وقتلوه وقتلوا أخاه، وفى رثائهما يقول عبد الرحمن الدّيبع:

أخلاّى ضاع الدّين من بعد عامر

وبعد أخيه أعدل الناس بالناس

وينزلها العثمانيون سنة 945 ويظلون بها نحو قرن. وتتحول اليمن إلى الرّسّيين أصحاب صعدة، وينزلها العثمانيون ثانية سنة 1265 هـ/1849 م ويظلون بها حتى سنة 1336 هـ/ 1917 م. وكل المصادر العامة التى ذكرناها للشعراء فى الحجاز تفرد فصولا طويلة لشعراء اليمن، ومرّ بنا ذكر كتاب «نسمة السحر فيمن تشيع وشعر» وهو كتاب نفيس غير أنه لم يطبع. ومن الكتب التى تحمل معلومات قيمة عن الشعر والشعراء فى اليمن كتاب سلافة العصر لابن معصوم وكتاب نفحة الريحانة للمحبى وكتاب البدر الطالع للشوكانى وكتاب نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف حتى سنة 1375 هـ/1955 م لابن زبارة الصنعانى وكتاب المخلاف السليمانى لمحمد بن أحمد العقيلى، وشعر الغناء الصنعانى لمحمد عبده غانم، غير الدواوين المطبوعة مثل ديوان ابن هتيمل وديوان البرعى وديوان مدائح إلهية لمحمد بن إبراهيم الوزير وديوان الأمير الصنعانى محمد بن إسماعيل.

ولحضرموت نشاط شعرى غزير. وقد استطاع السيد عبد الله السقاف أن يؤلف كتابا من ثلاثة أجزاء فى تاريخ الشعراء الحضرميين، وهو يشتمل من شعراء هذا العصر الذى نؤرخ له على نحو مائة وعشرين شاعرا، ويقول فى مقدمته: «لا أكتم أن شعراء حضرموت ليسوا فى رتبة المجيدين من الشعراء ولا المفلقين. . ولما كانت حضرموت تسودها الروح الصوفية والنزعة الفقهية فإنك ترى على شعرهم طلاء صوفيا ومسحة فقهية، ومع هذا

ص: 107

الطلاء وتلك المسحة فإنهم لا يخرجون عن كونهم شعراء، وإن لم يكونوا من المجيدين غالبا».

ولعل السيد السقاف بالغ فى حكمه حين جعله عاما، ومما لا ريب فيه أن بين من ترجم لهم شعراء نابهين يمكن أن يعدّوا فى رتبة المجيدين، مثل أبى بكر العيدروس وعبد الرحمن بن مصطفى العيدروس المتصوفين، ومثل عبد الصمد بن عبد الله باكثير وهو يعد من الشعراء الممتازين فى الجزيرة العربية لهذا العصر بعامة وسنترجم له بين شعراء المديح. ولم يترجم السيد عبد الله السقاف لأحد من شعراء المذهب الإباضى الخارجى فى حضرموت، ومن أهمهم أبو إسحق الهمدانى وسنترجم له فى الحديث عن شعراء الإباضية.

ولم يكن للشعر فى عمان هذا النشاط جميعه الذى رأيناه فى حضرموت، ولكن لا ريب فى أن الشعراء كانوا كثيرين فى هذا الإقليم كثرتهم فى الأقاليم الأخرى، وممن يلقانا منهم فى النصف الأول من القرن الخامس الهجرى أبو على أبزون المجوسى الملقب بالكافى العمانى، وقد ترجم له الباخرزى فى دمية القصر (1)، وأنشد طائفة جيدة من شعره، ويذكر من ترجمته عن الفارسية قوله:

وصحراء ردّتها الظّباء حفائرا

بأظلافها أحبب بها من حفائر

فهبّت رياح للصّبا فملأنها

بمسك فعادت نزهة للنواظر

وقد عنى نور الدين السالمى فى كتابه تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان بعرض نماذج من أشعارهم على مر الحقب، وخاصة الحقب الأخيرة من هذا العصر. وكان للخوارج فى نزوى شعراؤهم وأيضا للدول السّنّيّة حين كانت قائمة فى عمان ومسقط شعراؤهم، فقد شجع بنو مكرم وبنو نبهان الذين خلفوهم الشعراء، واشتهر للأخيرين شاعر عنى بمدحهم هو أحمد بن سعيد الخروصى الستالى وسنترجم له بين شعراء المديح واشتهر من الأسرة نفسها بأخرة من زمنها شاعر هو سليمان النبهانى، وسنترجم له بين شعراء الفخر، ومن شعراء الخوارج الحبسى شاعر الأمير سيف بن سلطان الإباضى (1104 - 1123) ومن الشعراء بين الأئمة الإباضية المتأخرين بلعرب بن سلطان الذى خلف الإمام السابق، ومن شعره (2):

ولما بلوت الناس لم أر صاحبا

أخا ثقة فى النائبات العظائم

وتحولت مقاليد الحكم إلى أسرة البوسعيديين إذ خلّصوها من أيدى اليعاربة سنة 1154 هـ وظلوا فى دست الحكم إلى اليوم، ومن أهم أئمتهم سعيد بن سلطان، وكان شاعرا مجيدا، وله يتغزل (3):

(1) دمية القصر 1/ 98.

(2)

تحفة الأعيان (طبع مطبعة الشباب) بعناية إبراهيم إطفيش الجزائرى 2/ 93.

(3)

التحفة 2/ 166.

ص: 108

يا من هواه أعزّه وأذلّنى

كيف السبيل إلى وصالك دلّنى

وتركتنى حيران صبّا هائما

أرعى النجوم وأنت فى نوم هنى

عاهدتنى أن لا تميل عن الهوى

وحلفت لى يا غصن أن لا تنثنى

جاد الزمان وأنت ما واصلتنى

يا باخلا بالوصل أنت قتلتنى

واصلتنى حتى ملكت حشاشتى

ورجعت من بعد الوصال هجرتنى

لما ملكت قياد سرّى بالهوى

وعلمت أنى عاشق لك خنتنى

والأبيات جيدة والألفاظ فيها تتعانق فى خفة والمقابلات بارعة، والصور دقيقة، وقد أكمل صورة الغصن بانثنائه كناية عن جفاء صاحبته وإقبالها على غيره. وهو يأسى لنفسه أنها هجرته بعد وصالها وبعد أن ملكت عليه شغاف قلبه، وإنه ليتعثّر فى شباك حبّها، بينما انصرفت عنه إلى غير مآب، وعلى هذا النحو كان الشعر ناشطا فى عهد البوسعيديين ويلقانا من شعرائهم بأخرة من العصر أبو الصوفى سعيد بن مسلم.

وكانت البحرين تكتظ بالشعر والشعراء طوال حقب هذا العصر، ومن أوائل من نلقاهم بها الحسين بن أحمد الملقب بالأعصم الذى ولى أمر القرامطة سنة 359 ومرّ بنا حديث عنه وكيف أنه حارب الفاطميين تحت ألوية الخلافة العباسية، وكان شاعرا مجيدا، ومن شعره قوله:

إنى امرؤ ليس من شأنى ولا أدبى

طبل يرنّ ولا ناى ولا عود

ولا اعتكاف على خمر ومخمرة

وذات دلّ لها بالدّلّ تأويد (1)

وتوفى بالرملة فى فلسطين سنة 366 وكان يتخذ أبا نصر (2) بن أبى الفتح كشاجم كاتبا بين يديه، وكان شاعرا محسنا، وأنشد له الثعالبى فى اليتيمة طائفة من أشعاره فى الأطعمة وألوانها المختلفة لعصره، ومن قوله فى وصف كتاب:

وصاحب مؤنس إذا حضرا

جالسنى بالملوك والكبرا

جسم موات تحيا النفوس به

يجلّ معنى وإن دنا خطرا

أظلّ منه فى مجلس حفل

بالناس طرّا ولا أرى بشرا

وسرعان ما انتهى عصر القرامطة وخلفهم بنو الأصفر، ولا يظلون طويلا، ويعقبهم بنو العيونى منذ سنة 466 ويعملون على النهوض بالبحرين علميا وأدبيا، وتكون ثمرة ذلك ظهور شاعر نابه من الأسرة هو على بن مقرّب العيونى، وسنترجم له بين شعراء المديح. ويخلف

(1) تأويد: انعطاف. وانظر فى الأعصم وشعره ابن الأثير (تحقيق إحسان عباس) 8/ 614 وما بعدها.

(2)

انظر ترجمته فى اليتيمة 1/ 285.

ص: 109