الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بغضائه. وإنه ليلقاه بعزم كالشهاب الثاقب تعلو ناره على نيرانه وتخمدها فلا تشتعل ضده أبدا. ونقف عند شاعرين من شعراء الفخر والهجاء، هما
نشوان بن سعيد الحميرى
وسليمان النّبهانى العمانى.
نشوان بن سعيد الحميرىّ (1)
من أهل جبل شامخ مطلّ على «تعزّ» اسمه صبر، ولا يعرف بالضبط تاريخ مولده، وتدل نسبته إلى حمير أنه من سلالتها، وكان ملوكها يسمون بالأقيال والأذواء، ونراه ينسب نفسه فى قصيدته الحميرية إلى قيل يدعى ذا سحر، يقول:
أو ذو مراشد جدّنا القيل ابن ذى
…
سحر أبو الأذواء رحب الساح
ويبدو أنه أكبّ منذ نشأته على العلوم المختلفة ينهل منها، حتى أصبح علما فى اللغة والتاريخ والنحو والفقه والأصول وعلوم الأوائل وعلم الكلام، وينص من ترجموا له على أنه كان معتزليا. وذكروا أنه اشتغل بالقضاء فى بعض مخاليف اليمن وأنه كانت له فى الفرائض (المواريث) وقسمتها يد. وله مصنفات مختلفة، أشهرها «شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم» فى نحو ثمانية مجلدات، وذكرنا فى الفصل الثانى أنه معجم لغوى، وهو فيه لا يكتفى بالحديث عن اللغة بل يتسع بالحديث عن المعادن والحيوانات والنباتات والتاريخ وبعض مسائل الطب والفلسفة. وبذلك حوّله إلى دائرة معارف لغوية وجغرافية وتاريخية ونباتية وحيوانية وطبية وقد طبع من القسم الأول إلى آخر حرف الثاء فى ليدن، ثم طبع منه جزآن فى القاهرة إلى آخر حرف الشين، ويتخلل الكتاب فخر عارم باليمن وفضائلها وملوكها الأولين. وله رسالة الحور العين وقد طبعت مع شرحها طبعة سقيمة. وطبعت له بالقاهرة القصيدة الحميرية مع شرحها المسمى «خلاصة» السيرة الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبايعة، وهى فى أكثر من مائة وثلاثين بيتا، استهللها بقوله:
الأمر جدّ وهو غير مزاح
…
فاعمل لنفسك صالحا يا صاح
ومضى قليلا فى الوعظ ثم خرج إلى تعداد ملوك التبابعة والأقيال والأذواء، والقصيدة بذلك من الشعر التعليمى التاريخى. وقد نال شهرة مدوية فى وطنه
(1) انظر فى ترجمة نشوان معجم الأدباء 19/ 217 وإنباه الرواة للقفطى 3/ 342 والخريدة (قسم الشام) 3/ 268 و 385 وبغية الوعاة للسيوطى ومقدمات محققى كتبه ومقالة المستشرق ستر ستين عنه فى الجزء الأول من كتاب المنتقى من دراسات المستشرقين (طبع القاهرة) ص 75.
لعصره، لمعارفه الواسعة، ويبدو أنه لم يكتف بالمجد العلمى فقد رأى أن يضيف إليه مجد الحكم والسلطان، واستطاع فعلا أن يستقل بجبل صبر موطنه وقلاعه وحصونه وأن يظل ممسكا بصولجان الحكم فيه حتى وفاته سنة 573 للهجرة. وما تأليفه القصيدة الحميرية إلا صورة من صور اعتزازه اعتزازا لا حدّ له بقحطانيته. وهو يسوق أشعاره جميعها فى هذه العصبية المغرقة لقحطان من مثل قوله:
منا التّبابعة اليمانون الألى
…
ملكوا البسيطة، سل بذلك تخبّر
من كلّ مرهوب اللقاء معصّب
…
بالتاج غاز بالجيوش مظفّر
تعنو الوجوه لسيفه ولرمحه
…
بعد السجود لتاجه والمغفر (1)
فافخر بقحطان على كل الورى
…
فالناس من صدف وهم من جوهر
وإذا غضبنا غضبة يمنيّة
…
قطرت صوارمنا بموت أحمر
فغدت وهاد الأرض مترعة دما
…
وغدت شباعا جائعات الأنسر
والأبيات تحمل عصبية عنيفة، وهى عصبية لا يشيد فيها بالملوك والتبابعة الأولين من قومه، بل أيضا لا تزال الحماسة تشتد به وتتأجج فى صدره، حتى يجعل قحطان فوق الورى والناس جميعا، بل حتى يجعلهم من معدن غير معدنهم، فهم من جوهر والناس من صدف، ولا كغضبهم، فغضبهم يملأ الوهاد دما وأشلاء ما تزال تحط عليها النسور والصقور، تملأ بطونها الجائعة. ولم يكتف بهذه العصبية الجامحة لقومه ضد مضر والعالم جميعه، فقد اندفع فى نقائض مع الأشراف الرسيين أصحاب صعدة، وشاع أنه قال:
أما الحسين فقد حواه الملحد
…
واغتاله الزمن الخئون الأنكد
فتبصّروا يا غافلين فإنه
…
فى ذى عرار ويحكم مستشهد (2)
وحين وصل البيتان إلى أسماع الرّسّيّين غضبوا غضبا شديدا، وعظم هياجهم، وردوا عليه بعنف، مهددين متوعدين بمثل قول عبد الله بن قاسم الزيدى:
أما الصحيح فإن أصلك فاسد
…
وجزاك منا ذابل ومهّند (3)
فى قصيدة طويلة. ووصلت أسماع نشوان، فلم يخلد إلى الصمت والسكوت، بل مضى يردّ بقصيدة دالية يقول فيها:
من أين يأتينى الفساد وليس لى
…
نسب خبيث فى الأعاجم يوجد
لا فى علوج الروم جدّ أزرق
…
أبدا ولا فى السّود خال أسود
(1) تعنو: تنقاد. المغفر: زرديضعه المحارب تحت القلنسوة.
(2)
العرار: زهر بدوى ويقصد بذى العرار أن الحسين استشهد بالفلاة قرب الكوفة مكان النجف الحالية.
(3)
ذابل: رمح. مهندا: سيف.