الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعقب فيها على بن أبى طالب الخوارج ومزّق جموعهم، وكان حريا أن يحيّى فيه جهاده للبرتغاليين ويشدّ أزره، لا برد المدافع والأسلحة التى تركها فى ظفار فحسب بل أيضا بإمداده بالأموال، إن لم يستطع أن يمده بالفرسان والرجال! . والرسالتان تتخذان السجع قرارا لها، فهو اللغة العامة للرسائل الديوانية مهما شرقنا أو غربنا فى الجزيرة العربية.
3 - رسائل شخصية
طبيعى أن نجد رسائل شخصية متنوعة لأدباء مكة والمدينة، إذ كان يلم بهما كثير من العلماء والأدباء، وكانوا يتكاتبون ويتراسلون مع علماء البلدتين وأدبائهما، وقد أثبتت كتب التراجم طائفة من رسائل القوم، من ذلك رسالة كتب بها مفتى مكة الحنفى وأحد أعلامها العلماء فى نهاية القرن العاشر ومطلع القرن الحادى عشر للهجرة الشيخ وجيه الدين عبد الرحمن بن عيسى العمرى إلى أبى المواهب البكرى مفتى الديار المصرية، وذلك فى سنة 1022 وفيها تحدث عن مواقف مشرفة له حين حج فى السنة المذكورة، وهو يستهل رسالته على هذا النمط (1):
«إنّ أشرف ما تتوّج به المفارق والرءوس، وأبهر ما تبتهج به المهارق والطّروس، وأبهى ما ينظم فى سلك السطور، من الدّرر الباهرة لدرر النحور، وأنهى ما يرقم (يكتب) فى صكوك الصدور، من الغرر المضاهية للآلئ البحور، تحيات نظمت بأنامل الإخلاص عقودها، وتسليمات رقمت بطراز الاختصاص برودها، تشفعها الأدعية التى على ألسن المقربين تتلى. . صادرة من قلب منيب أوّاه، ناظرة أن ليس فى الوجود إلا الله، فها ملائكة الإجابة، تحفّها بالقبول والإنابة، بأن يديم الله للعلم وأهله، ويبقى للفرع وأصله، بقاء مولانا الأستاذ الأعظم، والملاذ الأعصم، والجهبذ النقاد، والكوكب الوقاد، والبحر الزخار، والليث الزءّار، عالم الإسلام على الحقيقة، الجامع للشريعة والطريقة، كشاف مشكلات العلوم، حلال معضلات الفهوم:
علاّمة العلماء واللّجّ الذى
…
لا ينتهى ولكلّ لجّ ساحل
الإمام العلامة، الهمام الفهامة، شيخ الإسلام، ملجأ الأنام، مفتى المسلمين، صدر المدرسين، الحبر النّحرير، إمام الفقه والتفسير. . مفتى السلطنة الشريفة (يريد السلطنة
(1) سلافة العصر ص 73.
العثمانية) بالقاهرة الزاهرة المنيفة». وإذا تساءلنا ماذا قرأنا فى الرسالة حتى الآن لاحظنا توّا أننا لم نقرأ إلا سلاما وتحية ودعاء وثناء. وهذه المعانى البسيطة تتحول إلى ما يشبه خيطا تنشر عليه عبارات منمقة تستمد من مبالغات مفرطة، صيغت فى أسجاع تحفّ بها استعارات تلمع، ولكنها سرعان ما تتلاشى دون أن تترك وراءها مضمونا واضحا، على شاكلة ما نقرأ للشيخ حنيف الدين المكى من رسالة كتب بها إلى صديق له فى الطائف ردا على رسالة كان بعث بها إليه، وهو يمضى فيها على هذا النحو (1):
وهذه القطعه من الرسالة تحمل مبالغات مكررة واضحة، وكأن ليس الغرض أن تؤدى الرسالة طائفة من المعانى، إنما هى تؤدى طائفة من الألفاظ والأساليب المنمقة المسجوعة المليئة بالتكرار وبيان القدرة على جلب العبارات المحشوة بضروب الاستعارات والمجازات وألوان الجناس. وحاول الشيخ أن يظهر تفننه فى صنع العبارة المسجوعة، فأطالها فى آخر هذه القطعة، ولكن بعد أن جعلها تتوازن داخليا، فكلمة «فرسان البلاغة» فى عبارة يقابلها «أرباب الفصاحة والبراعة» فى العبارة التالية، وكذلك كلمة «نسيمه الرطب» فى عبارة يتلوها فى العبارة التالية «شهده العذب» وليس وراء ذلك كله إلا التكلف الشديد.
وإذا تركنا الحجاز إلى اليمن استقبلتنا فيه رسالة استعطاف بديعة للحسين بن على بن القمّ وجّه بها إلى السلطان سبأ بن أحمد الصّليحى (486 - 491 هـ) يستعطفه،
(1) سلافة العصر ص 99.
ولا ندرى بالضبط ما سبب هذا الاستعطاف وخاصة أنه كان-كما مر بنا فى ترجمته بين الشعراء-القائم على ديوان الإنشاء للدولة وكاتب رسائلها. وتذكر المصادر أن أباه وضع يده فى يد جياش بن نجاح حين استولى على زبيد من الدولة الصليحية. وربما حدثت نبوة بينه وبين سبأ فألم بزبيد فأغضبه ذلك منه، والرسالة تمضى على هذا النمط (1):
وكل من يقرأ رسائل أبى العلاء المعرى يحس بوضوح صلة هذه الرسالة بها، ومرّ بنا فى حديثنا عن شعره أنه كان يستوحيه فى بعض أبياته، ومعروف أن أبا العلاء كان يتصنع فى
(1) معجم الأدباء 10/ 132.
(2)
النوض: مجرى الماء، ويريد الماء نفسه.
(3)
غيب: غاب بذره فى الأرض. وصيب: أمطر.
(4)
النوء: المطر.
(5)
الأضا: الغدير.
(6)
الشحرور: طائر كالعصفور رخيم الصوت.
(7)
الجلنار: زهر الرمان.
(8)
الشقيق: ورد كبير أحمر.
(9)
السكيت: آخر خيل الحلبة.
رسائله تصنعا واسعا لجلب مصطلحات العلوم اللغوية، وهو أول من نهج بقوة هذه السبيل ومهّدها لمن جاءوا بعده (1)، وتأثره فيها شرقا وغربا الكتّاب، وها هو ابن القم اليمنى الذى يوشك أن يكون معاصرا له يتأثره فى هذا الأسلوب الجديد، فإذا هو يدعو لسبإ بن أحمد بدوام علوه وارتقائه دوام لزوم الياء عند الصرفيين للتصغير، ويدعو له بدوام تقدم رتبته على الأمراء والسلاطين من حوله كدوام تقدم حرف الاستفهام على جملته أو عبارته، وكدوام تقدم المبتدأ على الخبر، وحتى إن هو تأخر عنه كان متقدما عليه فى النية.
وإنه ليتمنى له أن يظل دائما متسنما ذروة العلا، مثله مثل حروف الاستعلاء عند أصحاب التجويد والقراءات وهى سبعة: ق، ظ، خ، ص، ض، غ، ط، وهى دائما تفخم فى النطق، فلا يدخل عليها ترقيق. ويجعل عدوه كالألف، حاله دائما مختلفة، إذ هى تأتى للوصل وللقطع، ولا ينطق بها فى مثل الشمس والنور والصلاة.
ولا ريب فى أن ذلك تعقيد وتصنع شديد، إذ لا يستطيع أن يفهم عبارات الرسالة إلا من عرف علوم الصرف والنحو والتجويد والقراءات. وظاهرة ثانية فى الرسالة اندفع فيها ابن القمّ وراء أبى العلاء وإن لم يبعد إبعاده، وهى ظاهرة التصنع للفظ الغريب، فقد وشّاها به، وكأنما أصبح غاية من غايات الكتاب البارعين أن يجلبوا الألفاظ الغريبة إلى رسائلهم، حتى يثبتوا مهارتهم، وهى مهارة لغوية خالصة. ونحمد لابن القمّ أنه لم يسرف فى هذه المهارة. والرسالة تصور براعة حقيقية فى استخدام السجع، فقد كان يستطيع أن يأتى به قصيرا، بل مفرطا فى القصر، حتى لتكون السجعة أحيانا كلمة واحدة. والجناس كثير فى العبارات، من مثل قوله:«جلوة الملتبس» و «جذوة المقتبس» و «البهار» و «النهار» إلى غير ذلك من جناسات ناقصة تكتظ بها الرسالة، وهو يمضى فيها مستعطفا محاولا بكل ما فى وسعه أن يستل الضغينة من صدر سبأ بمثل قوله:
«وأما حال عبده، بعد فراقه فى الجلد، فحال أم تسعة من الولد، ذكور، كأنهم عقبان وصقور، كنّوا (2) فى وكور، اخترم (3) منهم ثمانية، وهى على التاسع حانية.
نادى النذير، العربان فى البادية، للعادية، ياللعادية (4)، فلما سمعت الدّاعى، ورأت الخيل وهى سراع، جعلت تنادى ولدها: الأناة! الأناة! وهو ينادى العداة! العداة:
(1) انظر كتابنا الفن ومذاهبه فى النثر العربى (نشر دار المعارف-الطبعة الثامنة) ص 273 وما بعدها.
(2)
كنوا: استتروا وأقاموا.
(3)
اخترم: مات.
(4)
العادية الأولى: الداهية، والثانية: الخيل.
بطل كأن ثيابه فى سرحة
…
يحذى نعال السّبت ليس بتوءم (1)
فحين رأته يختال فى غضون الزّرد المصون (2) أنشأت تقول:
نشدت أضبطا يمي
…
ل بين طرفاء وغيل (3)
لباسه من نسج دا
…
ود كضحضاح يسيل (4)
فعرض له فى البادية أسد هصور، كأن ذرعه مسد (5) مضفور:
فتطاعنا وتواقفت خيلاهما
…
وكلاهما بطل اللقاء مقنّع
فلما سمعت صياح الرّعيل (6)، برزت من الخدر بصبر قد عيل (7). فسألت عن الواحد، فقيل لها: لحده اللاحد:
فكرّت تبتغيه فصادفته
…
على دمه ومصرعه السّباعا
عبثن به فلم يتركن إلاّ
…
أديما قد تمزّق أو كراعا (8)
وما هذه الأم الثكلى بأشدّ من عبدك تأسفا، ولا أعظم كمدا وتلهفا، وإنه ليعنّف نفسه دائما، ويقول لها لائما: لو فطنت لقطنت (9) ولو عقلت لما انتقلت، ولو قنعت لرجعت، وما هجعت:
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم
…
وترمى النّوى بالمقترين المراميا (10)
وما تركوا أوطانهم عن ملالة
…
ولكن حذارا من شمات الأعاديا
أيها السيد! أمن العدل والإنصاف، ومحاسن الشيّم والأوصاف، إكرام لمهان، وإذلال جواد الرّهان، يشبع فى ساجورة (11) كلب الزّبل، ويسغب فى خيسه أبو الشّبل (12):
إذا حلّ ذو نقص مكانة فاضل
…
وأصبح ربّ الجاه غير وجيه
فإن حياة الحرّ غير شهيّة
…
إليه وطعم الموت غير كريه
(1) البيت لعنترة والسرحة: شجرة طويلة. يصف خصمه بالبطولة والطول كأنه سرحة أو شجرة سامقة ويصفه بالترف إذ ينتعل بنعال السبت الجيدة، كما يصفه بالقوة إذ ليس توأما شركه غيره فى بطن أمه.
(2)
غضون: ثنايا. ويريد بالزرد المصون الدرع.
(3)
الأضبط: العامل أو المقاتل بيمينه ويساره. والطرفاء: شجر. الغيل: الغابة.
(4)
تصف درعه وأنه متين من نسج داود، ويشبهون كثيرا الدروع وثناياها بغدران المياه حين هبوب الرياح عليها.
(5)
هصور: شديد. ذرع: طول. مسد: حبل.
(6)
الرعيل: القطعة من الخيل.
(7)
عيل: نفد.
(8)
الكراع: الساق.
(9)
قطنت: أقمت.
(10)
المقترون: أصحاب العيش الضيق.
(11)
الساجور: خشبة صغيرة تعلق فى عنق الكلب.
(12)
يسغب: يجوع. الخيس: غيل الأسد.
أقول لنفسى الدنيّة هبّى طال نومك، واستيقظى لا عزّ قومك، أرضيت بالعطاء المنزور (1) وقنعت بالمواعيد الزور، يقظة فإن الجدّ قد هجع، ونجعة فمن أجدب انتجع».
ويتشبه ابن القم فى هذه القطعة بأبى العلاء من ناحية وببديع الزمان الهمدانى من ناحية أخرى، أما تشبهه بأبى العلاء أو محاكاته له فتتضح فى الألفاظ الغريبة التى يحشدها فى نثره، وحتى الشعر يرى أن يختار أبياته من ذوات اللفظ الغريب، على الأقل إلى حد ما. وكان بديع الزمان يزين رسائله بالأشعار، وقد حاكاه فى ذلك وفى تضمين رسائله بعض الحكايات القصصية، حين شبّه نفسه وتحسره على ما فقده من قرب سبأ وقيامه على ديوانه بأم لتسعة فقدت ثمانية منهم، وبقى لها ولد واحد، هو كل أملها فى الحياة، فإذا غارة على الحى، وركب ولدها فيمن ركبوا للدفاع والذود عن الحريم، وهى تصيح به من ورائه خائفة جزعة تريد أن ترده، ويتراءى لها فى بطولته وبأسه وسلاحه، وعبثا تحاول ردّه. ويلقاه من الأعداء فارس، بل أسد هصور، وتدور عليه الدوائر، وتسمع صياح الخيل حين عودتها، فتبرز من بيتها تسأل عن فلذة كبدها، وتعرف أنه سفك دمه، فتخرج إلى العراء باحثة عنه، وتجده أشلاء ممزقة. فياللهول ويا للكارثة المقضّة للمضاجع. ويقول إنه ليس أشد أسفا منها ولا كمدا وتلهفا على فقده لعمله عند سبأ ولعطفه ورعايته. ويلوم نفسه أن ترك العمل بديوانه بل إنه ليعاتب سبأ عتابا رقيقا، كله لطف، ملوّحا له بحقه عليه، وأنه قرّب إليه واصطفى من هم دونه فى المنزلة الأدبية، وكأنه يعرض عليه الصفح عنه والعفو، آملا فى العودة، إلى سابق مكانته، وإنه ليصرح بأنه أجدب، وخليق به أن ينتجع، وأن يجد الوادى ممرعا كعهده.
وإذا كنا قد وجدنا فى اليمن كاتبا مبكرا يحاكى أبا العلاء وبديع الزمان فى بعض رسائلهما فإننا نجد فى حضرموت كاتبا يحاكى الحريرى لا فى مقاماته، ولكن فى بعض رسائله، وكان الحريرى قد اشتهر برسالة سينية جميع كلماتها من ذوات السين كتبها على لسان بعض أصدقائه يعاتب فيها صديقا أخلّ به فى دعوة دعا غيره إليها. وعلى غرار هذه الرسالة كتب السيد عمر السقاف الحضرمى رسالة سينية طويلة نقتطف من مطلعها قوله (2):
«باسم السلام (3) أستبدى، وبإسعافه أستهدى، وبأسمائه أستنجد، ولنفثات سره
(1) المنزور: القليل.
(2)
تاريخ الشعراء الحضرميين 3/ 14.
(3)
السلام: من أسماء الله.
أستنشد، وبإسبال ستره أستظل، وبإسدال أستاره أستقلّ. . . تقدس سبحانه، وسما إحسانه، واستطال سلطانه، وأستعينه وأستنصره، وأستقيله وأستغفره، وأستعيذه من دسائس إبليس، وسائر التلابيس، وسطوة النفوس، وسؤال المنحوس. . وأسأله التيسير، وسكون الفردوس لا السعير، وأسلم سلاما مستمرا، يتلمّس سيد السادات سنىّ السيرة، حسن السريرة، المخرس بلسنه الملسنين، السالك سبيل أسلافه السائدين».
وتمضى الرسالة فى ألفاظ مبعدة فى الغرابة، كى يدل الكاتب على مهارته، وهى ليست مهارة أدبية، ولكنها مهارة لغوية، وكانوا يعدّونها زخرفا وتنميقا، ونحس كأن الكلمات يرصّ بعضها بجوار بعض فى الرسالة، فهى صفوف سينية، أو هى صناديق سينية، نقرأ فيها سينيات، ولكن لا نقرأ فكرا ولا شعورا، وقد كثر فيها الجناس كثرة مفرطة. وكل ذلك محاكاة للحريرى ومحاولة للدنو من طريقته فى رسالته السينية وبيان القدرة على جمع الكلمات ذوات السين، مع ما يطوى فى ذلك من التصعيب والتعقيد.
ويقول من ترجموا له وكتبوا عن هذه الرسالة إنه كان لها دوىّ بعيد فى الأوساط الأدبية الحضرمية، إذ عدوها طرفة غريبة وظلوا يتداولونها طويلا. على أن الكثرة من رسائل الأدباء الحضرميين لم تكن تغرب هذا الإغراب، بل كانت تكتفى بالسجع، وقلما اصطنعت الألفاظ الغريبة الآبدة.
ونترك حضرموت إلى البحرين، ونلتقى فى كتاب سلافة العصر ببعض رسائل لأدبائها، من ذلك رسالة كتب بها ابن أبى شبابة البحرانى إلى ابن معصوم صاحب الكتاب، ونحس فيها بالتكلف الشديد منذ فواتحها، يقول (1):
(1) سلافة العصر ص 506.