الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتقليد جميعه مسجوع، وليس فيه ألفاظ غريبة، فالوطواط ينطلق فى سجعه، وكأنه ينساب من معين زاخر دون أى عائق أو حائل. وبمثل هذه الصورة من السجع رسائله الإخوانية أو الشخصية فهى تجرى سائغة سهلة خفيفة على الأسماع والأفواه كقوله من رسالة وجه بها إلى الزمخشرى يستأذنه فى حضور دروسه ومجالسه:
وتمضى الرسالة على هذا النمط من السجع الطبيعى. وكان يفسح فى شعره لكل صور البديع المتكلفة ولكل ضروب المحسنات من ترصيع وغير ترصيع. ونتركه للحديث عن ثلاثة هم فى الذروة من أدباء العصر فى مختلف حقبه الماضية: ابن العميد والصاحب بن عباد وبديع الزمان.
3 - ابن العميد
(1)
هو أبو الفضل محمد بن الحسين، فارسى الأصل، من مدينة قم الشيعية الإمامية، فيها منشؤه ومرياه، مما أعدّه ليكون شيعيا إماميّا مثل أمرائه البويهيين. وكان أبوه كاتبا فذّا، كتب لما كان بن كاكى ثم للسامانيين، وهم الذين لقبوه بلقبه العميد كعادتهم فيمن يتقلد لهم ديوان الرسائل. ولم يلحق ابنه معه بديوانهم، بل ألحقه بدواوين البويهيين.
وخدم ركن الدولة الحسن بن بويه صاحب الرّىّ، ولم يزل يترقى عنده، حتى أصبح وزيره منذ سنة 328 حتى وفاته سنة 360.
(1) انظر فى ابن العميد وترجمته اليتيمة 3/ 154 وما بعدها وتجارب الأمم لابن مسكويه فى مواضع متفرقة وابن لأثير 8/ 511، 516، 606 وابن خلكان 5/ 103 والشذرات 3/ 31 والإمتاع والمؤانسة لأبى حيان 1/ 66 وكتابه «مثالب الوزيرين» وفيه تحامل شديد عليه وانظر الفن ومذاهبه فى النثر العربى ص 205.
وكان ابن العميد مثقفا ثقافة واسعة بجميع علوم عصره حتى ليقول ابن مسكويه مؤرخ البويهيين المشهور: «كان أجمع أهل عصره لآلات الكتابة، حفظا للغة والغريب، وتوسعا فى النحو والعروض، واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارات، وحفظا للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام. فأما القرآن وحفظ مشكله ومتشابهه والمعرفة باختلاف فقهاء الأمصار، فكان منه فى أرفع درجة وأعلى رتبة. . أما المنطق وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة فما جسر أحد فى زمانه أن يدّعيها بحضرته إلا أن يكون مستفيدا أو قاصدا قصد التعلم» . ويقول ابن الأثير: «كان عالما فى عدة فنون، منها الأدب، فإنه كان من العلماء به، ومنها حفظ أشعار العرب فإنه حفظ منها ما لم يحفظ غيره مثله، ومنها علوم الأوائل فإنه كان ماهرا فيها، مع سلامة اعتقاد إلى غير ذلك من الفضائل، ومع حسن خلق ولين عشرة مع أصحابه وجلسائه، وشجاعة تامة، ومعرفة بأمور الحرب والمحاصرات، وبه تخرّج عضد الدولة، ومنه تعلم سياسة الملك ومحبة العلم والعلماء» . ويقول ابن خلكان:
«كان متوسعا فى علوم الفلسفة والنجوم» .
وكان-كما لاحظ ابن الأثير-يحسن قيادة الجيوش، وحقق للدولة انتصارات عظيمة، من ذلك انتصاره على محمد بن ماكان قائد الجيش الخراسانى سنة 344 بعد أخذه لأصبهان واستيلائه على خزائنها، فقد اعترضه فى طريقه إلى الرى وهزمه هزيمة ساحقة. ومن ذلك انتصاره على ابن بلكا بشيراز سنة 345. وخرج فى سنة 360 لقتال حسنويه الكردى، ولكن المنية أدركته دون غايته، وكان عمره يزيد قليلا على ستين عاما. وظل وزيرا ثلاثا وثلاثين سنة. وكان مقصد الشعراء والأدباء يجزل لهم الصلات، وقصده أبو الطيب المتنبى بأرّجان، فاستقبله استقبالا حافلا، وفيه يقول:
عربىّ لسانه فلسفىّ
…
رأيه فارسيّة أعياده
ويشيد كل من ترجموا له ببلاغته، وفى ذلك يقول الثعالبى:«أوحد العصر فى الكتابة وجميع أدوات الرياسة وآلات الوزارة، والضارب فى الآداب بالسهام الفائزة، والآخذ من العلوم بالأطراف القوية، يدعى الجاحظ الأخير والأستاذ والرئيس، يضرب به المثل فى البلاغة، وينتهى إليه فى الإشارة بالفصاحة والبراعة، مع حسن الترسل وجزالة الألفاظ وسلاستها إلى براعة المعانى ونفاستها. وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد» . ومن يقرأ ما اقتبسه الثعالبى من كتاباته يؤمن بأنه هو الذى أعطى الكتابة فى عصر الدول والإمارات صيغتها التى ظلت الأجيال المتوالية تستخدمها، وهى صيغة قامت على أساسين كبيرين: أولهما السجع، وكان السجع معروفا من قبله فى
الدواوين العباسية منذ أول القرن الرابع الهجرى، على نحو ما مرّ بنا ذلك فى كتاب العصر العباسى الثانى، وسنراه يدخل عليه ضروبا من الموازنة فى السجعتين المتواليتين، بحيث تصبح هذه الضروب ضرورة أو لازمة فيه. والأساس الثانى لم يكن متبعا قبله، وهو استخدام المحسنات البديعية مع السجع، فالسجع وحده لا يكفى، بل لابد أن تضاف إليه الاستعارة أو الجناس أو الطباق وما إلى ذلك من محسنات البديع وتلاوينه. ونسوق مثالا لذلك من كتاب كتب به عن ركن الدولة بن بويه إلى ابن بلكا عند عصيانه عليه، مفتتحا كتابه بقوله:
وهذه النغمات الأولى فى الكتاب ترينا بوضوح أساس المنهج الذى التزمه ابن العميد فى كتابته، فهو يلتزم السجع، وليس ذلك فحسب، بل هو يوازن بين السجعات، فيجعلها قصيرة تتكون من كلمتين، وإن طالت السجعة الأولى قليلا أطال السجعة الثانية وجعلها موازنة لها أدق موازنة، فسجعة «تدلّ بسابق حرمة» توازنها فى دقة السجعة التالية لها:«تمتّ بسالف خدمة» . ومثلهما السجعتان: «ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية» . وهو لا يلتزم السجع فحسب، بل يكثر من الطباق مثل «طمع ويأس» و «إقبال وإعراض» كما يكثر من الجناس مثل سابق وسالف، والكتاب زاخر به وبالطباق وبتصاوير كثيرة كقوله فيه معاتبا صاحبه:
وكل هذه كنايات واستعارات لما كان فيه هذا العاصى لركن الدولة حين كان يضع يده فى يده، فقد كان فى سعادة ما وراءها سعادة، فإذا كل نعيم كان فيه يتحول بؤسا وشقاء.
وله فصل من رسالة كتب بها إلى عضد الدولة يشيد فيها برعايته للعلم والعلماء قائلا:
«قد يعدّ أهل التحصيل فى أسباب انقراض العلوم وانقباض مددها، وانتقاض مررها
(1) غلول: خيانة
(2)
آنف: أشد
(3)
عذى: خالص
(4)
الكن: ما يردّ الحر والبرد من الأبنية.
(5)
كنين: مستور
(قواها). . الطوفان بالنار والماء، والموتان العارض من عموم الأوباء، وتسلط المخالفين فى المذاهب والآراء. . وليس عندى الخطب فى جميع ذلك يقارب ما يولّده تسلط ملك جاهل تطول مدته، وتتسع قدرته. وبحسب عظم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى بمن هذه صورته، تعظم النعمة فى تملك سلطان عالم عادل كالأمير الجليل الذى أحلّه الله من الفضائل بملتقى طرقها، ومجتمع فرقها، وهى نور (1) نوافر ممن لاقت حتى تصير إليه، وشرّد نوازع حيث حلّت حتى تقع عليه، تتلفّت إليه تلفّت الوامق، وتتشوّف نحوه تشوّف الصبّ العاشق».
والفصل طريف فى دلالته على عناية عضد الدولة بالعلم وأهله، وكان دائما يعقد لهم المناظرات بين يديه. والفصل صورة أخرى لعناية ابن العميد بالسجع وتقصيره، وإحداث الموازنات بين السجعات حين تطول، وفى أثناء كل ما قدمنا له تتضح عنايته بمحسنات البديع وسلاسة اللفظ وجمال السبك ووضوح المعنى. وهى كلها جوانب أساسية فى بلاغته وبيانه.
4 -
الصاحب (2) بن عباد
هو كافى الكفاة إسماعيل بن عباد، من أهل الطّالقان: ولاية بين قزوين وأبهر، ولد عام 326 لأبيه عباد بن العباس الطالقانى، وكان يعمل مع ابن العميد فى ديوان ركن الدولة بالرى، وعنى به، فوصله منذ نعومة أظفاره بأحمد بن فارس اللغوى، حتى إذا اتضحت فيه مخايل الأدب ألحقه بابن العميد، فكان يصحبه دائما، مما جعل الناس يطلقون عليه لقب صاحب ابن العميد، وظل هذا اللقب علما عليه، وقيل بل صحب مؤيد الدولة بن ركن الدولة منذ الصبا وسماه الصاحب، فاستمر عليه اللقب واشتهر به.
(1) نور: جمع نوار: شاردة
(2)
انظر فى الصاحب وترجمته وأشعاره ورسائله اليتيمة 3/ 188 والمنتظم 7/ 179 ومعجم الأدباء 6/ 168 وابن خلكان 1/ 228 وإنباه الرواة 1/ 201 وروضات الجنات 104 ونزهة الألباء 325 ومرآة الجنان 2/ 421 والشذرات 4/ 113 ولسان الميزان 1/ 413 وابن الأثير فى مواضع متفرقة وفى سنة 385 وكذلك النجوم الزاهرة 4/ 169، ومثالب الوزيرين لأبى حيان، يريد ابن العميد والصاحب وقد بالغ فى الغض منهما كما أشرنا إلى ذلك. ورسائل الصاحب منشورة فى دار الفكر العربى بالقاهرة بتحقيقى وتحقيق الدكتور عبد الوهاب عزام. وجمع أشعاره محمد آل ياسين ونشرها فى النجف باسم ديوان الصاحب وله عنه كتاب، وكذلك للدكتور بدوى طبانة (طبع القاهرة). وانظر المدخل بين يدى الرسائل وكتابنا الفن ومذاهبه فى النثر العربى ص 212 وما بعدها.
ومنذ فتك مؤيد الدولة بأبى الفتح على بن أبى الفضل بن العميد سنة 366 ولاه وزارته وظل وزيرا له حتى إذا توفى سنة 373 وخلفه أخوه فخر الدولة أقرّهّ على وزارته، وكان مبجلا عندهما ومعظما نافذ الأمر. وكان حسن السياسة مدبرا للملك كما كان قائدا شجاعا مما رفع منزلته عندهما إلى أقصى حد، حتى قيل: كان «من يؤذن له فى الدخول عليه يظن أنه قد بلغ الآمال، ونال الفوز بالدنيا والآخرة، فرحا ومسرة، وشرفا وتعظيما، فإذا حصل فى الدار وأذن له فى الدخول إلى مجلسه قبّل الأرض عند وقوع بصره عليه. .
ولم يكن يقوم لأحد من الناس، ولا يشير إلى القيام، ولا يطمع أحد منه فى ذلك».
وما زال وزيرا لفخر الدولة حتى توفى سنة 385 ويقال أنه لما توفى أغلقت له مدينة الرىّ، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر فخر الدولة وسائر القواد وقد غيّروا لباسهم. ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس، وقعد للعزاء أياما. وفيه يقول الثعالبى:«ليست تحضرنى عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله فى العلم والأدب وجلالة شأنه فى الجود والكرم، وتفّرده بغايات المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولى تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه؛ وجهد وصفى يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه ولكنى أقول: هو صدر المشرق، وتاريخ المجد، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان. . وكانت أيامه للعلوية والعلماء. والأدباء والشعراء، وحضرته محطّ رحالهم، وموسم فضلائهم، ومترع آمالهم، وأمواله مصروقة إليهم، وصنائعه مقصورة عليهم، وهمته فى مجد يشيده، وإنعام يجدده، وفاضل يصطنعه، وكلام حسن يصنعه أو يسمعه. . وكانت حضرته مشرعا لروائع الكلام، وبدائع الأفهام، وثمار الخواطر، ومجلسه مجمعا لصوب العقول وذوب العلوم ودرر القرائح. . واحتفّ به من نجوم الأرض وأفراد العصر، وأبناء الفضل، وفرسان الشعر، من يربى عددهم على شعراء الرشيد؛ ولا يقصّرون عنهم فى الأخذ برقاب القوافى، وملك رقّ المعانى» . ويذكر ياقوت أن عطاياه للأدباء والشعراء والعلماء والأشراف كانت تزيد على مائة ألف دينار فى العام الواحد. وكان يقول: مدحت بمائة ألف قصيدة عربية وفارسية، وفى هذا ما يدل على أنه كان يعرف الفارسية، بل ربما كان يتقنها إذ روى أنه اختبر قدرة بديع الزمان الهمذانى، حين مرّ ببابه، فى الترجمة من الفارسية إلى العربية.
وكان شاعرا مجيدا، كما كان كاتبا مجيدا، وقد أنشد الثعالبى طائفة كبيرة من أشعاره أخلاها من شعره العقيدى الشيعى والمعتزلى، فقد كان شيعيا إماميا كما مر بنا فى حديثنا عن شعراء المديح وكان يدين بمذهب المعتزلة ومبادئهم المعروفة، وقد نشر محمد حسن آل ياسين
ديوانه كما مرّ بنا، وهو يموج بأشعاره الشيعية وبتصويره لمبادئه الاعتزالية من مثل قوله:
قالت: فما اخترت من دين تفوز به
…
فقلت إنى شيعىّ ومعتزلى
وقوله:
ومن كان بالتّشبيه والجبر دائنا
…
فإنى فى التوحيد والعدل أوحد
وهو يحمل على المشبّهة والمجبرة حملات شعواء، كما يحمل نفس الحملات على من يقولون بأن القرآن قديم وغير مخلوق يقول:
وإن قال أقوام قديم لأنه
…
كلام له فانظر إلى أين صعّدوا
وله وراء شيعياته واعتزالياته أشعار طريفة أنشدنا منها-فيما مرّ-أطرافا. وصنّف فى اللغة معجما سماه المحيط كما صنف كتبا ورسائل مختلفة فى الإمامة وفى فضائل على ابن أبى طالب وفى أسماء الله وصفاته وله رسالة فى الكشف عن مساوى المتنبى وكتاب فى المقصور والممدود. وكانت له مكتبة ضخمة ويقال إن فهرست كتبها كان يقع فى عشر مجلدات، وأنها كانت حمل أربعمائة بعير.
ورسائله منشورة، وهى فى عشرين بابا وكل باب يشتمل على عشر رسائل ما عدا البابين السابع عشر والثامن عشر، وأولهما فى الآداب والمواعظ وبه أربع رسائل، والثانى فصول قصيرة وتوقيعات موجزة. وقد ذكرت فى مدخل الرسائل القيمة التاريخية لها.
وجميعها ديوانية، أو الكثرة الكثيرة منها، ولذلك كانت تعدّ وثائق قيمة عن الدولة البويهية، وخاصة أن الصاحب يعرض فيها حروبهم وأسماء قوادهم وقضاتهم كما يعرض معاهداتهم وإدارتهم لشئون الرعية مما يجعل لها قيمة سياسية واجتماعية بعيدة. والباب الأول منها خاص بفتوح عضد الدولة وحروبه مع أخيه فخر الدولة وقابوس بن وشمكير ومع الروم ومع ابن حمدان ومع وهسوذان. وفى كل ذلك تفاصيل جديدة تضيفها الرسائل إلى ابن الأثير وغيره من المؤرخين. وبالمثل تضيف جديدا إلى ما تذكره كتب التاريخ عن معاهدات البويهيين على نحو ما جاء فى معاهدة لهم مع السامانيين من أنه «لا يقبل فى جهة من الجهتين أبّاق العساكر، ولا يمهّد فى جنبة من الجنبتين للخالع والنافر، ولا يحامى على من عصا فشرد، وشق العصا وانفرد» . ومن الطريف أن نتعقب ما جاء فى الباب الثانى من العهود للقضاة والولاة والمحتسبين، وخاصة عهود القصاة، لنرى هل كانوا يرجعون إلى مصادر الفقه المعروفة العامة، وهى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وكأن لا فرق بين الشيعة وأهل السنة حينئذ فى القضاء ومصادره؟ . وفعلا يؤكد ذلك ما جاء فى الرسالة الأولى من الباب الثانى الخاصة بعهد القاضى عبد الجبار.
وفيها أيضا أن التركة لا تردّ إلى بيت المال بل يأخذها الأباعد من ذوى الأرحام، وهو ما أشار إليه المقدسى فى كتابه أحسن التقاسيم من أن البويهيين لم يكونوا يتعرضون للتركات.
ويلقانا عهد فى الحسبة نطلع منه على صفات المحتسب وواجباته ومسئولياته. وتلقانا عهود فى معاملة الرعية وفى قسمة الماء فى بعض الأودية، كما يلقانا باب عن الحجيج والمصالح والثغور. وفى الباب السادس رسالتان هما الخامسة والسادسة كتبتا بمناسبة نشوب ثورة فى قزوين بين الشيعة والسنة، ونرى الصاحب يدعو فيهما إلى أن تحل الألفة والوئام بين الطائفتين دون نصرة إحداهما على الأخرى. وفى ذلك ما يدل على أن البويهيين لم يتحيّزوا إلى مذهبهم الشيعى فى أنحاء دولتهم حفظا للأمن وصيانة له. وطبيعى أن نحسّ فى بعض الرسائل بأن كاتبها من المعتزلة، فقد كان الصاحب كما قدمنا معتزليّا، وفى الباب السابع عشر رسالتان صريحتان فى أن الصاحب كان يبعث دعاة له أحيانا يدعون الناس إلى الدخول فى نحلة الاعتزال. ومن قوله فى إحداهما:«كان هذا البلد من البلاد المستغلقة على أهل عدل الله وتوحيده، والتصديق بوعده ووعيده، هذا وفى فقهائه وفور، وفى الفضل به ظهور، وقد أعان الله على بثّ كلمة الحق، وسمع الأكثر على لين ورفق» .
وربما رأى أن الاعتزال باب للتشيع، وكانا متآخيين حينئذ، فعمل على نشره لينتشر من ورائه التشيع مبتغاه. وفى الرسائل-من حين إلى آخر-ما يدل على نزعته الشيعية وخاصة حين يكتب برسائله إلى بعض الأشراف العلويين. وتلقانا فى الباب التاسع عشر رسالة هى عهد لعلوى ولى النقابة بين الذرية الطيبة، وفيها ما يدل على أن النقيب هو الذى كان يحكم بين العلويين، وأنه كان لهم قضاء مستقل فى الدولة، وأنه كان ينتسب إليهم دخلاء ينتحلون النسبة، ويأمر النقيب بتعقبهم وإشهار أمرهم، وفى الرسالة أيضا ما يدل على كثرة الأموال التى كان يقدمها البويهيون للعلويين.
وعلى هذا النحو لرسائل الصاحب المنشورة قيمة تاريخية كبيرة، وأيضا لها قيمة أدبية كبيرة، لأنها المجموعة الوحيدة التى وصلتنا عن كتّاب البويهيين فى القرن الرابع الهجرى، وهى دائما تبتدئ بالتحميد والتمجيد للنبى صلى الله عليه وسلم أو بالدعاء. ويعقب الصاحب هذا البدء بذكر أميره الذى يكتب عنه مكتفيا بلقبه المشهور الذى خلعه عليه الخليفة، وقد يذكر كلمة الحضرة السامية أو الحضرة الشريفة. وإذا كانت الرسالة فى فتح عظيم أطال فى الدعاء تنويها بالفتح. والرسائل كلها مكتوبة بأسلوب ابن العميد الذى يقوم على السجع والبديع، ويروى معاصروه طرفا كثيرة عن ميله للسجع وإيثاره، حتى زعموا أن ابن العميد قال: خرج ابن عباد من عندنا من الرىّ متوجها إلى أصفهان وطريقه رامين:
فجاوزها إلى قرية غامرة وماء ملح لا لشئ إلا ليكتب إلينا: «كتابى هذا من النّوبهار، يوم السبت فى نصف النهار» . وقالوا إن سجعة اضطرته إلى عزل قاضى مدينة قم، فقد كان فى حضرته، فقال له: أيها القاضى بقم، وأراد أن يكمل السجعة، فأعياه إكمالها، فقال: قد عزلناك فقم. ولعل هاتين النادرتين جميعا من وضع خصمه أبى حيان، وفى تكلفه للسجع يقول:«كان كلفه بالسجع فى الكلام والقول عند الجد والهزل يزيد على كلف كل من رأيناه فى هذه البلاد. . قلت لابن المسيّبى: أين يبلغ ابن عباد فى عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة تنحلّ بموقعها عروة الملك، ويضطرب بها حبل الدولة، ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل، وكلفة صعبة، وتجشّم أمور، وركوب أهوال، لما كان يخفّ عليه أن يفرج عنها ويخليها، بل يأتى بها ويستعملها، ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها» . وكل هذه مبالغات فإن من يرجع إلى الرسائل المنشورة يجد الصاحب يترك نفسه على سجيتها، فإن واتاه السجع مضى فيه، وإن لم يواته استخدم أسلوب الازدواج، وإن كان ذلك لا يأتى إلا نادرا، فالصورة العامة لرسائله هى السجع والبديع والتفنن فى استخدامهما تفننا يدل على مهارة واسعة، حتى غدا ذلك كأنه طبع من طباعه وسجية من سجاياه. وأول ما يلقانا فى رسائله رسالته التى وصف فيها انتصار جيوش مؤيد الدولة على جيوش أخيه فخر الدولة وحليفه قابوس بن وشمكير، ومقطعها الأول يجرى على هذا النمط:
«أحسن نعم الله تعالى غررا وأوضاحا، وأبينها فلقا وصباحا، وأولاها إذا تصفّحت المواهب أخذا بحظ السابق، وأولاها إذا اتتبّعت المنائح فوزا بالعز الشاهق، وأحراها بأن تثنى عليها ألسنة الأيام والليالى، وتثنى إليها أعناق المحامد والمعالى، نعمة صادفت حمدا وشكرا. وجمعت فتحا ونصرا، ونظمت نجحا وقهرا، واستذلّت ممتطيا للجحود لاهيا عن غوره، مستشريا فى الغموط عاديا لطوره. وتلك النعمة عند مولانا الملك السيد إذ عضد الدولة، وتوّج الملّة، وحرس الأمّة، وزحزح الغمّة، ورفد الخلافة، وبسط العدل والرّأفة، وطهّر البلاد، وعمر الحج والجهاد، وساس الجمهور، وسدّ الثغور، فشهدت فتوحه بأنه مؤيّد من عند الله، ومحوط الملك بيد الله، لا ينازع رأيه منازع إلا تلّ لجبينه (1)، وعوجل بقطع وتينه (2)، ولا يمانع رايته ممانع إلا غلّت يده دون مطلبه، واقتطع أمده عن مهربه، ولم يعزّ بالتحصن عليه مارق، والتمنّع دونه مشاقّ مفارق،
(1) تل لجبينه: صرع على وجهه
(2)
الوتين: الشريان الرئيسى للقلب
إلا استولى عفوا على غايات احتياله وأقاصيه، ومكّن منه القضاء سمحا فاستنزل عن معاقله وصياصيه (1)».
وواضح أنه تمثّل طريقة أستاذه ابن العميد، فهو يعنى أشد العناية بانتخاب ألفاظه، حتى يكون بناء رسالته فى هذا الفتح قويا سامقا. ويعنى بأسجاعه، فهى تتقابل وتتوازن مهما طالت، كقوله:«وأولاها إذا تصفّحت المواهب أخذا بحظ السابق، وأولاها إذا تتبّعت المنائح فوزا بالعز الشاهق» وكل كلمة فى العبارة الثانية تكاد تتشابك بالأيدى مع قرينتها فى العبارة الأولى. ومثلها السجعة التالية: «وأحراها بأن تثنى عليها ألسنة الأيام والليالى، وتثنى إليها أعناق المحامد والمعالى» وكأن الكلمات فى العبارتين تتعانق. واستمر فى قراءة الأسجاع الطويلة فى هذا الفصل وفى رسائل الصاحب، فستجد دائما هذا التعانق والتشابك بين كلمات السجعات، وحقّا ابن العميد بدأ ذلك ولكن الصاحب اتسع فيه سعة شديدة. ولابد أن القارئ لاحظ كثرة استخدامه للتصوير منذ فاتحة المطلع، فالنعم ذات غرر وأوضاح كخيل الحرب الظافرة، بل هى كالصباح الجميل البهيج، وتتوالى الأخيلة والصور فى المقطع. ويكثر فيه الجناس مثل غوره وطوره، والأمّة والغمّة، وينازع ومنازع، ويمانع وممانع، ويحاول أن يأتى بغرائب فى الجناس تخلب ألباب السامعين، فيعمد إلى المغايرة بين كلمتين لا فى بعض الحروف ولكن فى بعض الحركات كما فى «أولاها، وأولاها» و «تثنى وتثنى» . وجعلته قدرته على حشد السجعات يكثر من الجمل الاعتراضية فى رسائله على نحو ما يتضح فى مطلع هذا المقطع، فقد بدأه بمبتدأ هو «أحسن نعم الله» وفصل بينه وبين خبره، وهو «نعمة صادفت حمدا وشكرا» بنحو ثلاثة أسطر، ونقده أبو حيان، وقال إن هذا يحدث تعاظلا فى أساليبه (2). وفى رأينا أنه مقبول ما لم يطل الاعتراض طولا شديدا، وهو نادر عنده. على أن هذا الجانب فى أساليبه شاع فيما بعد بين كتّاب العصور التالية وخاصة عند العماد الأصفهانى والقاضى الفاضل. وليس معنى ذلك أن الصاحب وضع مبدأ طول عبارات السجع، بل هى تطول أحيانا، وأحيانا تقصر كما فى هذا المقطع نفسه إذ يقول:«نعمة السجع، بل هى تطول أحيانا، وأحيانا تقصر كما فى هذا المقطع نفسه إذ يقول: «نعمة صادفت حمدا وشكرا، وجمعت فتحا ونصرا، ونظمت نجحا وقهرا» . وتكثر هذه السجعات القصيرة فى رسائله الإخوانية، كقوله فى عزاء ابن عن أبيه، وكان عالما نحريرا:
«للفجائع اختلاف مواقع، وللمصائب تباين مراتب، ومن أشدها لذعا، وأعظمها
(1) الصياصى: الحصون
(2)
الإمتاع والمؤانسة 1/ 64
وقعا، فجيعة أحرجت صدور قوم مؤمنين، ومصيبة خصّت العلم والدين، لفقد الشيخ المنقطع القرين، أبى عثمان-رحمه الله، وأكرم مأواه، ومثواه فقد كان للإسلام جمالا ممتداّ، وللدين ركنا مشتداّ، وللعلم شهابا لا يخبو، وللأدب سهما لا ينبو، يذبّ عن حق الله القائم، ولا تأخذه فى الله لومة لائم، عاش عظيم الخطر، ومات جميل الأثر، التقوى شعاره، واليقين دثاره، وحجج الله مفزعه، وآيات الله مرجعه، فياله مصابا ما أعظمه على الموحّدين، وأسرّه إلى الملحدين، أذكرنا فقد الأئمة الأبرار، وأعلام الأمة الأخيار».
ويمضى فى مثل هذا السجع القصير موشّيا له بالجناس، أهم لون من ألوان البديع كان يستخدمه، كما نرى فى مثل «مأواه ومثواه» ، و «ممتدا ومشتدا» و «لا يخبو ولا ينبو» و «لومة لائم». وكان يستخدم معه الطباق من حين إلى حين كما نرى فى مثل «الموحدين والملحدين». وله تهنئة طريفة ببنت ولدت لبعض أصحابه تمضى على هذه الشاكلة:
«أهلا وسهلا بعقيلة النساء، وأمّ الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشّرة بإخوة يتناسقون، نجباء يتلاحقون:
فلو كان النساء كمثل هذى
…
لفضّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
…
ولا التذكير فخر للهلال (1)
فادّرع يا سيدى اغتباطا، واستأنف نشاطا، فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البريّة، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زيّنت بالكواكب، وحلّيت بالنجم الثاقب. والنفس مؤنثة وبها قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، ولها بعث المرسلون، فهنيئا هنيئا ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت، وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقى الأمد، وكما عمّر لبد» (2).
والرسالة مؤلفة من السجع القصير، ويحلّيها الصاحب بالجناس من مثل «الأصهار والأطهار» وهو قليل فيها، وكأنه لم يكن يتأنق فى الرسائل الإخوانية تأنقه فى الرسائل الديوانية الطويلة. وفى الرسالة ظاهرة ينبغى الالتفات إليها، ونقصد ظاهرة الاحتجاج، فقد احتج للتهنئة بالبنت-وكان الأسلاف يفضلون الابن عليها-بست
(1) البيتان للمتنبى.
(2)
لبد: نسر، وفى الأساطير العربية أنه عمر أربعمائة عام
حجج أو ستة أدلة، وكل دليل لا يقل قوة عن سابقه، فالدنيا مؤنثة والناس يخدمونها والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية كما جاء فى القرآن «ومنها خلقناكم» والسماء مؤنثة وروعتها فى كواكبها ونجومها فوق التصوير، والنفس مؤنثة وهى قوام الإنسان، والحياة مؤنثة وبدونها يموت الإنسان وتبطل حركته، والجنة مؤنثة ولها بعث المرسلون وبها وعد المتقون. أدلة لا تنقض. وكأننا بإزاء مناظرة كلامية فى تفضيل البنت الأنثى على الابن الذكر. يستعين فيها على رأيه بكل ما يستطيع من أدلة وبراهين، ولا شك أن ذلك جاءه من اعتزاله وعكوفه على كتب المعتزلة يقرأ فى أدلتهم وحوارهم وكيف ينفذون إلى البراهين الساطعة، مما جعل كتابته تتشح بطرائقهم وجدالهم وتفننهم فى التعليل والتدليل. وهى تتضح فى جدال المنحرفين عن الدولة وفى تعليله العام لأفكاره وتدليله عليها بالأدلة البينة. ومن قوله فى إهداء أترجّة:
«ما زلت يا سيدى أفكر فى تحفة تجمع أوصاف معشوق وعاشق، وتنظم نعوت مشوق وشائق، حتى ظفرت بأترجّة كأن لونها لونى وقد منيت ببعدك، وبليت بصدّك، وكأن عرفها (1) مستعار من عرفك، وظرفها مشتق من ظرفك، فكأنها بعض من لا أسميّه، وأنا أفديه، فأنفذتها وقلت:
مولاى قد جاءتك أترجّة
…
من بعض أخلاقك مخلوقه
ألبسها صانعها حلّة
…
من سرق أصفر مسروقه (2)
والرسالة تصور أناقته فى اختيار سجعاته وتوشيتها بالجناس والطباق مجتمعين فى قوله:
«معشوق وعاشق» و «مشوق وشائق» . وهى تصور ظرفه ورقة مشاعره. ولم نتوقف عند تصاويره وهى كثيرة فى رسائله الإخوانية والديوانية كقوله فى وصف الورود السوداء فى احمرار، المعروفة باسم الشقائق، ووصف الأشجار الخضراء والنارتجات الصفراء:
وله رسالة لم يعن فيها بالسجع، وإنما عنى بالتصوير وحده، وهى فى استدعاء صديق لبعض مجالس أنسه، وتطّرد على هذا النمط:
«نحن يا سيدى فى مجلس غنىّ إلا عنك، شاكر إلا منك، قد تفتحت فيه عيون
(1) العرف: الرائحة الطيبة.
(2)
السرق: شقق الحرير.
(3)
الذماء: بقية الروح.
(4)
خلقت: طيّبت.
النرجس، وتوردت فيه خدود البنفسج، وفاحت مجامر الأترجّ، وفتقت فأرات (1) النارنج، وأنطقت ألسنة العيدان، وقام خطباء الأوتار، وهبّت رياح الأقداح، ونفقت (2) سوق الأنس، وقام منادى الطرب، وطلعت كواكب الندماء، وامتدت سماء النّدّ (3) فبحياتى لما حضرت لنحصل بك فى جنة الخلد، وتتصل الواسطة بالعقد».
والرسالة مغموسة غمسا فى صور وأخيلة متعاقبة، وكأنما ترك الصاحب نفسه على سجيتها، فلم يعمد فيها إلى سجع، ولعل فى ذلك ما يرد على من اتهموه بتكلفه للسجع وغرامه به، حتى لو كلفه ذلك خللا فى الملك والدولة أو لو كلفه أهوالا ثقالا ما بعدها أهوال، فقد كان يلجأ إلى الازدواج أحيانا، بل ربما تخفف من الازدواج والسجع جميعا كما فى هذه الرسالة. وله رسائل ملؤها المزاح والدعابة. وكانت بديهته حاضرة، مما جعله يمتاز بحسن الأجوبة وسرعتها فمن ذلك أن ضرّابين للنقود من دار الضّرب رفعوا إليه رقعة فى مظلمة ووقعوا عليها باسمهم: الضّرّابين، فوقّع تحتها «فى حديد بارد» . واستمع إلى ابن سمعون الواعظ ببغداد فى أثناء درس له فسأله متخابثا عن قد سكونيات العلم إذا وقعت قبل التوهم، يظن أنه بذلك يقطعه عن الكلام، ولم ينقطع فلما سكت قال له الصاحب:«هذا الذى تقوله بعد التوهم، وإنما سألتك قبله» ! .
5 -
بديع (4) الزمان ومقاماته
هو أحمد بن الحسين ولد سنة 358 بهمذان، ولذلك يقال له الهمذانى، ولقّبه معاصروه باسم بديع الزمان إعجابا بأدبه. وهو من أسرة عربية، نزلت مسقط رأسه، وهى أسرة تغلبية مضرية، ومن قوله فى بعض رسائله:«همذان المولد، وتغلب المورد، ومضر المحتد» فهو ليس فارسى الأصل، بل هو عربى مضرى تغلبى. وعنى به أبوه، فأخذه بالعلم والتعلم منذ نعومة أظفاره، وألحقه بحلقات العلماء، وخاصة حلقة أبى الحسين أحمد بن فارس اللغوى المشهور صاحب كتاب المجمل، وله يقول فى بعض رسائله متلطفا:
(1) فأرة المسك: وعاؤه.
(2)
نفقت: راجت.
(3)
الند: الطيب.
(4)
انظر فى بديع الزمان وترجمته وأخباره اليتيمة 4/ 256 ومعجم الأدباء 2/ 161 ودمية القصر 2/ 346 وابن خلكان 1/ 127 ورسائله مطبوعة قديما ببيروت ومقاماته طبعت مرارا، وديوانه مطبوع بمصر قديما وانظر فيه كتابنا «الفن ومذاهبه فى النثر العربى» ص 238 وأيضا كتابنا (المقامة) طبع دار المعارف ص 13 وما بعدها
لا تلمنى على ركاكة عقلى
…
أن تيقّنت أننى همذانى
وكان محبّا للرحلة، فلم يكد يبلغ الثانية والعشرين من عمره، حتى فارق موطنه إلى حضرة الصاحب بن عباد، وكان-كما مرّ بنا فى ترجمته-راعيا كبيرا من رعاة الأدب فى عصره، بل كان أكبر رعاته، فانتجعه الشاب بديع الزمان سنة 380 ومدحه ببعض أشعاره، وأعجب به الصاحب لبراعته الأدبية، وأحضره مجالسه، ويقال إنه كان يلقى عليه بعض الأبيات الفارسية ويطلب إليه نقلها إلى العربية، فينقلها فى سرعة عجيبة.
ويرحل عن حضرة الصاحب مولّيا وجهه شطر جرجان، وينزل بأسرة معروفة بالثراء وتشجيع العلماء والأدباء، وهى أسرة الإسماعيلية، ويرعاه منها خاصة أبو سعيد ابن منصور الإسماعيلى، وظن بعض المعاصرين أنها كانت تعتنق المذهب الإسماعيلى الشيعى، وهو اتفاق فى الاسم جرّ إلى هذا الخطأ (1). ويؤكد ذلك أن ياقوت فى ترجمته له يقول:«إنه كان شديد التعصب لأهل الحديث والسنة» فلم يكن إسماعيليّا، ولا كان أيضا إماميّا شيعيّا، بل كان سنّياّ أشعرياّ.
ولا يمكث فى جرجان طويلا، بل يتركها إلى نيسابور موطن أهل السنة عام 382 وهناك يصطدم بأبى بكر الخوارزمى، وهو اصطدام طبيعى، فقد كان الخوارزمى شيعيّا إماميّا، وكان يدعو لبنى بويه الشيعة الإماميين فى نيسابور معقل الدولة السامانية السنية، فانتهز الأدباء فيها فرصة نزول بديع الزمان ببلدتهم، وعقدوا مناظرة بينه وبين الخوارزمى انتصروا فيها للبديع. فعلا صيته، وتألق نجمه، إذ كان الخوارزمى يعدّ فى الذروة من الكتاب والشعراء لعصره. وتصادف أن توفى سريعا، فخلا الجو للبديع، وطارت شهرته، ورعاه حينئذ بنو ميكال أعيان نيسابور وأدباؤها النابهون. وسرعان ما فارقها سنة 383 راحلا من بلد إلى بلد فى خراسان بينما الجوائز والمكافآت تغدق عليه، حتى إذا بدأت المعارك بين الغزنويين والسامانيين ولّى وجهه نحو سجستان وأميرها خلف بن أحمد (344 - 399 هـ.) وكان أديبا فأعجب ببديع الزمان، ويقول الباخرزى إنه وصله بألف دينار. وذكر ذلك فى إحدى رسائله، وله فيه خمس مقامات أنشأها فى مديحه وقصائد ورسائل مختلفة.
ويترك سجستان إلى هراة بأفغانستان، ممنّيا نفسه أن يصبح من حاشية محمود الغزنوى ويلقاه، وقد أنشدنا له قصيدة فى مديحه على نحو ما مر بنا فى غير هذا الموضع،
(1) راجع كتاب بديع الزمان الهمذانى لمارون عبود (طبع دار المعارف) ص 16 وهو يشك فى اسمه واسم إبيه وعروبته دون دليل.
ويصهر إلى سرىّ من سراة هراة يسمّى الخشنامى، وينجب أولادا، ويقتنى عقارا وضياعا. ويكتب إلى أبيه رسالة يستدعيه فيها هو وإخوته وعمه مما يدل على ما صار إليه من ثراء. ويبدو أنه غدت له مكانة كبيرة، فكان الكبراء يقصدونه لطلب شفاعته عند أولى الأمر، يقول فى بعض رسائله:«وهؤلاء الصدور، يرون أن الشمس من قبلى تدور» غير أنه لم يلبث أن توفى وهو لا يزال فى الأربعين من عمره سنة 398 للهجرة.
وللبديع رسائل كثيرة، وهى رسائل إخوانية تتناول المديح والاستعطاف والشكر والاعتذار والعزاء والاستمناح وطلب الشراب والهجاء والتقريع، ومنها ما هو موجّه إلى الأمراء أو الوزراء أو كبار الموظفين أو شيوخه أو إلى نظرائه من الأدباء أو إلى أهله أو إلى ذوى الوجاهة واليسار. وله من كتاب إلى الأمير أبى نصر الميكالى النيسابورى:
وفى هذه الرسالة القصيرة ما يوضح بعض خصائص سجعه، وأنه يعنى فيه بتقصير العبارات، تواتيه فى ذلك ملكة فياضة، فلا يكاد يمسك بالقلم ويكتب، حتى تنثال عليه العبارات، وحتى يخيل إلى الإنسان كأن سيلا متصلا من الكلام يجرى ولا ينقطع إلا أن يتوقّف البديع عامدا لينهى الكلام. وتأمّل فى سجع هذه الرسالة فستجده موشى بالجناس الناقص فى مثل:«تعد وترتعد» و «أره وخبره» و «أثره وأكثره» و «ألقه وخلقه» . وهو دائما يغمس رسائله فى الجناس غمسا، تارة يأتى به كاملا، وتارة يأتى به ناقصا، وهو الأغلب الأكثر، كقوله فى الأمير خلف بن أحمد فى إحدى رسائله:«لو أن البحر عدده، والسحاب يده، والجبال ذهبه، لقصرت عما يهبه. بينما المرء فى سنة من نومه، وقصاراه قوت يومه، إذ يقرع الباب عليه قرعا حفيّا، ويسأل به سؤالا خفيّا، ويعطى ألفا خلفيّا» . والجناس الناقص واضح فى هذه العبارات المتعاقبة، وهو يشفعه بكثير من التشبيهات والاستعارات، ضامّا دائما النظير فى الألفاظ إلى نظيره، وهو ما يسميه البلاغيون بمراعاة النظير كقوله من فصل فى إحدى رسائله:
«أرانى أذكر الشيخ كلما طلعت الشمس أوهبت الريح أو نجم النجم أو لمع البرق
أو عرض الغيث أو ضحك الروض. إن للشمس محيّاه، وللريح ريّاه، وللنجم حلاه وعلاه، وللبرق سناؤه وسناه، وللغيث يداه ونداه، وللروض سجاياه».
وواضح أنه لما ذكر عنصرا من الطبيعة وهو الشمس أردفه بالريح والنجم والبرق والغيث والروض. والجناسات كثيرة فى القطعة. وبجانب ذلك نراه يكثر من الاقتباس من القرآن، كما يكثر من نسج الأبيات والشطور فى تضاعيف رسائله. ونراه يجنح كثيرا إلى سرد بعض القصص والحكايات القصيرة ضربا للأمثال كقوله من رسالة:
ويضرب مثلا لمن يذهب فى البحث بعيدا عن أمنيته، وهى مدّ يده، بالبخارى الذى ضاع حماره فذهب يبحث عنه فى البلاد النائية، بينما هو فى مربضه، يقول:
ورسائل البديع خفيفة ورشيقة، بل لعلها أخف وأرشق رسائل وصلتنا عن عصره وبعد عصره. وجعلته موهبته القصصية التى رأيناها فى رسائله يبتدع فنّا جديدا، هو فن المقامة، وهى حكاية قصيرة تقوم على الحوار بين بطل مقاماته: أبى الفتح الإسكندرى وراوية حكاياته وأقاصيصه عيسى بن هشام. والمعروف أنه أملى أربعين مقامة فى أثناء مقامه بنيسابور، وأضاف إليها خمسا، كما أسلفنا، عند نز وله بخلف بن أحمد أمير سجستان، ثم أضاف إليها ستا أخرى. والمظنون أنه عرض بنيسابور على طلابه أولا أحاديث ابن دريد الأربعين التى احتفظ بها كتاب الأمالى لأبى على القالى، وهى حكايات قصيرة مليئة بالسجع والغريب، وبعد أن أنهاها رأى أن يعرض على طلابه ثانيا أربعين مقامة له. ومعنى كلمة مقامة حديث. ولم يجعل مقاماته حكايات متنوعة
الموضوعات، بل جعلها تدور على موضوع واحد، هو الكدية أو الشحاذة الأدبية، وكأنه استلهم فيها حديث الجاحظ عن المكدين فى أوائل كتابه «البخلاء» وكذلك حديث البيهقى عنهم فى كتابه «المحاسن والمساوى» ويعرض الجاحظ والبيهقى لأساليبهم وحيلهم فى استخلاص الطعام والدراهم والدنانير من الناس. وكان هؤلاء الأدباء الشحاذون قد لمعت أسماؤهم فى عصر بديع الزمان، ومرّ بنا حديث مفصل عنهم وعن شعرائهم فى هذا القسم الخاص بإيران وأيضا فى القسم الخاص بالعراق. وكل ذلك ألهم بديع الزمان صنع مقاماته، ونراه فى أولاها يتمثل بأبيات كبير المكدين أبى دلف الخزرجى، وقد أنشدناها فى حديثنا السابق عنه، إذ يقول:
ويحك هذا الزمان زور
…
فلا يغرنّك الغرور
ويسمى إحدى مقاماته المقامة الساسانية نسبة إلى هذه الطائفة من المكدين أو الأدباء الشحاذين، إذ كانوا يسمون بالساسانيين نسبة إلى ساسان، وهو-كما أسلفنا-أمير فارسى هجر إمارته وهام على وجهه محترفا للكدية.
وتنقّل بديع الزمان بأبى الفتح الإسكندرى بطل مقاماته فى بلدان مختلفة مما دفعه إلى أن يسمى أكثر المقامات بأسماء البلدان التى ألمّ بها وأكثرها بلدان فارسية. وفى أحوال قليلة تسمى باسم الحيوان الذى وصفه فيها مثل المقامة الأسدية نسبة إلى الأسد، أو باسم الأكلة التى طعمها أبو الفتح مثل المقامة المضيرية نسبة إلى طعام المضيرة، وهى لحم يطبخ باللبن المضير أى الحامض. وتسمى باسم موضوعها مثل الوعظية نسبة إلى الوعظ والإبليسية نسبة إلى إبليس والقريضية نسبة إلى ما فيها من أحكام أدبية على الشعر والشعراء. وسمى مقامة باسم المقامة الجاحظية نسبة إلى الجاحظ، وهو يقول عنه إنه قليل الاستعارات وينفر من الغريب والكلام المصنوع، ولعله يقصد الكلام المسجوع الملئ بالجناس وما إليه من المحسنات البديعية. وتخلو المقامات الخمس المتصلة بخلف بن أحمد من الكدية، إذ هى مديح خالص له. أما بقية المقامات فكما قدمنا تدور على الكدية أو الشحاذة الأدبية عن طريق التفاصح البيانى وما ينصبه أبو الفتح من حيل وشباك لسلب أموال الناس. وفى تضاعيف ذلك يعرض البديع مجتمعه بكل ما فيه من مساجد وحمامات ومارستانات وحوانيت ومطاعم وحانات وموائد وما يتصل بها من الأوانى فى بيوت الأغنياء والفقراء.
ويعرض فى المقامة النيسابورية صورة لفساد القضاة والقضاء فى بعض البلدان. وقد حمل فى المقامة المارستانية حملة عنيفة على المعتزلة، لأنه كما قدمنا كان أشعريّا، وكانت
الخصومة مستعرة فى زمنه بين الأشعرية والمعتزلة. ونحن نسوق له إحدى مقاماته، ولتكن المقامة البصرية نسبة إلى البصرة فى العراق، وهى تجرى على هذا النمط:
«حدّثنا عيسى بن هشام قال: دخلت البصرة وأنا من سنّى فى فتاء (شباب) ومن الزّى فى حبر ووشاء (ثوب مطرز) ومن الغنى فى بقر وشاء (غنم) فأتيت المربد (سوق البصرة) فى رفقة تأخذهم العيون ومشينا غير بعيد إلى بعض تلك المتنزّهات، فى تلك المتوجّهات، وملكتنا أرض فحللناها، وعمدنا لقداح اللهو فأجلناها، مطّرحين للحشمة إذ لم يكن فينا، إلا منّا، فما كان بأسرع من ارتداد الطّرف، حتى عنّ (ظهر) لنا سواد (رجل) تخفضه وهاد، وترفعه نجاد (مرتفعات) وعلمنا أنه يهمّ بنا، فأتلعنا (مددنا أعناقنا) له حتى أدّاه إلينا سيره ولقينا بتحية الإسلام، ورددنا عليه مقتضى السلام، ثم أجال طرفه فينا وقال: يا قوم ما منكم إلا من يلحظنى شزرا (بمؤخر عينه) ويوسعنى حزرا (تخمينا) وما ينبئكم عنى، أصدق منى. أنا رجل من أهل الإسكندرية، من الثغور الأموية، قد وطّأ (مهد) لى الفضل كنفه، ورحّب بى عيش، ونمانى بيت ثم جعجع بى (أهاننى) الدهر، وأتلانى (أتبعنى) زغاليل حمر الحواصل. . . ونشزت علينا البيض (الدراهم) وشمست (نفرت) منا الصّفر (الدنانير) وأكلتنا السود (الليالى) وحطّمتنا الحمر (السنوات المجدبة). . وهذه البصرة ماؤها هضوم (مهضم) وفقيرها مهضوم:
فكيف بمن:
يطوّف ما يطوّف ثم يأوى
…
إلى زغب محدّدة العيون (1)
كساهنّ البلى شعثا فتمسى
…
جياع النّاب ضامرة البطون (2)
ولقد أصبحن اليوم وسرّحن (أجلن) الطّرف فى حىّ كميت (يقصد نفسه) وبيت كلا بيت، وقلّبن الأكفّ على ليت، ففضضن عقد الضلوع، وأفضن ماء الدموع، وتداعين باسم الجوع:
والفقر فى زمن اللئا
…
م لكل ذى كرم علامه
رغب الكرام إلى الّلئا
…
م وتلك أشراط القيامه (3)
ولقد اخترتكم يا سادة، ودلّتنى عليكم السعادة، وقلت: قسما، إن فيهم لدسما، فهل من فتى يعشّيهن، أو يغشّيهن (يكسوهن) وهل من حرّ يغدّيهن أو يردّيهن (يلبسهن
(1) زغب: من الزغب: صغار الريش والشعر والكتابة واضحة.
(2)
شعثا: مغبرّة، كناية عن أن أحدا لا يرعاهم.
(3)
أشراط: علامات
ثيابا). قال عيسى بن هشام: فوالله ما استأذن على حجاب سمعى كلام رائع أبرع؛ وأرفع، وأبدع، مما سمعت منه. لا جرم أنا استمحنا الأوساط (يريد الأحزمة وما فيها من نقد) ونفضنا الأكمام، ونحّينا الجيوب ونلته (أعطيته) أنا مطر فى (ثوبى) وأخذت الجماعة إخذى، وقلنا له: الحق بأطفالك، فأعرض عنا بعد شكر وفّاه، ونشر (ثناء) ملأ به فاه».
وواضح ما يمتاز به البديع فى مقاماته من خفة روح وميل إلى الدعابة، حتى يدخل السرور على سامعيه وترتسم البسمات على شفاههم. ويكثر من إنشاد الشعر فى المقامات، ومن حلّ بعض الأبيات المشهورة، على نحو ما صنع بقوله:«وأتلانى زغاليل حمر الحواصل» يريد أولاده وأنهم مثل زغاليل قريبة عهد بالولادة، فحواصلها لا تزال حمراء خالية من الريش، والصورة استعارها من الحطيئة حين حبسه عمر بن الخطاب، فتوجه إليه يستعطفه لأولاده قائلا:
ماذا تقول لأفراخ بذى مرخ
…
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر (1)
وكانت للبديع موهبة قصصية رائعة، غير أنه لم يستغلها فى مقاماته بالمقدار الذى كان يظنّ، إذ لم يضع فى ذهنه صنع قصص وحكايات، إنما الذى وضعه وجعله نصب عينيه أن يتخذ من حوار المقامة القصير بين عيسى بن هشام وأبى الفتح وسيلة لحشد عبارات مسجوعة طريفة تتحفظها الناشئة. وجاراه الحريرى وغيره فى صنع هذه الأقاصيص القصيرة البلاغية، وعدّوها أروع صور النثر وأبلغه، غير حافلين بعمل قصص طويلة أو حتى قصص قصيرة متنوعة. وبدأ البديع فوضع هذه الأقاصيص القصيرة أو هذه المقامات فى إطار السجع، وتبعه خالفوه. وهو يضيف إلى السجع-كما رأينا فى رسائله- ألوان البديع من الأخيلة والتصاوير ومن الجناس ومراعاة النظير، وألهاه الحوار القصصى عن المبالغة فى ذلك. ولا ريب فى أن سجعه فى مقاماته-كرسائله-سجع رشيق، لما يمتاز به من قصر ومن حسن انتخاب لألفاظه. وقد يتخلل بعض مقاماته بالشعر، كما قد يحشد فيها ببعض ألفاظ غريبة، على نحو ما نقرأ فى المقامات: الحمدانية والموصلية والقردية.
وربما دفعه إلى ذلك مقصد تعليمى، وهو مقصد تأثر فيه بأحاديث ابن دريد المفرطة فى الغرابة. غير أن ذلك إنما يأتى فى المقامات التى سميناها وفى الحين البعيد بعد الحين، بحيث لا تعدّ عيبا فى أساليبه التى تطبعها-كما قلنا-الرشاقة، وأيضا الخفة والعذوبة وروح الفكاهة المرحة المحببة لكل إنسان.
(1) ذو مرخ: موضع بنجد
وحرى بنا أن نشير إلى ما ذكرناه فى كتابنا المقامة من أن المقامة الإبليسية لبديع الزمان هى التى أوحت لابن شهيد الأندلسى وأبى العلاء المعرى رحلتهما فيما وراء الطبيعة، فإن بديع الزمان تصور فى مقامته عيسى بن هشام يلتقى بإبليس فى واد من وديان الجن، إذ ضلّت منه إبل فخرج يطلبها، حتى نزل فى واد حافل بالأشجار والأنهار. وبينما هو ينظر من حواليه إذ رأى شيخا جالسا فسلّم عليه وردّ السلام، وسأله ابن هشام هل تروى من أشعار العرب شيئا؟ قال نعم وأنشده بعض أشعارهم، وعرض عليه أن ينشده من شعره وهشّ له ابن هشام، فأنشده قصيدة لجرير، وعجب ابن هشام من انتحاله لها، ويدور بينهما حوار يقول له فيه إبليس «ما أحد من الشعراء إلا ومعه معين منا، وأنا أمليت على جرير هذه القصيدة، وأنا الشيخ أبو مرّة» . ويغيب عنه، ويجد عيسى بن هشام نفسه وحيدا. وقد استوحى ابن شهيد هذه المقامة فى رسالته «التوابع والزوابع» أى الجن والشياطين، وهو فيها يلقى شياطين الشعراء فى وادى الجن، وكلما لقى شيطانا لشاعر أنشده من شعر صاحبه، ثم أنشده من شعره، فيبدى إعجابه به ويجيزه اعترافا بروعة شعره، ولقى شياطين الكتاب كما لقى شياطين الشعراء، وعرض عليهم بعض رسائله، ولقى شيطان بديع الزمان الذى سمّاه «زبدة الحقب» ، ويحاول أن يعرض عليه بعض عباراته النثرية التى يحاكيه فيها، ويعترف له زبدة الحقب بحسن بلاغته، ويجيزه على إبداعه. والصلة قوية بين هذا العمل لابن شهيد وبين المقامة الإبليسية، فهما جميعا يتخذان لقاء شياطين الشعراء فى وادى الجن موضوعا لهما، ويلقى ابن شهيد شيطان بديع الزمان مما يؤكد صلته بآثاره، وأنه يعارض مقامته الإبليسية بتوابعه وزوابعه. وتجادل الباحثون طويلا هل ابن شهيد هو الذى ألهم أبا العلاء رسالة الغفران وما صوّر فيها من رحلة وراء الطبيعة يوم البعث وعلى الصراط وفى الجنة، أو أن أبا العلاء هو الذى ألهم ابن شهيد رحلته وراء الطبيعة فى وادى الجن؟ . ولعل فيما ذكرناه ما يبطل هذا النزاع والجدال، فإن بديع الزمان هو الذى استغلّ لأول مرة الحديث عن وديان الجن وشياطين الشعراء فى مقامته الإبليسية، ثم جاء بعده ابن شهيد وأبو العلاء المعرى فى القرن الخامس الهجرى، فألف كل منهما رحلة فيما وراء الطبيعة، ويتضح أثر البديع بقوة فى ابن شهيد لأنه التقى مباشرة مع البديع فى وادى الجن، أما أبو العلاء فاستقل برحلته عن هذا الوادى، واتخذ لها مضمونا أشمل وأبعد وأوسع.