المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - رباعيات وتعقيدات وموشحات - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٥

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌القسم الأولالجزيرة العربيّة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - أقاليم ودول وإمارات

- ‌اليمن ودولها

- ‌ حضرموت وظفار وتاريخهما

- ‌عمان وأمراؤها

- ‌البحرين ودولها

- ‌2 - المجتمع

- ‌3 - التشيع

- ‌4 - الخوارج: الإباضية

- ‌5 - الدعوة الوهابية السلفية

- ‌6 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل

- ‌علم الملاحة البحرية

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ القاسم بن هتيمل

- ‌أحمد بن سعيد الخروصىّ الستالىّ

- ‌علىّ بن المقرّب العيونى

- ‌عبد الصمد بن عبد الله باكثير

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌ التهامى

- ‌جعفر الخطّى

- ‌5 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ نشوان بن سعيد الحميرى

- ‌سليمان النبهانى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن القم

- ‌السلطان الخطّاب

- ‌عمارة اليمنى

- ‌2 - شعراء الدعوة الزيدية

- ‌يحيى بن يوسف النّشو

- ‌موسى بن يحيى بهران

- ‌على بن محمد العنسىّ

- ‌3 - شعراء الخوارج

- ‌أبو إسحق الحضرمىّ

- ‌ابن الهبينى

- ‌4 - شعراء الدعوة الوهابية السلفية

- ‌ محمد بن إسماعيل الحسنى الصنعانى

- ‌ابن مشرف الأحسائى

- ‌5 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌عبد الرحيم البرعى

- ‌عبد الرحمن العيدروس

- ‌الفصل الخامسالنّثر وأنواعه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - رسائل ديوانية

- ‌3 - رسائل شخصية

- ‌4 - مواعظ وخطب دينية

- ‌5 - محاورات ورسائل فكاهية ومقامات

- ‌القسم الثانىالعراق

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - البويهيون والسلاجقة والخلفاء العباسيون

- ‌2 - الدول: المغولية والتركمانية والصفوية والعثمانية

- ‌الدولة المغولية الإيلخانية

- ‌الدولة الصفوية

- ‌الدولة العثمانية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - كثرة الشعراء

- ‌2 - رباعيّات وتعقيدات وموشحات

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ المتنبى

- ‌ سبط ابن التعاويذى

- ‌ صفى الدين الحلى

- ‌4 - شعراء المراثى والهجاء والشكوى

- ‌ السرى الرفاء

- ‌5 - شعراء التشيع

- ‌ الشريف الرضى

- ‌مهيار

- ‌ابن أبى الحديد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن المعلم

- ‌الحاجرى

- ‌التّلعفرىّ

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ ابن سكرة

- ‌ابن الحجّاج

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن السّراج البغدادى

- ‌المرتضى الشّهر زورىّ

- ‌الصّرصرىّ

- ‌4 - شعراء الفلسفة والشعر التعليمى

- ‌ ابن الشّبل البغدادى

- ‌ابن الهبّاريّة

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌الأحنف العكبرى

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع النثر:

- ‌2 - كتّاب الرسائل الديوانية

- ‌5 - الحريرى

- ‌القسم الثالثإيران

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - دول متقابلة

- ‌الدولة السامانية

- ‌الدولة البويهيّة

- ‌الدولة الزّياريّة

- ‌الدولة الغزنوية

- ‌2 - دول متعاقبة

- ‌دولة السلاجقة

- ‌الدولة الخوارزمية

- ‌الدولة المغولية

- ‌3 - المجتمع

- ‌4 - التشيع

- ‌5 - الزهد والتصوف

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل: تفلسف ومشاركة

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم التفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - الشعر العربى على كل لسان

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعراء المديح

- ‌ على بن عبد العزيز الجرجانى

- ‌الطّغرائىّ

- ‌الأرّجانى

- ‌4 - شعراء المراثى

- ‌5 - شعراء الهجاء والفخر والشكوى

- ‌الأبيوردىّ

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌2 - شعراء اللهو والمجون

- ‌ أبو بكر القهستانى

- ‌3 - شعراء الزهد والتصوف

- ‌ عبد الكريم القشيرى

- ‌ يحيى السهروردى

- ‌4 - شعراء الحكمة والفلسفة

- ‌ أبو الفضل السكرى المروزى

- ‌5 - شعراء شعبيون

- ‌أبو دلف الخزرجى: مسعر بن مهلهل

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتّابه

- ‌1 - تنوع الكتابة

- ‌2 - كتّاب الرسائل

- ‌قابوس بن وشمكير

- ‌رشيد الدين الوطواط

- ‌3 - ابن العميد

- ‌خاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌2 - رباعيات وتعقيدات وموشحات

579.

وتلقانا فى النصف الأول من القرن السابع طائفة من الشعراء، من أهمهم أبو حفص عمر السّهروردىّ البغدادى الصوفى والحاجرى المتوفيان سنة 632 والصّرصرىّ وابن أبى الحديد المتوفيان سنة 656.

ويكتسح التتار بغداد والعراق، ويجف كثير من ينابيع الفكر والحضارة والعلم والأدب، ويظل للشعر شئ من نشاطه فى زمن المغول الإيلخانيين، ويلقانا ابن رشيد البغدادى المتوفى سنة 662 والشهاب التّلعفرى والواعظ الكوفى البغدادى المتوفيان سنة 675. ونمضى إلى القرن الثامن ونلتقى بشعراء عراقيين مختلفين ترجم لهم ابن حجر فى الّدرر الكامنة، ويظهر كوكب شعرى كبير وسط الدياجى التى أخذت تطبق على الحياة الأدبية فى العراق ونقصد صفى الدين الحلّىّ المتوفى سنة 750 وهو خاتمة شعراء العراق العظام قبل العصر الحديث. وكان يعاصره محمد بن القاسم الملقب بالمليحى الواسطى المتوفى سنة 744 وله ترجمة فى الدرر الكامنة، ومثله على بن الثّردة المتوفى سنة 750. ولا نكاد نلتقى بشاعر مهم فى زمن التركمان، بين من ترجم لهم السخاوى فى كتابة «الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع» وبالمثل لا يلقانا شاعر نابه فى زمن العثمانيين سواء فى دورة حكمهم الأولى أو فى دورة المماليك. وحقا يوجد بعض شعراء عراقيين فى كتب التراجم مثل «سلافة العصر فى محاسن الشعراء بكل مصر» لابن معصوم و «خلاصة الأثر فى أعيان القرن الحادى عشر» للمحيى وكتابة «نفحة الريحانة» ومثل «سلك الدرر فى أعيان القرن الثانى عشر» للمرادى. وممن لمع اسمه فى الدورتين المذكورتين شهاب الدين الموسوى المتوفى سنة 1087 هـ/1676 م وديوانه مطبوع وشعره فيه متوسط، ومثله الشيخ محمد كاظم الأزرى المتوفى سنة 1211 هـ/1796 م وقد طبع ديوانه فى بومباى. وقد يكون من الطريف أن نفرا من الشعراء كانوا يقدّمون لدواوينهم (1)، ولكن على كل حال كانوا جميعا نظامين أكثر منهم شعراء بالمعنى الحقيقى لكلمة شعراء.

‌2 - رباعيّات وتعقيدات وموشحات

مرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الأول ما نهض به الشعراء من تجديد فى الأوزان وكيف أن هذا التجديد رافقه تجديد آخر فى القوافى (2)، ولعل أول ما شاع من صوره اللون

(1) راجع تاريخ الأدب العربى فى العراق لعباس العزاوى (طبع بغداد) 2/ 284، 285، 303

(2)

انظر فى ألوان هذا التجديد كتاب العصر العباسى الأول (طبع دار المعارف) ص 196 وما بعدها.

ص: 326

المسمى بالمزدوج، إذ استخدمه الوليد بن يزيد وأخذ استخدامه بعده يتّسع فى الشعر التعليمى منذ أبان بن عبد الحميد، وتبعه الشعراء ينظمون فيه التاريخ والعلوم والفلسفة.

وهو الذى سماه الفرس فيما بعد باسم المثنوى مختارين له وزنا معينا وفيه تتحد القافية بين شطرى كل بيت مع تغيرها من بيت إلى بيت. وبذلك لم تعد الوحدة فيه البيت، وإنما الشطر، وأكبر الظن أن ذلك هو الذى ألهم الوشاحين فيما بعد أن تقوم الوحدة فى موشحاتهم على الشطر لا على البيت. وقد اتسع استخدام هذا اللون المزدوج فى هذا العصر: عصر الدول والإمارات، إذ لم يترك العلماء علما دون أن يودعوه فى أرجوزة مزدوجة، وتموج المكتبات العربية بهذه المزدوجات فى كل علم وكل فن.

وقد ظهرت المسمطات منذ فواتح العصر العباسى الأول، وهى قصائد تتألف من أدوار، وكل دور يتألف من أربعة شطور أو أكثر، وتتفق شطور كل دور فى قافيتها ما عدا الشطر الأخير فإنه ينفرد بقافية مغايرة يلتزمها الشاعر فى جميع الشطور الأخيرة من الأدوار. والمسّمّط مشتق من السّمط، وهو قلادة تنتظم فيها عدة سلوك تلتقى عند جوهرة كبيرة، وكأن كل دور فى المسمّط الشعرى سلك يلتقى مع الأدوار أو الأسلاك الشعرية الأخرى فى قافية الشطر الأخير. وقد مثّلنا فى كتاب العصر العباسى الأول بمسمّطين لأبى نواس يتألف الدور فى أحدهما من أربعة شطور وفى الثانى من خمسة. وتظل المسمطات طوال عصر الدول والإمارات قائمة بجوار القصيدة، وينظم الشعراء فيها من حين إلى حين إظهارا للبراعة، وعنى كثير منهم أشد العناية بتصفية ألفاظه وخفتها على اللسان ورشاقتها على نحو ما نجد فى هذه الأدوار من مسمّط (1) أنشده العماد الأصبهانى فى الخريدة لأبى المعالى بن مسلم:

ياريم كم تجنّى؟

لم قد صددت عنّا صل عاشقا معنّى

بالوصل ما تهنّا

السّلسبيل ريق

والشّهد والرّحيق والورد والشّقيق

من وجنتيه يجنا

قد غيّروا ولاموا

من شفّه السّقام ما ينفع الملام

من فى هواك جنّا

والدور فى هذا المسمط يتألف من أربعة شطور، والرابع قطبها الذى تدور عليه، ومثله المسمّطات ذات الشطور الخمسة وتسمى المخمسات، ومثلها ذات الشطور الستة

(1) انظر الخريدة (قسم العراق) 2/ 309

ص: 327

والسبعة وتسمّى المسدّسات والمسبّعات. وشاع فى الحقب المتأخرة تخميس بعض القصائد المشهورة مثل همزية البوصيرى وبردته

وتظهر الرّباعيّات مع المسمّطات والشعر المزدوج، وقد ذكرنا فى كتاب العصر العباسى الأول أنها بدأت مع بشار وحماد عجرد وأنها كثرت عند أبى نواس وأبى العتاهية، وضربنا لها بعض الأمثلة، والرباعية أربعة شطور من الشعر تؤلّف بيتين، ولأنها تتكوّن من أربعة شطور سميت رباعية، وعادة يتحد الشطر الأول والثانى والرابع فى القافية، أما الشطر الثالث فقد يتحد مع تلك الشطور فى قافيته وقد يختلف. وتلقانا هذه الرباعيات كثيرا فى اليتيمة والدمية والخريدة، وفى كتب الأدب مثل معجم الأدباء، ومرّ بنا أنه ترجم لشاعر يسمى مدرك بن على الشيبانى، وذكر له أرجوزة تشتمل على خمسين دورا كل دور رباعية منفردة. وبذلك أعد نمط الرباعية من قديم لظهور الشعر الدورى فى العربية.

ولم يكن شعراء العصرين: العباسى الأول والثانى يخصّون الرباعية بوزن معين، بل كانوا ينظمونها فى جميع أوزان الشعر حتى إذا كان هذا العصر: عصر الدول والإمارات وجدنا الفرس يشركون العرب فى استخدامها متخذين لها اسم «دو بيت» و «دو» عندهم اثنان. وأيضا فإن الفرس والعرب جميعا أخذوا يستخدمون فيها وزنا جديدا هو: «فعلن متفاعلن فعولن فعلن» وهو الذى ضبطه العروضيون، وأهم منه وزن ثان هو «فعلن فعلن مستفعلن مستفعلن» . وتصور ذلك رسالتان (1) فريدتان فى عروض الدوبيت» نشرهما هلال ناجى ببغداد، وهما لمالك بن المرحّل المتوفى سنة 699 وأولاهما تعنى بالوزن الأول للدوبيت، والثانية تعنى بالوزن الثانى، ومن أجل ذلك رجح هلال ناجى أن لا تكون الرسالة الثانية من صنع مالك. ويبدو أن الفرس فى القرن الخامس كانوا أكثر شغفا بالرباعيات من العرب على نحو ما هو معروف عن الخيام فى رباعياته، وتلقانا فى الخريدة رباعيات كثيرة، ويترجم العماد فيها لشاعر من موظفى الخلافة العباسية وعمالها فى الستينيات من القرن السادس الهجرى، يسمى أبا المحاسن (2) بن البوشنجى، ويقول إنه كان لهجا بنظم الرباعيات، ويسوق له طائفة منها فى الغزليات والخمريات من مثل قوله متغزلا:

ما أطيب ما زار بلا ميعاد

يختال كغصن بانة ميّاد

(1) انظر الرسالتين فى العدد الرابع من المجلد الثالث من مجلة المورد ببغداد.

(2)

انظر ترجمته فى الخريدة 2/ 257.

ص: 328

ما طلّ، ولا بلّ غليل الصّادى

حتى قرب البين ونادى الحادى

فصاحبته زارته دون موعد، مختالة بجمالها كغصن متمايل، ويقول إنها ما طلّت وزارت، ولا بلّت غليله المتقد الظامئ للقاء، حتى كان الفراق ونادى حادى الركب، فجاءت تودعه من وقوف أو كما يقال: ما سلّمت حتى ودّعت. ومن رباعياته الخمرية قوله:

رقّت وصفت واسترقت ألبابا

راح لبست من الضّنا جلبابا

يا بدر أدر وعدّ عمّن يابى

كأسا، طرد الهمّ بها فانجابا

والرّباعية فيها شئ من روح رباعيات الخيام وما فيها من دعوة إلى العكوف على شرب الخمر، أو بعبارة أدق الفرار إليها من الهم والغم، حتى تنتعش النفس، كما يقول، وتطرح عنها بؤس الحياة بما تعبّ من دنان الخمر وما تجد فى مجلسها من أنس وطرب. ويسوق صاحب رسالة الدوبيت الثانية تسع رباعيات قائلا إنه مما أنشده أبو عبد الله محمد بن حامد الأصبهانى صاحب الخريدة، ويستهلها بالرباعية التالية:

الورد على خدّك من أنبته

والمسك على وردك من فتّته

والقلب على نأيك من ثبته

اجمع شملا هواك قد شتّته

وهى رباعية بديعة بما اشتملت عليه من تصوير يحمل غير قليل من المفاجأة، حين يجعل صاحبها الخد وردا حقيقيا، ويعود فيجعله ناشرا لأريج عطر حوله، وكأن مسكا ذرّ عليه ونثر، ويعجب أن تنأى صاحبته وقلبه لا يزال فى صدره. وإن فؤاده ليتوزع فرقا، ويضرع لصاحبته أن تجمع شمله المشتت، لعل صوابه يردّ إليه. ويسوق صاحب رسالة الدوبيت الثانية أيضا طائفة من رباعيات أنشدها ابن الجوزى نيّفت على عشر، وموضوعها غزل ولكنه غزل صوفى، فقد كان ابن الجوزى من كبار الوعاظ وكان سنى التصوف، ومما أنشده:

الحبّ يقول لا تشع أسرارى

والدمع يسيل هاتكا أستارى

والشوق يزيد، لا على المقدار

وا نارى! من هذا الهوى وا نارى

فحبيبه يطلب إليه أن يكتم حبه، وهو لا يستطيع له كتمانا، إذ دائما يبكى طالبا الوصال، ملحا فى طلبه وفى بكائه، والدموع تسيل مدرارا كسحب منهلة، والشوق يلذعه ويكويه وهو يتوجع من نيرانه. إنه حب الذات العلية الذى يضنى ويسقم والمحب يتألم آلاما لا يطيقها إلا الصابرون المولعون بوصال الذات الربانية. ومما أنشده

ص: 329

ابن الجوزى فى تلك الرباعيات:

ما أصنع؟ هكذا جرى المقدور

الجبر لغيرى وأنا المكسور

مأسور هوى متيّم مهجور

هل يمكن أن يغيّر المسطور

والرباعية تفيض بيأس محب مهجور، يقول ما أصنع والحجاب يقوم بينى وبين محبوبى، هكذا جرى القلم ولا يسعه إلا أن يمتثل ويذعن، وإنه ليأسى أسى عميقا لنفسه، فغيره يجبر ويوصل وهو يحرم ويبعد ويكسر كزجاج مصدوع لا يشعب، وإنه لأسير هذا الهوى الذى يبرّح به والذى يتعثّر فى شباكه، قدر أزلى كتب عليه، لا مفرّ منه ولا مهرب. وابن الجوزى توفّى سنة 597 وتوفى العماد فى نفس السنة، وفى كثرة إنشادهما للرباعيات ما يدل على أنها قد شاعت فى عصرهما وانتشرت انتشارا واسعا. وهى تلقانا عند الحاجرى وغيره من شعراء القرن السابع. ويقول مالك بن المرحلّ إنها تستعذب فى الغناء، وأكبر الظن أنها لم تكن تستعذب فى الغناء فحسب بل كانت تستعذب أيضا فى أناشيد المتصوفة بحلقات الذكر، وقد جمع كامل الشيبى طائفة كبيرة منها على مر العصور ونشرها باسم ديوان الدوبيت.

وأخذ يعم منذ أوائل هذا العصر مذهب التصنع والتعقيد الذى صورناه بالتفصيل فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» وقد أوضحنا كيف أن المحسنات البديعية فى مذهب التصنيع والتنميق السابق له كأنما أخذت تزايلها أو تفارقها بعض أصباغها عند العراقيين وغيرهم من شعراء العصر، ومثلنا لذلك باستخدام المتنبى للطباق والاستعارة واستخدام غيره للجناس. وقد أولع الشعراء فى هذا العصر باللون الأخير، وأخذوا يطلبون فيه صعوبات مختلفة، ومن أخف صورها قول أبى الجوائز الواسطى (1) المتوفى سنة 462:

وا حزنى من قولها

خان عهودى ولها

وحقّ من صيّرنى

وقفا عليها ولها

ما خطرت بخاطرى

إلا كستنى ولها

ولها فى نهاية البيت الأول من اللهو، وقد جانس بينها وبين الجار والمجرور فى نهاية البيت الثانى ثم جانس بينهما وبين كلمة «وله» أى شدة الوجد فى نهاية البيت الثالث.

وقد يقبل هذا الجناس المعقد فى تلك الأبيات لخفته، غير أننا لا نكاد نمضى بعد

(1) انظر فى أبى الجوائز ابن خلكان 2/ 111 وتاريخ بغداد 7/ 393 والدمية 1/ 342 والخريدة 4/ 1/343 والمنتظم 8/ 258 وميزان الاعتدال 1/ 238.

ص: 330

صاحبه حتى نلتقى بالحسن (1) بن أسد الفارقى المتوفى سنة 487 وكان يكثر من التجنيس، كما لاحظ العماد الأصبهانى وياقوت، وله قصيدة تجمع خمسة عشر بيتا، وكل بيت فيها مختوم بكلمة «عين» طلبا للجناس الكامل، فهى تتوالى بمعنى عين الإنسان وبمعنى رقيب وبمعنى عين الماء إلى غير ذلك من معانيها. وهو تكلف شديد.

ونظن ظنا أنه أحد من أشاعوا فكرة تكوّن الجناس بين كلمة وكلمتين يؤديانها لفظا فى مثل قوله:

تراك يا متلف جسمى ويا

مكثر إعلالى وأمراضى

من بعد ما أضنيتنى ساخطا

علىّ فى حبك أم راضى

وواضح أن كلمتى «أم راضى» فى البيت الثانى تقابلان أو تجانسان كلمة «أمراضى» فى البيت الأول. ويلاحظ أن مثل هذه الجناسات فى نهايات الأبيات لم تكن تحقق فكرة الجناس فحسب، بل كانت تحقق أيضا فكرة لزوم ما لا يلزم فى القوافى إذ تصبح القافية أكثر من حرف أو روى، ولذلك يقول العماد إنه كان يلتزم ما لا يلزم فى قوافيه. وفى الحق أن أبا العلاء هو الذى فتح فى لزومياته لمثل هذه الكلف فى الجناس على نحو ما يوضح ذلك كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» وكان يطلبه أحيانا بين أول كلمة أو كلمتين فى البيت وآخر كلمة، مما جعل الحريرى يستلهم صنيعه فى المقامة الحلبية قائلا:

سم سمة تحسن آثارها

واشكر لمن أعطى ولو سمسمه

والمكر مهما اسطعت لا تأته

لتقتنى السّؤدد والمكرمه

والجناس واضح بين أول البيتين وآخرهما وهو فى البيت الثانى جانس بين اللفظة الأولى وجزء من تاليتها وبين اللفظة الأخيرة. وكل ذلك تصعيب وتعقيد فى التماس الجناس. ويخلف الحريرى يحيى بن سلامة الحصكفى نزيل ميّافارقين المتوفى سنة 553 فنراه ينظم بعض قصائد قاصدا بها إلى التجنيس منها قصيدة بناها على التجنيس الناقص افتتحها بقوله (2):

أطع الهوى فالعقل خاز خازم

والجهل يغرى وهو هاز هازم

وخاز: قاهر. وهاز: ساخر. ويمضى فى القصيدة مجانسا بين كلمتين متواليتين على هذه الصورة المتكلفة وكأنه لم تعد هناك حاجة وجدانية لنظم الشعر، إذ حلت محلها

(1) راجع فى الحسن بن أسد الفارقى الخريدة (قسم الشام) 2/ 416 ومعجم الأدباء 8/ 54 وإنباه الرواة 1/ 294 وشذرات الذهب 3/ 38 وفوات الوفيات 1/ 229.

(2)

الخريدة (قسم الشام) 2/ 508.

ص: 331

حاجة إلى التعقيد فى الشعر وتصعيب ممراته التى يسلكها الشاعر إلى صناعته.

وإذا رجعنا إلى البديعيات من بديعية صفى الدين الحلى وجدنا الشعراء دائما يعقّدون فيها، وقد يضيفون ألوانا جديدة ولكن ينقصها الحسن والرونق والبهاء. وقد أكثروا من الاقتباس، وحسن أن يقتبس الشاعر بعض ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف فإنها تلذ النفس، غير أن الشعراء أكثروا من اقتباس أشعار الأسلاف يضمنونها قصائدهم، مما يعطل الحركة الوجدانية فى أشعارهم، وبلغ من تكلفهم فى هذا اللون أن نجد شاعرا يسمى الشيخ أحمد النجفى الحلّىّ المتوفى سنة 1183 هـ/1769 م يضمن إحدى مدائحه شطورا من ألفية ابن مالك المشهورة فى النحو، فله شطر ولابن مالك شطر (1).

ودفع المتنبى الشعراء منذ أوائل هذا العصر إلى التصنع للثقافات المختلفة، وقد أوضحنا ذلك فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» فصورنا تصنعه لبعض مصطلحات التصوف وسمات العبارة الصوفية وللأفكار والصيغ الفلسفية ولألفاظ اللغة الغريبة وبعض اشتقاقاتها النادرة وأساليبها النحوية الكوفية الشاذة. وتبعه أبو العلاء يكثر فى لزومياته من التصنع لألفاظ العلوم اللغوية والإسلامية. ومضى الشعراء فى العراق وغير العراق بعد الشاعرين الكبيرين يلتمسون أحيانا التجديد فى الأساليب بما يطوى فيها من مصطلحات علمية. وكل ذلك كان تعقيدا وقيودا، حتى يصعّب الشعراء عملهم، وحتى يظهروا مهارتهم فى السلوك إليه من أضيق الممرات والدروب.

وأخذت تظهر سريعا صور من التمارين الهندسية فى الشعر، وكأن الشاعرية لم تعد تقاس بالأثر الوجدانى الذى يحدثه الكلام فى نفوس الناس، بل غدت تقاس بما يمكن أن يستحدثه الشاعر من عقد، وربما كان الحريرى أهم من فتح هذه الأبواب، إذ نراه فى مقاماته لا يزال يغرب بأفانين لفظية كثيرة، فمن ذلك أن تقرأ الأبيات طردا وعكسا كما جاء فى المقامة المغربية من مثل قوله:

اسل جناب غاشم

مشاغب إن جلسا

فإن البيت يقرأ من آخره كما يقرأ من أوله دون أى اختلاف فى لفظ أو حرف، ومن الغريب أن من جاءوا ابعده جعلوا ذلك لونا من المحسنات البديعية وسموه «ما لا يستحيل بالانعكاس» . وتمرين هندسى ثان عرضه فى المقامة الشعرية، وهى أبيات التزم فى داخلها قافية غير قافيتها الخارجية على هذه الصورة:

يا خاطب الدنيا الدنيّة إنها

شرك الرّدى وقرارة الأكدار

(1) عباس العزاوى 2/ 273

ص: 332

دار متى ما أضحكت فى يومها

أبكت غدا بعدا لها من دار

فإننا إذ اوقفنا عند الكلمة الدالية فى الشطر الثانى أصبح البيتان من مجزوء الكامل على هذا النحو:

يا خاطب الدنيا الّدنيّ

ة إنها شرك الرّدى

دار متى ما أضحكت

فى يومها أبكت غدا

وبجانب هذا التمرين الهندسى الذى لا يضيف معنى نجده فى مقامته التى سماها بالرّقطاء يبتكر تمرينا أحد حروف كلماته منقوط وتاليه غير منقوط من مثل قوله:

مخلف متلف أغرّ فريد

نابه فاضل ذكىّ أنوف

ويتلو هذا التمرين بتمرين مماثل فى نفس المقامة، وكرر ذلك فى المقامتين المرويّة والبكرية. ونراه فى المقامة الحلبية يبتدع تمرينا شعريا من طراز خطّىّ آخر هو طراز الحروف الخالية من النقط فى مثل قوله:

أعدد لحسّادك حدّ السّلاح

وأورد الآمل ورد السّماح

ولا يكتفى بهذا التمرين، بل يضيف إليه تمرينا شعريا خطّيّا ثانيا، كل كلماته مؤلفة من حروف معجمة أو منقوطة من مثل قوله:

فتنتنى فجنّنتنى (تجنّى)

بتجنّ يفتنّ غبّ تجنّى

وكأن هذين التمرينين الهندسيين فى تلك المقامة لم يقنعاه، أو كأنه أحسّ أنه من الممكن محاكاتهما فجاء بتمرين خطى ثالث، لا يتعلق هذه المرة بالنقط وعدمه، بل يتعلق بشكل الحروف، إذ يظن من ينظر إلى كلماتها نظرة سريعة أنها متماثلة مثل:

زيّنت زينب بقدّ يقدّ

وتلاه-ويلاه-نهد يهدّ

وواضح أن بين كل لفظين متواليين تجنيسا خطيّا واضحا. وكل ذلك ليس شعرا وإنما هو تمارين أو لعب هندسية (1)، غير أنهم كانوا يعجبون بها، ولذلك نرى الشعراء-وخاصة المتأخرين-ينظمون منها كثيرا. ومن تتمة هذه التمارين الهندسية فى العصر كثرة الألغاز والأحاجى فى الشعر وقد خصوها بالتأليف اهتماما بها، من ذلك كتاب الإعجاز فى الأحاجى والألغاز للحظيرى وعنه ينقل العماد فى الخريدة (2)، ولا يلبث أن يترجم لشاعر شغف بها هو الحكيم (3) النيلى الطبيب، ويذكر له طائفة من

(1) من هذه اللعب ما رواه العماد من قصائد أولها تاء وآخرها تاء أو أولها جيم وآخرها جيم أو أولها دال وآخرها دال انظر الخريدة (قسم العراق) 4/ 2/749 وقسم الشام 2/ 546

(2)

الخريدة (قسم العراق) 4/ 2/475

(3)

نفس المصدر ص 498 وما بعدها

ص: 333

ألغازه الشعرية فى العقل والرمّانة وكيزان الفخّار والنّاى وفيه يقول:

له رأس يخالف منه جسما

بلا رجل فقس فيما تقيس

يئنّ أنين صبّ مستهام

مشوق قد نأى عنه أنيس

وليس بذى صبابات فيهوى

ولكنّ الهوى فيه حبيس

غير ألغاز أخرى ذكرها العماد، وألغازه طريفة، غير أن من جاء وابعده حشدوا فيها شعرا رديئا معقدا. وقد أكثر الشعراء فى الحقب المتأخرة من التواريخ فى الشعر، إذ يحسبون بيتا أو نصف بيت بحساب الجمّل مؤرخين للسنة التى نظموا فيها قصائدهم أو لسنة العرس الذى هنّأوا به أو للسنة التى ولد فيها غلام إلى غير ذلك مما لا يفيد معنى.

ومع ذلك فقد كان هناك شعراء مجيدون دائما، كانوا أعلاما نابهين، وسنفرد لهم بعض الصحف التالية.

ومن أهم ما تمتاز به أقاليمنا فى العصور الوسطى أنه كانت تسود بينها فى الأدب وفى العلم وحدة، جعلت كل شاعر نابه فى إقليم كأنه شاعر البلاد العربية جميعها، كما جعلت كل لون جديد يظهر فى إقليم لا يلبث أن تنظم فيه الأقاليم الأخرى، ومن خير الأمثلة الدالة على ذلك الموشحات، إذ نجدها تظهر فى الأندلس ويضع لها قوانينها فى القرن السادس شاعر مصرى هو ابن سناء الملك، ونراها على ألسنة الشعراء فى الشام والعراق وغيرهما من البلدان العربية، ومن أمثلتها فى الخريدة موشحة (1) لشاعر موصلى هو التاج البلطى المتوفى سنة 599. ويلقانا فى القرن السابع وشاح عراقى كبير ترجم له ابن تغرى بردى فى المنهل الصافى باسم شهاب الدين الموصلى (2) أحمد بن الحسن صاحب الموشحات، وكان يستخدمها فى المديح وغير المديح، وينشد ابن تغرى بردى موشحة له عارض بها موشحة للقاضى الفاضل عبد الرحيم، تجرى على هذا النحو:

بى من حوى الحسن كلّه

وفاق غيد الأكلّه (3)

بدر تمام مصوّر

ما فيه نقص الأهلّه

فشعره لليالى

وفرقه للصباح

وجفنه للنّصال

وقدّه للرّماح

وريقه للزّلال

وثغره للأقاح

(1) الخريدة (قسم الشام) 2/ 389

(2)

انظر ترجمته فى المنهل الصافى لابن تغرى بردى (طبع دار الكتب المصرية) 1/ 251

(3)

الأكلة هنا: جمع كلة وهى الستر أو لعلها جمع إكليل وهى عصابة تزدان بالجواهر

ص: 334

وقد بدأ موشحته بالقفل وتلاه بالدور، ثم تتابعت الأقفال والأدوار، وكان يعرف كيف ينتخب كلماته عذبة رشيقة، كما كان يعرف أنه لكى تتكامل رشاقة الموشح يحسن أن تكون الشطور فى الأدوار قصيرة وأن يسرى فيها صفاء موسيقى بديع. وأنشد له ابن تغرى بردى موشحة يعارض بها موشحة مظّفر الأعمى المصرى:

كلّلى يا سحب تيجان الرّبى بالحلى

وظن بعض الأسلاف أن هذا الموشح لابن سناء الملك، لروعة موسيقاه، وهو ظن مخطئ وكان مظفر يعاصره تقريبا، فقد توفى بعده بنحو خمس عشرة سنة. وتمضى موشحة الموصلى فى هذه الصورة:

جلّلى

يا راح كأسى ولها كلّلى

بالحلى

سوارها ثم لها خلخلى

من غرر

حبابك المنظوم مثل الدّرّ

بالخمر

كأنه الياقوت فوق الجمر

والزّهر

فى الرّوض أمثال النجوم الزّهر

ومهارته واضحة فى انتخاب الألفاظ والملاءمة بينها فى الجرس والنغمة، وبحق يصف ابن تغرى بردى موشحاته بأنها بديعة وأنها ذات نظم رائق. ويقول إن له موشحات كثيرة. وربما كان أهم الوشاحين العراقيين بعده صفى الدين الحلى، ونلتقى فى ديوانه باثنتى عشرة موشحة منها ست فى مديح الملوك والأمراء وخمس فى الغزل وموشحة صوفية. ومع أنه أجمل صوت يلقانا بعد القرن السابع فإنه يهبط فى موشحاته درجة أو درجات عن الموصلى وربما كان أخف مطلع لموشحاته قوله فى فاتحة موشحة عارض بها أبا بكر بن بقى الأندلسى المشهور فى موشحة بديعة له:

صاحب السيف الصقيل المحلّى

جرّد اللّحظ وألق السّلاحا

لك يا ربّ العيون

القواتل

ما كفى عن حمل سيف

وذابل (1)

أعين تبدو لديها

المقاتل

ما سرى فى جفنها الحسن إلا

أوثقت منا قلوبا جراحا

وربما كانت المعارضة هى التى جعلته يتفوق فى هذه المرشحة، كما جعلته يصفّى لفظه تصفية، شديدة بحيث أصبح يشبه الماء العذب السلسبيل، وخاصة فى هذا المطلع البديع.

(1) الذابل: الرمح

ص: 335